معالم حداثة دينية في تجربة الحركة الاسلامية بالمغرب

طباعة 2017-04-02
معالم حداثة دينية في تجربة الحركة الاسلامية بالمغرب

تأليف: يوسف بلال.

العنوان الأصلي:

  Le cheikh et le calife: sociologie religieuse de l’islam politique au Maroc

الناشر: المدرسة العليا للأساتذة ليون، فرنسا.

سنة النشر: 2012.

عدد الصفحات: 336.

 

مقدمة:

منذ التسعينيات والكتابة في المغرب عن "الحركة الإسلامية" أو "الظاهرةالإسلامية" أو "الإسلام السياسي" أو ما يختصره البعض في "الإسلاميين" في تزايد مستمر، بسبب بروزها كفاعل أساسي ومحوري في الصراع الفكري والسياسي بالمشهد المغربي، من طرف باحثين مغاربة وأجانب على حد سواء. تنوعت الأبحاث عنها وحولها ما بين أبحاث إمبريقية تسلك مسلك الشرح على المتون معتمدة بالأساس دارسة وتحليل الأوراق التأسيسية والوثائق المؤطرة لهذه التنظيمات، وأحيانا كتابات وأعمال بعض من قياداتها ورموزها. وأخرى ميدانية تضيف إلى تلك العدة النظرية معرفة ميدانية تحصلها باعتماد بحث ميداني قائم على الملاحظة والمشاركة والاحتكاك بهذه التنظيمات ومعايشة أعضائها.

يأتي ضمن هذا الصنف الأخير كتاب السوسيولوجي المغربي يوسف بلال[1] الذي يعد ثمرة مزاوجة بين قراءة أبجديات الظاهرة الإسلامية في السياق المغربي، وملاحظة بالمشاركة لبعض أعضاء وقادة كل من جماعة العدل والإحسان من ناحية، وحركة التوحيد والإصلاح وحزب العدالة والتنمية من ناحية أخرى خلال عامي 2003 و2004، والبحث كان في الأصل أطروحة لنيل درجة الدكتوراه في علم الاجتماع السياسي بفرنسا، وصدر قبل ثلاث سنوات باللغة الفرنسية عن منشورات المدرسة العليا للأساتذة ليون سنة 2012[2].

يقدم فيه الباحث أطروحة غنية عن الإسلام السياسي في المشهد المغربي، وتداخل السياسي بالديني، سواء في بناء الدولة الحديثة أو في الاستعمال الحزبي أو في اللحظة الراهنة بعد الثورات العربية في قراءة جريئة، وغير مسبوقة للتسيس الديني أو التدين السياسي.

ليكون بذلك كتاب "الشيخ[3] والخليفة: السوسيولوجيا الدينية للإسلام السياسي بالمغرب" واحدا من الكتب الراهنة الأكثر إثارة للاهتمام في المغرب عن جدلية السلطة والإسلام السياسي بعد كتابي "الشيخ والمريد" للأنتربولوجي عبد الله حمودي[4] و"الملكية والإسلام السياسي" لمحمد الطوزي[5]، الذي كان عرضة للمنع زمن الراحل الحسن الثاني. فهو يُحدث خلخلة حقيقية سواء لمفهوم الحركات الإسلامية، أو المرجعية الإسلامية، أو مفهوم الحداثة والحوار الممكن بين الحداثة والإسلام... إلخ من القضايا والمسائل الحساسة في واقعنا اليوم.

 

تعود أهمية هذا الكتاب في نظري إلى ثلاثةأمور أساسية:

الأول:مراوحة الباحث بين مستويين في التحليل السجالي؛ يرتبط أحدهما بالماكرو سوسيولوجي الذي يرصد فيه معظم الأعمال والأبحاث التي قدمت عن ظاهرة الإسلام السياسي على امتداد العالم الإسلامي[6]، والأخر بالميكرو سوسيولوجي حيث يتتبع فيه التفاصيل الدقيقة لحضور الفكرة الدينية في السياق المغربي راصدا مختلف التطورات التي عرفتها منذ الحماية حتى الآن.

الثاني: انتماء العمل لعينة الكتب السجالية التي لم تكتف بالانخراط في قراءة ظاهرة الإسلام السياسي في المغرب، والبحث في نقاط التماثل والتباين بين هذه الحركة وتلك أو هذا التنظيم وذاك و/أو علاقتها بالمشرق، بل إنه مضى أبعد من ذلك عبر تقديم مراجعة لعدد هام من الكتابات والنظريات الغربية والعربية منها على السواء، التي تعاطت مع حركات الإسلام السياسي المغربية[7].

الثالث: تجاوز الباحث لمقاربة العلوم السياسية التطبيقية الصرفة – المدرسة الفرنكوفونية - التي اعتمدها من سبقوه لبحث الموضوع إلى اعتماد تقنية التجسير بين حقول معرفية مختلفة؛ التاريخ الاجتماعي والأنتروبولوجيا السياسية وسوسيولوجيا الأديان، مدعما كل ذلك بتطوير أدوات مفاهيمية لقاعدة تجريبية قائمة على الملاحظة بالمشاركة عن قرب مع نشطاء الحركة الإسلامية في المغرب[8].

كل ذلك ساعد الباحث على تقديم قراءة تنزع نحو الشمولية لما يعتبر أهم فاعل سياسي في المشهد السياسي المغربي إلى جانب المؤسسة الملكية. كما أنه لا تستقيم معرفيا وأكاديميا شرعية إنجاز كتاب جديد حول موضوع مشبع بالدرس والتحليل، وحوله جدل واسع وممتد إلا من زاوية النظرة النقدية لما تراكم في مجاله العلمي سعيا لاجتراح أفاق بحثية جديدة للموضوع، وهذا ما تم تحصيله في كتاب الشيخ والخليفة.

 

الشيخ والخليفة وجدلية الديني في السياق المغربي

جاء المؤلَف موزعا على مقدمة وخاتمة وخمسة فصول، يقارب الباحث على مدارها العلاقة بين الإسلام والسلطة من خلال التفكير في مكانة الدين داخل المجتمع المغربي. ويعود في بحثه المعمق هذا لمرحلة تقارب قرنا من الزمن في دعوة هادئة للقارئ إلى إعادة التفكير في العلاقة بين الدين والسياسة على مدى فترات مختلفة من تاريخ المغرب المعاصر، مستحضرا مختلف التوظيفات التي كانت للدين من طرف القوى الفاعلية في المشهد المغربي طوال هذه الحقبة[9]. معتمدا - من حين لأخر - في تحليله على المقارنة بين الديانة المسيحية والديانة الإسلامية[10]، متأثرا في عمله هذا بالمدرسة الأنجلوسكسونية في علم الاجتماع.

 

تتوزع محاور الكتاب الخمسة تباعا وفق ما يلي:

 - الإسلام، نظام الحماية والحركة الوطنية: يتتبع الباحث في هذا الفصل حضور الدين في الشأن المغربي، معتمدا كرونولوجيا تاريخية لتطورات الفكرة الدينية التي يعتبرها لحاف الهوية الوطنية المغربية[11]، فهي دائمة الحضور وبأشكال مختلفة في هذا المشهد، وهو ما عبر عنه بعنوان "الإسلام والاستعمالات المتعددة"[12]. ويقدم أمثلة استدلالية على ذلك من قبيل السلفية الإصلاحية المغربية ممثلة في تجربة علال الفاسي السلفي الإصلاحي والمناضل السياسي، وتوظيفات الدين من طرف سلطات الحماية الفرنسية آنذاك[13]، وكذا التحولات التي شهدتها وظيفة السلطان[14].

- الملكية والرمزية الدينية: يظهر بأن أكثر المؤسسات المستعملة للخطاب الديني بالمغرب هي الملكية، بل هو جزء من شرعيتها الوجودية. لكشف ذلك يستحضر الباحث مختلف المحطات التي وظفت فيها المؤسسة الملكية رمزيتها الدينية[15]، وارتدت جبة إمارة المؤمنين لمواجهة المخالفين لها، واستدرار وكسب تعاطف الشعب المغربي معها ومساندته لها للتصدي لهم ومواجهتهم، ولنا عودة بالأمثلة والنماذج لبعض هذه الوقائع والأحداث.

- الصوفية والجماعة الوجدانية، ياسين الشخصية الجذابة: بحث في تاريخ وحاضر جماعة العدل والإحسان إحدى أكبر الحركات الإسلامية بالمغرب، التي ما تزال خارج أطر وقواعد اللعبة السياسية، حيث تقدم نفسها الآن معارضة للنظام الملكي. غير أن البحث يكشف عن حقيقة مخالفة لما عليه واقع الأمر اليوم، فهي لم تكن كذلك عند التأسيس، وهو ما سنتوقف عنده بالتفصيل في نقطة خاصة ضمن هذه الورقة.

- الوعظ، الإصلاح والعقلانية: يعود بنا هذا الفصل إلى حقبة الثمانينيات وبداية التسعينيات التي شهدت أوج السجال والجدال بين المؤسسة الملكية والحركات الإسلامية (الجماعة الإسلامية، العدل والإحسان، الشبيبة الإسلامية...) وذلك من خلال حفريات في أرشيف الحركة الاسلامية لهذه الفترة[16]. كما يبين الباحث كذلك كيف تمكنت حركة التجديد والإصلاح (الجماعة الإسلامية سابقا) من تقديم مراجعات شاملة أهلتها لتقود قاطرة خطاب الإصلاح بالمغرب الذي يتمثله حزب العدالة والتنمية الآن.

- الملكية، الحركة الاسلامية والفضاء العمومي: يرصد هذا الفصل الصراع الخفي بين الحركة الإسلامية والمؤسسة الملكية في المشهد العمومي المغربي، وكذا توظيفات الأطراف للخطاب الديني الذي يعتبره جزءاً من التركيبة المغربية المتفردة.

بعد هذا العرض البانورامي السريع لمحاور الكتاب، نتوقف قليلا لتحليل ومناقشة بعض النقاط الجوهرية التي يثيرها البحث، مع الإشارة لتنبيه منهجي مفاده أن هذه الورقة لا تدعي من قريب أو بعيد رصدا شاملا لمختلف الأفكار والتفاصيل الجوهرية التي يطرحها الكتاب فكل محور مشروع ورقة – أو أوراق -مستقلة بذاتها.

 

الإسلام السياسي المغربي ومعالم حداثة إسلامية

لن نبالغ إن وصفنا "الديمقراطية"، "الحداثة"، "الإسلام السياسي" بالأقانيم الثلاثة التي شغلت بال الكثير من الباحثين العرب والغربيين في العصر الحديث، بالنظر إلى ما أثير حول هذه الموضوعات من سجال وجدال وخلاف واختلاف بين طوائف وتيارات مختلفة، وبحدة أقل بين أبناء القبيلة الواحدة (فكريا، إيديولوجيا، تنظيميا،...).

حتى صار القول فيها وعنها خير وسيلة للفرز، وأفضل أسلوب لتصنيف الأفراد إلى أصوليين وحداثيين، محافظين وتقدميين... وأداة لرسم خطوط الفصل بين فسطاطين مختلفين، تتسع بينهما الهوة مع توالي الأعمال التي تنتصر إلى هذا الطرف أو ذاك (الحفاظ على الأصول/ الانصهار في الحداثة)، وتتغاضى عن البحث في ممكنات أخرى بعيدا عن حديتي الأصولية والحداثوية.

جاء كتاب يوسف بلال ضمن دائرة البحث عن هذه الممكنات، ليقول كلمة حق عن الحركة الإسلامية، إذ يؤكد هذا المناضل اليساري المنتمي لحزب التقدم والاشتراكية (الحزب الشيوعي سابقا) – بأن الحركة الإسلامية حركة اجتماعية في البدء والمنتهى؛ فهي جزء من الواقع السياسي والاجتماعي المغربي، ولابد إذن من إدماجها في المسلسل الديموقراطي. ويضيف في ذات السياق أنه كلما انخرطت حركة ما في اللعبة السياسية، والحديث هنا عن العدالة والتنمية الواجهة السياسية لحركة التوحيد والإصلاح، كلما تهيكلت وتطورت وأعادت بناء نفسها، وهكذا يصير للبعد السياسي لديها أولوية على البعد الديني[17].

عاد بلال إلى قراءة محفوظات الأرشيف المغربي لفهم تمفصلات السياسي والديني في المغرب منذ 1930، من خلال البحث في تاريخ رجالات الحركة الوطنية وعلى رأسهم زعيم حزب الاستقلال علال الفاسي،خريج القرويين ورائد من رواد الحركة الإصلاحية في نسختها الثانية، حيث كان الخطاب الديني حاضرا لدى هؤلاء، بموازاة الحضور الصوفي بمختلف تشكلاته وأنواعه (الطرق، الزوايا...)،[18] بالإضافة إلى الإسلام الشعبي أو التقليدي العامي، وكلها أنماط تختلف وتتباين عما هو سائد في أبجديات الحركات الاسلامية.

تظافرت هذه الفسيفساء الدينية بالإضافة إلى عوامل أخرى لتساهم بشكل بالغ في تطورات هذه الحركة - أو على الأقل جزء منها - وكذا مآلاتها في الوقت الراهن. ما أهّلها لتكون في صفوة الحركات السياسية ذات القدرة على طرح معالم مشروع مجتمعي ديمقراطي بنكهة مغربية خاصة وخالصة. وهو ما خلص إليه البحث من طريق قراءة سوسيولوجية دينية متأنية للأشكال والأنماط العملية للتنظيم والتعبئة، ليؤكد بناء عليه بأن الإسلام لا يتعارض مع الديمقراطية، وأن الإسلام السياسي كما تطور في المغرب سواء كان إسلام الملكية أو إسلام بعض الحركات نابع من المجتمع، ونتاج لتطور بنياته وتفاعلها مع محيطها.

بهذا الطرح البحثي الجديد يضع هذا السوسيولوجي حدا للقراءات السائدة في الساحة الفرنكفونية طيلة عشرين سنة الماضية، والتي تشكل وجها من أوجه "الاستشراق الجديد" بتعبيره، حيث أسقط أسطورة التعارض الحتمي والمزعوم بين الديمقراطية والحداثة السياسية والحركات الإسلامية[19]. وفند في ذات الآن متوالية من المصادرات والأحكام المسبقة المتحيزة، ذات الحمولة الإيديولوجية التي لا تملك من العلمية سوى الاسم ضد هذه الحركات.

يذهب بلال – أكثر من ذلك -مذهب القائلين بإمكانية تنوع الحداثات، كما تبين ذلك التجارب الدولية مثل تركيا، الهند، البرازيل وإيران. وهذا التنوع من وجهة نظره مرتبط بقدرة الشعوب والمجتمعات على الدفاع عن حقها في الإبداع التاريخي، حيث إمكانية تعدد الحداثات لا تعني الانكماش على الذات أو رفض الآخر، وإنما تعني التعامل بشكل جدلي مع الآخر، وتسمح للمجتمعات غير الغربية بأن تبني اقتصادا قويا، وفي نفس الوقت، أن تحافظ على هويتها وكرامتها وتغير علاقتها بالغرب المهيمن.

 

المشروع الياسيني[20]: السياسة بلباس صوفي

يقر الباحث بأن المرجعية الدينية تظل مرجعية مشتركة في نهاية المطاف ومتقاسمة من طرف أغلب الفاعلين، حتى وإن كان يسائل مفهوم المرجعية الإسلامية ويفككه ويعيد بناءه، انطلاقا من فكرة التعددية داخل هذه المرجعية نفسها. فمن وجهة نظره ليس هناك فهم واحد ولا تأويل واحد للإسلام، ومن ثمة لا يمكن الحديث عن مرجعية إسلامية واحدة وموحدة، لذا تكون مقاربة جماعة العدل والإحسان مختلفة تماما عن مقاربة حزب العدالة والتنمية، ويترتب عن ذلك ممارسة مختلفة، لأنهما يعتمدان تأويلين مختلفين للإسلام، وهذا ينعكس على مرجعية كل واحدة منهما.

بغية توضيح هذا التباين أفرد الباحث فصلا كاملا لجماعة العدل والإحسان باعتبارها حاليا أقوى حركة إسلامية معارضة خارج قواعد اللعبة السياسية الرسمية في المغرب، بعدما دخل إخوانهم في حركة التوحيد والإصلاح[21] للعمل السياسي من خلال انتمائهم إلى حزب الحركة الدستورية الديمقراطية الاجتماعية الذي سيغير تسميتها سنة 1997 إلى اسم "حزب العدالة والتنمية"[22].

يقدم هذا الفصل تفاصيل كثيرة في مسار ومسيرة جماعة العدل والإحسان، التي يتناسى أغلب الباحثين نشأتها وأصول ولادتها الأولى، فهي تنحو منحى صوفيا في بنائها التنظيمي ومرجعيتها. ويشير البحث إلى أن مشروعها الأول في كتاب مرشدها عبد السلام ياسين "الإسلام بين الدعوة والدولة"[23] كان هو خلق جماعة تختص في تربية الشعب بتعاون كامل مع الأمير[24]. ويكفي من أجل ذلك الاهتداء والاقتداء بكبار الفاعلين في تاريخ العالم الإسلامي وتاريخ المغرب[25].

مقابل ذلك كان عبد السلام ياسين شديد اللهجة تجاه آراء ومواقف بعض قيادات جماعة الإخوان المسلمين، حيث يقول: "لا أعرف إن كان حسن البنا والسيد قطب، هذان الرجلان العظيمان قد قرءا الفصول حول الفرقة في كتب السنة، وإن كانا قد فكرا في أمر النبي الصارم بالإنصات للأمير، وطاعته حتى وإن لم يكن يؤدي صلاته. وأمرنا أيضا بالتآخي وإدانة العنف"[26].

يظهر إذن أن التعاون مع الملك كان الخيار الأول الذي تأسس عليه المشروع الياسيني، وذلك بتقسيم العمل بينه وبين الملك الحسن الثاني أنذاك[27]. فصل ياسين معالم أطروحة التعاون هذه وعناصرها في كتابه "الإسلام غدا"[28]، والتي ترجمها إلى مسألة عملية وواقعية سنة بعد إصدار الكتاب بإقدامه على تقديم النصيحة للملك الحسن الثاني في شكل رسالة بعنوان "الإسلام أو الطوفان"[29].

انقلبت بعدها المواقف وحصد الشيخ بعد محنته طهرانية خاصة، وهيمنة رمزية مكنته بعد نجاح الثورة الإيرانية من استلهامها كتجربة[30]، خاصة وأن تصور الإمام الخميني للسلطة له أوجه تشابه عديدة مع المشروع الديني والسياسي لعبد السلام ياسين؛ فولاية الفقيه مثلا تذكر كثيرا بالدور الذي يلعبه رجل الدعوة عند ياسين.

نظَّر مرشد الجماعة لأطروحته السياسية ذات اللبوس الصوفي في كتاب المنهاج النبوي[31]، حيث يطرح "القومة" كمصطلح بديل عن "الثورة" - التي أدانها في كتاباته الأولى - بمواصفات موغلة في الرمزية والصوفية[32].

مكنت هذه الكرونولوجية بجزئياتها الدقيقة وتفاصيل أخرى لأحداث مرتبطة بهيكل وتنظيم الجماعة (مجلس الإرشاد، مجلس النصيحة، طرد الأستاذ طارق البشيري من الجماعة،...) مكنت هذا السوسيولوجي من فرز تمايزات جوهرية بين أكبر حركتين إسلاميتين في المغرب، أي جماعة العدل والإحسان وحزب العدالة والتنمية. فهو يرى أن الحركة الإسلامية الوحيدة التي تحمل عمليا مشروع اليسار في الستينات، وريثته وامتدادا له هي بشكل خاص حزب العدالة والتنمية، لأن العدل والإحسان حركة صوفية في الأصل[33] وليس حركة إسلامية بمعناها المتداول. معتبرا أن دمقرطة الدولة المغربية بحاجة إلى قوى سياسية قوية وحاضرة وفاعلة، وتمثل أغلبية المجتمع، وحزب العدالة والتنمية هو المؤهل اليوم لذلك.

 

الملكية والدين بالمغرب: تاريخ من السلطوية

تصطدم دمقرطة المجتمع المغربي الملقاة على عاتق القوى السياسية الفاعلة بالمغرب، والتي تأتي العدالة والتنمية في مقدمتها -من منظور الباحث - بالدولة (المخزن) ذات المنزع السلطوي المحافظ، والمقاوم لأي تغيير يمس جوهرها وعمق بنياتها التقليدية، ولضمان هذا الثبات تستعين الدولة بالخطاب الديني للذود عن حوزتها من أي تغيير.

بغية فهم أعمق لهذا الأمر يتعين تفكيك الأسس الاجتماعية والخلفية الدينية المتباينة التي تلتجئ إليها الدولة في كل موقف، وكذا الدوافع النفسية للسلطة الحاكمة اعتمادا على حفريات في مجال اللاهوت السياسي بالمغرب بحثا في تشكلاته طوال نصف قرن؛ منطق اشتغاله، دينامياته الداخلية، إسناداته الذاتية وذاكرته الرمزية.

وهو ما حظي باهتمام بالغ في متن الكتاب من خلال استحضار مسألة توظيفات الدين لدى المؤسسة الملكية عناية خاصة[34]، لأجل توضيح الازدواجية التي تعتري هذه المؤسسة حيث تقدم نفسها كملكية حديثة قادرة على التجديد والتطور، لكنها -ومن حيث لا تدري أو تدري – تظل ضاربة في الطقوسية التي لا تتناسب مع مقومات الدولة الحديثة[35]. كشف البحث عن مختلف تلك التوظيفات واستعرض بالموازاة مع ذلك عددا من الأدوات التي تشتغل بها هذه المؤسسة بحسب الظروف والسياقات، وكذا قدرتها على توظيف "إمارة المؤمنين"[36] وتزكيتها لدى المغاربة لمزيد من المشروعية؛ خصوصا بعد انقلابي سنة 1971-1972، وامتدت كذلك إلى واقعة المسيرة الخضراء حيث قال الحسن الثاني في إحدى خطبه بأن تلك الفكرة جاءته في الحلم والرؤيا. دون أن ننسى أن الخطاب الديني حضر كذلك لمواجهة الحزب الشيوعي المغربي (سابقا) ومختلف القوى المناكفة للنظام آنذاك.

هذه الشرعية الدينية، وتحديدا جبة إمارة المؤمنين، كان لها الأثر البالغ في مساعدة الراحل الملك الحسن الثاني على محو التاريخ السيء له إبان توليه منصب ولي العهد في ذاكرة المغاربة (1955- 1961)[37]. وهنا نشير إلى تقاسم الأدوار بين السلطان محمد الخامس كملك لمغرب ما بعد الاستقلال السياسي والحسن الثاني بصفته وليا للعهد[38].

تساعد هذه الرؤية النقدية الاسترجاعية التي يعتمدها الباحث على فهم الكثير مما جاء في متن الوثيقة الدستورية لسنة 2011، وتحديدا الغايات وراء تقسيم الفصل 19 من الدستور القديم الذي كان محط جدل كبير[39]. مع استمرارية منطوقه، وبشكل مفصل حيث توزع على فصلين في نص الدستور الجديد؛ وهما: الفصل الواحد والأربعين الذي ينص على إمارة المؤمنين بشحنتها الدينية والتاريخية المرسخة منذ دستور 1962، والتي ما تزال تفرض نفسها بقوة في هذا الدستور 2011. وهذا ما يحقق استمرارية بنية السلطة التقليدية، التي تستند إلى الموروث الديني والتاريخي في مقابل الشرعية الشعبية التي تعتبر أهم مطلب شعبي رفعه الحراك المغربي. والفصل الثاني والأربعين الذي يحدد مهام الملك باعتباره رئيسا للدولة.

 

خاتمة

يجمل بنا في نهاية هذه الورقة التنبيه إلى أن الباحث تمكن من وضع حد لمسلسل المقاربات الشكلانية الاختزالية لباحثي علم السياسة أو السوسيولوجيا في موضوع الحركة الإسلامية بالمغرب. وشق طريقا بحثياً جديداً يفند تلك المفارقة السائدة، والتي مؤداها قيام أغلب الباحثين بدراسة الحركات الإسلامية دون أخذ البعد الديني بعين الاعتبار، كما لو أن هذه الحركات كانت حالة مرضية داخل الإسلام.

وهو ما أسقطه هذا الكتاب بتقديم هذه الحركات كمكون من مكونات الإسلام التي يتوجب على الباحثين التعاطي معها، ودراستها كحركة دينية باستعمال مقاربة عملية موضوعية ومنهج علمي رصين. وهذا ما تفتقد إليه الساحة البحثية الفرنسية، ما يفسر وجود عداء مزدوج سواء للدين بصفة عامة (العلمانية الصلبة) أو إلى الإسلام على وجه الخصوص (الإسلاموفوبيا).


[1]أستاذ بجامعة محمد الخامس أكدال- الرباط، متخصص في علم الاجتماع السياسي والعلاقات الدولية. يعمل حاليا باحثا وأستاذا زائرا في جامعة كولومبيا بالولايات المتحدة الأمريكية. نجل الراحل الخبير الاقتصادي عزيز بلال أحد مؤسسي الحزب الشيوعي سابقا حزب التقدم والاشتراكية حاليا، الذي كان عضوا في مكتبه السياسي قبل أن يستقيل منه بعد أحداث الربيع العربي، أنجز العديد من الدراسات والأبحاث لمنظمات دولية على رأسها الأمم المتحدة.

[2]العنوان الأصلي للكتاب:"Le cheikh et le calife: sociologie religieuse de l’islam politique au Maroc"، يوسف بلال، منشورات المدرسة العليا للأساتذة ليون، فرنسا(Ecole normale supérieure de Lyon)، الطبعة الأولى 2012، 336.

[3]وجب التنبيه إلى أن كلمة "الشيخ" الواردة في الكتاب لا بد أن تفهم في جانبها الاستعاري الذي يحيل على السلطة الدينية وعلى رجال الدين بشكل عام وليس إلى شخص بعينه أو جماعة بذاته.

[4] عبد الله حمودي: الشيخ والمريد؛ النسق الثقافي للسلطة في المجتمعات العربية الحديثة، ترجمة عبد المجيد جحفة، دار توبقال للنشر الطبعة الأولى، 1999.

[5]محمد الطوزي: الملكية و الإسلام السياسي في المغرب، ترجمة محمد حاتمي وخالد شكراوي، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، الطبعة الأولى 1998.

[6]نشير إلى رواد من قبيل: بيل ألفرد، جاك بيرك، كليفورد غيرتز، بيتر براون، فرانسوا بيرجا، كاري أوليفير، دال ايكلمان، ارنست كيلنر، مشيال ريتشلرد، أوليفي روا... وآخرون.

[7]O.Roy (l’échec de l’islam politique), B.Ghalioun (Islam et politique ;la modernité trahie), F.Burgat (l’islamisme en face), B.Lewis (le retour de l’islam), J.Berque (l’islam au temps du monde), C.Geertz ( Observer l’islam)…

[8]يرفض الباحث استعمال كلمة "الإسلاميين" (islamiste) لما تحمله من دلالات وحمولة سلبية، ويفضل في مقابل ذلك الانتصار للفظة "الإسلامية" (islamique) التي تبدو من وجهة نظره أكثر حيادية وموضوعية.

[9]يؤكد بلال أن فهما أعمق للحركة الإسلامية اليوم في المغرب لا يمكن دون الرجوع إلى الماضي، وتحديدا بداية القرن 20، هنا يستحضر السلفية، وموقع الدين في النظام الملكي بالمغرب، ومرجعية الحركة الوطنية بل وحتى في جزء من اليسار المغربي آنذاك.

[10] Spécialement les travaux de D.Hervieu Léger (Vers un nouveau christianisme), (la religion pour mémoire)…

[11]Le cheikh et le calife, Ibid, p 40.

[12]Ibid, p 52.

[13]نشير هنا إلى استعانة المقيم العام الفرنسي الجنرال ليوطي (Lyautey) بالخطاب الديني في وقت مبكر جدا، يعود إلى سنوات العشرينيات من القرن الماضي، إبان فترة الحماية لثني المغاربة عن المطالبة بقيم حقوق الإنسان والمواطنة الأخذ في الانتشار بين الدول الأوروبية بعد نهاية الحرب العالمية الأولى.

[14]Ibid, p 56.

[15]Ibid, p 72.

[16]Ibid, p 211.

[17] يوسف بلال في حوار مع أسبوعية ليكسبريس الفرنسية لشهر يوليوز/ تموز 2011.

[18]استعملت الحركة الوطنية في فترة الاستعمار الرؤية، حيث انتشرت أسطورة رؤية سلطان المغرب آنذاك محمد الخامس في القمر، وكذا قدرة طائرته على الطيران في السماء بدون وقود... إلى غير ذلك من القصص التي تضفي طابعا أسطوريا على الشخص.

[19]يذهب أكثر من ذلك حين يؤكد أن حزب العدالة والتنمية هو حزب كباقي الأحزاب، فهو ليس حزب دعوة. ففيه تتم الاجتماعات والتصرفات واتخاذ القرارات كباقي الأحزاب بوجود منتخبين سواء على مستوى المدن أو على مستوى البرلمان. أعضاء هذا الحزب موجودون لعمل وحل المشاكل المطروحة وتدبير شؤون البلد، وليسوا هناك للقيام بالدعوة والموعظة التي تعتبر من أهداف حركة التوحيد والإصلاح. ربما يجب النظر إلى خصوصيتهم بالنسبة لباقي الأحزاب السياسية والتي تتجلى في الجانب الأخلاقي الديني البارز.

[20]الياسيني نسبة إلى الأستاذ عبد السلام ياسين مؤسس ومرشد جماعة العدل والإحسان التي أسسها سنة 1987 عند خروجه من السجن.

[21]حركة التوحيد والإصلاح هي نتاج الوحدة التي تمت سنة 1996 بين حركة الإصلاح والتجديد ورابطة المستقبل الاسلامي. ومن نافلة القول الإشارة إلى أن حركة الإصلاح والتجديد المعروفة بجمعية الجماعة الإسلامية تأسست واقعيا سنة 1981 بقيادة الأستاذ عبد الإله بن كيران - بعد إعلان أعضائها القطيعة مع تنظيم الشبيبة الاسلامية بقيادة عبد الكريم مطيع ذات الخيار الثوري - وإن تأخر ميثاقها الرسمي إلى غاية 1989.

[22]للتذكير فقط أن حركة الإصلاح والتجديد بعدما وضعت أوراقها التصورية ومنهجية عملها تقدمت بطلب تأسيس حزب سياسي يحمل اسم "التجديد الوطني" سنة 1992، وهو بمثابة ترجمة عملية لوثيقتي "رؤيتنا السياسية" و"المشاركة السياسية" التي تم إصدارهما سنة 1988.

[23]عبد السلام ياسين: الإسلام بين الدعوة والدولة، مطبعة النجاح،الدار البيضاء، الطبعة الأولى، سنة 1972.

[24]Ibid, p 126.

[25]يقدم عبد السلام ياسين نفسه امتدادا لتجربة المرابطين، متبنيا قانونا في التاريخ الإسلامي "رجل الدعوة يكسب القلوب عبر التربية الروحية، وعندما يلتقي مثل هذا الرجل مع رجال السلطان، فإن الإسلام يدخل في حقبة جديدة من تاريخه".

[26]Ibid, p 131.

[27]في ذات السياق نسجل بأن عبد السلام ياسين أدان المحاولة الانقلابية التي قام بها الجيش ضد الحسن الثاني سنة 1971.

[28]عبد السلام ياسين: الإسلام غدا، دار الأفاق، الدار البيضاء، الطبعة الأولى 1973.

[29]هي رسالة خطية واشترك في توقيعها مع الأستاذ عبد السلام ياسين اثنان من رفاقه، وهما: الأستاذ العلوي سليماني والأستاذ أحمد ملاخ.

[30]وقد عبر ياسين عن إعجابه الكبير بآية الله الخمينيفي مجلة "الجماعة"، واعتبر أن الصراعات بين السنة والشيعة متجاوزة، وانتصار الثورة الإيرانية سنة 1979 الذي تزامن مع القرن الهجري الجديد (14 هجري) وسيطرة جهيمان القطيبي على مكة (20 نونبر 1979) كلها علامة واضحة لاختيار إلهي.

[31]عبد السلام ياسين: المنهاج النبوي، دار الخطابي للطباعة والنشر، الطبعة الأولى 1981.

[32]فالقومة لها ملامح ليلة كبرى عندما سيكون على رأس زاوية تضم آلاف الأتباع، إنها قد تحدث بعد عمل أجيال وأجيال.

[33]للإشارة فقط فمرشد الجماعة ومؤسسها الأستاذ عبد السلام ياسين كان في الزاوية البودشيشية قبل أن يخرج منها ويؤسس جماعته.

[34]Ibid, p 95.

[35]نشير على سبيل المثال إلى طقوس البيعة وحفل الولاء التي تقام كل سنة بمناسبة عيد العرش، حيث يثير مشهد ركوع أفواج من المسؤولين أمام الملك، وهو يمتطي صهوة جواده الكثير من الانتقاد وطلبات لإلغاء هذه الطقوس المهينة لكرامة الإنسان، والمتنافية مع مواثيق حقوق الإنسان وبنود الدستور الجديد الذي اقره المغاربة في يوليوز/ تموز 2011.

[36]لم تكن عنونة كتاب جون واتربوري اعتباطية حين اختار تسمية مؤلفه "أمير المؤمنين الملكية والنخبة السياسية"، ترجمة عبد الغني أبو العزم وآخرون، مؤسسة الغني للنشر الرباط، الطبعة الثالثة 2013.

[37]أكّد الراحل الحسن الثاني على ذلك في خطاب يناير 1984 بعد مظاهرات مراكش ومدن الشمال المعروف ب"خطاب الأوباش" حيث قال:"... الناس ديال الشمال راه عرفوا ولي العهد وأحسن ما يعرفوش الحسن الثاني..." والذي يمكن ترجمته إلى ما يلي: (أناس منطقة الشمال يعرفون جيدا ولي العهد، ومن الأفضل لهم أن لا يعرفوا الحسن الثاني).

[38]Ibid, p 67.

[39]كان الفصل 19 من دستور 1996 ينص على أن: "الملك أمير المؤمنين والممثل الأسمى للأمة ورمز وحدتها وضامن دوام الدولة واستمرارها، وهو حامي حمى الدين والساهر على احترام الدستور، وله صيانة حقوق وحريات المواطنين والجماعات والهيئات وهو الضامن لاستقلال البلاد وحوزة المملكة في دائرة حدودها الحقة".

 

شارك :

التعليقات (0)

أضف تعليق