عن علماء الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

طباعة 2024-04-05
عن علماء الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

كتب الشيخ عطية عدلان مقالًا بعنوان: "الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين: إلى أين يسير؟"[1] يحتج فيه على اتحاد علماء المسلمين، مشيرًا إلى عدم جدوى اجتماعاتهم، وأن القرارات التي صدرت باسمهم كانت مقررة لهم قبل حضورهم، فلا يوجد عندهم ديمقراطية ولا شورى تؤهلهم لاتخاذ قراراتهم. وبعد قراءة مقاله الاستنكاري الشجاع كتبت هذه المقالة، تأييدًا لبعض فكرته ومحاولة للبحث عن أسباب سلبية علماء الإسلام في العصر الحديث وتراجع دورهم عن المأمول، فحالهم في زماننا أشبه بحال علماء الأندلس زمن الانهيار المتتابع تقريبًا، الذي أدى إلى نهاية الوجود الإسلامي في الأندلس.

وقد كان مكسبًا عظيمًا أن يكون لهم اتحاد ومقر في عصرنا، وأن هناك دولة ترعاه في زمن تكالب كفار الأرض ومنافقوها على العداء لكل ما له صلة بالإسلام. وإن كنا ننتقد المنافقين والمعرضين وعموم الخائفين، فلا ننسى أن نقدّر من كانت لهم مروءة وشجاعة الرعاية والاستضافة. ولكل مناصر للإسلام في عصرنا حدود حددتها الإمبراطورية النصرانية الغالبة وممثلوها على عالم المسلمين وبلادهم، وقليلًا ما تسمح بهامش ولو صغير، وإنما نطالب باستغلال المسموح به، ولا نعيش في خيالات، بل نرى الحال ونستوعب حدود المحيط.

ونتذكر أنه في زمن الاحتلال المباشر للعالم الإسلامي لم يكن بيد المخلصين الواعين إلا أن يجتمعوا في جمعيات سرية تخترق المستعمرات، مثل جمعية "العروة الوثقى" في زمانها وما تلاها. أما وقد زال بعض الضيق فنعاتب من غاب وعيه عن الحال، أو ضعفت حيلته عن التحرك للإصلاح، فقد رأينا كيف حدثت الانتكاسة العظمى بعد الحركة في الربيع العظيم، وما كان إلا مقدمة لحياة جديدة وإن أجهضت ولكنها عائدة بحول الله.

وقد لاح لي أن ثمة إشكاليات لدى العلماء تكمن في ثقافتهم وفي طريقة تعاملهم معها ومع العالم في زماننا، فقد شرعوا للأسف ثقافة تزرع الغرور في أنفسهم، وأصعب هذه القواصم لعملهم تلك العلاقة المقدسة التي توهموها بينهم وبين الإسلام. والذي يجب أن يكون واضحًا لهم ولغيرهم أن العلم بالإسلام لا يعني أي علاقة مقدسة خاصة بينه وبينهم، فقد يقتربون منه وقد يبتعدون، وقد يضرون الدين وقد ينفعونه، وقد ييسرون حياة المسلمين وقد يعسرونها، وقد يصنعون خيرًا للإسلام والمسلمين وقد يكونون شرًّا عليه وعلى أتباعه. فوضوح التفريق بين العارفين معلومات عن الإسلام وبينه مهم جدًّا لفهم سليم لهم ولغيرهم. ونحن عمليًّا نمارس هذا التفريق في علوم كثيرة، فنقول تاريخ فلان ونحو فلان وبلاغة فلان، ولا نربط ربطًا متكلفًا بين الشخص وبين تخصصه، فمن باب أولى وأشد ضرورة أن نفرق بين عَالِم في الإسلام وبين الإسلام. وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه أكد هذا التفريق بين الوحي وبين قوله، وفرّق العلماء بين ما فعله من قبيل العادات وبين ما كان من العبادات، وبين ما أبلغ الناس أنه وحي وما كان من اجتهاده، فكيف يليق بنا أن نؤسس هذا الربط غير المشروع إسلاميًّا، لأن الشيخ فلان أعطى أفكاره قداسة مزعومة أو زعم فهمًا خاصًّا به، أو أن أتباعه قدسوا أقواله وفتاواه؟ كما أننا لو أعطينا قداسة لهم لمجرد معرفتهم فكأننا نعطي بعض المستشرقين من غير المسلمين أيضًا هذه القداسة، فبعض المستشرقين متمكنون في دراسة الإسلام تمكنًا يفوق بعض من يرون أنفسهم من علماء المسلمين.

ثم قاصمة أخرى، هي أنهم ألقوا على أنفسهم وصف "ورثة الأنبياء"، فإن كانوا كذلك فلماذا لا نجد لهؤلاء الورثة سمة تربطهم بالأنبياء؟ هل تخيل بعضهم أن الوراثة هي معرفة قصص الأنبياء وأخبارهم وسيرهم وإن زعموا حفظها، وبعض الفقه؟ يبدو لي أن ثقافة الغرور داء خامرهم وتسلل إلى عقول بعضهم، فرأوا أنفسهم فوق الجميع، وما هي إلا سموم يتشربونها، فالقدوة إنما هي في السداد في مسالك الإصلاح وتحمل أسبابه.

غياب الحشد الأممي للمسلمين وغياب عن الزمان

مفهوم الحشد الأممي للمسلمين وراء قضايا مصيرية غائب عند بعض تجمعات العلماء المسلمين، كما تغيب عن جماهير المسلمين أي معرفة بهذه الاتحادات المغلقة، إذ يرى العلماء نجاحًا كاسحًا في اجتماعهم كأفراد، وما هو في الحقيقة إلا مظهر للفشل في تحقيق الحشد العام. وهم حين يكتبون بيانًا عامًّا فإنه يصلح فقط للتداول بينهم، فهو نص غالبًا ما يكون محشوًّا بالمصطلحات الفقهية وتفسير النصوص كما تعودوها هم في كتبهم ومجادلاتهم الداخلية. شاهدت مرة تلاوتهم لأحد البيانات في الحرب الأخيرة على غزة، فإذا هم يتحدثون عن "الفرار يوم الزحف"، وماذا يعرف عموم المسلمين عن الفرار يوم الزحف حكمًا ونتيجة؟ كيف وقد أصبح هذا مصطلحًا خاصًّا لجماعة متفقهة مغلقة، وبعيدًا عن التداول العام، وقس على هذا الكثير من خطابهم الذي يتوهمونه عامًّا وما هو إلا تداول داخلي مغلق، وإن كان أصله خطابًا إسلاميًّا شرعيًّا، وإنما كان يجب التفكير فيما يفهمه الناس، وليس المهم صحة خطابهم وأصوليته الفقهية فحسب؛ إذ "الخطأ المنتشر خير من الصواب المجهول". وقد حضرت مجلسًا كان ما يدور فيه غريبًا، فقد كان في المجلس فقيه يستظهر كتاب المغني للفقيه الحنبلي ابن قدامة، وكان السائلون من عامة الناس، فكان يجيبهم من محفوظاته بلغة لا يفهمها كثير من الحاضرين، وحينها أدركت نوعًا من الشرخ الثقافي العميق، فهم يبحثون عن الفهم وهو حريص أن يوثق نصوصيته فلا ينتقلون إلى عالمه ولا يراعي عالمهم. والسبب غالبًا ليس في التعالي، لكنه العجز عن تقريب المغني إلى عامة الناس، فضلًا عن ألفة الشيخ للغة بعيدة عن فهم العامة.

أذكر أني حين رجعت من غربتي إلى الرياض ونلت بعض الشهرة، نصحني صديق محب بألَّا أرد على هاتفي بنفسي؛ لأن ذلك يقلل من الوجاهة اللائقة بي، ويعطي التواصل المباشر انطباعًا بالبساطة والقرب من عامة الناس، فلا يليق أن ترد بنفسك على الاتصالات، بل يتولى هذا الدور "سكرتير"، وحينها وجدت من يعرض عليّ أن يكون سكرتيرًا تناط به هذه المهمات والمرافقة، ولا أتوقع أي صلة بين الناصح والعارض، بل تلك هي الحالة الاجتماعية السائدة وتسرب مرض التعالي البيروقراطي إلى العلماء والمثقفين يصنع هذه الفواصل أحيانًا دون حاجة، وكما يقدم هذا النهج راحة للمتصل به فإنه يصنع غربة وبعدًا وربما تعاليًا تكون محصلته ضد رسالته.

يذكرني هذا الاغتراب المفاهيمي والتعالي العلمي عن الواقع برسم كاريكاتيري قديم زمن الاحتلال الإنجليزي لمصر، يقول فيه شاب لأحدهم ممن يظهر أنه من ذوي الهيئات من الباشاوات: "ألم تسمع؟ لقد فاز حزب العمال في إنجلترا بالحكم"، فيرد عليه الباشا: "دول عمال واحنا باشوات". فمشاعر الباشاوات تسيطر على اللغة والسلوك وحتى الملابس عند المشايخ، فتغيب عنهم المكاسب الحقيقية حين يصرون على الشكليات ولا يقبلون الاندماج في المجتمع، فيقصون أنفسهم شكلًا ولغة، ليرد عليهم المجتمع بالإقصاء. ولا يدرك كثير من العلماء أن هذا السلوك مخالف لأصل التدين العام البسيط بلا تكلف في عهد الرسالة، فقد كان الناس لا يميزون الرسول صلى الله عليه وسلم بلباس ولا مجلس، حتى يحار القادم إليهم ويسأل أيكم محمد؟[2]. وقد رأيتم كيف يثقل ويميز الأزهري نفسه عن الناس بلباس ثقيل أو يفاصل الشيخ الشامي مجتمعه بعمامة شامية تتعاظم حتى تضحك المشاهد، وقد لا يكون تحتها ما يميز صاحبها إلا بما لا يحب. وقد لاحظت في بعضهم كبرًا وغرورًا يتنافى مع ما يدعون أنهم علماء به، بل إن القيود التي فرضوها على أنفسهم خطابًا وشكلًا هي نتاج تجارب تاريخية وليست من الآداب الشرعية، فحس التعالي يفقدهم القدرة على القرب من المجتمعات أو الاندماج فيها وفهم مطالبها. نعم حصل في العصور الإسلامية المبكرة شيء من التمييز في اللباس بين ذوي التخصصات العلمية، كما أشار الإمام مالك حين ألبسته أمه عمامة المحدثين وأرسلته إلى درس ربيعة الرأي[3]، ولكن تصاحب بعض الاستدلالات والتحجج بالماضين غفلة عن مراعاة مقتضى الزمان.

التهافت على الدنيا

ثمة عدد من هؤلاء العلماء يتهافتون على الدنيا كغيرهم من الناس، إن لم يكونوا أشد، لكنهم يرددون عبارات تنكر واقعهم، وهذا لا يليق، فكلنا غارقون، فلنقلل من كلام لا نلتزم بمقتضاه. وقد كان من أشد ما عيب عليهم أن فتحت لهم الوظائف المالية المعاصرة باب التجارة بما يعرفون، كالترويج للربا البنكي الغربي باسم الإسلام، أو اللجان الشرعية في البنوك، أو الوعظ التجاري. أذكر أن أحد العلماء عضو في أكثر من تسعين لجنة بنكية، وكان يكفي لجنة واحدة لكل بنوك العالم، لكن طمع بعض المشايخ سبّب هذا التوسع الشكلي المفيد ماليًّا والمكرر فقهيًّا، فضلًا عن الوظائف العلمائية التي تعطي الطغاة مشروعية مستمرة عن طريقهم، وهذه إن شاءوا قلنا لهم تلك طبيعة البشر، ولكن لا تزايدوا على العامة بأنكم خير منهم، بل قد يكون دوركم في الإفساد أعظم من بقية الناس، بحكم المكانة والدور التبريري الذي تقدمونه لأنفسكم ولمن يستخدمكم.

العوائق الحركية

حين تكونت الجماعات الإسلامية صنعت طبقة خاصة في مجتمعاتنا، ففارقت العلماء وخاصمت العامة. إنها طبقة ذات انتماء وخصوصيات ونظام مغلق على الآخر غير العضو مهما كان، تنبذ أفكار المصلحين غير المنتسبين لها، وتقبل في المقابل أقوال المنضمين منهم إلى حركاتها وإن لم يصيبوا، ويُقدمون قول الحزبي على سواه ما دام عضوًا منتميًا، ويستبعد الشيخ الذي ليس حزبيًّا من أي اهتمام، إلا أن يؤمل في اندماجه. والذي يحدث أن هذه الإقصائية تصنع عنصرية معرفية مغلقة بعد كونها حركية، فتبقى المجموعات الحركية رهينة لمواقف مغلقة تعوق الوعي والتقدم في المعرفة والتأثير، وتعزل أفراد الجماعات عن المجتمع وتصنع لهم حالة من الغرور والانغلاق، وهذه موجودة في اتحادات علماء المسلمين، اتحاد علماء المسلمين مثلًا أحدهم للإخوان ورابطة علماء المسلمين للسلفيين، وهذا مما زاد الطين بلة وجعل العزلة عزلتين.

كان لنا صديق مثقف إصلاحي جدير بالاحترام، كريم شجاع، وكان ممن يرتبون اللقاءات والمخاطبات الإصلاحية، ولكن داء الحزبية كان يضعف كثيرًا من جهوده. كانت عنده نظرية يشرحها لجلسائه الثقات بكل شجاعة، وهي أن يعطي الأولوية والتقدم دائمًا لرجال حزبه، ويعطي الباقين مكانًا هامشيًّا تكميليًّا، فكان يقول: "املأ الباص [حافلة الركاب] من جماعتك وكمل العدد بواحد أو اثنين من غيرهم". كنا نعجب لصراحته، لكن جهده وتضحيته تسمح له بأن يميز ويركب في حافلته من شاء. وصاحبنا في الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين لم يسمح لأحد من علماء العالم أن يخترق حافلته فيكون من ركابها.

ولن تستطيع الاتحادات العلمائية الخلاص من هذا الانغلاق إلا حين تتخذ قرارات جريئة لمفارقة هذه العنصرية الدينية التي تنخر جسد الاتحاد، فتغلق أفكارها وتقلص دورها وتعيق مستقبل اتساعها وتحدد انتشار تأثيرها. وكان الأولى دائمًا أن تكون هذه الاتحادات مفتوحة وينتهي الخوف الذي يصاحب المجموعات الحركية من عواقب الاختراق، فإن كانت الاتحادات جادة في التأثير فلتخرج من ظلمات التنظيمات، وإلا قتلها الانغلاق وانتشرت التهم من الخارج والداخل بكونها حزبيات مكرورة ووجوهًا أخرى لفكرة قديمة واحدة. وأولى الخطوات الانفتاح قياديًّا على العلماء من خارج الحزب، وليس وضع بعضهم لمجرد إكمال عدد وتظاهرًا بالانفتاح، مع الالتزام بقرار الإغلاق الصارم ضد غير المنتمين. وفي الجولة الأخيرة تم وعد بعض غير المنتمين بمناصب ثم استبعدوا، بعد أن مارسوا الضغوط الإقصائية ضد غير المرغوبين قياديًّا، مما أساء للواعد والموعود.

أزمة الإصلاح

نلاحظ من هذا انقسام المهتمين بالحلول والإصلاح الإسلامي إلى مدرستين، مدرسة تتجه للتراث ساعية لتحديثه وتحديث نقاشاته وخصوماته ومدارسه ومذاهبه، ومدرسة أخرى فيها معاصرة وقرب، لكنها تتجه للغرب تستقي منه عناصر قوته وتأثيره، مما سبب تنافرًا بين التراث وبين الفكر ولم يعد من السهل رأب الصدع؛ فذهب العلماء مع بعض المستفيدين من الحكام إلى المجموعة الأولى وقرّب حُكّام بعض المجموعة الثانية، وانقسم العامة بين متدين انضم للمجموعة الأولى، وغير متدين يرى الحق مع المجموعة الثانية، وهذا الانشقاق لا يبدو رأبه قريبًا ولا يسيرًا، فالتنافر يزيد مع مرور الزمن.

أما تهمة التبعية للغرب أو للسلطات الجائرة فمقسمة بين الطرفين، ولكل نصيب زاد أو نقص، لدى من وعاها وليس من أنكرها، علمًا أن المجموعات العلمانية المتخفية تحت الشعارات الإسلامية ينظر إليها الغرب ممثلة لمصالحه ويتهم العلماء رغم أن فريقًا منهم يعملون له سرًّا وجهرًا[4].

وقد خرجت خارجة نبتت في مهاد صوفي أكثر تطرفًا تسخر الإسلام لكل محتل، وتتظاهر بالقرب من التصوف إنما دينها معاداة المصلحين والتقرب للمحتلين، تشاركها بعض التوجه مدرسة أخرى نبتت في مهاد سلفي تمارس الإرهاب، ظاهرها التسلف وحقيقتها تأليه المتسلطين أيًّا كانوا وتصطنع الأعذار لكل مارق، وليست هذه المجموعات المارقة مجالًا لحديثنا هنا.

غياب الفكر

لا تلتقي التنظيمات الحركية مع الفكر، وهي على عداء دائم مع المفكرين الأحرار، وإلا لماذا لا نجد كتابًا ولا محاضرة ولا مقالًا لأحد من العلماء المعاصرين يشدنا إليه بذاته. ليس هذا بسبب التنظيمات فقط، فقد أصبح كلام العلماء، خاصة الحركيين منهم، خارج التاريخ وبعيدًا عن الواقع ولا يدعو لإصلاح ولا يبادر له. وبعد غياب المشايخ المعاصرين الكبار كالقرضاوي وأمثاله لم نعد ننتظر من غيرهم شيئًا.

وقد بدا لي أن غياب المعرفة المعاصرة بالعالم لدى علماء زماننا هو ما سبب لهم ضعف القدرة على المعاصرة والتأثير في زماننا، فقد يكون منهم شجعان ولكنهم لا يعرفون ما يناسب من القول للمعاصرين. ولعلي أنصر هذه الفكرة بما حدث من تطور كبير حصل في العالم الإسلامي منذ ما يقارب قرن ونصف، وهي الحيوية التي بعثتها مدارس فكرية كالمدرسة الأدبية للمرصفيين حسين وسيد، والأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا والرافعي والبنا والعقاد وطه حسين ثم مالك بن نبي وغيرهم، فقد قامت هذه المدارس بتحديث الثقافة الإسلامية، وجعلت منها ثقافة تعيش بها الأمة، وتتعامل مع العالم في الداخل والخارج، ولو قارنّا دورهم لما وجدنا له مثيلًا بعدهم إلا الإحياء السلفي المنقوص الذي تم على يد رجال كابن باز والشنقيطي والألباني، فهو إحياء لمدرستي الفقه والحديث والعقيدة، لكنه منقوص لأسباب منها تواري الدور السياسي لهذا الإصلاح، وغياب الفكر المناظر للمدارس الفكرية المعاصرة، فبقي مدرسيًّا داخليًّا رغم إنجازاته الكبيرة. هذه الموجة السلفية القوية كانت لها إيجابياتها، لكن سلبياتها كبيرة على جمود العقل المعاصر السني عن أي تجديد في مناحي الفكر، وهذا أيضًا نشر قناعة سلبية بأن الاجتهاد في التسلف هو فقط العلم والعمق والصواب، فزاد تلاميذ هذه المدرسة غرورًا بما عندهم من تسلف، وقضى على أي نقاش سياسي حر أو فكري مؤثر إلا ما ندر.

وقد تراجعت القدرة على المعاصرة لدى المدارس العلمائية، بل ارتكست في الماضي الفكري عبر العصور الإسلامية، سواء ما يمكن أن نقول عنه إسلاميًّا أو غيره. ولو تأملنا مواقف مثل موقف الريسوني التقليدي جدًّا[5]، أو غرقه الإقليمي ودعوته للفقه المالكي والعقيدة الأشعرية وتصوف الجنيد وقراءة عمرو، للاحظنا هذا التراجع الذي تم علي يد واحد هو الرئيس المختار بعد القرضاوي لرئاسة الاتحاد العالمي لعلماء الإسلام. ومهما يقال عن فردية ذلك الفكر فقد كان صادرًا عن شخص كان في قمة قرار الاتحاد، وكان نهجه إغلاقًا فكريًّا وإقليميًّا وتقييدًا أساء للاتحاد.

أما عند الإباضية فإن الموقف السلفي المتشدد للشيخ بن باز ولشخصيات علمائية سنية كثيرة، والمستند إلى كتب التاريخ العقائدي، جعل الإباضية يأرِزُون إلى التقاليد التاريخية للمذهب الإباضي، ويبتعدون عن أي تجديد وأي مصالحة أو اجتهاد، واعتبر بعضهم الإحياء هو إحياء التعصب المذهبي، وتأكيد التراجع عن التجديد وعن شجاعة النقد الداخلي، أو التقدم نحو وحدة الفكر الإسلامي. ومهما كان حالهم فقد بقيت عند علماء كبار منهم روح المبادرة والبحث عن المعاصرة.

وقد حدث عند الشيعة ما هو أسوأ من ذلك فكريًّا، فقد حققوا عملًا عظيمًا في الثورة التي أخرجت إيران من التبعية للغرب وللكيان الصهيوني، لكنها دون وعي تشربت ثقافة العزلة والتعصب المذهبي، وأثرت عليها أفكار حزب البعث في القومية المتطرفة فسيطرت عليها القومية. وقد كانت في البداية تتحدث وتفكر بمنطق إسلامي أممي، ثم بعد تحدي الأيديولوجية البعثية في العراق أصبحت حكومة الآيات حكومة علمانية قومية عنصرية مغلقة على تراث المذهب، تحت أصباغ إسلامية، فلا اقتربت من الانفتاح الإسلامي، ولا حاربت التطرف العلماني الذي تشربته، بل أصبحت مظلة لفكر قومي متعصب، يجمع أتباعًا وتابعين، ولا ينفتح على المسلمين، وهذا سيسبب لهم مزيدًا من النبذ.

إن سيطرة ظلام القومية جعلها تمارس إرهابًا عسكريًّا وسياسيًّا لدعاة التحرر في البلدان العربية، ووقفت بتشدد في صف أعداء الشعوب وأعداء الإسلام في موقفهم من الربيع العربي، فجندت جيشها وإعلامها وسياستها لخدمة أسوأ الإرهابيين الطائفيين في العالم المعاصر في سوريا بشار الأسد، وسخرت جهدها لإبادة السنة في العراق في حرب مذهبية عقائدية وسياسية لا مثيل لها، وقد تذوق هي نتائج تطرفها هذا خسارة عظمى وفي زمن غير بعيد، بانقلاب علماني قومي متطرف من الداخل أو بقهر من الخارج. إن تصرفات القيادة الإيرانية جعلت العالم الإسلامي لا ينتظر منها إلا حربًا على حرياته ووقوفًا مع أعدائه، إلى جانب الإبادة الجماعية في مواقع عديدة، وأصبح عموم السنة لا يرون في مواقفها لو أصابت في فلسطين إلا مجرد مكايد لخصومها ليس إلا، وزاد من عزلتهم جهدهم في التبشير بمذهبهم العتيق في العالم الإسلامي، مع غياب شبه تام عن نشر الإسلام في العالم. ويبدو أنهم هم أول ضحايا تجربتهم، وسيعود شعبهم والخارج للكيد لهم وإسقاطهم، فلم يخرج فقهاؤهم من ظلمات التقليد المذهبي المجمد للعقل وللثقافة، ولم يخرج سياسيوهم من ظلمات التعصب القومي السياسي الذي شلّ تفكيرهم، وأخرجهم من سعة العالم إلى ضيق وظلام الانطواء القومي عرقيًّا وفكريًّا وسياسيًّا، وسوف تنبههم الخسارات القادمة إلى إدراك أسباب الفشل، أما الآن فهم في لحظة طيش المنتصر وغروره، وما أصعب الحفاظ على مكاسب النصر.

ختامًا، قد تكون نتيجة تصرف قيادة اتحاد علماء المسلمين تشكيل طائفة منعزلة عن الأمة لها أفكار وسلوك خاص بها، ولسوف ينتج هذا الموقف المنغلق خلافًا إسلاميًّا عامًّا مع هذه الطائفة التي زعمت أنها جاءت للتجديد والإصلاح، فإذا هي عقبة تعزل نفسها وأتباعها عن الأمة، وعادة من يفعل ذلك يصنع لنفسه تبريرًا للانغلاق والعزلة المتبادلة. وهذا خطاب تحذير من الإصرار على السير في هذا الطريق الذي نكاد نشاهد نهايته.

 

[1]  على الرابط الإلكتروني: https://bit.ly/3vzWoNA تاريخ النشر: 19 يناير 2024، تاريخ الدخول: 2 فبراير 2024.

[2] .  كما في حديث قدوم ضمام بن ثعلبة على الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو في البخاري ومسلم: "بيْنَما نَحْنُ جُلُوسٌ مع النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في المَسْجِدِ، دَخَلَ رَجُلٌ علَى جَمَلٍ، فأناخَهُ في المَسْجِدِ ثُمَّ عَقَلَهُ، ثُمَّ قالَ لهمْ: أيُّكُمْ مُحَمَّدٌ؟ والنبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مُتَّكِئٌ بيْنَ ظَهْرانَيْهِمْ، فَقُلْنا: هذا الرَّجُلُ الأبْيَضُ المُتَّكِئُ. فقالَ له الرَّجُلُ: يا ابْنَ عبدِ المُطَّلِبِ فقالَ له النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: قدْ أجَبْتُكَ. فقالَ الرَّجُلُ للنبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: إنِّي سائِلُكَ فَمُشَدِّدٌ عَلَيْكَ في المَسْأَلَةِ، فلا تَجِدْ عَلَيَّ في نَفْسِكَ. فقالَ: سَلْ عَمَّا بَدا لكَ. إلخ الحديث، فلم يتميز ص بمكان ولا بشارة تميزه عن عامة الحضور.

[3]  التمهيد لابن عبد البر، حققه وعلق عليه بشار عواد معروف وآخرون(لندن: مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، 2017)، 2/395.

[4]  للكاتب بحث بعنوان: سلفيتان لا تنقذان، أشار فيه لتوجه العلمانيين للتسلف للغرب، وبعض الإسلاميين للتسلف للتراث، وكلاهما يغيب عن زمانه ويبتعد عن قضايا أمته، فصل في كتاب: التزلف بالتسلف، (جنيف: أواصر، ٢٠٢٣).

[5]  بخصوص موقف الريسوني كتبت مقالًا بعنوان "خطر فكرة الانغلاق على المغرب: رد على انعزالية الريسوني" نشر في أواصر الثقافية بتاريخ 14 أغسطس 2022.

شارك :

التعليقات (0)

أضف تعليق