الفكر والعلم في السياق العثماني

طباعة 2023-09-18
الفكر والعلم في السياق العثماني

قراءة في كتاب "الفكر العثماني" لتحسين قورقين

د. خيرالدين سعيدي

باحث بقسم التاريخ العثماني جامعة إسطنبول

باحث رئيس بمركز إفريقيا للتنسيق والتعليم إسطنبول تركيا

 

عنوان الكتاب الأصلي:  Osmanlı Düşüncesi

مؤلف الكتاب:Tahsin Görgün

عدد صفحاته: 221

سنة نشره: 2021

 

مُفتتح:

 تشترك معظم الكتابات الغربية والعربية في نظرتها إلى العلم والفكر في العالم الإسلامي خلال العهد العثماني. وتكاد تُجمع هذه الكتابات على أنّ الفكر والعلم كانا في أدنى مستوياتهما خلال المرحلة العثمانية. وتستغرق في إصدار أحكام قطعية حول التَّصحُّر الفكري الذي عاشه العالم الإسلامي خلال ستة قرون من الحكم العثماني. هذه الأحكام أصبحت في بعض المجالات الفكرية في حكم المسلمات التي لا يخالجها شك.

 غير أنّ هذه الأحكام بدأت تخضع للمُساءلة المعرفية خاصة من طرف الباحثين والمفكرين التُّرك، وتأتي هذه المساءلات امتدادا للمشروع الذي دشنه"فؤاد سيزكين" للتعريف بالتراث الإسلامي وتأثيراته في النهضة والثقافة الغربية. وقد أخذ هذا المسارَ أيضا (أحمد يشار/Ahmed Yaşar) و(إكمال الدين إحسان أغلو/E. Ihsan oğlu)، والآن نقف على منتج فكري جديد يصب في نفس الاتجاه للباحث البروفيسور (تحسين قورقين/Tahsin Görgün) بعنوان (الفكر العثماني/Osmanlı Düşüncesi). حاز هذا الكتاب جائزة نجيب فاضل لأفضل عمل فكري في تركيا سنة (2021).

صاحب الكتاب هو "تحسين قورقين" مفكر ومُؤرِّخ تركي. ركزت أعماله على مواضيع الفكر والتاريخ الإسلامي، بالخصوص خلال العهد العثماني. كانت رسالته للدكتوراه في )جامعة برلين/ Freie Universitat Berlin) حول موضوع الأصول الفقهية والفلسفة الإسلامية. عمَّق دراساته في هذا المجال لما انتُدِب للتدريس أستاذ مشاركا في معهد غوته بفرنكفورت، حيث ركَّز على تاريخ الفكر الإسلامي ومواضيع الفلسفة الإسلامية، والعلاقات الفكرية بين الدولة العثمانية والفكر والتنوير الألماني. أمّا الكتاب فقد صدر في السداسي الثاني مِن سنة 2020، عن دار نشر (تير كتاب/Tire kitap) في إسطنبول بتركيا[1].

لم يقسِّم تحسين قورقين كتابه إلى فصول مُحدَّدة كما جرت العادة، بل جعل الكتاب ينقسم إلى عناوين أساسية وأخرى فرعية. ركَّز المؤلف على ثمانية موضوعات أساسية حاول تقديم إجابة عن كل تساؤل في فصل منها. في المقدِّمة حاول المؤلف تبيان السبب وراء العودة المتأخِّرة للباحثين والمُؤرخين إلى الاهتمام بالدراسات التي تُؤرِّخ للفكر، موضحا أنَّه توجد العديد مِن الأسباب التي جعلت الإقبال على مثل ما سيقدمه في بحثه نادرا وقليلا. وأهم هذه الأسباب هي: الحاجر النفسي، والحاجز البنيوي.

 بالنسبة للحاجز النفسي "Psikolojik Engel"، قدَّر المؤلف أنّه مُرتبط بعدم فهم الباحثين لخصوصية وأهمية البحث في تاريخ الأفكار. وأمَّا الحاجز البنيوي"Yapısal Engel" فتأسَّس على طبيعة تلقين تاريخ الدولة العثمانية للباحثين في هذا التَّخصص على اعتبار أنَّ الدولة العثمانية هي كيان سياسي وعسكري، لم ينصرف للاهتمام بالعلم والفكر. وقد أدت هذه الأسباب وغيرها إلى بقاء هذا النوع مِن الأبحاث بعيدا عن مجال الباحثين مع ما له من أهمية، وقد جاء هذا الكتاب حسب المؤلف محاولة لوضع خطوات أولى في طريق الانفتاح على الفكر والحركية العلمية خلال العهد العثماني[2].

تأثير الأبحاث الغربية على الأفكار في العالم الإسلامي

ينطلق المؤلف في المدخل مِن الحديث عن تأثير الأبحاث التي أنجزت في السياق الغربي عن الأفكار الموجودة في العالم الإسلامي، بخصوص مسألة الفكر خلال العهد العثماني، أوضح أنَّ النتائج التي وصل لها البحث الغربي أضحت مُسلمات في العالم الإسلامي. واستغرب المصنف كيف يمكن للعالم الإسلامي التسليم بفكرة أنَّه وخلال ستة قرون كاملة وعلى مساحة شاسعة تمتد في ثلاث قارات لم يكن يوجد أي فكر أو علم، ولم توجد أي نقاشات علمية، أو فلسفية، أو سياسية، بمعنى أنَّه خلال هذه المدة الكاملة لم توجد أي حركية يُنظر إليها على أنَّها حركية فكرية ذات خصوصية معينة سواء لكونها امتداداً للموروث الإسلامي أو استئنافاً له. ولم يتوقف الأمر حسب المؤلف عند هذا المعطى، بل تأزَّم الطرح أكثر بعد القرن التاسع عشر، عندما أصبحت أوروبا تفكر بمركزية تكاد تلغي معها الآخر، وجاءت الحركة الاستعمارية الغربية لتؤكد هذه المفاهيم، أي أن أوروبا أرادت أن تجعل المنطقة الإسلامية وبالتحديد المناطق التي كانت تتبع الدولة العثمانية (مجتمعات دون تاريخ/Tarihsiz toplumlar) لكن وأمام عدم إمكانية تطبيق أوروبا لفرضيتها على أرض الواقع، عمدت إلى إظهار هذه المناطق قبل الاحتلال دون تاريخ في الفكر والفنون والحضارة[3]. وهو الأمر الذي سيعطي مشروعية للوجود الغربي في هذه المناطق، ويغدو الغرب بوجوده في هذه المناطق يصنع الحضارة والفنون والفكر.

نتيجة للمقدمات والمسلمات التي تعامل بها الغرب مع هذه المسائل في المجال التداولي الإسلامي ظهرت فئة مِن الباحثين المسلمين ممّن يحاول إرجاع أي مظهر مِن مظاهر الحضارة الإسلامية إلى جذور غربية، وبهذا الشكل أضحت بعض مسائل الفلسفة التي ناقشها المسلمون لا تعدو أن تكون حسب هؤلاء الباحثين إلاَّ تكراراً للفلسفات اليونانية. لذا يؤكد المؤلف في المدخل أن أي تطلُّع للتَّقدم في المنطقة الإسلامية يوجب على الباحثين معرفة الخصوصية الفكرية والعلمية التي كانت لدى آخر دولة إسلامية بالمعنى التقليدي في العالم. وهو ما من شأنه أن يُعطي تصوُّراً جديداً للتعاطي مع عالم الغد.

ما الفكر العثماني؟

ينتقل المؤلف في العنوان الأول مِن الكتاب إلى مناقشة المقصود بمصطلح "الفكر العثماني" وهذا ليعطي فرصة لضبط المفاهيم والاصطلاحات التي يريد استخدامها. لذا فهو يُؤكِّد بداية أنّه سيستخدم مصطلح (الفكر العثماني/Osmanlı Düşüncesi) و (الفكر التركي الكلاسيكي /Klasik Türk Düşüncesi) بنفس المعنى[4].

 يشير قورقين إلى قلة الأبحاث التي تعتني بالفكر والعلم خلال العهد العثماني. ثمّ ما يعتري هذه الأبحاث على قلتها مِن أحكام مُطلقة، بخصوص الفكر خلال المرحلة العثمانية. وهنا يشير الكاتب إلى التأثير الكبير لأفكار المدرسة الغربية على الباحثين الأتراك، حيث أضحى رواد الفكر القومي التركي أمثال (ضياء قوك ألب/Ziya Gökalp) لا ينظرون إلى الفكر العثماني إلاَّ بنوع مِن التقليل مِن أهميته، وفي بعض الأحيان ينكرون وجوده تماما أمثال (أحمد حمدي تانبنار/Ahmed Hamdi Tanpınar). بعد أن ساق المصنف أمثلة عن رؤية الأتراك لوجود فكر عثماني، ينطلق في بحث جديد لمحاولة وضع مقارنة بين مفهوم الفكر العثماني والفكر التركي مُبيناً أنَّه مِن الخطأ التفريق بينهما بسبب المُعطى الجغرافي للأوَّل والمعطي العرقي للثاني. ويرى أنَّهما يمثلان سياقاً واحداً، وينبِّه أنّ الفرق الذي يمكن أن يكون بينهما هو أنَّ إطلاق لفظ (العثماني/Osmanlı) لا بد أن يصحبه فهم سياسي؛ لأنَّه يعني باختصار النظام السياسي الذي كان يحكم منطقة جغرافية واسعة تمتد في ثلاث قارات، وكل ما يوجد ضمنها من إنتاج للمعرفة بلغات مختلفة هو تابع لها. في حين يمثل لفظ (التركي/Türk Düşüncesi) كل ما يرتبط بإنتاج المعرفة من الإنسان المتحدث باللغة التركية وإن كان خارج النطاق الجغرافي العثماني وبغير اللغة التركية. وينتهي المُصنِّف إلى الإقرار بأنَّه لا يمكن وضع حدود معينة بين المفهومين؛ لأنَّ استخدام أي مصطلح بخصوصيته المذكورة سيخرج العديد من العناصر المتواجدة في المفهوم الآخر، فاستخدام الفكر التركي سيخرج من دائرته بالضرورة كل ما كتب بغير اللغة التركية في الفضاء العثماني، كما سيخرج أيضا الأتراك الذين كتبوا بغير اللغة التركية من فئة المفكرين الأتراك. ولهذا فقد اعتمد المصنف على مصطلح "الفكر العثماني" ليشمل السياق السياسي للمصطلح بالإضافة إلى توسيع نطاقه في الجانب الفكري ليضم كل من عاش أو تفاعل أو ساهم في إنتاج معرفة ضمن هذا النطاق، من رسميين كالسفراء والعلماء والمؤرخين. وغير رسميين من أمثال: الصوفيين والشعراء والرحالة، وشُرَّاح الكُتب، وأرباب الحرف والفنون[5].

بين الفكر العثماني والفكر الغربي

ينتقل المصنف إلى محاولة إثبات وجود فكر عثماني يضاهي الفكر الغربي ومتميز عنه في موضوعاته وخصائصه، لكنه قبل ذلك يؤكد أنَّ ضابط القيام بالمقارنة أن تكون متزامنة، بحيث يجب أولا وضع الفكر العثماني في سياقه الزماني، ومقارنته مع ما هو موجود في الفكر الغربي خلال نفس المرحلة الزمنية. ويؤكد أنّه من العيوب المنهجية مقارنة الفكر الموجود بسياق غريب عنه، بل يجب أن يناقش الفكر العثماني وموضوعاته ضمن السياق الذي كان فيه العالم العثماني. يعطي مثال على ذلك بأنه من غير المكن مقارنة موضوعات الفكر العثماني خلال القرن السابع عشر بموضوعات الفكر الغربي خلال القرن الثامن عشر أو مع بزوغ فلسلفة هيغل؛ لأنه لا يمكن بأي حال إنشاء ترابط بين فكر قديم (عثماني) مع فكر جديد طارئ (أوروبي).

بعد ذلك ينتقل المصنف إلى عقد مقارنات بين المواضيع الفكرية والشخصيات الفكرية التي كانت في الدولة العثمانية مع غيرها من الشخصيات الفكرية التي ظهرت في أوروبا. وينطلق من الحديث عن مركزية الفلسفة والمواضيع التي كانت تناقش حينها، وبدأ بذكر "وحدة الوجود" كموضوع نقاش فلسفي كان يضم داخله العديد من الأسئلة الفرعية التي تتجاوز في ثناياها بعض ما كان يناقش في الفضاء الأوروبي، ما جعل العديد من المعارف المنتجة خلال القرن العشرين في الدولة العثمانية مثل كتاب (حاشية جديدة/Haşiye-I Cedide)الذي يناقش الكثير من قضايا وحدة الوجود من مقررات بعض الجامعات الغربية الكبرى مثل هارفرد ويال وأكسفورد. وكان (رضا توفيق/Rıza Tevfik) و(أحمد جودت باشا/Ahmed Cevdet Paşa) ممن أثرَوْا النقاشات أكثر بما كانوا ينتجونه من آثار لم يلتفت لها كثيرا على المستوى المحلي.

يستمر تحسين قورقين في محاولة إظهار وجود الفكر العثماني من خلال عقد مقارنات بين بعض الأسماء الموجودة في الساحة العثمانية والموضوعات التي اهتمت بها، بما كان موجودا من أسماء فكرٍ في العالم الغربي والموضوعات التي ركز عليها. ويذكر نماذج من المفكرين في الدولة العثمانية أمثال (نامق كمال/Namık Paşa) (وعاكف باشا/Akif Paşa) و(ضياء باشا/Ziya Paşa) و(علي سادات/Ali Sedat) و(عبد النافع عفت أفندي/Abdünnafi İffet Efendi)     ويجعل من الأخير نظيراً لبرتراند راسل، بل يرى أن ما تطرق إليه عفت أفندي في ترجمته لكتاب (البرهان/Burhan) أعظم وأهم ما صُنِّف في المنطق الجديد، وأنّه ذكر العديد من التفاصيل قبل (50 سنة) من ظهور أعمال برتراند راسل إلى النور، وبعض ما ذكره راسل يتشابه بشكل غريب مع ما أورده عفت أفندي. ثم ينتقل للحديث عن نماذج أخرى في القرن 18 بين (إسماعيل حقي بورصوي/İsmail Hakkı Bursevi) والفيلسوف الفرنسي فولتير الذَيْن تزامنا تاريخيا، كما تحدث عن تأثر الثقافة الغربية بفلسفة الأخلاق التي حملتها الكتابات الأدبية في "المثنوي" في الثقافة التركية. كما يعقد مقارنة أخرى بين شيخ الإسلام (بيريزاده محمد صاحب أفندي/Pirizade Mehmed Sahib Efendi) والإيطالي (جوفياني باتيستا/Giovanni Battista)ويجعل من إعادة اكتشافهما لمقدمة ابن خلدون وشرحها موضع المقارنة(Görgün, s 34-36). ويذكر أنه في الوقت الذي اشتهر جوفياني كمفكر فإنَّ شيخ الإسلام بيريزاده لا يكاد يعرف تماماً كمفكر، وهذا مرده إهمال الاطلاع على مصادر المعرفة العثمانية[6]. بعدها ينتقل صاحب الكتاب للحديث عن مفكري القرن 17 وجعل على رأسهم (كاتب جلبي/Kâtip Çelebi) أو حاجي خليفة صاحب كتاب كشف الظنون كما يعرف في السياق العربي. في هذا القسم من الكتاب يحاول تحسين قوقين التركيز على التأثير الكبير لحاجي خليفة على العالم الغربي والفرنسي تحديدا في نمط كتابة الموسوعات، إذ أن كتابه كشف الظنون كان يعد النموذج الأوَّل للكتابة الببليوغرافية(Görgün, s 35)، وعلى نسجه كُتبت موسوعة المكتبة الشرقية (La Bibliothèque orientale) وأوضح المؤلف أنَّه في الوقت الذي ظل كاتب جلبي عند الأتراك مجرد رحَّالة ومؤرخ، فإنه عند الفرنسيين كان الفيلسوف المُنظِّر. وقد انتبه لهذا الأمر عدد من المؤرخين التُّرك مؤخرا في أبحاثهم، عند حديثهم عن أوَّل من نبَّه إلى ضرورة أن تقوم الدولة العثمانية بإصلاحات عميقة، تضاهي ما كان يحدث في أوروبا حينها، لكن الذهنية التي كانت سائدة لم تهتم بحديثه حينها.

كيف نفهم الفكر العثماني؟

ينتقل تحسين قورقين في العنوان الرئيسي الثاني إلى مناقشة الطريقة التي يُمكن أن يُفهَم بها الفكر العثماني. وقد بحث المُصنِّف تحت هذا العنوان ثلاث إشكاليات فرعية هي: أصالة الفكر، ربط العلاقة بين الفكر الكلاسيكي والفكر العثماني، وصفات الباحث في موضوع الفكر العثماني. (Görgün, s 39-56)

يشرع الكاتب في مناقشة أصالة الفكر، وهي الفكرة التي حرصت على إبرازها الكتابات الغربية، بحيث تصر على أنّ النهضة التي عرفها الفكر الغربي هي صنيعة ذاتية، لم تتأثر بالمحيط أو بالفكر السابق لها، ولهذا فهي ترى بأن معظم ما أوردته يناقش لأول مرة في الفكر الإنساني، ولم تسبق لأي حضارة أن عالجته أو أثارته. ويتخذ الكاتب نموذجا لفكرة تفريق الفلسفة الغربية ككل للفكر الإنساني على أساس فكرة هيغل، عن تقسيم مسار الإنسانية إلى قسمين أساسين: ما قبل النهضة الأوروبية وما بعد النهضة الأوروبية. ويحشد قورقين الدلائل التي تُؤكد أنّ هذه النظرية في حد ذاتها (ما قبل/ما بعد) أوجدها الإسلام بتفريقه للوجود الإنساني إلى (الجاهلية/ الإسلام) فكان ما قبل الإسلام جاهلية وما بعده نور(Görgün, s 40). وأنّ الثقافة الغربية عدت ما نقله هيغل فكرة جديدة لم يُسبق لها، في حين أوضح المصنف أنَّ جذورها موجودة في جلّ كتاب التراث الإسلامي. وهيغل كان مُطَّلعا على التراث الإسلامي بشكل يتيح له الوقوف على هذا النمط التفريقي بين مرحلتين أساسيتين. وبعض المصطلحات الأخرى التي انتشرت في الثقافة الغربية كانت لها أصول في الفكر الإسلامي، مِن ذلك مثلا مُصطلح "التنوير/Aydınlanma" حيث يرى المؤلف أن الحضارة الإسلامية قد سبقت به نظيرتها الغربية، وهذا في وضعها النور تعبيرا عن الإسلام في مقابل الظلمات تعبيرا عن الجاهلية (Görgün, s 41)، وبهذا يريد المُصنِّف أن يقول أنَّ مفهوم التنوير في حد ذاته كان موجوداً في الثقافة العثمانية، في القرون الوسطى التي تُعد قرونا مُظلمة بالنسبة لأوروبا. ولهذا فلا يمكن الحديث عن الأصالة المطلقة في الفكر؛ لأنَّه مشترك إنساني ينتقل بين الحضارة وإن اختلفت اللغات.

ثمَّ ينتقل للحديث عن ضرورة الربط بين ما يوجد من فكر في التراث العثماني مع ما كان موجودا من فكر في التراث الإسلامي، ويرى أنّ مناط البحث يجب أن يكون حول تتبع استمرارية وتطوير المناقشات الفكرية والكلامية من العصور الإسلامية إلى المرحلة العثمانية، ولأجل أن يبين وجود هذا الترابط يقوم المؤلف بوضع نموذج لتتبع فكرتي الوجود والعدم كمواضيع نقاشية انتقلت من كتابات فخرالدين الرازي وابن سينا إلى كتابات ابن كمال باشا وأحمد جودت باشا وعاكف باشا، لتستقر لاحقا في مقررات المدارس العثمانية ضمن المتون والشروح التي كانت مُقرَّرة على الطلبة (Görgün, s 44). وفي آخر المسائل الفرعية التي في هذا القسم يتحدث المصنف عن الصفات التي يجب أن تتوفر في الباحث في مواضيع الفكر العثماني، ويشترط لذلك أن يكون المتصدي للبحث في مثل هذا الموضوع يؤمن بوجود الفكر العثماني بخصائصه المختلفة والمتشابكة، وهذا لأن مَن لا يُؤمن بوجود مثل هذا الأمر لا يستطيع أن يبرز للآخرين وجوده الفعلي. كما يشترط على من يخوض في موضوع الفكر أن يكون ملما بالمصطلحات والعلوم والأقسام المختلفة التي يرتبط بها هذا الموضوع، فلا يتجاوز في أي تقدير لأي موضوع الزمان والمكان والعرض والجوهر كمبادئ أساسية معرفتها لا غنى عنها لمعرفة تفاصيل هذا الفكر. (Görgün, s 52). وينهي المصنف الشروط التي يجب أن تتوفر في الباحث في هذا المجال بضرورة معرفته لعلم العمران كما أشار إليه ابن خلدون، لأن معرفته هي التي ستفتح الأفق للمعارف الأخرى.

المسائل الأساسية في الفكر العثماني

في العنوان الرئيسي الثالث يناقش تحسين قورقين المسائل الأساسية التي اعتنى بها الفكر العثماني، ويتحدث عن إمكانية تقسيم المسائل التي اعتنى بها الفكر العثماني إلى شقين أساسيين، تدخل تحتها العديد من المسائل، والشقان الرئيسيان حسب المُصنِّف هما: أولا: ما تعلَّق بالتعليم العتيق في المدارس والتكايا خلال العهد العثماني. ثانيا: ما تعلَّق بالأخلاق وما يدخل ضمنها من فكر وعمل. في حين يرى المصنف أنّ الفكر في الدولة العثمانية لم ينصرف كثيرا لمناقشة مسألة النظام السياسي؛ لأن )نظام العالم/(Nizam-ı Âlem الذي أسس للحكم في الدولة العثمانية لم يكن يحتاج إلى نقاش عميق. فهو لم يكن غاية في ذاته بقدر ما كان وسيلة في الحكم (Görgün, s 58). وفي هذا القسم يناقش المصنف عددا من المفاهيم من قبيل العالم/المفكر العثماني، المقارنة بين الفكر في سياقه الأوروبي والفكر في سياقه العثماني، والمقصود بالفكر مِن حيث حدُّه ورسمُه.

لينتقل للحديث عن مسألة مهمة وهي: الموضوع والمقصد العام الذي كان الفكر العثماني يسبح في فلكه. استفاض المصنف في الحديث عن المسائل التي ناقشها المفكرون العثمانيون، وشرع في ذكر المواضيع التي يرى المصنف أنّ أهمها: فكرة الوجود والعدم، وفكرة الإنسان الكامل. فيتحدث عن اشتغال المفكرين والعلماء في العهد العثماني على المواضيع التي كانت في الفكر الإسلامي، خاصة منها موضوع الوجود الإنساني غاياته وأهداف ومنتهاه، في حين يتحدث في فكرة الإنسان الكامل عن رؤية الفكر العثماني خلال ستة قرون إلى الإنسان، وسبيل تحقيق غاياته الكبرى والتي لا تتأتى إلاَّ ضمن سياق أخلاقي معين يصل بالإنسان إلى الكمال، فالمقصد الأساسي للفكر العثماني حسب المصنف تحسين قورقين كان منصرفاً للإنسان في ذاته. ويعقد مقارنات هنا بين ما هو موجود في الثقافة العثمانية وما ناقشته الفلسفات الغربية وتحديدا الألمانية في قضايا الأخلاق والعمل.

بعد الفراغ من الحديث عن البعد النظري في الفكر العثماني يحاول المصنف أن يربطه بالواقع الإنساني، ولهذا نجده في العنوان رئيسي جديد ضمن الكتاب يتحدث عن الفكر العثماني وحقوق الإنسان (Osmanlı Düşüncesi ve İnsan Hakları)، وفي هذا القسم يسعى المؤلف ليثبت أن الكثير من المصطلحات والمفاهيم التي توجد في عالم اليوم كانت موجودة في الفكر العثماني، وتناقش ضمن سياقها الإسلامي. ولهذا نجده يتحدث عن الحرية والمسؤولية (Özgürlük ve Sorumluluk) ويرى أنهما كانتا موجودتين في الثقافة العثمانية، بحيث نظر إليهما كمفهومين متلازمين وليسا مُتعارضين ضمن السياق الإسلامي (Görgün, s 109).  وهنا نجد المصنف يعقد مقارنات بين معنى المصطلح عند المفكرين العثمانيين وعند الفيلسوف الألماني كانط. ثم يكمل حديثه عن مفاهيم حقوق الإنسان بين ما هو عالمي ذو طبيعية توحيدية وما هو محلي يتميز بخصوصيته. وهنا يؤكد المصنف أنّ مفهوم الأمانة في الإسلام يضمن للإنسان كفرد القواعد الأساسية لحقوقه، فالأمانة بمدلولها الواسع في الإسلام تدخل في حيز ضمان الإسلام للفرد حريته وعقله ومُلكه، وهذه الحقوق ضمنت حتى لغير المسلمين بعصمة أموالهم ودينهم. وهنا نجد الباحث يناقش الموضوع من زاوية آنية لا تاريخية، فيركز على الواقع الحالي للمسؤولية والحرية والحقوق في عالم اليوم. ويناقش مدى تماشي الادعاءات الغربية حول الحقوق والحريات وتطبيقها مع المسلمين، ويرى أن هذه الحقوق أصبحت تستخدم في غالب الأحيان سياسيا للضغط على الدول لكنها في الحقيقة لا تهم صانع القرار إن كانت في غير مصالحه.

تصور العالم عند العثمانيين

يعود المصنف عنوانا جديدا آخر للحديث عن تعريف مصطلح مهم في التاريخ العثماني هو مصطلح نظام العالم (Nizam-ı Âlem)، من حيث فكره ومصادره، ويرى المصنف أن أهمية التعريف بهذا المصطلح تحديدا ترجع إلى كونه يُهندس تصوُّر المفكرين في العهد العثماني للمسائل المختلفة. فيبحث في معنى هذا المصطلح ودلالاته ثم استخداماته المختلفة، وعلاقته بتشريع فكرة "قتل الإخوة في التاريخ العثماني" ويرى بأنّ هذا المصطلح هو امتداد وتطور لفكرة علم "العمران" في نسخته الخلدونية (Görgün, s 131). كما يرى المصنف أن هذا المصطلح عكس ما هو متعارف عليه في الفضاء التركي فأنَّ مدلوله ذو بعد سوسيوثقافي وليس مثل ما هو مُقرر كمدلول سياسي.

بعد ذلك ينتقل المصنف للحديث عن "فتح إسطنبول 1453" ويعد هذا الفتح نتيجة لانتصار العلم والفكر، ويعطي أمثلة عن الصناعة الحربية وكيف تطورت إلى غاية تحقيق هدف تدمير أسوار المدينة الحصينة (Görgün, s 151)، كما يؤكد أن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، بل تعداه إلى محاولة النظام العثماني بقيادة محمد الفاتح بعد الفتح إيجاد صيغة لإنقاذ العالم من الوضع المتردي الموجود فيه، وهو ما يحيلنا من جديد إلى فكرة ومفهوم (Nizam-ı Âlem) التي سبق وأن أشار إليها المصنف.

الأثر العثماني في التشكل الحديث لأوروبا

بعد الفراغ من ذلك ينتقل المُصنِّف للحديث في عنوان رئيسي عن التشكل الحديث لأوروبا والأثر العثماني في ذلك. وقد شرع تحسين قورقين في الحديث عن هذا الأمر بمقدمة نقدية للتصور الذي نشرته المدرسة الغربية بخصوص ملامح العثماني في الوسط الغربي، حيث أكد من خلال استعراضه لعدد من مؤلفات وتقارير السفراء الغربيين (Görgün, s 162) في الباب العالي، أنّ الدولة العثمانية هي نموذج متكامل كان يتعاطى معه الغرب من مثقفين ورواد نهضة يتجاوز الزاوية التي تحاول الدراسات الغربية المعاصرة حصرها فيه. وتحدَّث المصنف في هذا الفصل مِن الدراسة عن تشكل هوية أوروبا والوضع العام الذي كانت تعيشه وكيف تأثَّرت الحركة الإصلاحية البروتستنتية ببعض معالم الفكر العثماني (Görgün, s 163-166).  ثمّ طرق المصنف مبحثا جديداً حول نظرة الأوروبي للعثماني هل هو معلم أو عدو؟ (Osmanlı: Düşman mı Öğretmen mi)  وهنا نجد تحسين قورقين يقوم بتتبع كرونولوجي لصورة العثماني في الوسط الغربي من بداية القرن 15 إلى القرن الثامن عشر، ويظهر تأثر أمثال: جون جارمان ومارتن لوثر بما لدى الترك من قوانين ومبادئ في الدين والقانون والعلاقات (Görgün, s 167)، ويذهب المصنف إلى أن مارتن لوثر مثلا كان يرى أنه لا حاجة للتفكير في العثمانيين كعدو (Görgün, s 170)، وهنا يفتح المصنف بابا آخر للحديث عن فكرة كانت موجودة عند العثمانيين وحاول الأوروبيون اعتمادها وهي سلطة الدولة، والتي كان يمثلها السلطان في الدولة العثمانية وكان حينها يمثل السلطة الأعلى المتفردة، ما جعل مسار تطور الدولة عند العثمانيين يكون أسرع مما كان لدى الأوروبيين بسبب سيطرة الكنيسة وقيامها بالاستحواذ على السلطة، ويرى المصنف أن التغيير الذي سيحدث في أوروبا بداية من القرن السابع عشر سيكون نتيجة استحواذ السلطة السياسية في أوروبا على القوة المادية والمعنوية التي كانت تتقاسمها وفي بعض الأحيان تتخلى عنها لصالح السلطة الكنسية. (Görgün, s 174-181).

يختتم تحسين قورقين كتابه بعقد مقارنة عن تصور الدولة الحديثة في الفكرين الغربي والعثماني (Görgün, s 183-211) ويوضح أن تطور سياق الدولة في كل جانب كان مختلفا عن الآخر، لكن الإشكال أنَّ الباحثين المعاصرين حسب تحسين قورقين يريدون جعل السياق الغربي لتطور الدولة هو الأصل الذي يجب أن تتطور ضمنه أفكار الدولة الحديثة في سياقات أخرى مختلفة مثل السياق التركي أو الإسلامي. ولهذا يعود ليؤكد بأنّ الدولة أو الفكر الذي صنعها في أوروبا هو نتيجة لتطور مسار الفكر الإنساني العام وأنّ تأثير فلسفة وفكر الدولة العثمانية على الفكر الأوروبي الحديث والدولة الحديثة لا يمكن تجاوزه بأي حال.

خاتمة

بهذا العرض لهذا الكتاب يمكننا القول إن صاحب الكتاب قدَّم أطروحة في التعامل مع الفكر الإسلامي والعثماني بشكل خاص، وحاول التأكيد على أنَّ الصورة النمطية التي أسست لها الدراسات الغربية حول الفكر في الدولة العثمانية خلال ستة قرون هي فكرة خاطئة، تنفيها دلائل سرد بعضها المصنف في ثنايا كتابه. وما يهمنا نحن في هذا السياق وما حملنا على عرض هذا الكتاب هو ما يحمله من أفكار جديدة قد تساهم في إعادة بناء قراءات نقدية لبعض السرديات في التاريخ الحديث، ويوجب على الباحثين عدم التسليم المباشر للسرديات دون عرضها على النقد والتمحيص ما يعيننا على دراسة تاريخنا بدون إفراط ولا تفريط.

 

[1] Tahsin Görgün, Osmanlı Düşüncesi, Tire Kitap, İstanbul, 2020.

[2] Görgün, Osmanlı Düşüncesi, s 9.

[3] Görgün, Osmanlı Düşüncesi, s 12.

[4]Görgün, Osmanlı Düşüncesi, s 19.

[5]Görgün, Osmanlı Düşüncesi, s 24-26.

[6]Görgün, Osmanlı Düşüncesi, s 35.

شارك :

التعليقات (1)

أضف تعليق