سياسات الهويّة: خافضة اليسار ورافعة اليمين

طباعة 2017-10-10
سياسات الهويّة: خافضة اليسار ورافعة اليمين

  

في تسعينيّات القرن الماضي، صدر للفيلسوف البراغماتيّ الأمريكي ريتشارد رورتي (Richard Rorty) كتاب بعنوان (Achieving Our Country) مذيّلا بعنوان فرعيّ هو الفكر اليساريّ في أمريكا القرن العشرين، وهو عبارة عن محاضرة ألقاها رورتي وتحدّث فيها عمّا رآه تحوّلاً ضخماً أصاب اليسار الأمريكيّ في ستينيّات القرن العشرين.

تقوم فكرة الكتاب الأساسيّة على المقارنة بين يسارَين، الأوّل يسمّيه رورتي "اليسار الإصلاحيّ"، ويعني به اليسار الممتدّ منذ مطلع القرن إلى ستّينيّات القرن العشرين وثورات الشّباب التي شكّلت بدايةً للنمط الثاني من اليسار، الذي يسمّيه "اليسار الجديد" أو "اليسار الثقافي". حسب رورتي، فاليسار الأوّل يشملُ جميع من شغلوا أنفسَهم بالعدالة الاجتماعيّة، وحاولوا تحقيقَها بسائر السبل، خصوصاً من خلال النظام السياسيّ القائم، وذلك بالانخراط في العمل النّقابي والحزبيّ والوصول إلى السّلطة من أجل تغيير النّظام من داخله في اتّجاه قوانين تؤسّس لمجتمع أكثر عدالة[1].

أما اليسار الجديد فهو حسب رورتي يسارٌ فقد الإيمان بإمكان إصلاح النظام، بل فقد الإيمان بأمريكا نفسِها، حيثُ شكّلت حرب فيتنام بالنّسبة لكثير من شباب تلك الفترة تشوّهاً دائماً في روح أمريكا، وذنباً اقترفته لا يمكن أن يُغتفَر. لذا، عزف هذا اليسار عن الانخراط السياسيّ بشكله المؤسّسي متمثّلاً في النقابات والأحزاب ومحاولة تسلّم السلطة، وعزف بالتّزامن مع ذلك عن قضيّة العدالة الاجتماعيّة في شكلِها الطّبقيّ، وانغمس عوضاً عن ذلك في ثورة ثقافيّة تبحث عن عدالة من نوع آخر: عدالة ذات مضمون ثقافيّ، يجدُ فيها الجميع متّسَعاً لأنفسهم ولأصواتِهم ولتوجّهاتهم على اختلافِها، سواءٌ أكانت هذه التوجّهات توجّهات اجتماعيّة في نمط الحياة، أم توجّهات جنسيّة، أم توجّهات جندريّة، وفي هذا السياق ظهرت حركة حقوق المرأة، وحركات حقوق ذوي السلوك الجنسيّ المثلي، وظاهرة استخدام الماريغوانا والمهلوسات، وغيرها[2].

يرى رورتي أنّ هذا اليسار استعاض جزئيّاً بفرويد عن ماركس، وتخلّى بالتّالي عن مشروع العدالة الاجتماعيّة ومحاربة الأنانيّة لصالح مناهضة الساديّة[3]. بدل الانخراط في العمل السياسيّ والنقابي لإقرار قوانين أكثر عدالة وتغيير النظام لصالح الفقراء والأقل حظّاً، انخرط هذا اليسار في العمل الأكاديمي وطفق ينظّر لأسباب الساديّة التي تتعاطى بها الفئة المحظيّة -الرجال البيض المسيحيّون غيريّو التوجّه الجنسيّ- تجاه الفئات الأقلّ حظّاً – النساء والسّود والملوّنون وذوو السلوك الجنسيّ المثليّ والأقلّيات الدينيّة- وانكبّ اليسار بالتّالي على مشروع تربية صارم وحثيث وجدَ قلعتَه في الأكاديميا، وطفق منذ الستّينيات يُعلّم الرجال كيف يحترمون النّساء، والبيض كيف يتجاوزون عقدة تفوّقهم على السود والملوّنين، وغيريّي التوجه الجنسي كيف يتقبلون المثليّين. كان اليسار الإصلاحي يُريد للون والجنس والتوجّهات والتفضيلات ألا تكون مرئيّة، فليس هنالك ما يجب أن يصرفَ النّظر عن التّفاوت الطبقيّ. وتمكينُ الفئات المستغلّة والأقلّ حظّاً يكون أساساً بالقضاء على التّفاوت وبتحقيق العدالة الاجتماعيّة، أما اليسار الثقافي فأراد للون والجنس والتوجّهات أن تُصبحَ مرئيّة جدّاً، وأن يُعترَف بها، ويُتحدّث عنها، ويُفرَضَ احترامُها[4].

يمضي رورتي في تحليله فيقول إنّ هذا النمط من اليسار حقّق بالفعل كثيراً من أهدافه، حيثُ علّم الرجال كيف يتحدّثون باحترام مع النّساء، وأتاح للنساء أن يكون لهنّ مسارُ حياة مستقلّ ودفع حقوقهنّ بقوّة في معظم المجالات، وحقّقَ قدراً مهمّاً من الاعتراف بحقوق السّود وأضعف التمييز الممنهج ضدّهم، وجعل السلوكات الجنسيّة المختلفة مقبولة على نطاق واسع، أو جعل من الصعب تحديَها والاعتراض عليها علناً على الأقلّ[5].

لكنّ رورتي، مستعيناً بتحليل إدوارد لوتواك في كتابه الحلم الأمريكي المهدَّد، أطلقَ نبوءةً عمّا سيؤول إليه الحال في الولايات المتّحدة إثر تخلّي اليسار عن مشروع العدالة الاجتماعيّة، فهؤلاء الذين أمضى اليسار عقوداً في تعليمهم كيف يتحدّثون بتهذيب، وكيف يحترمون الأقلّيات، وكيف يقدّرون المرأة، سيجدون أنفسَهم يُعانون اقتصاديّاً، وسيجدون أنّ دخولهم لا ترتفع، وأوضاعهم الاجتماعيّة تسوء، وليس هنالك من يُناضلُ من أجلهم ويمثّلهم. عندها، يقول رورتي، شيءٌ ما سيتصدّع، وهؤلاء الرجال البيض المنسيّون سيفقدون ثقتَهم بالنّظام، وسيوصلون إلى السلطة من يقنعهم أنّه رجلٌ قويّ قادر على إنقاذهم واستعادة حقوقهم وتعويضهم عن الخذلان الذي نالهم، وسيجدُ هؤلاء في هذا الرجل فرصة للانتقام من خريجي الأكاديميا المتمدّنين الذين انشغلوا لعقود بتعليمهم اللياقة واحترام المرأة وتقبّل الآخر، وستخسر هذه الفئات المهمّشة كثيراً من مكاسبِها التي حققتها في فترة انشغال اليسار بالعدالة الثقافية وسياسات الهويّة[6].

لكنّ هذا الرجل، وفقاً لنبوءة رورتي، لن يلبث طويلاً قبل أن يتصالحَ مع الأغنياء ويتخلّى عن خطابه المناهض لهم، ولن يجد من طريقة لتحقيق وعوده للطبقة العاملة البيضاء إلا شنّ حرب أخرى على غرار حرب الخليج تكفل بعض الانتعاش المؤقت فحسب. يقول رورتي إنّ الناس سيتساءلون متعجّبين عن الكيفيّة التي وصل بها رجل من هذا النوع إلى السلطة، وكيف لم يستطع أحد منعه، وما تفسير ضعف المقاومة إزاءه، ولماذا لم يجد هؤلاء الرجال البيض من الطبقة العاملة من يحدّثهم عن أضرار العولمة وتراجع الأجور إلا من اليمين، في حين كان اليسار بعيداً عن ذلك كلّه[7].

لا حاجة بالمرء للإشارة إلى التّشابه بين نبوءة رورتي وما آل إليه الأمر في الولايات المتّحدة في الانتخابات الأخيرة ووصول دونالد ترامب إلى الرئاسة، وما يزال الوضع القائم مفتوحاً على الاحتمالات جميعها، وما يزال صعود اليمين عموماً في الغرب، وخصوصاً وصول ترامب للرئاسة، ميداناً خصباً للتحليلات والتوقّعات. لكنّنا سنحاول هنا التركيز على قضيّة الهويّة، وعلاقتِها المتميّزة بمآلات اليسار واليمين في الغرب، وكيف تفاعلت هذه القضيّة لتؤول الأمور إلى ما آلت إليه.

اليسار والهويّة: المأزق

بالنّسبة لليسار، وحسب تحليل رورتي وآخرين، كان التّحوّل إلى يسار ثقافيّ أو يسار هويّاتيّ توجّهاً منتَقَداً لاعتبارات كثيرة، بعضُها متعلّق بالمنطلَقات وبعضُها متعلّق بالنتائج والمآلات.

فعلى صعيد المنطلَقات، كان هذا التحوّل تجلّياً لحالة يأس من النّظام في أحسن الأحوال، ومن السّياسة برمّتِها في أسوئها. يبدو اليأس من النّظام في حالة الولايات المتّحدة في الستّينيّات مفهوماً في سياقِه، فالنّظام، بسياسيّيه وأجهزتِه من جيش ومخابرات وغيرها، دخل حرباً مأساويّة هي حرب فيتنام، ارتُكِبَت فيها جرائم حرب مروّعة ضدّ مدنيّين على الجانب الآخر من المحيط، فلم تكن ردّاً لاعتداء ولا بدت حرباً عادلة لأي سبب. وفوق ذلك، اغتيل الرئيس كينيدي، ذو الشعبيّة الجارفة ومن جمعَ في آنٍ واحد بين التطلّعات لقيادة واعدة على مستوى النّظام وتوسيع قاعدة الدمقرطة والإشراك، وظلّت حادثة اغتياله محلّ جدل وأثيرت حولَها الكثير من نظريّات المؤامرة التي تتّهم أجهزة الدولة بتصفيتِه. هذا كلّه دفع بالشّباب إلى النأي بأنفسهم عن نظام ميئوس من قدرتِه على الإصلاح، وكان هذا مفهوماً في سياقه.

لكنّ هذا العزوف عن الإصلاح من خلال النّظام كان في تلك الحالة، ويمكن أن يكون في حالات مشابِهة مثل تحوّلات الفئات الشابّة ما بعد الربيع العربيّ، تحوّلاً أعمق بكثير من مجرّد اليأس في إصلاح النّظام من الداخل إلى اليأس من السياسة برمّتِها، وإذا ما أردنا استخدام صياغة مألوفة في الفكر الفلسفي، فهو انتقال من العمل إلى النّظر أو النّظريّة. ثمّة خيطٌ واهٍ في كثيرٍ من الأحيان بين العملِ السياسيّ من خارج النّظام وبين الخروج كلّيّاً من إطار العمل إلى إطار النّظر. لربّما أقنعَ كثيرٌ من اليساريّين أنفسَهم أنّهم يُمارسون السّياسة من خلال الثّقافة والنّضال الهوياتيّ، ولربّما كان ذلك صحيحاً في أحيان قليلة أو كثيرة، ولقد نجحَ اليسار بالفعل في إمرار كثيرٍ من القوانين وتحقيق كثير من التغيّرات الاجتماعيّة لصالح قضاياه الهويّاتيّة، لكنّ هذا ليس شكلَ السياسة التي قام عليها اليسار ولا ما دأبَ على أن يُبشّر به، أي وعود العدالة الاجتماعيّة ومناهضة الاستغلال والتّفاوت الطبقيّ وحقوق الصحّة والتعليم وغيرِها.

هذا على صعيد المنطلقات، أمّا على صعيد النتائج، فقد سبقت الإشارة إلى ما قد يكون أهمَّها، ألا وهو تراجع الاهتمام بالعدالة الاجتماعيّة ومناهضة التفاوت الطبقيّ، إلى درجة شعور قطاعات مهمة من المجتمع بالخذلان وبإهمال النّظام لهم، وبالتّالي قدرة اليمين على تقديم خطاب يستقطب هؤلاء بعد تخلّي اليسار عن مهمّة النضال في سبيل العدالة الاجتماعية. لكنّ هذه النتيجة على أهمّيتِها ليست الوحيدة، بل هناك نتيجة أخرى بالغة الأهمّية، هي أنّ الهويّة، بالطّريقة التي انتهى اليسار إلى معالجتِها بها، تحملُ في طيّاتِها احتمالات كامنة لخروج نسبيّ أو كلّيّ، صريح أوضمنيّ، من فكرة الدولة القوميّة، وتستبطنُ رؤية ليبراليّة معولَمة للسياسة والعالم، وحتّى الاقتصاد، وسنحاول التّفصيل في ذلك.

سياسات الهويّة والدولة القوميّة:

هل يمكن لسياسات الهويّة أن تكون سياسات قُطريّة؟ أي أن تكونَ متوافقة مع المنظومة السّياسيّة الاقتصاديّة في دولة قوميّة؟ هذا السّؤال قد يحمل مفتاحاً لفهم معضلة اليسار مع الهويّة.

بداية، وحسب الفيلسوف الفرنسيّ جيل دولوز، فاليسار أصلا موقفٌ إدراكيّ (Perception) من العالم يبدأ في تمثّلِه من الأبعدِ إلى الأقرب، أي إنّ كون المرء يساريّاً يعني أن يبدأ إدراكُه من الدائرة البعيدة الواقعة خارج نطاقه المباشر -الحيّ والشارع والمدينة والدولة وحتّى القارة- والإيقان بأنّ معاناة البشر البعيدين بسبب غياب العدالة هي همّه المباشر، وحتّى لو كان بمنأى عنها تسبُّباً وتأثّراً[8]. لكن يظلّ هذا الحديث في نطاق العدالة بمفهومِها الطبقيّ والاقتصاد-سياسيّ، ومع أنّ تصوّر دولوز هذا يصلح أساساً لنقد قويّ تجاه قطاعات مهمّة من اليسار الغربيّ ذات التمركز الأوروبّي أو الأمريكيّ، إلا أنّنا أوردناه هنا لمجرّد الإشارة إلى أنّ مفهوم اليسار -وهذه نقطة جدليّة- في الأصل موقف كونيّ حتّى ولو تلبّس كثيرٌ من منظّريه وقطاعاتِه بالتمركز الأوروبّي، لكنّه آل عمليّاً إلى موقف قُطريّ من أجل نضال أكثر نجاعة، وذلك بإعطاء اليسار الأولويّة للطبقة العاملة في القُطر أو الدّولة[9].

في هذا السياق، يمكن للنّضال في سبيل العدالة الاجتماعيّة أن يكون ذا معنى بالنسبة لبنية السياسة في الدولة القوميّة، أي السعي لتمثيل طبقة أفقيّة هي الطبقة العاملة -وهذا مفهوم جدليّ بدوره- وهذا هو مشروع اليسار الإصلاحيّ بمفهوم رورتي الذي سبقت الإشارة إليه، وهذا هو اليسار الذي يُمكن له أن يقدّم أطروحة متماسكة قوامُها دولة قويّة، وجهاز جمع ضرائب كفء وتوسيع نطاق الضمان الاجتماعيّ ومجّانية الصحة والتعليم وحدّ أدنى للأجور وما إلى ذلك، أي ما اصطُلِح عليه إجمالاً بدولة الرفاه (Welfare State).

لكن حين يتحوّل اليسار إلى يسار ثقافيّ أو هويّاتيّ فهو يفقد القدرة على الانسجام مع بنية السياسة في دولة قوميّة، ويحدث ذلك على مستويين:

أولهُما يتمثّل في أن الهويّة، عرقيّة كانت أم دينيّة أم جندرية أم جنسيّة، هي بطبعها عابرة للطبقات، أي إنّها شكل من التقسيم العمودي لا الأفقيّ للمجتمع، فكلّ من هذه الهويّات تخترق الطّبقات، وإذا ما كان الوعي يتحدّد بالطبقة، فليس من المضمون، بل من المستبعَد، أن يكون الثريّ الأسود متعاطفاً مع قضيّة العدالة الاجتماعيّة ورفع الضرائب، وقل ذلك عن المثليّ أو متحوّل الجنس أو اليهودي إذا كانوا أثرياء مثلاً. بالتنبّه لذلك يزول العجب من وجود سود ومثليّين ومتحوّلي الجنس بين المتعاطفين مع اليمين المتشدّد أو الجديد أو القوميّ أو العنصريّ في الولايات المتّحدة والغرب عموماً. فإذا كانت هذه الهويّات عابرة للطبقات فلا معنى لتوقّع أن يكون لها وعيٌ طبقيّ واحد.

في الحقيقة، يمضي بعضُ المنتمين لهويّات فرعيّة في المجتمعات الغربية، مثل السّود في أمريكا، إلى أنّ اليسار يستغلّ السّود لغايات انتخابيّة بمحاولة إقناعِهم بشكل دائم أنَّهم مضطهَدون ومهمّشون طبقيّاً، أي إنّ اليسار يُريدُ أن يُماهيَ بين عرقيّتِهم ووضعٍ طبقيّ متخيَّل، وبالتّالي خلق وعي طبقيّ زائف، وإدامة الشعور بالمظلوميّة والاضطهاد لتظلّ توجّهاتهم الانتخابيّة واختياراتهم التصويتيّة تصبّ في التيّار الذي يزعم تمثيل المضطهَدين، أي اليسار[10].

يمضي هؤلاء في حجاجِهم بالقول إنّ الحلّ لمشكلة السّود ليس في تصرفهم كطبقة مهمّشة، بل بوعيِهم بأنّ عرقيّتَهم ليست بالضرورة متماهية مع وضع طبقيّ محدّد -الطبقة العاملة أو الفقيرة بطبيعة الحال- وبالتالي فعليهم أن ينخرطوا في مسار الترقّي الاجتماعي، أي يقبلوا معطيات المجتمع الرأسمالي، ويتصرّفوا كمواطنين أفراد لا كعرقيّة متماهية مع وضع طبقيّ متخيَّل ومحدَّد سلَفاً. بعبارة أخرى، يعتقدُ هؤلاء أنّ السّود يجب أن يرفضوا فكرة أن كونهم سوداً (Blackness) هو طبقة بقدر ما هو هويّة، وأنّ سبب تردّي أوضاعهم الاقتصاديّة والاجتماعيّة هو التمييز العنصريّ ضدّهم، بل ينبغي لهم أن يتنبّهوا لأثر الثقافة والعوامل الاجتماعيّة والاقتصاديّة على مجمَل وضعِهم ومكانتِهم وتأثيرِهم في المجتمع[11]. حار كثيرون في تفسير ارتفاع نسبة المصوّتين لترامب من السود مقارنة بالمرشّح الجمهوري عام 2012 ميت رومني، وقد يكون من أسباب ذلك اقتناعُ قطاع من السّود بأنّ اليسار لا يُقدّم لهم حلولاً جماعيّة وتفضيلُهُم لمرشّح يعد الجميع بالوظائف ويخبرُهم أنّ النظام برمّته معطوب حتّى ولو نُسبَت إليه رؤى عنصريّة تجاهَهم[12].

أما على المستوى الثّاني، فهذه الهويّات العابرة للطبقات تعبرُ الحدود أيضاً، فإذا كان اليسار قد اقتنع بأنّ الفقراء أو الطبقة العاملة في دولة قوميّة هم مشروعُه، وتجاوزَ بذلك طموحَه الأمميّ إلى نطاق الدولة القوميّة، فهذا التحوّل نحو سياسات الهويّة يطرح بقوّة سؤال التوافق بين هذا اليسار ومنظومة السياسة في دولة قوميّة. لو أخذنا مثلاً موضوع المهاجرين غير المسجّلين من أمريكا اللاتينيّة إلى الولايات المتّحدة. مقاربة اللاتينيّة كهويّة تقتضي الدعوة لتسهيل الهجرة وإجراءات الإقامة والحدّ من عمليّات الترحيل، وإتاحة فرص التعليم والصحّة والعمل للمهاجرين غير المسجّلين، لكنّ العمل في نطاق الدّولة القوميّة يقتضي حماية الطبقة العاملة المحلّيّة من تدفّق غير منضبط للمهاجرين، فزيادة العرض ستؤدّي لانخفاض الأجور وارتفاع المنافسة، وكثير من أصحاب المصالح التّجاريّة يُمكن أن يُشغّلوا المهاجرين غير الشّرعيّين بأجور قليلة للغاية، لكونِهم غيرَ مصرّحٍ لهم بالعمل رسميّاً ويقبلون بالتّالي بأجورٍ أقلّ، وبالتّالي فصاحب رأس المال يكسب عمالة رخيصة، والعامل المحلّي يقع ضحيّة لمنافسة غير متكافئة من المهاجر غير المسجّل. لا يمكن بحال إقناع الطبقة العاملة المحلّيّة بأنّ تيّاراً سياسيّاً يقبل بهذا هو تيّار سيحقّق لهم العدالة الاجتماعية وسينقذهم من الفقر ومن استغلال رأس المال. هنا يتجلّى بوضوح التناقضُ الشديد بين مشروعي يسار الهويّة ويسار العدالة الاجتماعيّة المحدود بدولة قوميّة وعدم إمكان التوفيق بينهما.

وقد كان من اللافت في الانتخابات الأخيرة أنّ دونالد ترامب حصل لدى الأمريكيّين اللاتين -الهيسبانيك- على أكثر ممّا حصل عليه ميت رومني في انتخابات 2012م[13]، وأثار ذلك أيضاً استغرابَ المراقبين، خصوصاً في ظلّ تصريحات ترامب التي وُصِفَت بالعنصريّة ضدّ المهاجرين من أمريكا اللاتينيّة. هذا التحليل قد يُضيء على السبب: من الخطأ التّعامل مع اللاتين -الهيسبانيك- كإثنيّة أو كهويّة ثقافيّة، فبعضُ هؤلاء موجودون فيما أصبح لاحقاً الولايات المتّحدة من قبل أن يأتيَها البيض من أوروبا، وبعضهم هاجروا إلى الولايات المتحدة منذ سنوات طويلة وعبروا سلّم الصعود المادّي والاجتماعي، وهؤلاء لا يُعرّفون أنفسهم بهويّتِهم اللاتينيّة فحسب، وقد ينظر بعضهم للمهاجرين الحاليّين من أمريكا اللاتينيّة باعتبارهم خطراً أو منافسة أو ما شابه، وبالتّالي فقد تجد وعود ضبط الحدود صدى لدى بعض الهيسبانيك، وقد تكون وعود اليمين بخفض الضرائب وتحرير الأسواق أهمّ لدى ثريّ لاتينيّ من وعود اليسار بفتح الحدود لبشر يشتركون معه في هويّة ما لا يستطيع تحديد أبعادِها أو مدى أهميتِها له على وجه الدقّة.

سياسات الهويّة والعولمة:

إلى وقت قريب، لم تكن المشكلات الكامنة في التحوّل من يسار اقتصاديّ وسياسيّ إلى يسار ثقافيّ هوياتي بادية للعيان، والسبب الأهمّ لذلك هو الانتعاش الكبير الذي عاشه المشروع الليبراليّ المعولَم، فإلى وقت قريب جدّاً كان يبدو للجميع أنّ المنظومة الليبراليّة حققت نصراً كاسحاً إلى درجة إمكان الادّعاء بـ"نهاية التاريخ"، حيث بدا أنّ الهويّات القوميّة إلى تراجع، وأنّ الجميع يتّجهون إلى تعريف أنفسهم وفق أنماط أخرى من الهويّة، من قبيل الهويّات القارّيّة -أوروبي في مقابل فرنسي وهولندي- أو الهويّات العرقية والإثنيّة -أسود ولاتيني وآسيويّ- والهويّات الجندرية – نسويّة ونسويّ- والهويات الجنسانيّة- مثليّ وغيريّ- وما شابَه، يُضاف لذلك أنّ اتفاقيّات التّجارة المعولَمة كانت في أوجِها، وبلغت حرّية انتقال رؤوس الأموال والبضائع والأفراد مدى لم يسبق له مثيل، وكانت القوميّات تبدو أكثرَ فأكثرَ شيئاً من الماضي. في خضمّ ذلك كلّه، وبينما كان كثير من أفراد الطّبقات العاملة العاملة في الغرب يفقدون وظائفَهم بصمت، وتهاجر مصانعُهم إلى بلدان أخرى، كان اليسار ينخرطُ أكثرَ فأكثر في سياسات التنوّع والاختلاف والتعدّدية، وكان هذا المناخ الليبراليّ المعولَم مسرَحاً ملائمًا للغاية لذلك.

بعضُ تجلّيّات هذا النزوع الليبراليّ المعولم قد تبدو أبعدَ ما تكون عن أيّ قيمة ذات معنى لدى اليسار. كمثال، هذا النزوع هو ما أتاح لشركات ضخمة أن تفكّك مصانعَها في الغرب وتؤسّسَ بدائلَ لها في آسيا، وهذا يعني حرمان عامل غربيّ من وظيفته، واستغلال عامل آسيويّ بأجر زهيدٍ، وزيادةَ ربح صاحب المصنع. هنا نجدُ مثالاً معكوساً للهجرة إلى الدول الغربيّة ولكن بنتائج متشابهة، فرأس المال يُهاجر إلى حيث توجَدُ العمالة الأرخص، وبالتّالي فالمستفيدُ هو الرأسماليّ بشكل مؤكَّد والعامل في بلد العمالة الرخيصة بشكل محتمَل، أمّا العامل في البلد الغربيّ فهو خاسر بلا شك. بالتّالي، فالتصالح النّسبيّ لليسار مع هذا الواقع بحاجة لتفسير.

جزء من التّفسير تتكفّل به نقطة سبق ذكرُها، ألا وهي صعوبة إيقاف سياسات الهويّة عند الحدود، لكنّ هذا الجزءَ غيرُ كافٍ، وبقيّة التّفسير أسباب اقتصاديّة متّصلة بمفهوم الطّبقة الوسطى لدى اليسار الليبراليّ.

في مقالٍ رصين، يُقدّم الفيلسوف الرّوسيّ المثير للجدل أليكساندر دوجين تفسيراً ممكناً لتصالح اليسار، المتلبرل أو الهووي خصوصاً، مع منظومة الاقتصاد الليبرالي المعولَم. المقال المعنون "الطّبقة الوسطى: الإيديولوجيا والدلالة والوجود"[14] يُناقش القضيّة في سياق مفهوم الطّبقة الوسطى لدى الإيديولوجيّات المختلفة. يذهبُ دوجين إلى أنّه ما من وجود لمفهوم الطّبقة الوسطى لدى الإيديولوجيا الماركسيّة، فهذه الإيديولوجيا ترى المجتمع مكوّناً من طبقتين فقط: البورجوازيّة المُستغِلَّة والبروليتاريا المُستغَلّة، وأنّ الطبقة الوسطى بالنسبة للإيديولوجيا الماركسيّة ليست أكثر من خدعة رأسماليّة لإخفاء الواقع المتمثّل في الطّبقتين المُشار إليهما حصراً[15].

أمّا بالنسبة لليبراليّة، يمضي دوجين، فهناك طبقة وسطى وحسب في المجتمع، أما الفقراء أو الطبقة العاملة أو البروليتاريا فهم طبقة وسطى محتمَلة أو لم تتحقّق بعد، وشرطُ تحقّقِها هو العمل والاجتهاد واستغلال الفرص، وأما الأغنياء فهم طبقة فوق-وسطى، وبالتّالي فكلّ ما هنالك هو تجلّيّات للطبقة الوسطى أو طبقة وسطى إمّا بالقوّة أو بالفعل. وفقَ هذا المفهوم، فالغاية أن يكون المجتمعُ كلُّه طبقة وسطى بالفعل، وبالتّالي فالفقراء أو الطبقة العاملة ينبغي أن تُتاح الفرصُ أمامَهم ليُمكَّنوا من الانضمام إلى الطبقة الوسطى[16]. ما يُلمحُ إليه دوجين ولا يقولُه صراحة أنّ في الليبراليّة شيئاً شبيهاً باليوتوبيا الشيوعيّة لدى الإيديولوجيا الماركسيّة، ففي حين تطمح الأخيرة إلى مجتمع لا طبقيّ يتحقّق بانتصار البروليتاريا وقضائها على البورجوازيّة ثم إلغاء الدولة نفسِها، تطمح الأولى إلى مجتمع لا طبقيّ، لكن بمعنى أن يصبح الجميعُ طبقة وسطى من خلال آليّات السّوق وارتقاء الطبقة العاملة باستمرار إلى مصافّ الطبقة الوسطى.

لكن ثمة سؤال مهمّ بخصوص هذا التّصوّر، ويترتّب على الإجابة عليه نتيجتان متمايزتان جدّاً، ألا وهو: هل تقف حدود الطّبقة الوسطى عند حدود الدولة القوميّة؟ أم تتجاوزُها إلى طبقة وسطى عالميّة؟

إذا كانت الإجابة أنّ هذا المشروعَ -تحويل الطّبقات، الفقيرة خصوصاً، إلى وسطى- محصورٌ بالدولة القوميّة، فهذا يترتّب عليه أن الطبقة العاملة في الدول الأخرى لا تعني المشروع الليبراليّ، وبالتّالي فالأولويّة للطبقة العاملة في الدولة نفسِها، وهذا يُنتِجُ سياسات حمائيّة (Protectionism) وتعرفة وضبطاً للحدود، ويتميّز النّظام الاقتصادي للنظم من هذا النّوع بنزعة اجتماعيّة/ اشتراكيّة رغم ليبراليّتِه إجمالاً؛ لأن رفعَ الطبقة العاملة إلى وُسطى يُصبحُ همّاً قوميّاً وشكلاً من التّحصين الاجتماعيّ[17]. نظام ترامب يبدو مثالاً ممتازاً على هذا النّمط، فترامب مرشّح للحزب الجمهوريّ اليميني الليبراليّ، ويؤمن بالسوق الحرة وتحرير الأسواق وخفض الضرائب، لكنّ نزعتَه القوميّة تولّد نزوعاً نحوَ ملامح اشتراكيّة، من قبيل مشاريع البنية التحتيّة واضطلاع الدولة بدور في توليد الوظائف من خلال مشروعات كبرى، بالإضافة لضبط الحدود وترحيل المهاجرين غير المسجّلين.

أمّا إذا كانت الإجابةُ أنّ المشروع يمتدّ إلى طبقة وسطى عالميّة، وهو ما يتبنّاه اليسار الهوويّ أو المتلبرل صراحة أو ضمناً، فهذا يعني في المحصّلة موقفاً متصالِحاً من النّظام الليبراليّ المعولَم؛ لأنّه يعني حدوداً أكثر انفتاحاً، وبالتّالي إتاحة المجال لعالم أكثر تعدّداً وتنوّعاً وأقلّ تخندقاً حولَ الأنماط الهوويّة القديمة، وإتاحة الفرصة للطبقات العاملة أو المهمّشة في بلدان مجاورة أو بعيدة لتحسين وضعِها الاقتصاديّ والانضمام لهذه الطبقة الوسطى العالميّة، ومن الأمثلة على ذلك الهجرة من أمريكا اللاتينيّة إلى الولايات المتّحدة ومن شرق أوروبّا إلى غربِها. لا شكّ أنّ النخب الاقتصاديّة المعولَمة تستفيد جدّاً من هذا الوضع، ولا شكّ أن اليسار الهووي أو المتلبرل لديه الكثير من التّحفظّات على ذلك، لكن في المحصّلة فهناك مكاسب هوويّة لمشروع اليسار الثقافي، بالإضافة لمكاسب اقتصاديّة محتمَلة للمهاجرين والحالمين.

لكن، وكما سبق القول، فالطبقة العاملة المحلّيّة ستكون على يقين بأنّ هذا الوضع لا يمضي لصالحِها. إذا ما أخذنا الولايات المتّحدة كمثال، فالطبقة العاملة تنتمي في الغالب إلى الحيّز القرويّ ذي الغالبيّة البيضاء ومحدود التنوّع، ويغلبُ عليها التديّن، ولا تعبأ بالتّالي بسياسات الهويّة والانفتاح، بل تعارض بعضَها خصوصاً المتعلّق بالهويّات الجنسيّة والجندريّة. هذه الطبقة تُعارض اليسار المتلبرل على أساس هوويّ، ولم ينفعها المشروع الليبراليّ المعولم، بل ضرّها بخروج رأس المال إلى حيث العمالة الرخيصة وقدوم المهاجرين الذين هم عمالة رخيصة غالباً، وبالتّالي فإذا ما وُجد يمينٌ يعدُهم بإعطاء الأولويّة الاقتصاديّة لهم (قوميّة)، وبتوفير الفرص لهم وحمايتِهم من العمالة الوافدة والمهاجرين (ليبراليّة اقتصاديّة محلّيّة غير معولمة)، وبإطلاق مشاريع للبنى التّحتيّة لتوفير الوظائف (نزوع اشتراكيّ باعتبار حماية الطبقة العاملة وترقيتِها مهمّة وطنيّة وحصانة اجتماعيّة)، وكان بالإضافة لذلك كلّه معارِضاً لسياسات الهويّة لدى اليسار (تديّن ومُحافظة)، فلا غرابة في أن يحظى بأصواتِهم ودعمهم.

خاتمة:

حاولنا من خلال المناقشات السابقة تبيان أثر الهويّة وسياساتِها على مآلات اليسار واليمين في الغرب، وتركّزت المناقشة على تحوّلات اليسار بخصوص موضوع الهويّة، وانتقاله من يسار إصلاحي سياسيّ إلى يسار ثقافيّ هويّاتيّ، وما رافق ذلك من انسجام نسبيّ مع المشروع الاقتصاديّ الليبرالي المعولم، ثم عودة الدولة القوميّة ونطاقِها وسياساتِها إلى الواجهة وهو ما كان سبباً ونتيجة لتحوّلات اليسار، وكيف آل إلى تقديم اليمين خطاباً منسجِماً اقتصاديّاً وهوويّاً مع الطبقات العاملة والمهمّشة، وبالتالي صعوده الجديد على مسرح السياسة الغربيّة، وتهديده الجدّي للمشروع الليبراليّ برمّته.

 


[1]Rorty, Richard. Achieving Our Country: Leftist Thought in the Twentieth Century. 1998. Harvard University Press. P41-43.

[2]المرجع السابق، ص 75-76.

[3]المرجع السابق، ص 76.

[4]المرجع السابق، ص 77-80.

[5]المرجع السابق، ص 80-82.

[6]المرجع السابق، ص 89-90.

[7]المرجع السابق، ص 91.

[8]سلسلة مقابلات نادرة مع الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز أجرتها كلير بارنيه بين عامي 1988 و1989 ونشرت تسجيلاتُها بعدَ وفاتِه، وقامت على فكرة استعراض حروف الأبجديّة بالترتيب وتناول فكرة أو مفهوم تبدأ بكلّ حرف. هذه الفكرة المشار إليها ذكرَها دولوز عند استعراضه لمفهوم "يسار" أو (Gauche). هذا تسجيل للجزء المذكور من المقابلة:

http://www.dailymotion.com/video/x2oby9w

[9]JHA, B. K. Unmarxian Development of Marxism: An Analysis of Deradicalization of Marx's Concept of Internationalism. The Indian Journal of Political Science,Vol. 37, No. 4 (Oct.-Dec. '76), pp. 23-41

[10]هذه فكرة متكرّرة لدى بعض السود من المحافظين، مثل أستاذي الاقتصاد توماس سويل ووالتر ويليامز والكاتب والإعلامي لاري إلدر، كمثال يمكن الاطلاع على المقالين التاليَين لتوماس سويلأستاذ الاقتصاد في معهد هوفر التابع لجامعة ستانفورد، الأول بعنوان:

" Democrats need black voters to be fearful, angry, resentful, and paranoid."
وهنا رابط له:

http://www.nationalreview.com/article/438319/democrats-value-black-votes-more-black-lives

والثاني بعنوان: "How the Liberal Welfare State Destroyed Black America"

وهنا رابط له:

http://www.frontpagemag.com/fpm/262726/how-liberal-welfare-state-destroyed-black-america-john-perazzo

[11]Sowell, Thomas. Three Black Histories. The Wilson Quarterly (1976-), Vol. 3, No. 1 (Winter, 1979), pp. 96-106

[12]تقرير نشرته صحيفة واشنطن بوست بُعَيد الانتخابات بتاريخ 11/11/2016 بعنوان: "ترامب حصل على أصواتٍ أكثر لدى الملوّنين من ميت رومني":

https://www.washingtonpost.com/news/monkey-cage/wp/2016/11/11/trump-got-more-votes-from-people-of-color-than-romney-did-heres-the-data/?utm_term=.fe68f204cb97

[13]التقرير السابق.

[14]Dugin, Alexander. Middle Class: Ideology, Semantics, and Existentia.
http://katehon.com/article/middle-class-ideology-semantics-existentia

[15]المصدر السابق.

[16]المصدر السابق.

[17]المصدر السابق.

  

شارك :

التعليقات (124)

أضف تعليق