أفكارنا بين الحركية والسكون: رأي في المدارس الإصلاحية

طباعة 2023-09-18
أفكارنا بين الحركية والسكون: رأي في المدارس الإصلاحية

الأفكار بيوت الناس التي يأوون إليها، فيها يعيشون ويتحركون ويتجاورون ويتنافرون، بحسب مضامين أفكارهم. تتميز بعض بيوتهم الفكرية بتأثيث جيد غني الموجودات وواسع المدى أو هو ضيق، وبيوت فكرية أخرى فقيرة التأثيث أو فوضوية أو متنافرة. فتأثيث العقول بالأفكار أشبه إلى حد ما بما يحدث في المنازل أو القصور.  والأفكار كذلك كالبيوت لا بد لها من دعامات تقوم عليها، وهي الأسس الفكرية لكل إنسان، وهذا التأسيس يحتاج دائمًا إلى التقوية أو التجديد، ولا بد له من الصيانة أو التخلص من بعض المحتويات وإبدالها أو إفراغها، إما لتثبيت غيرها أو للتمتع بفراغ الذهن عما يعوقه ويشغله.

إن وجود التأثيث الفكري لا يغني عن التحرك به؛ ذلك أن المعلومات الساكنة لا تعني شيئًا أكثر من متعة ذاتية ورضى عن الذات. وانشغال من ينشغل بالمعلومات وبتخزينها أشبه بمتعة كتلك التي تصاحب قراءة رواية، تتخيلها فاعلة بينما هي تقنعك بالسكون تجاه كل ما يحدث، إذ تصنع أحداث الرواية والفن أحيانًا الشخص الخامل الذي لا يرى قيمة للعمل، فكل شيء خيال، وكل الحركة مصطنعة كاذبة ليس فيها أحد في واقع الحياة يتحرك أو يؤثر إلا تلك المتعة الذهنية الباردة، وهذا النوع من الأدب أو الفن أو المعرفة حال بديلة عن العمل والحركة. وقد تثير أو تثار تلك النصوص والمعارف الباردة في ظروف نادرة بعدما تكون مخيلة عامة وتتحرك لهدف مقصود منها.

 كذلك المعلومات إذا لم توظف في سياق عملي عام تصبح عديمة الأهمية والقيمة، كمجلدات على الرفوف تنتظر غرقًا أو حريقًا أو حشرة العثة تفتك بركودها، أو ربما يحيي العمل بها أحد بعد قرون. أذكر أنني تعرفت إلى فنان قدير لا يعرف عن موهبته إلا أفراد من عائلته، فحثثته على العمل والمغامرة والمشاركة، حتى خرج من عزلته وتواصل مع الناس وأقام معارض فنية وانفتحت له الشهرة والثروة، وذلك بعدما حرك هذه الطاقة الكامنة واستفاد من التأثيث الوهبي والتأثيث المكتسب. فالسعي فضيلة والبخل بالفكر فقدٌ له. وقد حذر الأديب الشاعر المفكر الداغستاني رسول حمزاتوف في رواية بلدي الإنسان الذي يبخل بقدراته وأفكاره على الناس أن يكون أشبه ببخيل أخفى ماله عن أهله وغيرهم من شدة حرصه، ثم نسي المكان الذي خبأه فيه.

إن آفاق إمكانات الإنسان ودوره وأثره أمر يتجاوز خياله المحدود. فالمنتج والعامل والموجه سيفاجأ بالمدى الذي يصل إليه أثر عمله، ولن يعوقه إلا الحدود التي قدرها الله. وقد تنوعت هذه الحدود وزادت في زماننا، ولهذا كان واجب الحركة بالحق أوجب على من يجد الوسائل متاحة. وحتى حين يتخيل عدمها فإنه سيجدها ويعثر عليها قريبة المتناول حين يصر، وذلك ما حدث مع رواد حركات الإصلاح الإسلامي عبر القرون؛ فحين هبت همة المصلحين توارت العقبات من طريقهم. أما الوانون الواهنون فلهم في كل خيال عذر، ومن يشترط استكمال العواقب قبل بدء العمل فقد قرر مسبقًا ألا يعمل.

تلك هي قصة المصلحين والحركات الإصلاحية والتجديدية، فحين تغلبت على الونى والقعود حققت ما تخيله القاعدون معجزات وخيالات. وللنجاح شواهد لا تعد كما للركود مثلها، وكلها دليل على صدق قرار نتائج الركون ونتائج الحركة بالحق والاستفادة من الرصيد المعرفي في الإصلاح، وكأنه يتذكر قول ابن الرومي:

 

فاغدُ في أمنٍ من الرقِّ ومن

 

سطوة الدهر وذل الاضطهادِ

مستزيداً في مَعَالٍ جمَّة

 

ليس فيها لامرئٍ من مستزادِ

وكذاك البدر يسري في الدجى

 

وله من عزمه نور وهادي

حسْبه من كلِّ رأي رأيه

 

مُستشاراً في الملمَّات الشِّدادِ

 

      وقد صنعت بقصيدة ابن الرومي صنع ابن تيمية ببيت المجنون حين كان يخرج للخلاء مختليًا بربه متمثلًا:

وأخرج من بين البيوت لعلني

 

أحدث عنك النفس في السر خاليا

 

 إن معركة الحياة والتحرك بالقيم والأهداف أوصل للغايات من مجرد الفرجة على العاملين. فالناس يرون المصلحين في بداياتهم متوهمين وخياليين وأتباع نجاح موهوم، لكن العاملين هم من يحققون أهدافهم، وهذا أمر لا يفهمه القاعدون الذين اختاروا أن يبقوا على هامش التاريخ، يضحكون ويسخرون وينتقدون العاملين ومن يخوضون المعامع الإصلاحية والتجديدية الميدانية.

ولأن الأفكار قريبة المساس بالتاريخ، وهو العين على مسيرة الفكر بين الناس، فإن المفكرين النبهاء يستطلعون المستقبل من خلال رصد الظواهر ووضعها في سياقها الحضاري، وإيمانهم بخطر الأفكار واستغلالها سياسيًّا. فمن جمع إلى النباهة التاريخية والرصد هدفًا سياسيًّا حقق مغانم هائلة في الميادين التي يهتم بها، وإذا عاش في مجتمع حر يسمح لأفكاره بالتحقيق صنع ما لا تتخيله العقول المثقلة بالمعرفة العاجزة الصامتة. ومن كانت له تلك المعرفة والفرصة السانحة وجمع معها القدرة في موقع مؤثر لصناعة الموقف فإنه سيصنع الكثير من أحداث التاريخ، حتى لو كان في المقعد الخلفي في قيادة الأمم، مثل ما قام به مترنخ وزير خارجية النمسا، وقد حشد أوروبا في مواجهة الثورة الفرنسية، وقاد الثورة المضادة للثورة الفرنسية. وعلى الرغم من النجاح المؤقت للثورة المضادة، فقد أخرت تأثير الثورة زمنًا وشوهتها، لكن رياح الثورة كانت أعتى من مصدات المحافظين. الطريف أن التاريخ الدبلوماسي لمترنخ كان موضوع رسالة الماجستير التي كتبها كيسنجر، وقد وجد هذا فرصة أخرى زمن نيكسون ليقوم بأدوار سياسية هائلة مثل اختراق الصين، وأخذ مصر بلا ثمن "مجانًا كما قال" من تحالفها مع روسيا، وقام بترسيخ سياسة الخطوة خطوة في التفاوض لمصلحة قومه الصهاينة بعد حرب عام 1973، ووضع سياسة التوتر المستمر والتدخلات الجزئية بلا حل لمصلحة العرب، واستطاع أن يجعل من حركية العرب ضد الكيان الصهيوني فشلًا مستمرًّا إلى الآن. ومثله منافسه الديمقراطي بريجنسكي الذي ترأس الأمن القومي الأمريكي، وقد ساعدت نظرياته في إسقاط الاتحاد السوفيتي، وكان قد كتب قبل السقوط السوفيتي كتابه المهم الفشل الكبير (أو الإخفاق العظيم بحسب الترجمتين). وهو الذي طالب بدعم المجاهدين الأفغان وغير تسميتهم من متمردين إلى مجاهدين (وكان المسلمون يسمونهم متمردين) فساعدت خططه في إسقاط روسيا، ومن قبله كان جورج كينان الذي نشر مقالة في مجلة الشؤون الخارجية ووقع باسم: X، تلك المقالة التي ساهمت في تصميم سياسة الاحتواء لمحاصرة الشيوعيين الروس وإنهاء تمددهم، ومن ثمّ إسقاط إمبراطوريتهم.

يمكن تسمية الأفكار التي ينقدح العمل بها بالأيديولوجيا، فهي الأفكار في حال التحريك لهدف، أما في حال السكون فإنها حال العدم أو حال أشبه بالعدم، أي السكون الذي لا يظهر له أثر ولا قيمة؛ إذ الأفكار في حال التحريك بها تصنع التحولات الكبرى في أحوال البشر. ولذا فإن الخصومة مع الإسلام تتصاعد في حال تحركه، والتحديات أقل في حال سكونه، أو يكون التحدي له من نمط مختلف، وقد يتعرض في حال هموده لمحاولة القضاء عليه بحكم تاريخه الموجع لخصومه، حتى حين لا يكون مقلقًا ولا مؤثرًا في حال الخمول وضعف الحركة، فخصومه دائمًا يخشون يقظته ويعملون على جعله سكونيًّا خارج الفاعلية، ويستعملون التدين السكوني ضد العملي أو الحركي في مواجهته، فيصنعون له عدوًّا من جنسه، كما تقرر التوجهات وسياسات الحكومات المسيحية أو الغربية النافذة تجاه العالم الإسلامي، فيصنعون من الإسلام أدوات تجميده وصرفه عن غاياته الحميدة. وكما قال الأول:

ولكل شيء آفة من جنسه

 

حتى الحديد سطا عليه المبردُ

 

ومن نماذج تحريك الأفكار السكونية ما نظّر له الصحفي الداهية المؤثر والتر ليبمان (1898-1974) الذي كان البيت الأبيض يؤخر إعلان قراراته حتى يقرأ مقالته السيارة التي يسجل فيها رؤيته للأحداث، وهو صاحب فكرة تحويل الليبرالية من حالة سكونية معاشة في أمريكا إلى حركة فكرية أيديولوجية تواجه التيارات والأحزاب اليسارية الماركسية خاصة، وقد نجح تحريك الليبرالية في العالم لتكون دين اليسار الفاشل في العالم.

ولذلك فإن مراقبة المفكرين النابهين قد تكون خطرة ومنبئة عما يستقبل المجتمعات من صعود وسقوط ومغنم ومغرم. ولا فائدة للذكاء الهائل الفردي ولا للنباهة في مجتمعات قتلها السبات أو دمرها المستبد، لأن عبقريتها سوف تعد خيانة وغدرًا بالظلام المخيم وبالهدوء المقيم والجمود القاتل والخنوع الجماعي، أو تدفن، وسوف يعدون صاحبها مفتنًا وما يقوله فتنة، لأن قوى الركون للخوف وللمعتاد ورهبة الجديد لا تقل خطرًا على الركود من الحروب والقلاقل. فالعبقري يموت قهرًا، والغبي الراكد يلهج دائمًا بانتصاره عليه.

وقد كان بعض شباب الجزيرة العربية قبل الإسلام يغبطون شباب قريش الصاعد قبل الرسالة، ويرون أن لهم مستقبلًا. وقد وردت هذه الأقاصيص والأخبار سواء صحت أم لا عند أبي حيان التوحيدي. قال إسحاق بن إبراهيم الموصلي: انصرف العباس بن مرداس السلمي من مكة فقال: "يا بني سليم إني رأيت أمرًا وسيكون خيرًا، رأيت بني عبد المطلب كأن قدودهم الرماح الردينية، وكأن وجوههم بدور الدجنة، وكأن عمائمهم فوق الرجال ألوية، وكأن منطقهم مطر الوبل على المحل، وإن الله إذا أراد ثمرًا غرس له غرسًا، وإن أولئك غرس الله، فترقبوا ثمرته، وتوكفوا غيثه وتفيئوا ظلاله واستبشروا بنعمة الله عليكم به". وخاف أحدهم من منافسة بني عبد مناف وصعود هذا الفرع من القبيلة فقال: "تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف، أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تجاذينا على الركب، وكنا كفرسي رهان، قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء". وهذا ما هو فوق طاقة البشر وصح ذلك على مدى الدهور أن النبوة فوق إمكان وتقدير كل أحد، حتى صاحبها لا يدرك خطرها ويستنكر ويقول: أومخرجي هم؟ وفي قصة ورقة بن نوفل مع الرسول صلى الله عليه وسلم شاهد على القول. وفي كل عصر وزمان ترى منبهًا للخطر أو للمغانم يُري الناس النور أو النار التي يعشون عنها. وكم كان محزنًا أن رجلًا كابن خلدون يحذر قومه وينبههم إلى قدوم البعث الأوربي في جنوب أوروبا فقال: "وكذلك يبلغنا لهذا العهد أنّ هذه العلوم الفلسفيّة ببلاد الفرنجة من أرض رومة وما إليها من العدوة الشّماليّة نافقة الأسواق وأنّ رسومها هنالك متجدّدة ومجالس تعليمها متعدّدة ودواوينها جامعة وحملتها [متوفّرون] وطلبتها متكثّرون والله أعلم بما هنالك [وهو] (يخلق ما يشاء ويختار)". ولكن الظلام والظلمات، كما أشار هو، قد استحكمت في عقول ورقاب أمته، إذ أشار إلى أحوال زمانه قائلاً: "وأما لهذا العهد وهو آخر المائة الثامنة فقد انقلبت أحوال المغرب الذي نحن شاهدوه وتبدلت بالجملة [...] وكأنما نادى لسان الكون في العالم بالخمول والانقباض، فبادر إلى الإجابة". حتى عابه بعضهم على جريمة وعيه وحرصه على إخراجهم من غفوتهم التي طالت قرونًا، وقتها كان قد سقط العلماء والحكام والمتصوفة والعامة في ظلام لم يبدأ التنبه من غفلته إلا قريبًا.

لا شك أن المجتمع المنفتح الحر يصنع حالة من إمكان صنع الأفكار الناجحة وتنفيذها، بخلاف المجتمع المقموع المستعبد لفرد، حيث تقتل فيه المواهب ويمنع القمع والقهر تحريك الأفكار العبقرية ويحجر الأذهان، لتعيش الملايين بدماغ متسلط واحد يشل المجتمع ويدمر الحياة مهما كانت موهبته وإمكاناته. ومع ذلك فإن تحدي الجمود، وتحدي العبودية والخنوع يمكن تحقيقه بالإصرار، ونحن في زمن نملك العدد والعقول والوسائل التي تمكن من اختراق جدران الظلمات، وتحقق بعون الله ثم بالإصرار والتعاون إنجاز المصلحين الصادقين عبر القرون. وإنما تعظم الأمم والحضارات بأفكار حرة مبدعة وأسواق عظيمة تستهلك المبتدعات من الأفكار الحرة والسلع المتنوعة، فلا الأفكار يمكن قمعها ولا الصناعة يمكن حد انتشارها، ولا طرق الترويج للأفكار والسلع مسدودة؛ ذلك لأن التماسك بين العبقري الملهم وبين الساذج المستهلك أو المتحمس المتفاني ضروري للتفوق الحضاري، ويمكن تحقيق الخير لأمتنا واختراق حواجز القهر والقنوط.

دائرة العمل ودائرة المعرفة

إن المعلومات التي يتلقاها الإنسان عنوة أو عفوًا ذات أثر كبير عليه وعلى تكوينه الذهني والعاطفي وعلى علاقته بالناس والأشياء من حوله، ويندر من الناس من يصل وعيه إلى مراقبة أثر تلك المعلومات والثقافة الاجتماعية في تصرفاته، وأندر منه من يستطيع التحكم في تكوينه المعرفي والنفسي والمجتمعي. ويبدو لي أن كل الجهود الذاتية والمعلوماتية قد تساعد في تهذيب مضار التكوين عليه، ولكنها لا تجتث الآثار السلبية التي ترسخها ثقافة الركون والتواني، وما عليه إلا المحاولة لتحريك الحق بما يعرف وتقليل السلبي والهامشي من معلوماته، تلك المحاولة في ذاتها نجاح.

فالمعلومات والأحداث والظروف لها دور خطر على الإنسان وهو يضعها دون وعي في سياق لا يعرف نفعه من ضرره، ويستوي في الخضوع لتلك المكونات الذكي والغبي، لكن تأثر الشخصيتين يظهر عليهما ويقودهما لأعمال رشيدة أو مضرة يشاهد نتائجها المجتمع في تصرفاته. الأحداث والأفكار والتجارب ونتائج الخبرات تصنع أثرها على شخصه ومستقبله سواء عرف قدرها وتأثيرها أم لم يعرفه، وبهذه الأثقال يتحرك في المجتمع والعلوم والحياة، وقد يتعرض لحالات صدمة أو يقظة تنتزعه من سباته وتبعيته وهامشيته، وترمي به إلى تيار الوجود والحيوية وكأنه لأول مرة يرى نفسه ويكتشف قدراته ويلاحظ أثره. تلك لحظات من لحظات القرار والوعي الذاتي الشامل التي يتعرض لها الفرد. يقولون إن الشعر يثيره الحب والحرب والموت، وهذا اختزال لشخصه ولمنتج واحد هو الفن أو الشعر، ولكن ماذا عن تحول القناعات؟ إن إنسانا غافلاً قد يخوض تجربة دينية ويصبح طاقة هائلة جديدة قد يسخر منها من يجهلها، غير أنها حقيقة ماثلة وملاحظة، تراها عند المهتدين والتوابين ومن تعصف بهم ظروف فوق طاقاتهم، وتجد على الجانب الآخر من يفقد قيمه وقيمته ويقتنع بعكسها، وقد يرى ويسمع دوي سقوطه ثم لا يكاد يفهم قسوة فقدان ما كان معه وله وبه، فيسقط ويراقب بنفسه سقوطه مما كان يؤمن أنه علوي وسماوي إلى كل صغير وآني وذاتي، ولا بد أن تفقد القيم كل القيم مكانتها ودورها في حياته، ويبقى الماضي العالي الهميم أشباحًا مؤلمة أو مبهجة في لحظات مراجع الوعي أو الصدمات والذكريات، تلوح كأطياف زمن قديم يبتعد عنه.

إن من أهم النماذج الحركية للمعرفة قصة الطبيب الكويتي عبد الرحمن السميط، وقد أثاره للحركية للإسلام وقوفه على مقررات مؤتمر كولورادو التبشيرية، فقرر أن يتخلى عن طموحات زملائه المحلية الصغيرة، كفتح عيادة في الكويت تجلب له المال والشهرة، وترك المعتاد وذهب إلى أفريقيا، فما عرف الناس في العصر الحديث رجلًا كان له أثر في اعتناق أمم للإسلام مثله.

أذكر أنني قرأت أيضًا عن الفيلسوف والموسيقي الشهير ألبرت إشفيتسر (ولد في الألزاس عام 1875م وتعلم الفلسفة والطب وبرع في الموسيقى والفلسفة، وكتب حينها كتابه الشهير فلسفة الحضارة الذي ترجمه عبد الرحمن بدوي)، أنه هاجت عنده الهمة الروحانية والشوق لخدمة المسيحية، فترك وعثاء التفلسف والموسيقى، وعلّم زوجته التمريض، ثم ذهب إلى لمباريني في الجابون في أدغال إفريقيا لنشر المسيحية عبر التطبيب، وقام بدور كبير في علاج مرضى الجذام وغيره، ونشر المسيحية بين الوثنيين حتى مات هناك عام 1965. وقد تابعت الكثير مما قام به في ما كتب عنه، فهل كانت خطوته الحركية الكبيرة تلك أنفع من الكتابة في الفلسفة؟ ربما، والجدير بالملاحظة أنه من أخوال سارتر الفيلسوف الفرنسي الذي حول الوجودية إلى إلحاد.

وقد تكون المعرفة من وسائل التجميد والسلبية عند الإنسان حين يتعلق بحبل لها لا ينتهي ويطلب أوله آخره الذي لن يصل إليه إنسان، ويغرق فيها دون هدف منجز إلا المزيد منها والكتابة حولها وتجميع مصادرها، والكتب تسخر به، والمعلومات تفر منه، والعمل يتباطأ به، فلا أنجز في الطريق ولا وصل لمحطة يأملها. إنه عبث معرفتنا بنا، ننظر كمالها بينما كمالها هو في العمل بها وليس جمعها بلا نهاية، فالعمل بالمعرفة ولو كان قليلًا وغير مقنع خير من هوس بجمعها لا يصل لنتيجة، وإنما النتيجة الطريق.

وعليه فإنه لا قيمة للمعلومة ما لم تتحول إلى تجربة عملية، ولهذا تجد المنتجين معلوماتهم قليلة نافعة وعملية، وتجد كثيرًا من المنظرين مثقلين بأوقار من المعلومات يحملونها معهم إلى قبورهم. وقارن بين شخص جالس في بغداد أو قرطبة زمن التراجع كم كان عنده من المعلومات مقارنة بشخص على الثغور قليل النظريات يفتح للأمة أبواب الأمم. ولذا قد تصنع الثقافة دروعًا للخنوع كما يمكن أن تعمل دور الإشعال العملي الحركي. وإذا قدر لك أن تطلع على أجواء المعارف والآداب التي كانت في قرطبة وغرناطة قبل سقوطهما، فإنك لا تتخيل كيف تموت همم وتخبو آمال وتسقط قوى وجيوش وهم في زهرة علومهم وعلو معارفهم.

وليس غريبًا هذا الغباء البشري، فقد شهدنا الرئيس الأمريكي ترمب يُنتخب، ورأيناه يحمس ويؤيد جموع المتطرفين الذين تظاهروا في يناير عام 2021 ليهاجموا مبنى الكونجرس ويهاجموا النواب، ويتم أول هجوم داخلي على البرلمان الأقوى في تاريخ العالم المعروف ويُغزى لا من خارجه ولا من أعدائه، بل ممن يزعم حجة الحفاظ على مستقبله، ذلك أن الواعي الحريص على بلاده وثق بجموده بينما الفساد والإفساد في أعتى لحظات الحركية.

الهمة خير من زيادة المعرفة

كشف الواقع أن الاهتمام بالمساجد وبطلاب المدارس القرآنية، عند ابن باديس والبشير الإبراهيمي ومدارس الجزائر أحيت همم الجزائريين، وصنعت الجيل والموقف الذي أنجز جيل الثورة والتحرير، فكان فرق عظيم بين من يتلقى القرآن للتنغم والتسلية وبين من يجعله سلاحا لتحرير نفسه وبلاده من المستعبدين، وقد يموت فيسمى شهيدًا، وسادت ألقاب التعظيم للشهداء والشهادة، ومجلة الشهيد، ومن قبلهم في تونس ظهر كتاب تونس الشهيدة حين حل بها المستعمرون وقهروها، ودون شك عدهم المستعمرون مدمرين ومفسدين وإرهابيين ومتطرفين، وتلك لعبة الألقاب كما يحسن الغزاة المستعمرون المتأخرون استخدامها.

إن زماننا هذا من خير العصور، توفرًا للعلوم والمعارف وتواصلاً اختصر المسافات. وقد قرأت في أدب الطلب للشوكاني قوله إن زمانه خير مما سبقه فيما يخص العلم وتوفر مصادره. وأين نحن من زمنه؟ فزمنه فقير مقارنة بزماننا، لكن الهمة والعمل والغاية إن غابت فلن تفيدنا معارف العالم لو جمعناها. وقد جعلت شبكات التواصل العالم كله ميدانًا للسباق والتأثير، وأصبحت العولمة ملكًا لمن يجترئ ويعمل وينشر.

وعليه فإنه من الواجب الآن التخلص من الحياة النمطية أو التجارب الفاشلة [وكما قالت الشاعرة: "لا تعيش العمر عينك وراك"]. فهناك من ينشغلون بدراسة الحالة ولوم السابقين بدلًا من مبادرات لهم في زمانهم، أو لا ينسجمون مع حركات الإحياء والإصلاح المعاصرة لهم، أو يفكرون في امتلاك كل شيء لينجزوا، وليس الأمر كذلك؛ فالعمل ولو كان يسيرًا خير من الانطواء على الذات ونشدان الكمال، والزمن لا ينتظر أحدًا.

أذكر أن شخصًا سألني في نهاية محاضرة عن حركات الإصلاح قائلًا: أراك قد تصالحت مع المدرسة الإصلاحية بدءًا بمقدمة كتبتها لكتاب جمال الدين الأفغاني وغيره، فهل هذه مراجعة للأفكار؟ والجواب أن مراجعة ومعرفة الحركات الإصلاحية واجب من واجبات المرحلة لمعرفة مواقع النجاح ومواقع الفشل، وفهم وتقدير ظروف الإصلاحيين السابقين من واجبات المرحلة، ومصادرة جهودهم والبقاء عند عيوبهم وأخطائهم نتسلى بها من مظاهر السلبية والقنوط، وفي ذلك عدم تقدير لجهود السابقين، ولا مراعاة لاختلاف أفهامهم وظروفهم وزمانهم عن ظروفنا، وكثير منهم قد صنع ما نحن فيه من خير أو خطل، فتقدير أولئك يجعلك تتواضع في تنصيب نفسك دائمًا مقيّمًا لهم ولأدوارهم. فعليك ألا تهتم كثيرًا بالحكم عليهم من زمن غير زمنهم وظروف مختلفة عنهم، بل يجب العمل وملاحظة واجب وقتك. فتنصيبك لنفسك مقيّمًا للأفكار ولدورها تنصيب خطر ومغامر، وما دام الأمر فوق قدرتنا على شرح ملابساته فلنتواضع ونترك للشكوك ولعدم اليقين مجالًا. ولا لوم أن نقول ما نؤمن به مع تقدير من قررنا خطأ تجربته ممن عرف عنه الإخلاص والتضحية والنجابة.

إن أفكارنا تموج بنا بين الصواب والخطأ والوهم والشك، فما لنا نتخيل أن السابقين لم يعانوا من صعوبة الفهم رغم أن ظروفهم كانت أصعب من ظروفنا، خاصة في مرحلتين مرحلة إطباق الظلمات ثم مرحلة بداية يقظة العالم الإسلامي؟ من الجيد أن نتحرك بأفكارنا تحرك المنقذين، ولا نقف ولا نؤيد سكون سابقين ولا معاصرين، ولا سكون أفكارهم، فالسكون الفكري والعملي جبرية، بل هذا الجمود هو رذيلة القادرين، وحينها يتحرك عدوهم في فراغهم أو في ركودهم.

 

شارك :

التعليقات (1)

أضف تعليق