فــتــح كــابــل

طباعة 2021-10-19
فــتــح كــابــل

تقديم[*]

نقلت وسائل الإعلام تصريح ذبيح الله مجاهد، الناطق باسم حركة طالبان، في تغريدة على تويتر قوله: "أقلع آخر جندي أمريكي من مطار كابل، وطننا حقق استقلالًا تامًّا، نشكر الله"[1].

بعد أن نشرت حلقة من برنامج أسمار وأفكار بعنوان "فتح كابل"، لاحظت أن بعض المعلقين لم يستطيعوا التفرقة بين موقف كاتب أو محاضر من حدث على أنه فهمه أو تحليله لما رآه، وبين أن يجعلوا هذا الشخص منتميًا أو عضوًا في حزب أو حركة أو توجه. وكان أولى بهؤلاء الناقدين أن يضموا الرئيس الأمريكي بايدن إلى عضوية حركة طالبان؛ كونه بحسب مراقبين أمريكيين خرج منسحبًا وممكنًا لطالبان من حكم أفغانستان، كأنه كان منتميًا سرًّا إليهم، بحسب عقلية التآمر والحزبية والجهل وثقافة الذباب الإلكتروني التي اشتهرت في المشرق العربي. وهذه ثقافة عصابات تافهة للمتجسسين المدفوعين والمدفوع لهم من قبل أنظمة تتبنى الحرب على الإصلاح وعلى التوجهات الديمقراطية، يساندها حثالات أحزاب ميتة فاشلة خسرت الساحة السياسية دائمًا وخسرت الساحة الثقافية، فتسلقت على أكتاف الجواسيس لتعيد إنتاج فشلها وتبعيتها، أو لتنتقم من كل شيء اسمه إسلام، ومن كل من ظهر في التيارات الإسلامية أو توهموا أنه من هذه الجماعة أو تلك.

إن الغياب السياسي عن كثير من القضايا الجارية في مجتمعاتنا، فضلًا عن الحرمان من الفهم والوعي، جعل كثيرين لا يستطيعون أن يتفهموا موقفًا. أما الذين سلبتهم خطابات الغزاة عقولَهم وإرادتَهم وأصبحوا أبواقًا لكل محتل، فلا نستطيع أن نقف معهم على أرض ثقافية ولا سياسية ولا تحليلية لأي حدث. فالعداوة للأوطان والعبودية للغزاة تجري في دمائهم، ولا أمل في إيقاظ ضمير فيهم ولا حياة لوعي. وهؤلاء هم الطبعة الرديئة العربية لكرزاي وغني وخليل زاد. ليست لهم شخصية ولا وطن ولا قضية، وأعلى ما يكون لهم من أهمية أو شأن حين يستعملهم غاز ضد بلدانهم وضد ثقافتهم، ويرون في التبعية والإلحاق بالعدو فرصة لملء جيب أحدهم من مال الفساد.

أما نحن فنرى في أنفسنا عربًا مسلمين، وقضية الإسلام وأمتنا هي قضيتنا بلا مواربة. لا نخفي قناعتنا بها ولا ننافق ولا نزور مواقفنا ويقيننا. وإن تعثرت أمتنا أو خسرت فإننا نساعد أنفسنا ونساعدها على البحث عن طريق النجاة. هل نخطئ في ذلك أم نصيب؟ نحاول أن تكون مواقفنا صائبة مع تصحيح أخطائها قدر الإمكان ولا نزعم لها عصمة. ونحاول أن نكون أصحاب صواب وروادًا له ونبلغ الحق قدر ما يمكننا. ونحن لا نفرق بين أفغانستان أو فلسطين وغيرها من البلدان في حق التحرر من الغزاة ومن القتلة اليوم قبل الغد.

أما الذين يرون في الموقف انحيازًا فعليهم أن يعلموا أني أحد الذين لم يزوروا أفغانستان أبدًا، وليس لي أي انتماء لأي جماعة هناك منتصرة ولا مهزومة، إلا رابطة الإسلام وعشق التحرر وتأييد المستضعفين والمقهورين والمستعمرين في حق الاستقلال والتحرر.

إن بعض المثقفين عندنا أتباع لما يتردد في الغرب من فلسفات ومواقف، ويعجزون تمامًا عن تحرير موقف لهم من قضايا في عالمهم، فضلًا عن صناعته. فهم أتباع على كل حال؛ إذ لا تراهم مثلًا يجرمون مثقفًا مثل ميشيل فوكو حين أثنى على الثورة الإيرانية وزار الثوار وقتها وسجل موقفه، فهو مقدس عندهم لا يخطئ، ولكنهم في الوقت ذاته لا يقبلون أن يفكر أحد بعقل وضمير مستقل عن تفكير الغرب وتصنيفه ورصده للأحداث.

 

الفتح

يأتي هذا الانسحاب الكبير على رأس عشرين عامًا من تاريخ غزو أفغانستان ومن حادثة الحادي عشر من سبتمبر عام 2001. وما كنا نتخيل أن الغازي الغاضب الذي صب غضبه على مسلمين فقراء بعيدين جاهلين بما حدث وبعلاقاته بما يحدث لهم، سوف يأتي عليهم يوم يخرج فيه الغازي مهزومًا، نادمًا على أفعاله ندمًا يبلغ حد الاعتراف الضمني بالخطأ وبالمأساة العظيمة لشعب بريء لم يشارك في أحداث سبتمبر ولم يكن طرفًا فيها، وكان عليه أن يدفع دمًا ورعبًا ثمن أمر لم يأمر به ولم يسانده. غير أن "الظلم مرتعه وخيم". هذا على المستوى الفردي، وهو أسوأ على المستوى الأممي.

هذا الفتح الذي شهدناه قد لا يقل أهمية عن ما سبقه في تاريخ الأفغان. وقد أطلق عليه أحد الأصدقاء الفتح الثالث لكابل، أي بعد الفتح الإسلامي الأول ثم الفتح الثاني يوم خرج الغزاة الروس عام 1989، ليكون الثالث هو هذا الفتح أو الاستعادة من الغزاة، في منطقة يصعب فيها تتبع التاريخ وضبط أحداثه؛ بسبب أن كابل تعرضت لغزوات عديدة منذ الفتح الإسلامي، مما أكسب هذا المكان مكانة وسمعة ومنعة في نفوس أهل تلك البلاد وفي التاريخ الإسلامي وتواريخ الغزاة عبر القرون.

ونحن لا نقصد استعادة عبارات الفتح التاريخية التي ترن في أذن كل مسلم ومؤرخ أو مطلع على تاريخ المنطقة. ورغم تعلق المسلمين التاريخي بكلمة فتح فإنها ارتبطت تاريخيًّا بعدد من الأماكن والأبيات الشعرية. ولا شك في أن افتتاح قصر الرئاسة في كابل من قبل طالبان وإخراج عملاء الاحتلال منه كان فتحًا، وقراءة القارئ الطالباني من سورة الفتح: "إنا فتحنا لك فتحًا مبينًا" كأول بيان يصدر من قيادة الحركة كان لافتًا وله ما يبرره، ومن هنا جاء عنوان هذا الكتاب. وعندما نصف فعلهم بهذا الوصف فليس تزكية لهم ولا تكفيرًا لغيرهم، ولكن ما حدث كان ظاهرة نادرة في عصور المسلمين الأخيرة التي غلب عليهم فيها الاستسلام والضعف وتكالب المحتلين، وقد أصبحوا مغانم قسمت أرضهم ومواردهم بين الأقوياء من أعدائهم. لكن دخول طالبان كابل منتصرين على المحتل وعملائه المنافقين كان حالة كسرت المسيرة الجارية في زماننا، وتوحي بتاريخ قادم يختلف عن سابقه. وفي هذا النص أردت تسجيل بعض ما عرفناه وما عنّ لي تجاه هذا الحدث الكبير الذي قد يكون له تأثير كبير في تاريخ ذلك الإقليم، إن لم يتجاوزه.

 

من أسرار التاريخ

ليس هناك قارئ للتاريخ لا يدرك أن أحداثه لا يعرف مآلاتها إلا من خلق الإنسان وصنع له تاريخه وإمكاناته ومستقبله على هذه الأرض. فلم يكن العالم يتخيل أن مكة المدينة العربية الغارقة في جبال تهامة ستكون منارة نور للعالم، وتستتبع ثلث البشرية، وتقيم حضارات وتفني أخرى. ولم يكن سكان بوسطن يتخيلون أنهم وهم يلقون حمولة السفينة من الشاي الإنجليزي في مياه مينائها ستتعاظم مواقفهم حتى تقوم دولة تقود العالم اسمها الولايات المتحدة الأمريكية. وما كان سكان باريس الهادئون منذ قرون يتخيلون أن ثلة من الناس تسوروا أسوار سجن الباستيل سيصنعون الثورة الفرنسية ويقودون العالم ويحكمون أوروبا، ويضج العالم بآثار أفكارهم وتعلو لهم شعارات ستعبد في أرجاء العالم. ولا خطر على بال أحد أن صحفيًّا متفلسفًا فقيرًا في لندن سيؤسس الشيوعية، وأن أتباعه سيقودون الاتحاد السوفيتي والصين وعالم الشيوعية عبر العالم. ولا خطر على بال أحد يمر بمسجد يعظ فيه هارب إيراني من الشاه أنه سوف يُقصي الشاه ويساعد على قيام إمبراطورية شيعية.

لهذا لا يُستهان بالتاريخ ولا يبالغ في الزعم بفهمه، فهو ينساب انسياب الماء. ولو حاول أحد قبضه لكان يقبض الهواء. فنحن بحاجة إلى فهم التاريخ وهذا جيد. أما أن نغيره على طريقة ماركس فسوف يقول لنا: عذرًا لكم أن تحاولوا، ولكني أكبر من كل محاولاتكم.

 

حيازة بالهاتف

تذكرت وأنا أكتب هذا العنوان نكتة قيلت عن بلد عربي أيام غزو صدام للكويت. قالوا إن كان أخذ الكويت بهذه السرعة فكم يستغرق لو أراد أخذ ذلك البلد العربي؟ قالوا: بالفاكس، أي في لحظات، وكان الفاكس تلك الأيام فخر المخترعات السريعة.

اعترف الأفغان أنفسهم، أعني قيادة طالبان، بأنها فوجئت هي نفسها باستسلام كثير من الولايات الأفغانية لهم، على غير ما توقعوا من مقاومة؛ فالجيش الأفغاني الأمريكي لديه كل وسائل القوة والهيمنة والآليات ودعم الطائرات، ولكن في الأيام الأخيرة لم يكن ينتظر قدوم رجال طالبان إليه، بل يتصل حكام الولايات هاتفيًّا ويعلنون تسليم ولايتهم لطالبان ويغيرون ولاءهم من الجيش الأمريكي وحكومته إلى طالبان.

أما تبرير هذه السرعة في الاستعادة فيفسرها بعضهم بأنه كان بسبب سرعة التصرفات الأمريكية واضطرابها، وسوء التخطيط، وسرعة تبديل الأفغان لولائهم. ولكن هذه التفسيرات تبقى على هامش الأسباب الحقيقة، ومنها عدم ثقة هؤلاء الحكام بما يقومون به، وكونهم يعملون في مشروع أجنبي الولاء يهيمن عليه الغزاة ضد أمتهم وشعبهم، ويدركون ضعف ثقتهم بأنفسهم، ويعرفون ما يديرون من الفشل والفساد. لقد كان مشي طالبان لكابل واستيلائهم عليها حدثًا عالميًّا، وقد أعجب بعض المعلقين أن يقول جاءوا مشيًا إلى العاصمة وإلى القصر في كابل بكل هدوء.

ولكن ليس هذا فقط، فقد نادى زعماء طالبان جنودهم الذين دخلوا كابل سلمًا أن اخرجوا منها فخرجوا؛ لأن الاتفاق أن يسلم أشرف غني وحكومته الحكم لطالبان. لكن أشرف هرب وعمت الفوضى، فكان لا بد لطالبان من عودة إلى القصر، فعادوا وكانوا ثلاثة أشخاص في البدء واستسلم لهم من كان في القصر، وقد أبقى أشرف مدير مكتبه ليسلم لهم القصر، ثم خرج في الصورة معهم وهو يفتح لهم مكتب الرئيس.

هناك جانب مهم يحب أنصار حكومة النفاق أن يتغافلوا عنه، وهو أن هذه الحكومة لم تفسد فقط ولكنها راهنت على قتل المزيد من الأفغان لتخضع البلاد لمن نصبها ولها، ورفضت المرونة في المصالحة، ورفضت التنازلات مما ورطها وورط أنصارها الأمريكان (واعترف بذلك الرئيس الأمريكي). وليقينها بذلك لم تصدق الصلح ولا التعهدات الأمريكية ولا التطمينات، بل هربت بفسادها العريض لتمتهن مهنة التشويه من الخارج الذي يمتهنه الخاسرون الظالمون حين يسقطون.

إذا ساء فعلُ المرء ساءت ظنونه      وصدّق ما يعتاده من توهمِ

وعادى محبّيه بقول عداته          وأصبحَ في ليلٍ من الشك مُظلمِ

 

المجتمع السنّي وطالبان

هناك فرح عم جماهير العالم السني بانتصار طالبان. ليس هذا فقط لأنها دولة سنية مجاورة لحكومة شيعية، بذلت جهدها في إذلال السنة وتمزيق شملهم واحتلال عواصمهم وتدمير اقتصادهم وصناعة تبعية قاسية ودموية لطهران؛ بل أيضًا لأن ثمة إخفاقات كثيرة في العالم السني، خاصة بعد إسقاط تحالف الليكود العربي مع الصهاينة لمنع قيام أي حريات أو استقلال للشعوب العربية إثر الربيع العربي. فهذا التحالف بذل جهده لإسقاط الثورات العربية بكل ما أمكنهم، وقامت إسرائيل باستعادة السيطرة على عدد من الحكومات العربية التي أسقطتها الشعوب في الربيع، ووُصم الربيع بكل إساءة ممكنة لنشر اليأس من انتصار العرب والمسلمين واستقلالهم، فجاء هذا الانتصار ليزيل ظلام الهزيمة واليأس الذي عم.

ولهذا الفرح والتضامن جوانب أخرى منها الجانب الإنساني، فنحن شهدنا المآسي العظمى للغزو والإبادة والاستخفاف والإهانة لكل ما هو من شعائر الإسلام في أفغانستان. ثم هناك سبب آخر لا يخفى وهو الاستياء الكبير من السياسة الغربية في العالم الإسلامي، فإخوانهم في فلسطين يقتلون بالأسلحة والطائرات المتقدمة الأمريكية في مأساة يومية مشهودة على التلفازات، والأخبار تنقل صور تدمير فلسطين واغتيال شبابها يوميًّا، وهذا الإرهاب الصهيوني محمي ومقدس في أمريكا. وأخيرًا جعل سقوط المنافقين والفاسدين في كابل الفرحة شاملة، والشماتة عامة بأمثالهم في عواصم العالم الإسلامي الأخرى.

 

أسباب الانتصار

كثيرون تساءلوا: كيف تم ذلك؟ فأما الخائبون اليائسون من الأمة ومن البأس ومن المنعة فقد كتبوا كل تعليل يبعدهم عن الحقيقة ويبعد ضحايا أفكارهم عن الوعي والعقل. صحيح أن هناك مفاوضات واتفاقات ولكن ليس لأن طالبان أصبحت صديقة. والمتحدثة باسم البيت الأبيض كانت صريحة عن طالبان، فهم ليسوا أصدقاء ولا حلفاء، ولكن الهزيمة التي لا يحب أن يقبل بها المأسورون بالقوة الغاربة لا يتخيلون غروبها، وكذلك أتباع الإمبراطوريات لا يتخيلون سقوطها. أما طالبان فجيش على الأرض وقوة ضاربة استعادت أغلب الأرض، ولهذا كانوا قادرين على المفاوضات، والضعيف لا يصنع صلحًا ولا سلمًا مع الغرب، فالغرب لا يحترم الضعفاء بل يسحقهم ويبيدهم إن وجد فرصة. أما من يعاملهم بطريقتهم فسيكونون معه متفهمين وعقلاء ودبلوماسيين.

أما التشكي وتسول العدل من مؤسساتهم المنظمة للهيمنة على الضعفاء، كالأمم المتحدة، فهذا عندهم حال مهين لا يستحق شحاذو العدل عندهم عدلًا. حتى داخل أمريكا لو لم تتحول تظاهرات السود (حركة الحقوق المدنية) إلى خطر عليهم لما اعترفوا بإنسانيتهم ولا حقوقهم في المساواة، ولو كانت شكلية في بدايتها.

كان الحوار في الدوحة ووفد طالبان يجلس على المقاعد الوثيرة، ولكن على الأرض كانت القوة تضرب وتستولي على مديرية إثر أخرى، ولهذا أمكن الوصول إلى اتفاق. أما لو كانت عليهم ملابس غربية منشاة ومطيبة، وخدود لامعة تنافس المحتل في الشكل، والقلوب خاوية والأيدي لم تمس السلاح ولم تقتل يومًا أحدًا لما احترموهم. ولعلنا نذكر وصف شارون لمحمود عباس رئيس منظمة فتح الفلسطينية وسر احتقاره له، وعدم تقديره لأي اتفاق معه بقوله: "إنه لم يقتل أحدًا". وشارون طرف الغرب الغازي، وهكذا يفهمون العالم ويرونه. فقومنا يرون الغرب من خلال مباني الأمم المتحدة وهي أملهم الوحيد، والغرب يعرف العالم من خلال فوهات المدافع والبنادق ومنصات الصواريخ، ولا يرى أي قيمة لمن لا يمتلكها ولا يستعملها، ثم يرسل مفاوضين يظهر عليهم اللطف والرقة والتحضر.

 

ويمكننا إجمال ما حدث فيما يلي:

القوة الأخلاقية الموروثة لطالبان من الماضي جعلت الشعب يلتف حولها، فهم أهل البلاد ومن دينهم ومن الأغلبية السكانية، وليسوا مع الأجانب ولا عملاء للغزاة، فكان الشعب يؤمنهم ويؤويهم طوال زمن المقاومة الطويل.

انتشار الفساد في الحكومة التي نصبها المحتل. فالرئيسان كرزاي والذي تبعه أشرف غني، وكانا الأكثر فسادًا في تاريخ البلاد وقد اختارهما الاحتلال لحكم أفغانستان، أزكمت روائح فسادهما الأنوف عبر العالم[2]. وهذه عقدة لازمت الفاسدين والليبراليين المتغربين (أكسب وأذهب - دمر واكسب)، فقد بلغ ثمن جواز السفر قبيل الفتح آلاف الدولارات، يسمونه بخشيش. أما الموظف الأفغاني فقد كان يشتري منصبه من الفاسدين في الإدارات، حتى بلغ ثمن منصب رئيس الشرطة في بعض الأقاليم مئات آلاف الدولارات. والشرطة أنفسهم يستفيدون من تجارة الهيروين. كان الفساد موجودًا قبل الاحتلال الأمريكي، ولكن الاحتلال قوى هذه الظاهرة من خلال الرشاوى التي يدفعها لأمراء الحروب. حتى إن مؤسسة الشفافية[3] التي أنشئت لمحاربة الفساد كانت تسخر لمطاردة الخصوم السياسيين، وأصبحت وجهًا آخر للفساد. أما منظمات النفع العام غير الحكومية والجمعيات الخيرية ونحوها فقد كانت فرص الوظائف فيها تباع بآلاف الدولارات. هذا إضافة إلى أن سيطرة المسؤولين على تجارة الهيروين وانتشار الفساد في الجيش المحلي كان هائلًا على شتى المستويات. وكانت المعدات تباع، وقيادات الجيش والحكومة يسجلون أعدادًا وهمية من العساكر لا وجود لها ويأخذ الفاسدون مرتباتهم؛ مما ساعد على تصاعد التضخم بنسبة 17.5 سنويًّا وجعل الحياة أصعب على الناس، حيث تفقد العملة قيمتها مقابل السلع. وهذه الدولارات الفاسدة بأيدي فاسدين لا تصنع فقط حكومة فاسدة وإنما حكومة مزورة أيضًا، كما أشار تقرير عن الفساد في أفغانستان[4]. هذه الحكومة الفاسدة كان الفساد فيها متجذرًا، والروح المعنوية لعساكرها هابطة وبلا هدف، تركت موظفين ومجندين حقيقيين في الأشهر الأخيرة دون مرتبات، وهذا الفساد ساعد في انهيارها السريع[5].

عانت حكومة المنافقين من فشل سياسي واستراتيجي حاق بها. ومن ذلك أن تلك الحكومة المنصبة من قبل الأمريكان كانت فاشلة في العلاقات الدولية، وقبل ذلك فشلت في كسب الثقة بجوار أفغانستان، فلم يبنوا علاقات ودية إلا بمن نصّبهم، وصنعوا علاقات سيئة بالدول المجاورة، فلم يكن لتلك الحكومة قبول في الإقليم كما قال أحد الإعلاميين الأفغان[6].

ويرى بعض المحللين أن من أهم أسباب فشل أمريكا في أفغانستان ذلك التناقض الذي قامت عليه خطة وتنفيذ الحكومة الأمريكية في أفغانستان، وساد عملها التناقض. فقامت بالتحالف مع أمراء الحرب وأنفقت عليهم الأموال وأعطتهم السلاح وأسست لهم أو زورت لهم حكومة، وأقامت حكمًا لعصابات من المفسدين المجرمين الذين ينهبون أموال الحكومة الأمريكية، في وقت تركت مجالًا لباكستان أن تكون مأوى لطالبان[7].

كما يرى بعض المراقبين أن الحكومة الأمريكية أنشأت حكومة كابل لا لتكون حكومة لأفغانستان، ولكن لتقوم لأمريكا بما أسموه "محاربة الإرهاب"[8]. إذ لم تحقق شيئًا مما أقيمت له، ولم تر في نفسها أنها حكومة للبلاد ولا رآها الشعب حكومة لهم، بل كانت حكومة المنافقين عبئًا على المحتل وعلى الشعب. عبء يعلم أنه بلا مشروعية من الداخل، ويعتبره الاحتلال وسيلة قهر وتنفيذ لمشاريعه، فلجأ هذا الجسم المصطنع إلى نهج الفساد والأنانية بلا رادع، وكانت هذه الحكومة كما وصفها أحدهم حكومة "سراب"[9].

اشتكى الرئيس الأمريكي بايدن من أن الجيش المجهز بكل تلك التجهيزات الحديثة لا يريد أن يقاتل، وذكر هو نفسه أن الرئيس غني الذي انتهى هاربًا كان متشددًا ضد التفاوض مع طالبان. أما جيشه فكان لا يستطيع أن يقوم بعمليات ضد المقاومة الطالبانية إلا بدعم جوي وبري من جيوش الاحتلال. كما أن من الطريف أن الكولونيل جوني إرنست قالت: "كيف نستطيع أن نجعل الأفغان يقاتلون لأنفسهم؟ يبدو أن ذلك لن يحدث"[10]. وفعلًا لم يحدث. ولعل هذا القائد أخفى عن نفسه حقيقة أن هذا الجيش لم يوجد بنفسه ولا لبلده، فهو يرى أنه لا يدافع إلا عن محتل.  وكان القادة الأمريكان لا يتورعون عن مدح هذا الجيش المصطنع بكل الأوصاف الإيجابية مثل: "إنه جيش ماهر يقاتل بجرأة وشجاعة"، و"إنهم يثبتون أنهم جديرون"، و"إنهم يعرفون كيف يدافعون عن بلدهم"... إلى آخر تلك الأكاذيب التشجيعية. علمًا أنه قد بلغ عدد قوات الأمن 182,071  مجندًا في الشهر الرابع من عام 2021[11]. ويلخص فلكنز رؤيته لعمل الأمريكان في أفغانستان بأنهم كانوا: لا يسمعون ولا يفهمون البلد ولا يقومون بتغيير طريقتهم... وأنهم كانوا فاقدين للإرادة السياسية ويحمون مشروعًا خاسرًا مرذولًا[12].

التكاليف الهائلة على الغزاة. فقد قال الرئيس الأمريكي إنهم أنفقوا تريلوني دولار على الحرب، منها 88 مليار دولار للتدريب والمعدات لتجهيز الجيش الأفغاني الموكل بالدفاع عن الاحتلال[13]. ومن المهم معرفة أن هذه الأرقام المالية الهائلة أكثرها صرفت داخل أمريكا ولم تنفق في أفغانستان، فأكثر من ربع المبلغ صرف تكاليف ربوية لقروض مالية لبنوك أمريكية، كما حسبوا تكاليف العلاج والمعدات، وهذه سلمت لشركات أمريكية في أمريكا نفسها. أما القتلى فألفان وخمسمئة قتيل أمريكي، وأكثر من أربعة آلاف من المتعاقدين[14] [متعاقد اسم ملطّف لمن يعمل مرتزقًا في الجيش الأمريكي، أما حين يخدم مع غيرها فهو مرتزق]. ورغم كل التمويل والحماية الأمريكية والتسليح غير المحدود للحكومة المنصبة، فإنه في الواقع لم تكن الحكومة الأمريكية تثق بهم[15]، ولم تفاوض الحكومة الأمريكية طالبان إلا حين تأكدت أنها تصطنع ما لا يمكن اصطناعه.

أما طالبان فبقيت طوال الوقت شاهدة مشهودة لم تغب حتى عن أسواق كابل، تقبض الزكوات والعشور التجارية منذ هزمها الغزو في كابل حتى استعادته. سمعت من أحدهم يصف الحال بعد الغزو الأمريكي إن بعض المدن الأفغانية يحكمها الجيش الأمريكي نهارًا وتحكمها طالبان ليلًا، فقد كان في طرف السوق في كابل مندوب لطالبان يقبض الزكاة، مقابل مندوب حكومة الاحتلال التي تفرض الضرائب.

حالة العزة الدينية والوطنية المخلصة من قبل طالبان لبلدهم، ويقابل ذلك مشاعر الدونية والتبعية التي طبعت المنافقين الذين نصبهم المستعمر في واجهة الحكم. فهم نسخة من عبيد المحتلين المنتشرين في المستعمرات وأشباه المستعمرات، يتمتعون بمشاعر تبعية ودونية تجاه المحتل، مع عدم ثقة بالنفس، واحتقار لأنفسهم تجاه حكامهم الغزاة، في الوقت الذي يحتقرون فيه شعوبهم لأنها أبعد منهم من حيث التشبه بالغزاة المحتلين، ويحتقرون أنفسهم لكونهم ليسوا الغزاة، يرون موقعهم موقع عبيد المحتل، ومكانتهم مصطنعة زائلة يسخر منها الرائح والغادي، فتعيش هذه الطبقة حال انفصام مرضي بين أن يكون أحدهم متكبرًا متعاليًا تجاه شعبه، ومتشبعًا بالدونية والنقص تجاه المحتل، يشعر أنه فاقد للشرعية من الجهتين، فلا هو المستعمر الغازي، ولا هو المقاوم الشريف.

شظف العيش لدى طالبان وقدرتهم على استمرار المقاومة. إضافة إلى كونهم مظلومين؛ فلم تكن لهم علاقة بأحداث سبتمبر في أمريكا، وابن لادن كان مقيمًا ببلادهم وليس منها وقتل في باكستان خارج بلادهم. فضلًا عن مرونتهم الحديثة في المفاوضات، واعترافهم بأنهم قد تعلموا ودرسوا وفهموا، ففي الحرب الأولى لم يكن لهم أصدقاء. وقد لاحظ هذا كثير من الخبراء والصحفيين الذين عرفوهم قبل غزو أفغانستان ثم تحدثوا معهم في الدوحة، وكان أحدهم يشكو من غموض طالبان، فما كان يمكنه معرفة قياداتهم[16]، وهذا كان لمصلحتهم في النهاية.

 

مواقف المسلمين والعالم من الحدث العظيم

هناك أحداث فاصلة في التاريخ تصنع العالم بعدها لقرون مديدة، وجيلنا يشهد موجات تاريخية سريعة لا يكاد يستوعبها؛ فهي تجري على نمط سريع لم تعهده البشرية من قبل، فقد كان التاريخ بطيئًا كما كانت مواصلاته واتصالاته، ولكنه في زماننا يجري بسرعة. قامت إمبراطورية السوفييت ثم سقطت، وقامت إمبراطورية هتلر وموسوليني وسقطتا، وسقطت الإمبراطورية البريطانية بهدوء، والفرنسية سقطت وعادت ثم هي الآن تتهاوى لغة ومستعمرات، واليابان سقطت إمبراطوريتها وبهدوء بقي منها كألمانيا التي خشيت الغرب المنتصر من إنهاء مكانة اليابان وألمانيا تمامًا حتى لا يأخذهما الخصم السوفيتي، ولكن هذه الحياة والخنوع تحتها جمر الانتقام للهزيمة المريرة، والثروة والاستقرار والتحرر لم ولن يغني الأمم عن لذة العزة. سقط الشاه وقامت إمبراطورية دينية ولكنها بقيت رغم الشعارات عرقية تدين له بصناعة موقفها وثقافتها، والثورة التي وعدت بالدنيا والآخرة حققت لملاليها مكانة ونفوذًا، ولكنها فشلت عالميًّا وسياسيًّا وخسرت الدنيا والآخرة، فلا رفاهية ولا أمل في قرار، ولا أمن من الداخل المتمرد والخارج المعادي، وبقيت الثورة قاسية تحكم بالفقر وبالحديد والنار ولم تدخل جنة الدنيا فضلًا عن العاقبة القريبة، ويزيد النبذ داخليًّا وخارجيًّا، ولم تجرؤ على الإصلاح، ومثقفوها أصحاب الرأي والرؤية يهربون للخارج تمامًا كما كان يحدث في الاتحاد السوفيتي الذي لم يستطع نقل الرفاهية الصناعية من المصانع إلى البيوت، فبيعت المصانع وخربت البيوت.

باكستان وبقية الجوار

كتب أبو الحسن الندوي عن الحكم في الهند، وأنه كلما ضعف المسلمون هناك بعثت لهم أفغانستان حاكمًا يحيي المسلمين والعزة في أهلها[17]. وأهم من أدرك لذة هذا النصر خارج أفغانستان هي باكستان، التي كانت محاصرة بين الهند جنوبًا وحكومة المنافقين في أفغانستان من الشمال المؤيدة للهند.  وبعد فتح كابل وسقوط حكومة النفاق فيها استعادت باكستان شعورًا هائلًا بالانتصار، وقد كانت الحكومة الهندية ترى نفسها الوصية الشرقية على مصالح المستعمر المسيحي الغربي ذلك الذي منح الهندوسي السيطرة والسيادة على رقاب المسلمين في الهند، وقد كان المسلمون سادتها وأعزاءها، فجعلهم المستعمر الصليبي ضعفاءها ومقهوريها، جريًا على قانون المستعمر الغربي "قلب المجتمع ووضع سافله عاليه وعاليه سافله".

ولكن هناك تخوف في الباكستان من أن تكون أفغانستان مأوى لطالبان الباكستانية، كما كانت باكستان زمن المواجهة للمحتل مأوى لبعض طالبان الأفغانية؛ وذلك بسبب التداخل القبلي البشتوني بين البلدين، خاصة أن لدى الباكستان ما يزيد عن ستين رأسًا نوويًّا.

نعم يستنشق المسلمون في المشرق نسائم التحرر من الإرهاب الديني والاستعماري، ورغم ضعف النسمة التحريرية وضعف قدراتها لكنها إشارة وكسر في جدار العبودية، تمامًا كما فرح المشرق بمقاومة غزة التي قالت إن تكبر وتجبر المستعمر يمكن كسره، وإن غزة عنوان عزة قادمة ولو من بعيد، وتردد صدى نصر كابل في فلسطين كما لم يتردد كثير من الأصوات قبلها. فقد فرحت غزة وهنأت بالفتح، وكتب الإخوان المسلمون بيانًا غطس في السياسة فشرق بها ولم تكتب لهذا الموقف حياة ولا شفاء، حتى تجاهل البيان كلمة طالبان التي لم تذكر فيه أبدًا، مما أثار تعجب بعض الصحفيين المراقبين لهذا الموقف.

إيران وجلة وخائفة من هذا الانتصار؛ فأفغانستان أول بلد مسلم يستقل بعد إيران، ورصيده بين المسلمين يفوق رصيد إيران من كل الجوانب؛ فإيران جريحة بموقفها العدائي لسنة العراق وسوريا واليمن ولبنان، لبنان الذي تركته إيران غارقًا في الظلام والفقر والجوع، حتى إنها لا تتظاهر بالبحث عن أي حل لمشكلاتها التي صنعتها في لبنان[18]، جرح إيران ينزف في كل أرض من أراضي المسلمين، فقد تعمدت قتل واحتلال وإرهاب العرب السنة في كل أرض وتحت كل سماء، فهل هذا خنجر في الخاصرة الآن؟ هل ذهبت كل الجهود وتعليم وتثقيف الهزارة وتمكينهم سدى؟ هل سينتفض السنة والعرب والكرد والخراسانيون في الشرق والغرب والجنوب ضد المركز المتعصب المتكبر القاسي؟ هل جاء يوم انتصار الضعفاء على المتجبرين؟ هل جاء دور الدين لينتصر على العنصرية؟ لا ندري والدهر ولود. وإنما قطعًا ليس خبرًا مريحًا مهما كان الخطاب، فلن ينسى الأفغان ولا العراقيون أن إيران وقفت مع الغزو الصليبي للبلدين المسلمين السنيين الجارين بكل وضوح وصرامة وحسم، وراهنت على مكاسبها، واستفادت من احتلال العراق واقتسام النفوذ مع المنافقين في أفغانستان وإن كان هذا الانتصار فيما يبدو مؤقتًا.

أما الصين فقد احتفلت، وأقامت قبل حسم طالبان لقاء معهم، ورأت في الحدث كسرًا هائلًا للهيمنة الأمريكية، وانتصارًا تجاريًّا وسياسيًّا كبيرًا على الغرب. ولكن هذا الانتصار مشوب بالخوف من حيوية إسلامية على الحدود مع الإيغور المسلمين الأتراك في الصين.  أيضًا الروس فرحوا وخافوا، فرحوا وشمتوا بكسر أمريكا عدوهم التقليدي، فطالبان التي دقت مسمار الموت في نعش الاتحاد السوفيتي بمعونة الأمريكان هي الآن تدق مسمارًا آخر في نعش أمريكا المغادر لوسط آسيا، ولكن هذا الفرح مشوب أيضًا بخوف من يقظة إسلامية في الجمهوريات الإسلامية التي كانت تحت هيمنة الروس والسوفييت زمنًا.

لم يقف رعب فتح كابل فقط قريبًا، بل تردد في تايلند، وتساءل التايلنديون: هل ستتركنا أمريكا للصين كما تركت أفغانستان؟ وما هو مستقبل استقلالنا؟ وكذا تساءلت اليابان وبكل وضوح يقولون هذه الإمبراطورية التي تكفت خيامها متى تنتهي من هنا؟ وهل ستسلمنا؟ لقد تعب الحامي الكبير وتردى، وسوف يفتقر ويتراجع ربما على مهل، ولكن عصر السرعة مرعب التحولات ولا يمكن القبض على الزمن بسرعة كما نتخيل، وعادت مقولة ماو: "ضيعنا زمنًا طويلًا وعلينا أن نمسك بالزمن". فمن سيمسك بتلابيب الزمن؟ لا ندري ولكن يبدو أنه يفلت من أيدي قوم ويمسك به آخرون.

 

تركيا

تركيا لم يسؤها ما حدث ولم تأمر به. تحب هذا الانتصار وتخشى منه. فالغرب والشرق الذي لم يقبل بروح إسلامية متسترة في النظام العلماني، وحاول الصهاينة وأتباعهم من العرب والغرب الانقلاب عليهم بعد اليأس من تغيير المسار، فكيف سيقبل هذا العالم بحكومة إسلامية متشددة في أفغانستان؟ اهتم الأتراك وفرحوا، ففي هذا كسر لطوق إيران وأمريكا وإسرائيل عليهم وعلى المنطقة. وعندهم أن وجود حليف خلف إيران وعلى حدودها الشرقية ومع الباكستان مكسب استراتيجي كبير. وتتساءل تركيا ماذا عن مستقبل العرق التركي القريب من الأمم التركية في وسط آسيا؟ تركيا العلمانقومية إسلامية لن تتخلى غالبًا عن العلمانية ولن تهمل القومية، ولعلها في بعض التفاصيل لم تحسم مستقبلها وما زال داخلها يهددها، لكنها في العموم كانت أسعد من حكومات النفاق العربي.

ولتصرف تركيا في المنطقة حدود، وهي حدود دورها في الناتو الذي يفيدها ويقيدها، وربما يطمح في تغيير نظامها إلى مزيد من الذوبان في بعض أفكاره، وهو يواجه في داخله تناقضات وخلافات كثيرة. لكنه منظومة تبدو مفيدة للبلاد ولو في وقتنا هذا حتى تشب عن الطوق عسكريًّا واقتصاديًّا وتفرض شروطها، أو تتراجع إلى بيت الطاعة. وكان قبول طالبان بأن تدير تركيا، التي كانت من قوة الناتو، مطار كابل مكسبًا للطرفين الأتراك والأفغان. وربما عدت تركيا ذلك موطئ قدم تحب أن توسعه في آسيا الوسطى وتزيد من التواصل مع الأمم التركية في المنطقة، وكذلك مع الصين، ولتقوية مراحل من مشروع طريق الحرير مع الصين. وقد تردد أن قطر أقنعت الأفغان بقبول دور لتركيا في المطار، وكان الأفغان يكرهون ذلك لأن تركيا كانت لها قوات في أفغانستان من قوات التحالف الذي تمت هزيمته، لكن تراجع طالبان عن قرارهم السابق بمنع الأتراك سيفيدهم في مجالات عديدة اقتصادية وسياسية.

 

مستقبليات

من الشروط أو المطالب التي طالب بها الغرب طالبان قبل خروجه ثلاثة مطالب، أولها: مواجهة الإرهاب وألا تكون أفغانستان مأوى لأي إرهاب يضر بأمريكا ولا بحلفائها، ومعنى هذا قبول بطالبان وإخراجهم من التهمة، وقد كان الإرهاب مبرر الحرب والإقصاء عام 2001. والثاني: حقوق الإنسان، وغالبًا ما يكون هذا الشرط مطالبة بما يحب الغرب أن يكون عليه حال الناس الخاضعين له، فهو يتنكر للحقوق حين تعترض مصالحه، ويضغط بها على خصومه حسب تفسيره. أما الشرط الثالث: أن تكون حكومة كابل حكومة لكل مكونات الشعب، وطلبوا بعد السقوط المفاجئ حرية الهجرة لمن يريدها، ويعني بها الآن أن يخرج بعملائه والمتعاونين معه من أفغانستان. ولكن هل تقف الطائرات مرة أخرى وتسمح بالهجرة لمن يحتاج أن يهاجر لأسباب كالفقر والمرض مستقبلًا؟ علمًا أنهم حملوا الطائرات بالكلاب البوليسية قبل تحميل العملاء والمتعاونين، بل وربما قبل خروج "القطط السمان" كما هو المعتاد في مثل هذا الحال[19].

 

الاقتصاد

هذا الجانب من أخطر التحديات التي تنتظر حكومة طالبان. وقد أعلنت أمريكا عن تجميد حسابات أفغانستان في الغرب والتي تبلغ قرابة تسعة ونصف مليار دولار[20]، منها سبعة مليارات في أمريكا. وهناك تقديرات متفاوتة في المصادر التي اطلعت عليها. ذكر أحد النواب في جلسة الاستماع لوزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن أن المبلغ المحجوز في أمريكا لأفغانستان يبلغ عشرة مليار دولار. وفي نفس الجلسة قال بلينكن إن هذا المبلغ سوف يستعمل وسيلة ضغط على طالبان وتصرفاتها في المستقبل.

إن الحكومة السابقة كانت تعتمد على مساعدات غربية، وأكثر من نصف ميزانية الحكومة السابقة، وقد بلغت ثمانية مليارات ونصف دولار سنويًّا، ما يساوي 40% من ميزانية الحكومة، منها ثمانمئة مليون للمساعدات الإنسانية التي غالبًا ستستمر[21]، علمًا أن الحكومة قد تستطيع توفير ثلاثة مليارات سنويًّا، وتحتاج لتوفير أكثر من النصف مستقبلًا. ومن يتوقع الغرب أن يكونوا من الحلفاء الجدد مثل إيران وروسيا والصين لن يقدموا لهم مساعدات كالتي كانت تتسلمها حكومة الاحتلال في كابل. كما أن أمريكا سوف تمنع القروض من البنك الدولي؛ مما يدفع حكومة طالبان إلى الإفلاس. وينصح أحدهم بأن أي تخفيف مالي يجب على طالبان أن تقابله بتنازلات منهم في مجالات يذكر منها موضوع النساء وتعليمهن. ولا ينسى هؤلاء الناصحون أن يحذروا من أفغانستان وأنها قد تكون مهدًا للإرهاب مجددًا[22]. وللأسف لا يهتم الغزاة بعد خروجهم بأنهم قد تركوا نحو نصف السكان في أشد الحاجة إلى مساعدات. علمًا أن التقديرات تشير إلى ثروات هائلة من المعادن والجواهر التي تحويها أفغانستان، التي تصنف أنها من أعلى الدول التي تملك معدن الليثيوم الضروري لعدد من التقنيات الحديثة.

من المهم ألا نتوقع أن العالم الغربي سوف يتلقى طالبان بالقبول والتسامح، ولا بالحديث عن تعويضات عن الحرب والإبادة والتدمير رغم حق طالبان في ذلك؛ ذلك أن كونها حركة دينية وسنية. وفي خضم التشويه لكل ما هو إسلامي فليس متوقعًا أن يتقبلها الغربيون بأي تسامح ولا مودة ولا علاقة جيدة؛ لأن نزعة الهيمنة المستمرة لقرون على العالم يصعب جدًّا التفريط فيها، زد على ذلك الأحقاد الدينية التي تجري بكل حيوية وقوة تحت سطح علمانية هشة إذا كان المقابل مختلفًا.

 أولًا: دون مواربة يجب الحذر من التوجيهات والآراء المسبقة التي يروج لها المنافقون في العالم العربي، فهي آراء منقولة ومسبقة التصميم ومعادية، وتتحايل بالمعرفة للواقع الإسلامي لتنفيذ كل خطوة تسيء إليه بحكم العداء المستحكم للمنافقين عبر العصور على الدين الإسلامي وكل من يؤمن به أو يكون قريبًا منه.

ثانيًا: من صيغ المنافقين في التعامل مع فتح طالبان أنهم يربطون الجهاد السني بالثورة الشيعية، ويتمحلون كل وسيلة للهجوم على الإسلام عبر شخصيات وحركات وممارسات خاطئة لوسم الإسلام بكل رداءة في رؤوس هؤلاء المعلقين، وهو غل في صدورهم مكنون عبر السنين، بينما قصة طالبان محلية ورد على الفساد والمفسدين والفوضى من قبل، ومن بعد كانت الرد على المحتلين.

ثالثًا: التقارير المتداولة عن أفغانستان ومستقبلها كثيرة. وقد أشار التقرير الذي أصدره مركز الجزيرة إلى خطوات إيجابية، منها إعلان طالبان عن عفو عام عن الذين قاتلوها، وكان ذلك قرارًا سليمًا، وربما يكون من عناصر الاتفاق الذي تم في الدوحة، وقد أعلنوه في يوم 17 أغسطس 2021 على لسان الناطق باسمهم ذبيح الله مجاهد. كما طمأنوا الشيعة والتزموا بضمان حماية شعائرهم. وشارك بعض قادتهم في برامج تلفازية تديرها النساء، والتزموا بحماية حقوق النساء في التعليم والعمل والمشاركة السياسية. وينتهي التقرير إلى أن "الأرجح أن قيادة طالبان تحمل نوايا إيجابية نحو التغيير والاعتدال والمواءمة"[23]. وهذا يعني أن هناك وجهًا جديدًا لطالبان يختلف عن السابق.

 

الشريعة

تطبيق الشريعة شعار جذاب للمسلمين حتى حين لا يريدون تطبيقه عليهم. وهو وصمة يصم بها المنافقون والصليبيون المسلمين دائمًا، حتى وإن وجدوا فيه عدلًا ورحمة بهم أكثر من بلاد النصرانية. لكن من المهم أن تفهم طالبان وغيرها من المسلمين أن الحدود الشرعية هي للردع وليست للتطبيق. وصحت السنة بأن الرسول صلى الله عليه وسلم تجنب إقامة الحد بعد ثبوت أهم أدلته وهو الاعتراف. وبهذا فإن دفع تطبيق الحد هو السنة، وجرى عليها الفقهاء وقضاة الإسلام عبر العصور، حتى قالوا إن على القاضي أن يلقن من استحق إيقاع الحد عليه أن يخلصه منه.

وأذكر أن قاضيًا شرعيًّا مرموقًا اعترف له أحدهم بالزنى، وكانت المرأة موجودة وطفلها بين يديها، فلما استوفى شروط الحد رفع القاضي الجلسة لصلاة الظهر، وطلب من أحد الموجودين أن يلقن الهندي المقيم الذي زنى بأن ينكر حدوث الواقعة حتى لا يقع عليه الحد. وقد سألت الشيخ صالح الحصين عن مسألة الحدود فقال إنها للردع لا للتطبيق كما دلت السنة، ودلت على هذا ممارسات المسلمين، فهي نادرة التطبيق في المجتمع الإسلامي عبر تطبيقات المسلمين وتوثيقهم وتاريخهم. وقد لاحظت أن هذا الأمر فيه مبالغة في التطبيق في زماننا من قبل الجماعات الإسلامية؛ وذلك يعود إلى أسباب منها أن الغرب فرض قوانينه المؤيدة لكل ما يعارض الإسلام، فكان رد المسلمين لا يخلو من مكايدة وإن أضرت بهم، وذلك بالتعلق بالحدود وجعلها هي كل شيء وكأنها هي الشريعة، وقاموا بتنفيذ ما قرأوا دون أخذ مقاصد الشريعة في الاعتبار، بينما كان هدي الرسول صلى الله عليه وسلم تجنيب الإسلام أي دعاية ضارة، في ما سماه العلماء "حماية جناب الإسلام"، حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقم أي حد على المنافقين الذين أرادوا اغتياله وبين أن السبب: "كي لا يقال إن محمدًا يقتل أصحابه". فطالبان أشد حاجة في هذا الزمان وبعد تمكنهم أن يحموا جناب الإسلام في وجه دعوات التشويه والتشويش التي يتمناها خصومهم.

كما أن القبول بالمخالف والمقصر في دينه أو في السنن أو المظهر المطلوب من رجال الحركة سوف يعطيها مرونة وتناسبًا مع المجتمع والعالم، ويكسبها قدرات فائقة من الشعب ممن يحبون بلادهم ويريدون نجاحها، لكنهم ليسوا تمامًا منسجمين مع بعض مواقف الحكومة وقراراتها، فالتنوع قوة.

 

الإعلام

الإعلام سحر العالم الحاضر وسلاحه الماضي. فمن المهم إعطاء هذا الجانب اهتمامًا كبيرًا بعد الاقتصاد والتعليم، إذ يمكنه جمع الشعب أولًا، ثم بيان الحال للعالم، ويعطي قوة مطلوبة في المنطقة، فالجهد السياسي بلا إعلام يبقى ضعيفًا. وقد أصبح الإعلام يصنع قوة ومهابة وتأثيرًا وودًّا وتحذيرًا. وبعد التشويه السابق المستمر لعله قد يساعد في رفع الأذى.

إلى جانب ذلك هناك ضرورة الانفتاح والزيارات للإعلاميين والمثقفين والمؤثرين؛ فهؤلاء يكسرون الصورة النمطية المسيئة للبلاد وأهلها وحكومتها، ويمثلون دعاية ومستقبل ثروة، وربما الجاذبية الآن نضالية عسى ألا تضر، ويخفف من سلبية ذلك حسن التصرف.

كما أن اللغتين الفارسية والبشتونية ستقوي نفوذ طالبان في المنطقة. لكن لو استطاعت أفغانستان التركيز على اللغة الفارسية أو لغة واحدة لربما ساهم ذلك في تقوية وحدة الجسم السياسي والثقافي للبلاد وتخفيف أثر التمزق العرقي والثقافي، فتصنع من لغة واحدة وحدة شعبية وثقافية، وتأثيرًا عامًّا مؤيدًا وحاميًا بين الناطقين والقراء بالفارسية في الإقليم. علمًا أن العربية كما علمت تُعد لغة منتشرة بين المتعلمين، وهذا جانب يقوي الميول الإسلامية والتواصل مع العرب في العالم، أو قد تكون اللغة العالمة الجامعة في البلاد.

 

العلاقات الدولية

لن يبقى الغرب مركز قوة العالم وسياساته، خاصة أمريكا التي ترتعش قوتها يومًا بعد آخر. والعالم فيما يبدو مقبل على تعدد الأقطاب، ومنها الصين وروسيا والهند وأوروبا، وهي مراكز نفوذ وتوازن جديدة، تحبو للقوة ولأخذ نصيب من نفوذ أمريكا. لكن ما يزال إلى اليوم القرار في واشنطن، ومن المهم تقدير عنف الكبير في السن والتجربة حين يشعر باضطراب حالته وانفلات الصغار منه، فقد يمارس حمقًا جديدًا، والحذر واجب من كبوة تسبب انتقامه، والواجب المداراة.

واليوم يخافون من طالبان بسبب التشويه والغرابة لقيام دولة إسلامية سنية. ومن ثمّ فإن من الضروري توسيع دائرة العلاقات والصداقات وبذل كل الممكن لأن تكون طالبان قريبة التواصل مع الجميع من أحب ومن كره. فالتواصل يقلل من نزعة العداء، ولا معنى لأن تقبل طالبان أن تحدد مسبقًا موقفًا مبنيًّا على التاريخ الماضي. حتى مع الأحداث الأخيرة ينبغي فتح صفحة المودة مع الجميع، بسبب ما عرف بالنظام الغربي الدولي الذي يمكنه عزل الدولة وحصارها وإغلاقها وتدمير اقتصادها وحشد خصومها ضدها. فلتبدأ أفغانستان الجديدة بالتركيز على علاقات جيدة مع الحكومات في الإقليم، خاصة الأقرب إلى الغرب كالهند، وحتى الحكومات العربية التي تمثل منصات إطلاق للمواقف الغربية.

كما أن من المهم الوعي أن الغرب ليس واحدًا في مواقفه ودوافعه، بل هناك خلافات وراء ستار الإجماع، بل داخل الحكومة الأمريكية الواحدة هناك خلافات دائمًا واضحة في التفاصيل، ومن المهم الاستفادة منها. والخطأ الكبير أن تتوهم أن الجانب الآخر موحد دائمًا، والثقة التامة بجهة أو حزب لا تقل ضررًا عن توهم العداء في العلاقات.

 

العلاقات مع الباكستان والهند

حرصت الباكستان على ربط انتصار طالبان بما حققته هي من انتصار ومكاسب. ومن ثمّ فستكون العلاقة مع الباكستان متميزة، لكن لا يعني هذا حمل حمولات الباكستان السياسية ولا تحمل مواقفها مع الهند وغيرها. ونعيد القول عن الهند، فإن الحكومات الغربية ترى في الهند وريثًا للإمبراطورية البريطانية وسدًّا في وجه الإسلام وجبهة مواجهة للصين، فمن غير المناسب وجود عداء مستقبلي مع الهند، رغم شعور الهند أن خسارة حكومة النفاق خسارة كبيرة له. وقد حرصت الهند على إرسال مندوب منها في اليوم الأول لفتح كابل والتقي الوفد الأفغاني في الدوحة. إن تجنب المشكلات مع الهند سيخفف عنها الضغط في الإقليم ويخفف ضغط أصدقاء الهند. وكلما شبت نار فتنة في الإقليم فسيكون على أفغانستان ولمصلحتها أن تطفئها قدر الإمكان، حتى لا تحسب سياسة أفغانستان لا على الصين ولا على الباكستان، بل مستقلة وتراعي التوازنات في المنطقة، وتبتعد عن كل التوترات. صحيح أن هناك حلفًا إسلاميًّا عربيًّا كبيرًا يكاد يظهر للعالم عمقه في الباكستان وتركيا وماليزيا وقطر وربما بعض حكومات المغرب العربي، لكن هذا التحالف يجب أن ينتج ويعمل ولا يثير الغبار حوله.

 

إيران

لإيران ولاء مذهبي في أفغانستان إلى جانب جيوب مهمة وكبيرة ومؤثرة في البلاد. وقد استفادت من غياب السنة عن المشهد السياسي وعن المشهد الإداري في البلاد، واستطاعت الدبلوماسية الإيرانية إنجاز مكاسب تعليمية وإدارية شيعية كثيرة، ويمكنها استخدام هؤلاء في أي لحظة لإيجاد خلل أمني أو سياسي في البلاد. ومن ثمّ فإن خطوة التطمين التي أعلنتها طالبان كانت تصرفًا ذكيًّا كما هو ضروري لسل مشاعر الخوف أو العداء. ومن المهم أن يكون للشيعة وجود في سياسة واقتصاد بلادهم يناسب عددهم وجغرافيتهم، وهذا الوجود سوف يشعرهم بمكانتهم في بلادهم، فيصبح بلا حاجة للاستنصار ببلد آخر ضد بلدهم، بل سيشعرون بقيمة المواطنة أكثر مما كان في ظل حكومات النفاق السابقة.

كما أن هذا الحدث الكبير قد يصرف إيران وسياستها التي سبحت غربًا، فيعيدها وتشدها التطورات إلى مركزها أو ربما إلى الشرق والشمال منها، وقد يعيدها إلى تواصل أقوى مع الهند والروس لمواجهة السنة وطموحاتهم التي قد تعلو في الباكستان وأفغانستان ووسط آسيا. وقد لا تظهر إيران تحيزاتها التي ستضطر إليها لكنها ستتجه إليها راغمة.

 

روسيا

لا شك في أنها من أهم الحكومات التي راقبت الأحداث، ولكن حالتها أكثر تعقيدًا من إعلان الشماتة بالأمريكان فقط. وقد كانت علاقاتها بطالبان غاية التعقيد؛ فالتوجهات الإسلامية قبل تكوين طالبان كان لها الدور الأساسي في إسقاط الاتحاد السوفيتي، والعلاقات التاريخية لروسيا في أفغانستان معقدة. لكن سبق أن كانت علاقات وتهم أمريكية (لا يستعبد صحتها) بأن طالبان تلقت دعمًا عسكريًّا أثناء حربها مع أمريكا. وقيل وقتها إن من أسباب التواصل والحوار الأمريكي مع طالبان تطور علاقتهم بروسيا، وخشية من زيادة نفوذ روسيا في آسيا الوسطى. وهنا لا تقل العلاقة بروسيا صعوبة من العلاقة بالصين وإيران؛ فروسيا تريد علاقة جيدة لا يكون لها تأثير في المجتمعات الإسلامية الخاضعة للروس في المنطقة.

هذا التناقض الروسي الأمريكي سيكون له أحسن الأثر لمصلحة أفغانستان إن أمكن إدارته بحذق بين القوتين العظميين.

 

الصين

صعود الصين مستمر ويخيف الغرب، حتى إن بعضهم تخيل أن استقلال أفغانستان والقبول بطالبان من أجل فرض حزام موال للغرب ومعاد للصين يتكون من الهند وباكستان وأفغانستان. ولا يبدو أن هذا هو السبب، فما يظهر من تدمير وإساءة للأفغان لا تفسر بصناعة صديق، بل بانتقام المهزوم أكثر، ولا يمنع هذا من البحث عن استراتيجيات بديلة لما حدث. وعلى أي حال من المهم أن تكون العلاقة بالصين، أيًّا كان نوعها، مفيدة لأفغانستان، وعندها سوف يتقرب الغرب لأفغانستان. وقد يشترط الغرب البعد عن الصين قدر الإمكان، وطالبان حجتها واضحة أن هذه دولة حدودية لا يملكون البعد الكبير عنها، وهناك مصالح كثيرة مشتركة خاصة في الجوانب التنموية التي سوف يعرض الصينيون التعاون فيها، مثل الطريق إلى ميناء جوادر في الباكستان والذي عده بعضهم ميناء صينيًّا في الباكستان على بحر العرب وله آثاره في تكامل المنطقة مع الصين، وهذا يعطي مجالًا للمفاوضات مع الغرب يفيد في تنازلات وتخفيف للحصار المزمع فرضه على أفغانستان بحجج مختلفة. وهنا ستدخل أفغانستان معادلة صعبة بين دينها المشترك مع الإيغور المضطهدين وبين جوارها القوي التي تحتاجه كثيرًا.

 

وادي بانشير

في مساء يوم 5 سبتمبر أعلنت طالبان السيطرة التامة على المنطقة والهيمنة الكاملة لها على الولاية. واستراتيجيًّا كان من الضروري الإسراع بإنهاء التمرد؛ ذلك أن عددًا من بقايا الحكم الفاسد هربوا إلى وادي بانشير[24] ممن لم تحملهم الطائرات الأمريكية معها، وابن أحمد شاه مسعود كان يراهن على الفرنسيين وأعداء أفغانستان أن يهبوا لمناصرة الانشقاق. لكن كان هذا وهمًا كبيرًا منه؛ فلا سادته يجرؤون على العودة إلى أفغانستان، ولا يستطيع مهزومون أن يعترضوا وجه جيش لثورة منتصرة عاصفة. فمن الصعب دائمًا مواجهة الثوار في لحظات انتصارهم، وكان من نباهة طالبان سرعة إنهاء التمرد حتى لا يذهب النصر هباء وتصنع بؤرة خلل وتمزيق ونزيف دائمة.

خاتمة

لو وسعني أن أقول ما في النفس تجاه هذه الأحداث لقلت تبًّا للعنف ولأهله ولمن نشره في عالمنا، وجعله مقياسًا ضروريًّا للعظمة والمجد والهيمنة؛ مما جعل المغزوين يرون في إسالة دماء الغزاة ثمنًا وحيدًا للاستقلال ولحياة الأمم. كم يؤلم العاقل أن يحتفي بنصر مضمخ بأنهار الدماء في قرى أفغانستان وجبالها، البلاد الهادئة التي ما أن يخرج منها غاز حتى يعود آخر يحاول اغتصابها، ويزهق الأرواح وينشر الخوف والذعر والفقر، حتى إذا وصله جواب فعله ولى هاربًا. وما أن تحاول أن تستقر أفغانستان حتى يلحق طموح آخر غبي يتخيل أنه الذي لا يقهر ويستعد لقهر صقور الهندكوش، فيعرف الحقيقة المرة ويعترف بأن تلك الجبال مقابر للغزاة، ويصنف نفسه آخرهم. إنه الغباء البشري الملازم للأقوياء الذي لا يتعلمون من أخطائهم ويكررونها بكل عمى وسذاجة.

أذكر أنني شاهدت لقاء لبريجينسكي، وهو أحد فطناء السياسة، حذر فيه الرئيس الجمهوري بوش الابن من حرب طويلة في أفغانستان، ونصحه بأن يضرب ويهرب. لكنه بحر الغباء يغرق فيه المغرورون بقوتهم دائمًا، الضعفاء الذين يتخذون القرارات الخاطئة ثم لا يستطيعون لضعفهم الشديد الخلاص من أخطائهم ولا التراجع عنها، أولئك الذين وصفوا الرئيس الأمريكي بايدن بالضعف فاضطر إلى أن يدلل على أن القرار سبقه ممن يرونه قويًّا (ترمب)، ثم يشرح ويسوق الأرقام التي تدل على أنهم غارقون في هزيمة وخسارة دائمة. في الحقيقة كان الانسحاب شجاعة وخلاصًا من مأساة لا نهاية لها. ولا فرق هنا بين أن يكون قويًّا أو ضعيفًا، ولكن موقفه هذا كان قديمًا وصريحًا منذ أيام أوباما حين طالب بالخروج.

أما الذين ربطوا الخروج من أفغانستان بأنه دلالة على تراجع القوة الأمريكية، وربما سقوط هيمنتها على العالم، فذلك قول يجب أن يقارن بمصائب البقاء والخسارة المتعددة الجوانب والتي توهم بأنها دليل قوة، وذلك أسوأ أنواع خداع النفس وأهم عوامل القضاء على الذات، بل التراجع وإدارة التراجع أو إدارة الأفول هو أحسن القرارات لحماية إمبراطورية من السقوط المفاجئ الذي يتبع التظاهر بالقوة في الخارج والضعف والتراجع والتمزق في الداخل. فللإمبراطوريات السياسية وليست الحضارية أعمار أشبه بأعمار الأفراد، ولمن لا يؤمن بهذا أن يبقي إيمانه بالقوة الأمريكية كما يشاء، وعليه أن ينظر إلى الجوانب الجزئية ويقارنها بكليات المسيرة التاريخية التي لا ترحم طغاة ولا ترحم بغاة، ولو تلبسهم البهرج والغرور زمنًا وعاشوا في أجواء الثقة العظيمة. فهؤلاء الفقراء العزل أسقطوا إمبراطورية روسيا بكل سلاحها النووي، وأخرجوا أمريكا بكل طائراتها ودباباتها التي لا يملكون ما يشبهها.

علينا أن نخفف على أنفسنا من وقع الشعارات والمصطلحات والضجة الإعلامية؛ فالحقيقة أقوى من كل قول. يجب أن نحاكم الدعايات إلى الواقع، ونرجع إلى الواقع العملي ونحاكم إليه كل الشعارات البراقة. فكم كان الغزاة يسخرون بعقول الناس حين يعرضون عليهم صورًا منتقاة يجعلونها كل شيء، بينما الإنسان يباد ويدمر وتُنهى حياة الآلاف، بينما الضجة كلها عن حجاب امرأة وكشف وجه وإنهاء برقع. شغلونا بالحديث عن تقصير المقاومة الأفغانية في حقوق الإنسان، ولا تسمح آذاننا وعيوننا المأسورة بصور منتقاة لعقولنا بأن تفهم أو تتحقق في واقع ذبح عشرات الآلاف من ضحايا الأفغان من الرجال والنساء والأطفال، كما كان يتم كل يوم.

بقي أخيرًا أن نعاتب أنفسنا كلما بقينا لا نجد مصدرًا للمعلومة إلا ما يسربه الغزاة. وكتابي هذا أنموذج لهذه المأساة، فلا نوفر لأنفسنا بدائل معرفية حقيقة تحرر الآذان والأبصار، فضلًا عن العقول، من هيمنة الغزاة.

 

[*]بتصرف من كتاب للدكتور محمد الأحمري، فتح كابل (اسطنبول: مكتبة وسم، 2021).


[1]The last American soldiers departed from Kabul airport, and our country has achieved full independance, thanks to God", Zabihullah Mujahid, the Taliban spokesman, said onTwitter.

[2]  قال أشرف إنه خرج من أفغانستان بملابسه وصندل يلبسه، بينما علقت الإيكونومست في 28 أغسطس 2021، في مقال بعنوان "الإمارات وأفغانستان، دار تقاعد للمنفيين: لماذا انتهى المسؤولون الأفغان و(أموالهم) في الخليج؟"، ساخرة بأنه عبر السنين أرسل غني مئات الملايين من الدولارات إلى الإمارات وعبر مقربين منه.

[3]  نفس الكلمة العربية تستخدم بلغة البشتون.

[4]  الفساد الأفغاني، إيكونومست، 28 أغسطس 2021.

[5]  بعض قصص الفساد اعترف بها قياديون ومدربون في الجيش الأفغاني خاصة عن أعداد مسجلة لمجندين في الجيش والأمن لم يوجدوا أبدًا:

 https://www.politico.com/news/2021/08/13/afghan-army-pentagon-504469

[6]  روح الله عمر، برنامج للقصة بقية، الجزيرة مساء، يوم 6\9\ 2021.

[7]  مقابلة ديفيد رمنك مع ديكستر فلكنز ، موقع النيويوركر:  https://bit.ly/3tQb86e 

[9]  ديفيد رمنك مقابلة مع ديكستر فلكنز، السابق.

[11] المصدر نفسه.

[12] مقابلة فلكنز، مصدر سابق.

[14]Ellen Knickmeyer “Costs of the Afghanistan War in Lives and Dollars”, AP News, August17, 2021. https://apnews.com/article/middle-east-business-afghanistan-43d8f53b35e80ec18c130cd683e1a38f

[15] روح الله عمر، المصدر السابق.

[16] من مقابلة ديفيد رمنك مع ديكستر فلكنز الصحفي الذي عرف شخصيات من طالبان ولقيهم عدة مرات، ويتابع الأحداث منذ أكثر من عشرين عاما. نيويوركر، مصدر سابق.

[17] أبو الحسن الندوي، من نهر كابل إلى نهر اليرموك: جولة في غرب آسيا، بيروت: دار الإيمان، 1976، ص 7 وما بعد.

[18] محور المقاومة، إيكونومست، 28 أغسطس، 2021: https://econ.st/3lCfJFo، واستغلال الفقر في سوريا ولبنان ببطاقة تخفيض أعطيت لبعض المتضررين باسم بطاقة الإمام السجّاد، وفي سوريا يقول البرنامج العالمي للغذاء إن اثني عشر مليون سوري لا يجدون الطعام الكافي.

[19] في كتاب فوكو عن الثورة الإيرانية وهو مجموعة مقالات نشرها بعد ثورة إيران عام 1979 ذكر وصفًا لهجرة "القطط السمان" إلى الغرب، وهم الطبقة الفاسدة المحيطة بالشاه ونظامه قبل أن يهيمن الثوار على البلاد، وهو وصف للطبقة الفاسدة المقربة من مراكز النفوذ عادة.

[20] موقع الجزيرة الإنجليزية: https://bit.ly/3E8Ty1Y

[21] وعدت الأغلبية الديمقراطية في الكونجرس الأمريكي يوم 4/9/2021 بأن المساعدات الإنسانية سوف تستمر، فهل ستكون هذه المساعدات غير موجهة ومحددة المصارف أم ستكون وسيلة ضغط وصناعة طابور من الأولياء؟

[22] Afghanistan, Do not move on, move forwards. The Economist, September 4, 2021.

[23] "تحول استراتيجي: عودة طالبان لحكم أفغانستان وتداعياتها"، مركز الجزيرة للدراسات، 23 أغسطس، 2021.

[24] مقابلة روح الله عمر على قناة الجزيرة، مصدر سابق.

شارك :

التعليقات (1)

أضف تعليق