الخيانة الثقافية والرّقابة بين عالمَين - الآيات الشيطانية

طباعة 2017-04-02
الخيانة الثقافية والرّقابة بين عالمَين - الآيات الشيطانية

  

علي مزروعي[1]

شهدت بريطانيا في خريف 1988م جدلًا كبيرًا أثارتْه رواية الآيات الشيطانية لمؤلّفها سلمان رشدي، وبلغ الأمر أنْ تدفّق المسلمون في شوارع مدينة برادفورد احتجاجًا على الرواية التي اعتبروها ضربًا من التجديف على الله والتعدّي على المقدّسات الإسلامية. كما عبّر المحتجّون عن استنكارهم بإحراق نُسخٍ من الرواية.

في تشرين الثاني/ نوفمبر من العام نفسه زرتُ لاهور وإسلام أباد في باكستان، وكانت النقاشات قد بدأتْ فيها عن سلمان رشدي وروايته. ومن بين الآراء التي سمعتها هناك لفتَ انتباهي تعليق بعينه يقول: "إنّ الأمر أشبه بأن يكون سلمان رشدي نظم قصيدة عصماء في أعضاء والدَيه الجنسية، ثم ألقى تلك القصيدة على مسامع الناس فأخذوا يهتفون ويضحكون، ثم أجزلوا له العطاء نظير ما تندّر به على أعضاء والدَيه". كانت التهمة التي سمعتُها عن سلمان رشدي في باكستان إذًا تدور حول مفهومٍ مختلف للخيانة له دلالاته الخاصة، مفهوم الخيانة البورنوغرافية للأسلاف.

وفي شباط/ فبراير 1989م أصدر آية الله روح الله الخميني فتوى تحلّ دم سلمان رشدي، كما أعلن قياديّون آخرون في طهران عن مكافأة لمن يأتي برأسه. لم تلبث تلك المكافأة أنْ وصلت إلى أكثر من خمسة ملايين دولار، وسرعان ما تدهورت العلاقات الدبلوماسية بين إيران وبريطانيا التي كان سلمان رشدي يحمل جنسيّتها. وقفت "الجماعة الأوروبية" مع بريطانيا في هذه القضية، وأعرب الرئيس الأميركي آنذاك عن قلقه. كان ذلك الجدل الدائر حول الموضوع، لبعض الوقت على الأقل، أشبه بحوار الصُمّ بين الغرب والعالم الإسلامي؛ فالغرب كان مندهشًا من ردّ الفعل الغاضب بين المسلمين، وكان المسلمون مذهولين من انعدام الحسّ لدى الغرب. أتُراها كانت مشكلة من مشكلات التضارب بين الثقافات؟

        كنتُ أحمل شخصيًّا مشاعر متداخلة فيما يتعلّق بهذا الجدل الدائر؛ إذْ كنت ممزّقًا بين هُويّتي الإسلامية وإيماني بالمجتمع المفتوح، بين كوني أنا نفسي كاتبًا وكوني مسلمًا متعبّدًا، بين كوني مؤمنًا بالشريعة الإسلامية وكوني معارضًا لجميع أشكال العقوبة بالإعدام في العصر الحديث. على أية حال ليس هذا هو المقام المناسب لحلّ هذه الإشكالات، وإنْ كنت مخطئًا في معارضتي لعقوبة الإعدام في القرن العشرين فإني أطلب المغفرة من المولى القدير، والتسامح من الأمة الإسلامية.

        كما أنّ لي تحفّظات كبيرة على مسألة الرقابة، وتعودُ هذه التحفظات في جزءٍ منها إلى أنّني شخصيًّا عانيت من ممارسات المنع والرقابة على مدى سنوات طويلة، فقد مورستْ ضدّي في جمهورية جنوب إفريقيا، وفي أجزاء من العالم الإسلامي، بل وفي بلدي كينيا أيضًا، وفي أوغندا في عهد عيدي أمين، وفي بريطانيا والولايات المتحدة. لذلك كان عليّ أن أحاجّ بكل ما أوتيت من قوة حول ما إذا كان منع الآيات الشيطانية أمرًا مشروعًا أكثر من الرقابة التي مورست عليّ في عدة بقاع من العالم من وقت لآخر.

        رغم أنّ هذا الفصل في جزءٍ منه ردٌّ على هذه الهواجس والتساؤلات، فإنّ الأمر الأكثر إلحاحًا هو الحاجة إلى ترجمة القيم بين الحضارات، إلى جعل بعض مشاعر المسلمين مفهومةً أكثر للغرب حتى وإن كانت مختلفة في جوهرها عن المعايير السائدة في الفكر الغربي.

الخيانة سياسيًّا وثقافيًّا

يُعدّ مفهوم الخيانة أمرًا جوهريًّا في هذه الأزمة المتعلقة بانعدام الفهم؛ ففي الغرب يفهمون خيانة الدولة، وبالتأكيد يفهمون أنْ يُحكَم بالإعدام على خائن الدولة، لكنّهم لا يفهمون فكرة أن يخون شخص ما "الأمّة" كما يقول المسلمون، أي أن يخون الدين.

        ولئنْ كان الإسلام لا يفرّق دائمًا بين الدين والدولة، فإنّ القانون الإنجليزي لا يفرّق دائمًا بين الدولة والأسرة الملكية. فالخيانة في إنجلترا تشمل انتهاك حرمة زوجة الملك، أو اغتصاب ابنته الكبرى، أو الانتهاك الجنسيّ لزوجة الابن الأكبر والوريث. وحتى يومنا هذا ما تزال الخيانة في القانون الإنجليزي تشمل "تلويث" النسل الملكي أو جَعْله موضع شكّ. كما تشمل الخيانة في القانون الإنجليزي "تقديم العون والمساعدة لأعداء الملك".

        أما في الولايات المتحدة فيعرِّف النظامُ الأساسي الخيانةَ تعريفًا أضيق ينحصر فيما يتعلق بالحرب والدفاع العسكري؛ ذلك أنّ المؤسسين الأوائل للولايات المتحدة كانوا يدركون أنّ مفهوم "الخيانة" قد يتّخذه الطغاة ذريعة لقمع الحريّات وإخماد المعارضة أو منع التمرّد المشروع. ولا ينبغي أن ننسى أنّ ثورة الآباء المؤسسين لأميركا ضدّ جورج الثالث ملك إنجلترا كانت "خيانة" للملك الإنجليزي. هكذا إذًا يعرّف الدستور الأميركي خيانة الولايات المتحدة بأنها "تنحصر في شنّ الحرب عليها، وموالاة أعدائها، ومنحهم العون والمساعدة". وفي القرن العشرين أصبح الدفاع عن الولايات المتحدة يعني الدفاع عن أيديولوجيّتها الرأسمالية اللبرالية ضدّ التهديد الشيوعي، سواء أكان ذلك التهديد حقيقيًّا أم متصوّرًا. ولقد خلقت الهستيريا التي نشأتْ في عصر مكارثي بُعَيد الحرب العالمية الثانية هوايةَ تصيّد الخَوَنة*.

        وإن تحدّثنا عن الإعدام الفعلي، سنذكر مثلاً إعدام يوليوس وإيثيل روزنبرج (Julius and Ethel Rosenberg) في حزيران/ يونيو من عام 1953م. كان يوليوس فيما مضى عضوًا فاعلاً في الحزب الشيوعي، ولعلّنا لن نهتدي أبدًا إلى معرفة أكيدة حول ما إذا كانت تجاوزات العهد المكارثي هي التي دفعت يوليوس روزنبرج إلى التحوّل من مجرّد معارض أميركي إلى جاسوس سوفييتي. أُعدم يوليوس وزوجته إيثيل بتهمة التجسس، وكانا يبلغان من العمر 35 و32 عامًا. بريطانيا أيضًا أعدمت بعد الحرب العالمية الثانية مواطنًا بريطانيًا أذاع دعايةً على الإذاعة لصالح ألمانيا النازية. وفي وسط الحرب العالمية الأولى أُعدم السير روجر كيسمنت بتهمة الخيانة، وهو مناضل أيرلندي قدّم لبريطانيا خدمات جليلة على مدى سنوات طويلة ثم وقف ضدّها لمصلحة حريّة الأيرلنديين. وللغرابة فقد ظهر دليل في اللحظات الأخيرة على مثليته الجنسية، وهذا الدليل هو الذي أودى به. هكذا إذًا اختلطت خيانة كيسمنت للملك بخيانته لجِنسه.

        في الإسلام لا يوجد تفريق قاطع بين الدولة والدين، فلا يمكن عادةً التفرقة بين مفهوم الخيانة ومفهوم الكفر [أو الردّة]. وكثيرًا ما كانت العقوبة القصوى لخيانة الأمّة هي الموت. لذلك اعتبر كثير من المسلمين سلمان رشدي متّهمًا بالخيانة الثقافية بسبب روايته الآيات الشيطانية، فما فعله لم يكن مجرّد رفض للإسلام أو مجرّد اختلاف معه، بل يكاد جميع من قرأ الرواية يخلص إلى أنّ رشدي سبَّ الإسلام. والأنكى من ذلك أنه احتُفي به ومُدح وكوفئ بحفاوة وموّله أعداء صرحاء ونقّاد معادون للإسلام.

        ليس المسلمون وحدهم من يعتبر التهجّم على الدين تهديدًا للدولة؛ فالقانون الأسكتلندي كان حتى القرن الثامن عشر يعتبر التجديف في الدين لا مجرّد جريمة بل جناية خطيرة تستحق الموت. يعود التراث الأسكتلندي في جانب منه إلى شريعة موسى على أقل تقدير، وفي جانب آخر إلى إرث الامبراطور الروماني جستينيان الأول (حكم: 527-565م). تقضي شريعة موسى بالموت رجمًا كعقاب على التجديف، وقد رسّخ الامبراطور جستينيان هذه العقوبة. أما في وقتنا الحاضر فلم يعد التجديف جناية في بريطانيا، لكنه ما يزال يُعتبر مخالفةً قانونية وعُرفية، إذْ اعتُبر مخالفة في القانون العرفي منذ القرن السابع عشر. لكنّ التجديف في القانون البريطاني ينطبق على المسيحية فقط. في 20 شباط/ فبراير 1989م طرحتْ صحف بريطانية مسألة ما إذا كان الوقت قد حان لتطبيق مفهوم التجديف في بريطانيا على اليهودية والهندوسية والإسلام، بما أنها جميعها موجودة في بريطانيا. وقد كتب لاحقًا عمانويل يعقوبوفتش الحاخام الأكبر لـ"التجمّع اليهودي المتحّد لرابطة الشعوب البريطانية" إلى صحيفة التايمس مطالبًا بتشريع يحظر "نشر أي شيء من شأنه أن يؤجج بالتجريح البذيء مشاعر أو معتقدات أي شريحة من المجتمع"[2].

        بالنسبة لرواية سلمان رشدي فقد يكون الجانب الأكثر تجديفًا وإهانة للمقدسات فيها هو عنوانها. ولكي نشرح هذا الأمر للقارئ الغربي علينا أن نتحدث أولًا عن القرآن الكريم في سياق الأدب العالمي، فرواية رشدي ليست وحدها الجديرة باهتمام مؤرّخي الأدب في الغرب، إذْ إنّ القرآن في حدّ ذاته عمل فنّي، وقد أساء إليه رشدي حين سمّاه "الآيات الشيطانية".

القرآن بوصفه أدبًا عالميًّا

يُعدُّ القرآن أكثر كتاب مقروء بلغته الأصلية في تاريخ البشرية، في حين أنّ الكتاب المقدّس هو أكثر كتاب مقروء في ترجماته. كما أنّ الكتاب المقدّس متعدّد المؤلفين. أما القرآن فيقع في خانة متفرّدة كونه كتابًا يتلوه ملايين المؤمنين خمس مرات في اليوم باللغة نفسها التي كُتب بها.

لو أنّ سلمان رشدي اكتفى بالقول إنّ القرآن من تأليف النبي محمد وليس كلام الله، لكان ينطق عن ما يعتقده غير المسلمين عمومًا. وفي هذه الحالة، أي حالة اعتبار القرآن نتاجًا لعبقرية بشرية وليس وحيًا إلهيًّا، سيكون النبيّ محمد في مصافّ وليم شكسبير، بصفتهما الشخصيّتين الأدبيّتين الأكثر تأثيرًا على الإطلاق، مع فارقٍ رئيس واحد؛ فعدد الذين يقرؤون القرآن أكبر من عدد الذين يقرؤون مسرحيات شكسبير بمائة ألف مرة.

مع ذلك فثمّة تشابهات بين النبيّ وشكسبير بوصفهما بَشرَين. كلاهما لم ينل إلا قدرًا محدودًا من التعليم النظامي، لكنّ اسميهما مرتبطان بأعمال أدبية بالغة التأثير. لقد أثْرَتْ مسرحيات شكسبير القوةَ التعبيرية في اللغة الإنجليزية، وكان للقرآن تأثير أكبر على اللغة العربية إذْ أثّر في وتيرة تغيّرها، ونوّع إيقاعها وصورها ومواطن قوّتها. وثمة اعتقاد دينيّ في الإسلام يفيد باستحالة تقليد القرآن، بيد أنه لم يتعرّض كتاب في التاريخ لمحاولات التقليد كما تعرّض له القرآن.

لم ينتظم شكسبير ولا النبيّ محمد طبعًا إلى جامعة أو ما يساويها، لكننا نجد في مسرحيات شكسبير معرفة مذهلة بالتاريخ والقانون والآداب الأجنبية والسياسة وآداب النبلاء ولغتهم. هل كان يمكن لابن تاجرٍ قرويّ وممثّل شعبي أن يلمّ بكل ذلك؟

يُقال إنّ هذا النطاق من المعرفة لا يتأتى في تلك الفترة إلا لرجل ذي تعليم رفيع، رجل يعرف شخصيات من النبلاء والأسرة الملكية كالتي ظهرت في مسرحيات شكسبير. وقد اعتُبر شُحّ السجلات المعاصرة لتلك الفترة أمرًا غير متوافق مع المكانة الرفيعة لشكسبير، ما يوحي بشيء من الغموض. كما أنّ غياب أي مخطوطة لشكسبير اعتُبر دليلاً على إتلافها بغرض إخفاء هوية مؤلفها[3].

        فيما يخصّ شكسبير إذًا يكمن أساس الشكّ المتعلّق بتأليف المسرحيات في ذلك "البون الشاسع بين عظمة المنجز الشكسبيري وأصله المتواضع وتعليمه المتدنّي والغموض الذي يلفّ حياته"[4]. وفي محاولة لحلّ هذا الإشكال ظهرت فرضيّات تنسب أعمال شكسبير إلى آخرين من المعروف أنّهم كانوا يتحصّلون على مستوى تعليمي ومكانة اجتماعية أعلى من شكسبير. ومن بين الأسماء التي اقتُرحت فرانسِس بيكن (Francis Bacon) والأيرل السابع عشر لأكسفورد إدوَرد دو فير (Edward dr Vere) والأيرل السادس لديربي وِليم ستانلي (William Stanley) والكاتب المسرحيّ كرِسْتُفَر مارلو (Christopher Marlowe) الذي قِيل إنه قضى نحبه في مشاجرة في إحدى الحانات عام 1539م. ولكن هل قُتل مارلو فعلا، أم إنّ هذه الحادثة كانت مدبّرة لكي يختفي ثم يبدأ الكتابة من فرنسا وإيطاليا تحت اسم آخر؟

أما المسلمون فلم تكن لديهم هذه الإشكالات في نسبة العبقرية الأدبية والروحية للقرآن، ولم يُطرح أي اسم من زمن محمد بوصفه المؤلف "الحقيقي" للقرآن. بالنسبة للمسلمين فإنّ سرّ هذا الإعجاز ببساطة هو أنه كلام الله.

        وتهمة التجديف التي اتُهم بها سلمان رشدي لا تتعلّق فحسب بقوله إنّ القرآن من تأليف محمد، وإنّما تتعلّق أكثر بتلميحه إلى أنّ القرآن من تأليف الشيطان. فسلمان رشدي باستخدامه عبارة "الآيات الشيطانية" يُحيل إلى أكثر من حادثة مزعومة في تاريخ الوحي الإسلامي، إذْ يلمّح إلى أنّ محمدًا لم يستطع التمييز بين الوحي الآتي من مَلَك، والوحي الآتي من شيطان. كما أنّ رشدي يعطي النبيّ اسمًا يصفه هو نفسه بأنه "المرادف لاسم الشيطان: ماهُونْد".

        يُحيلنا هذا إلى مقارنة بين القرآن وملحمة الفردوس المفقود لكاتبها جون ملتِن، الذي يُعدّ أعظم شاعر في اللغة الإنجليزية بعد شكسبير. فالأمر المشترك بين ملحمته والقرآن هو أنهما كانا يُتليَان شفويًّا قبل تدوينهما. وقد أملى ملتن كثيرًا من كتاب الفردوس المفقود لأنه كان كفيفًا، كما أملى النبيّ محمد كثيرًا من القرآن لأنه لم يكن يقرأ أو يكتب.

        في رواية الآيات الشيطانية لا يكتفي رشدي بالتلميح إلى أنّ محمدًا لم يكن يميّز بين ما أوحاه إليه الشيطان وما أوحاه إليه جبريل، بل يشير أيضًا إلى أنه لم يستطع أن يفرّق بين ما أملاه هو على كاتب الوحي وما حرّفه ذلك الكاتب. يقول لنا كاتبُ الوحي الفارسيُّ في رواية رشدي كيف أنه عمد أولاً إلى تغيير بعض الأشياء الصغيرة في ما أملاه عليه النبيّ ليرى ما إذا كان محمد سيلاحظ ذلك. وفي نهاية الأمر يتمادى كاتب الوحي كثيرًا فيثير شكوك ماهوند، ولكن إلى أن يصل القارئ إلى هذا الموضع يكون الروائيّ رشدي قد انتهى من إثارة الشكّ في صحة القرآن بوصفه كتابًا من تأليف محمّد، ناهيك عن التشكيك في أن يكون كلام الله.

        ولكن هل يختلف ذلك عن التلميح بأنّ مواضع من الفردوس المفقود لم تكن من إبداع جون ملتن وإنما من تحريفات الشخص الذي كان يملي عليه؟ ثمة فرق جوهري هنا، وهو أنّ الفردوس المفقود لا يُعدّ مساويًا لدستور دولة، في حين أنّ القرآن هو الدستور الأعلى لأمةٍ من المؤمنين. في الأخلاق السياسية الأميركية يُنتظر من المواطنين الأميركان أن يكونوا مستعدين لأن "يلتزموا بدستور الولايات المتحدة ويحموه ويدافعوا عنه". والمسلمون يتوقّعون من جميع المؤمنين أن يدافعوا عن القرآن بوصفه قانونهم الأساسي الأعلى.

        لم يكتف سلمان رشدي بإثارة الشكّ حول صحة المصدر الذي جاء منه هذا القانون الأساسيّ، بل مضى إلى السخرية من أحكامه واختلاق أشياء ليست فيه.

        وهذا أكبر من مجرّد التلميح إلى أنّ جون ملتن لم يكتب الفردوس المفقود، وأسوأ من الزعم بأنّ ما يعتبره الأميركان دستورهم يحتوي على فقرات اختلقها كَتَبة ما يزالون موالين للملك جورج الثالث ملك إنجلترا. لئن كانت الوطنيّة الأميركية تنطوي على الالتزام بدستور الولايات المتحدة وحمايته والدفاع عنه، ألا يكون الحطّ منه وإثارة الشكوك حول صحّته شيئًا يقترب من أشكال الخيانة؟

يعتبر الأميركان أنّ الوطء المتعمّد على العلم الأميركي أو التبوّل على الراية المرصّعة بالنجوم تدنيسًا للمقدّس. وكلّ آية في القرآن بمثابة علم بالنسبة للمسلم. فهل تبوّل سلمان رشدي متعمدًا على هذا الكتاب المقدّس؟ هل تبرّز على شيء يساوي ألف رايةٍ مرصّعة بالهلال؟

        تحكي ملحمة الفردوس المفقود في جانب منها قصة شيطان، وتحكي عن خطيئة التكبّر وما ينتج عنها. يقول جون ملتن على لسان لُوسِفِر (الشيطان): "من الأفضل أن تكون سيّدًا في النار على أن تكون عبدًا في الجنّة". ويرى كثير من المسلمين أنّ سلمان رشدي في "روايته الشيطانية" عبّر عن هذه الأمنية نفسها التي أرادها الشيطان لوسفر.

التشهير بالأموات

ينطوي الجدل الدائر حول سلمان رشدي على مسألة أخرى من التضارب بين الثقافات ألا وهي التشهير. في الغرب يميل قانون القذف والتشهير إلى التركيز على الفرد، وقلّما يُعنى بفئة أو طائفة كاملة من الناس. صحيح أنّ القانون الأميركي أكثر تجاوبًا من القانون البريطاني مع "الدعاوى القضائية الجماعية"**، ولكنْ في المجمل فإنّ الأفراد والمؤسسات (لا الفئات والطوائف) هي التي ترفع الدعاوى القضائية باسم القذف والتشهير في المجتمعات الغربية.

وفي رواية الآيات الشيطانية يُثار السؤال حول ما إذا كان رشدي قد قذف فئات كاملة من المسلمين، بدءًا من المسلمين الشيعة (كما رمزت إليهم شخصية "الإمام" في الرواية) وصولًا إلى زوجات النبيّ محمد. لكنّ القانون الغربي لا يوفّر حماية كبيرة ضدّ قذف الأموات. لو أنّ روايةً ما أظهرتْ اثنتي عشرة امرأة على قيد الحياة (بأسمائهنّ) في صورة مومسات، لوجدنَ طرقًا قانونية لردّ اعتبارهن، بيد أنّ سلمان رشدي في روايته يقذف نساءً متوفّيات منذ حوالي أربعة عشر قرنًا (نساء النبيّ)، ولا توجد في المفاهيم الغربية حول القذف والتشهير حماية تُذكر لسُمعة المتوفين منذ فترة طويلة. لا يقول رشدي في روايته إنّ زوجات النبيّ الحقيقيات كُنّ مومسات، لكنّه يخلق شخصيات مومسات يتّخذنَ لأنفسهنّ أسماء زوجات النبي، مومسات يتظاهرنَ بأنهنّ زوجات ماهوند. يستعين رشدي بحيلة "المسرحية داخل المسرحية"، كما فعل شكسبير في هاملت حين صنع مسرحية ليكتشف ما إذا كان عمّه قد قتل والده قبل الزواج من أمه.

        مع ذلك فلعبة "المسرحية داخل المسرحية" التي يستخدمها رشدي ضربٌ من الاتجار الداعر بسمعة اثنتي عشرة امرأة بريئة شريفة. ولو أنّ هؤلاء النساء كُنّ أحياء لحَمَت القوانين الغربية سمعتهنّ.

تُرى هل رواية الآيات الشيطانية مكافئة في تجديفِها لرواية نيكوس كازنتزاكيس الإغواء الأخير للمسيح؟ في الفيلم المقتبس عن الرواية يظهر المسيح على أنه يتخيّل نفسه في أحلامٍ وخيالات جنسية، وهو افتراض مُهين للمسيحيين والمسلمين كذلك، بما أنّ عيسى المسيح نبيّ مبجّل في الإسلام. ولكن في حين أنّ الإغواء الأخير للمسيح رواية مخالفة للعقيدة المسيحية، إلا أنها لا تنطوي على إهانة بذيئة. تُصوِّر الروايةُ المسيح على أنه في أساسه خيّر، بل إلهيّ، لكنّ طبيعته الخيّرة هذه تتصارع مع طبيعته البشريّة وهو يقترب من الموت. ويبدو وكأنّ العذاب البشريّ هو الذي دفع المسيح إلى أن يصرخ قائلاً: "أبي! لماذا تركتني؟". خلاصة القول إذًا أنّ الإغواء الأخير للمسيح أقلُّ إهانة بذيئة للمسيح من إهانة رشدي للنبيّ محمد وزوجاته.

        المكافئُ الحقيقي لتجديف رواية الآيات الشيطانية قد يكون مثلًا تصوير مريم العذراء على أنها مومس، حملتْ بعيسى من أحد زبائنها. وقد يكون أيضًا روايةً مبنية على افتراض أنّ الحواريين الاثني عشر كانوا عشّاقَ المسيح المثليِّين، وأنّ العشاء الأخير لم يكن سوى حفلةً جنسية جماعية أخيرة. تُرى أي كتّاب غربيين بارزين سيمشون في مَسيرةٍ دفاعًا عن "حقوق" كاتب رواية مثل هذه؟! الأكيدُ أنْ لا مريم العذراء ولا عيسى والحواريّون ستكون لهم حماية قانونية تُذكر في القانون الغربي المتعلق بالقذف والتشهير.

الرقابة بين عالمين

تُرى هل يُعدُّ منع الآيات الشيطانية أمرًا أكثر مشروعيةً (أو أقلّ) من أشكال الرقابة الأخرى التي تُمارس في الديمقراطيات الغربية؟ ولئنْ كانت بعض مشاعر العالم الإسلامي عصيّةً على الفهم في الغرب، أفليست ممارسة الرقابة في العالم الغربي تناقضًا في اللبرالية الغربية وعصيّة على الفهم لدى المسلمين الملتزمين بالحريات الغربية؟ في العالم الغربي بأكمله هناك وسيلة إعلامية واحدة يكاد يكون من المؤكد أنها ستمنع أي عمل فني مبنيّ على فرضية أنّ مريم العذراء كانت مومسًا أو أنّ عيسى كان مِثليًّا. هذه الوسيلة هي التلفاز، الوسيلة التي تصل إلى أكبر عددٍ من المتلقّين في الغرب. في الواقع ثمة تناقض يوميّ يحدث بين المطالبات الغربية بحرية التعبير، والرقابة (الرسمية وغير الرسمية) على وسائل الإعلام. تُرى إلى أي حدٍ انتقلت الرقابة في العالم الصناعي من الكلمة المطبوعة إلى الوسائل الإلكترونية [الإذاعة والتلفاز]؟

في بريطانيا كانت هناك جهود حثيثة من حكومة مارجرت ثاتشر لإيقاف أو ثني الصحافيين عن إجراء مقابلات مع من يُسمَّون "الإرهابيين" في أيرلندا الشمالية، وقالت ثاتشر إنّ الترويج الإعلامي أكسجين الإرهاب. تُرى، هل يختلف هذا عن القول إنّ الديمقراطية أكسجين الإرهاب؟ في بعض أنحاء المملكة المتحدة يمكنك أن تنقل كلامًا على لسان من يُسمَّى مقاتلًا في الجيش الجمهوري الأيرلندي، ولكن لا يمكنك نقل صوته، ولا يمكنك أن تُظهر وجهه على التلفاز وهو يعبّر عن رأيه. كما يخضع حِزب "شِن فين" (الذراع السياسي للجيش الجمهوري الأيرلندي) أيضًا لرقابة شديدة في أجزاءٍ من المملكة المتحدة، لا سيّما في الإذاعة والتلفاز. بل إنّ أعضاء البرلمان المنتخبين من ذلك الحزب السياسي يخضعون لتلك التقييدات.

ونذكر على سبيل المثال كتاب صائد الجواسيس لمؤلفه بيتر رايت (Peter Wright)، إذْ لاحقت حكومة ثاتشر هذا الكتاب في أنحاء مختلفة من دول الكومنولث "البيضاء" في محاولة لمنعه. صحيح أنّ تلك الجهود لم تُكلّل بالنجاح الدائم في منع الكتاب، بيد أنّ مجرّد وجود معايير خاصة للمنع في الحكومة البريطانية (وإنْ كانت معايير غير دينية) يكشف عن زيف الاعتراضات المدافعة عن "حرية التعبير" في قضية رشدي. على أنّ ثاتشر كانت في موقفٍ أخلاقي أكثر صلابة حين دافعت عن حياة رشدي.

تعرّضتُ أنا شخصيًّا للمنع والرقابة في بريطانيا والولايات المتحدة، إلى جانب جنوب إفريقيا وموطني كينيا. ففي الحلقة الثالثة (آلهة جديدة) من المسلسل التلفزيّ الأفارقة: تراث ثلاثيّ الذي كنتُ أعدّه لهيئة الإذاعة البريطانية (BBC) وشبكة الإذاعة العامة [الأميركية] (PBS)، أبدأ الحلقة بتمثالٍ نصفيّ لكارل ماركس، والمفترض أن يسمع المشاهدون صوتي وأنا أقول: "الدين تنهيدة الكائن المضطهَد، ورُوح أوضاعٍ عديمة الروح. هكذا قال كارل ماركس [...]**". بيد أنّ شبكة الإذاعة العامة كانت قلقةً من إثارة غضب المشاهدين اليهود من هذه العبارة. على أية حال فقد سمعها المشاهدون البريطانيون والأستراليون والنيجيريون والفنلنديون والأردنيون. بل إنّ المشاهدين في إسرائيل نفسها سمعوها. وحدهم المشاهدون الأميركان لم يسمعوها لأنها حُذِفت، وقد صعّب ذلك من قدرتي على أنْ أثبت حجّتي في "التأثير الساميّ في إفريقيا" (عيسى ومحمد وماركس).

ولكن بما أنّ المسلسل عُرض في بريطانيا فقد تنبّه العديد من الصحافيين الأميركان على هذا الحذف. وأُجريت معي في الولايات المتحدة عام 1986م لقاءات صحافية وتلفزية حول عدة موضوعات. لذلك هُوجم رئيس اتحاد التلفزة التعليمية في واشنطن (WETA) في النادي الصحافي الوطني بواشنطن؛ لأنه عرض مسلسلاً تلفزيًّا سبق أن احتوى على تلك العبارة.

        لم يبادر صحافيّ واحد في الولايات المتحدة بالدفاع عن حقّي في قول ذلك عن ماركس. في الواقع كنتُ أتوقّع نقدًا من أصدقائي الماركسيين، فالماركسيون قد لا يودّون القبول بوصفي ماركس بالنبوة، بينما كان هو يعتبر نفسه "عالمًا". كان ماركس قد تبرّأ من تراثه اليهودي، لذلك قد يعترض الماركسيون على أنني أشرتُ إلى يهوديّته. ولكن في الولايات المتحدة لم يكن أصدقائي الماركسيون هم من شعروا بالإهانة، بل أصدقائي اليهود.

        هكذا إذًا قرّرت شبكة الإذاعة العامة (PBS) واتحاد التلفزة التعليمية (WETA) حذف العبارة، وكانت هذه هي الرقابة الأكثر مباشرةً مما مورس على مسلسل الأفارقة. لقد ارتأى اتحاد التلفزة التعليمية أنّه لا يمكن تحمّل تحالفٍ عدائيّ من اليمينيين غير اليهود واليهود اللبراليين الغاضبين في الولايات المتحدة، لذلك حَذَف العبارة. لكنّ هذا لم يكن كافيًا لإنهاء هذه "المسألة اليهودية". فالناقد التلفزيّ في صحيفة نيويورك تايمس جون كوري أبدى استياءه من عدم وجود ما يكفي من الإحالات إلى اليهود في مسلسل الأفارقة. وأبدى استياءه أيضًا من عدم وجود أية إشارة لإسرائيل. في الواقع كانت هناك إحالات لليهود في خمس حلقات من أصل تسع في المسلسل، بما في ذلك المقارنة الإفريقية-اليهودية الأكثر إثارة حول زنزانةٍ للعبيد في غانا (في الحلقة الرابعة): "كإفريقي يزور مكانًا كهذا، ويرى كلّ هذا، بدأتُ أفهم ما يمكن أن يشعر به اليهوديّ حين يزور أوشفتز أو أي معسكر تعذيب نازيّ آخر، ويشعر بتلك العواطف الجيّاشة من الدهشة والغضب والحزن الذي لا ينضب". علاوة على ذلك فإنّ مسلسل الأفارقة لم يعرض سوى أربع دول غير إفريقية كجزءٍ من القصة: بريطانيا (وهي قوة استعمارية سابقة)، وفرنسا (وهي أيضًا قوة استعمارية سابقة)، والولايات المتحدة (قوة عظمى)، وإسرائيل (بما فيها الكنيست). بل إنّ الحلقة الثالثة عرضت زيارة أنور السادات التاريخية إلى القدس.

        من غير الواضح كم من الإحالات الإضافية عن إسرائيل واليهود أراد جون كوري أن يراها في مسلسل تلفزيّ عن إفريقيا كي يقرّ بأنّ المسلسل "متوازن"! ومن المفارقة أنّ محرّرًا بريطانيًا من مجلة الجمعية الملكية الإفريقية أفريكان أفيرز (يناير 1987م) كتب عرضًا عن الكتاب المصاحب للمسلسل أبدى فيه استياءه من أنني أفردت مساحةً أكبر من اللازم لليهود في الكتاب. كان هذا الكاتب مقتنعًا بأنني كنتُ أبالغ في علاقة "المسألة اليهودية" بالوضع الإفريقي. أما جون كوري فكان غاضبًا من أنني لم أخصّص ما يكفي من الوقت لإسرائيل واليهود في حلقات المسلسل[5]

        تُرى كيف كان ردّ فعل اليهود أنفسهم (بصرف النظر عن ردّ فعل الأغيار [غير اليهود] المبالغين في حماية اليهود)؟ شاهدتْ إسرائيلُ المسلسل حين كان يُعرض في الأردن، ونشرتْ صحيفة جيروساليم بوست قراءةً للكتاب المصاحب وأشارتْ إلى عرض المسلسل في الأردن. كانت القراءةُ متفهّمة ومؤكدة على تناولي لليهود في الكتاب. كتب إليّ باحث إسرائيلي في كلية أكسفورد البريطانية رسالةً متحمّسة عن المسلسل، كما أقام رئيس جامعة مِشِجن هارولد شابيرو (رئيسي آنذاك) هو وزوجته حفل استقبال كبيرًا احتفاءً بالمسلسل، وأقام حفلَ عشاء أيضًا على شرفي. حدث كلّ ذلك وسط الجدل القائم (ومنذ ذلك الوقت ترك شابيرو جامعة مِشِجن وأصبح أول رئيس يهوديّ لجامعة برنستن). مع ذلك، تظلّ الحقيقة هي أنّ الأميركان من غير اليهود مارسوا عليّ الرقابة كي يحموا اليهود من الحساسيات التي افترضوها.

في كلّ يومٍ من أيام الأسبوع ثمّة شيءٌ يخضع للرقابة في الإعلام الأميركي، فتُحرم بعض البرامج من التمويل خشية أن تثير حفيظة المعلنِين، والمشتركين، والوطنيّين والمتعصّبين الدينيين من التيار المجتمعي السائد، واليهود المتنفّذين، والأغيار المتنفّذين. وفي حالات أخرى يرفض الناشرون بعض المخطوطات التي تُقدَّم إليهم أو يحذفون بعض الأفكار فيها أو يقتطعون فصولًا منها يُظّنُّ بأنها ستثير حفيظة بعض الجماعات المتنفّذة في الدولة. وفي الواقع فإنّ الرّقابة في الولايات المتحدة مُخَصْخَصةً، بما يناسب منظومة الشركات الخاصة. هكذا تترك الدولة الرقابة للسوق، لقوى العرض والطلب، فينتشرُ الرقباء المستقلُّون.   

التحريض على العنف بين عالمين

ماذا عن الحكم الذي أصدره آية الله الخميني بالموت على سلمان رشدي؟ لا شكّ في أنه يقع خارج المعايير الغربية للسلوك المشروع. لكنّ الجديد في حُكم آية الله الخميني لا يتمثّل في فكرة القتل عن بعد، وإنما في علانية هذا الحكم. إذْ يبدو الحكم خليقًا بعنوان رواية أجاثا كرِستي الشهيرة إعلان عن جريمة. لو أرادت الدول الغربية أن تقتل شخصًا ما في دولة أخرى، فسيُصبح الأمر جزءًا من عملية سرية قد تقودها السي آي ايه (وكالة المخابرات المركزية الأميركية) أو الإم آي فايف (المخابرات البريطانية)، وقد يُسافر الإسرائيليون من إسرائيل إلى تونس لقتل شخص نائم في فراشه. في الغرب يستمتع مرتادو السينما كثيرًا بأفلام جيمس بوند، وهو شخصية مُبالغ فيها لشيءٍ قابل تمامًا للتصديق. أما مسلسل المهمة المستحيلة الذي يُعرض على مشاهدي التلفاز الأميركي فينطوي في جوهره على مبدأ القابلية للإنكار: "في حال قُبِض عليك أو على شريكك فسوف يُنكر الوزيرُ أيّ علاقة بك. سيُتلف هذا الشريط نفسه تلقائيًّا بعد خمس ثوان. حظًا موفقًا يا جِم"*.

        وفيما يتعلّق بمحاولات الاغتيال بالتفجير، فليس ثمّة شكّ كبير فيما يبدو في أنّ إدارة رونلد ريجن أرادت قتل الرئيس الليبي معمّر القذافي بالقصف الجوّي ضمن تفجيرات طرابلس عام 1986م، إذْ كانت لدى الطائرات تعليمات بتفجير ما اعتقدوا أنه مسكن القذافي. هكذا وفي محاولةٍ لقتل القذافي قتل الأميركان كثيرًا من الناس، ولم يظفروا بهدفهم الأساسي. لكنّهم مع ذلك قتلوا ابنه المتبنّى. تُرى هل كانت تلك مكافأة تعزّيهم على فشل المحاولة؟ وفي الستينيات تآمر الأميركان أيضًا لقتل الزعيم الكوبي فيدل كاسترو، وربما كان لهذه المحاولة الأميركية لقتل كاسترو دور في اغتيال الرئيس الأميركي جون كينِدي لاحقًا. نذكر أيضًا تصريح الرئيس ريجن مخاطبًا إرهابيين مزعومين بقوله: "يمكنكم الفرار، لكنّكم لن تستطيعوا الاختباء". كان هذا إعلان بأنّ سيادة الدول الأخرى لن تكون ملجأ آمنًا لأعداء الولايات المتحدة. كما اختطف عملاء الولايات المتحدة طائرة مدنية مصرية في أجواء دولية بسبب وجود متّهم على متنها، وانتهكت الولايات المتحدة عمدًا السيادة الإيطالية في سياق العملية نفسها.      

        وفيما يتعلق بالجماعة الأوروبية وغضبها الجمعيّ من إعلان الخميني للعنف عن بعد، فإننا لم نشهد مثل هذا الغضب الجمعيّ حين أرسلت إحدى الدول الأعضاء في الجماعة الأوروبية عملاءها لتفجير سفينة رينبو ووريَر في ميناء هادئ في نيوزيلندا. كانت السفينة تابعة لجماعة بيئيّة اسمها جرينبيس (السلام الأخضر Greenpeace) تقوم بحملة احتجاجية ضد التجارب النووية الفرنسية المتكررة في جنوب المحيط الهادي. لذلك قرّرت السلطات الفرنسية أن تلقّن نيوزيلندا والمحتجّين درسًا قاسيًا عبر إرسال عملاء مخابراتها لزرع متفجّرات على تلك السفينة غير المسلّحة، وراح ضحّيتها مُصوِّر من جماعة جرينبيس. كان المقصود من هذه العملية الفرنسية التدميرية إسكات الاحتجاجات المشروعة عن طريق عملٍ يندرج تحت إرهاب الدولة.  فهل لجأت الجماعة الأوروبية إلى التهديد بالعقوبات الاقتصادية فيما يتعلّق بإغراق رينبو ووريَر ومقتل المصوّر؟ نعم، كان هناك تهديد بالعقوبات الاقتصادية، ولكنْ ضدّ نيوزيلندا التي انتُهكت سيادتها، وليس ضدّ فرنسا التي انتهكتها. 

        كانت نيوزيلندا قد ألقت القبض على اثنين من العملاء الفرنسيين المتورّطين في ذلك الاعتداء، وقدّمتهما للمحاكمة وفقًا للمبادئ الغربية التي تضمن المحاكمة العادلة والإجراءات القضائية المعتادة، فصدر الحكم بسجنهما. لم ترضَ فرنسا بذلك، وهدّدت سرًّا بتنفيذ عقوبات اقتصادية ضدّ نيوزيلندا إن هي رفضت تسليم العميلين لسجنٍ يقع تحت السيادة الفرنسية في جُزرٍ مستعمَرة قريبة تابعة لفرنسا. بعد ذلك خرقت فرنسا الاتفاق بكلّ فجاجة وأعادت العميلين المدانَين إلى فرنسا وأفرجت عنهما. واحتُوي استياءُ نيوزيلندا التي خافت أن تُحرم من الوصول إلى أسواق الجماعة الأوروبية.

        إذًا فالجماعة الأوروبية نفسها التي دافعت بحماس عن سلمان رشدي ودانت "إرهاب" الخميني العلنيّ، ظلّت صامتةً حين أقدمت إحدى دولها على عملٍ إرهابيّ في حقّ دولة صغيرة صديقة مرتبطة بالمنظومة الغربية أساسًا. كما لم تُبدِ الجماعةُ أية إشارةً على الغضب حين هدّدت فرنسا بحرمان نيوزيلندا من الأسواق الأوروبية لو رفضت خرق إجراءاتها القضائية فيما يتعلّق بمحاكمة العميلين الفرنسيين المدانَين. بعد أربعة أعوام من ذلك وفي أعقاب تهديد الخميني ضدّ سلمان رشدي، سحب الأعضاء الاثنا عشر في المجموعة الأوروبية سفراءهم من طهران مؤقتًا، لكنهم لم يهدّدوا حتى بإلحاق شيء من الخزي بفرنسا حين أعلنت باريس الحرب على جماعة ضغط تُسمّى جرينبيس قبل ذلك.

        وحين بدأت دول الجماعة الأوروبية تعيد سفراءها إلى طهران في آذار/ مارس 1989م اتّهمها الخميني بالنفاق والانتهازية. فعلى ضوء مواقف تلك الدول في الدفاع عن حرية سلمان رشدي في التعبير من جهة، وفي انتهاك حرية جرينبيس في الاحتجاج من الجهة الأخرى، نجد أنّ الجماعة الأوروبية أبدت بالفعل نفاقًا وانتهازية. لقد استطاع آيةُ الله أن يستشفّ بوادرهم الأخلاقية الزائفة.

        ثمّة طريقتان يدبّر بهما الغرب إلقاء القبض على المتّهمين، إما بالاختطاف المباشر أو باستدراج الضحية إلى خارج المياه الإقليمية لدولةٍ ما. إذْ من الضروريّ الالتزام بالشكليات عبر استدراج الضحية إلى خارج المياه الإقليمية إن كانت الضحية داخل دولة صديقة. والمثال اللافت الذي يوضّح ذلك ما حدث للعالم النووي الإسرائيلي مُردخاي فَعْنُونو. يرى كثير من الإسرائيليين أنّ فعنونو ارتكب جريمة الخيانة المزدوجة؛ فقد خان دولته إسرائيل بنشره أسرارًا نووية في صحيفة بريطانية (أيلول/ سبتمبر 1986م)، وخان دِينه اليهودي حين تنصّرَ في الفترة نفسها تقريبًا[6]

        اختطف جهاز المخابرات الإسرائيلي فعنونو في الخارج ثم أحاله إلى محاكمةٍ سرّية بتهمة الخيانة. ففي روما استدرجتْه امرأة تنكّرت في شخصية طالبة أميركية اسمها "سِندي" وأغرته بممارسة الجنس معها في شقة أختها. وعندها حُقِن فعنونو بعقارٍ مخدّر واختُطف إلى إسرائيل، وحُكم عليه بالسجن لمدة ثماني عشرة سنة بتهم الخيانة والتجسّس وإفشاء أسرار الدولة*. لو أنّ الإيرانيين كانوا على تلك الدرجة من التطوّر في الأساليب كالإسرائيليين لاستدرجوا سلمان رشدي إلى خارج المياه الإقليمية ثم اختطفوه ليُحاكم سرًّا في طهران. من المستبعد طبعًا أنْ تعرض إيران (بثورتها الإسلامية) على سلمان رشدي ممارسة الجنس في مياه البحر الأبيض المتوسط، ولكن كان يمكن مثلاً إغراؤه بمكافأة كبيرة نظير إلقاء محاضرة. وإنْ تسرّب الخبر بمثول مواطن بريطاني أمام محكمة في طهران يمكن للإيرانيين عندها أن يتّهموا رشدي بالتجسّس الثقافي، أو بالتحريض على العنف.  

        الولاياتُ المتحدة هي الأخرى لجأت إلى استدراج ضحية لاختطافها خارج المياه الإقليمية لدولة صديقة قبل القبض عليها. ومثال على ذلك قضية اللبناني فوّاز يونس الذي اتُهم باختطاف طائرة عام 1985م، إذْ اختُطف فوّاز وقضى سبعة عشر شهرًا في عزلة نسبية قبل مثوله أمام القضاء في الولايات المتحدة**.

عن الأدب والفوضى

بطبيعة الحال اعتُبر حُكم آية الله الخميني غيابيًّا على سلمان رشدي بالموت تحريضًا على العنف ضدّ مواطنٍ من دولة أخرى. مع ذلك فما يزال سلمان رشدي على قيد الحياة، في حين قضى عشرون شخصًا آخر نحبهم في شبه القارة التي وُلد فيها سلمان رشدي. من تُرى يحرّض على العنف؟ هل أخفق سلمان رشدي فعلًا في إدراك أنّ ما كتبه يندرج ضمن ما يمكن أن يثير احتجاجات عنيفة في شبه القارة الهندية؟ أم إنه لم يكترث؟ جديرٌ بالذكر أنّه حين قرّرت الهند (على نحوٍ متعقّل) منع الكتاب، ناشد سلمان رشدي رئيس الوزراء الهندي راجيف غاندي لرفع المنع عن كتابه. 

        قبل ذلك كان مستشارون هنود قد حذّروا سلمان رشدي والناشر الذي طبع روايته من مغبّة نشر الآيات الشيطانية لما يكتنفها من طبيعة تفجيرية. فقد حذّر السيد كوشوانت سِنج (مستشار غير مسلم لدار بنجوِن للنشر) الناشر، وقال له إنّ الكتاب قد يؤدي إلى اضطرابات في الهند. وقد نُقل عن زَمير أنصاري ممثّل دار بنجوِن في الهند تأكيده لوصول ذلك التحذير. أما سلمان رشدي نفسه فقد وُلد في الهند وكتب سابقًا عن تقسيم شبه القارة الهندية، وأبدى في كتابٍ سابق له إدراكه لسهولة أن يُقدِم العامة في الهند على قتل بعضهم لأسباب دينية. ولعلّ رشدي كان يعرف تمامًا ما حدث حين نُشرت قصة قصيرة في صحيفة الدِكان هيرالد أسيءَ فهمها على أنها تصوّر النبي محمد كشخصٍ أحمق، فأفضى نشر القصة إلى أحداث شغبٍ ومقتل خمسين شخصًا[7]. وحتى بمنع نشر الآيات الشيطانية في الهند إلا أنها تسبّبت في مقتل ما يزيد عن اثني عشر شخصًا، في البلد نفسه الذي وُلد فيه سلمان رشدي، إضافة إلى مقتل آخرين في باكستان. ولو أنها نُشرت في الهند لتضاعف العدد عشرات المرات. جزءٌ من كلفة التحوّل إلى قرية عالمية هو أنّ التحريض على العنف قد يصبح عابرًا للحدود الإقليمية.

        وقد وجد المنع الذي فرضتْه الحكومة الهندية على الآيات الشيطانية دعمًا من عددٍ كبيرٍ من أبرز المثقفين في الهند، سواء أكانوا هندوسًا أم سيخًا أم مسيحيين أم مسلمين. ونشرت صحيفة ذي إنديَن بوست رسالةً وقّع عليها كل من ج.ب دِكشِت (J.P. Dixit) ونسيم إيزيكيل (Nissim Ezekiel)، وجان كلجوتكر (Jean Kalgutkerوفريندا نبار (Vrinda Nabar)، وفسكر ناندي (Vaskar Nandy)، و ف. رامان (V. Raman)، وآشيم روي (Ashim Roy). فهل كانت حالة المنع الهندي للكتاب أداةً لبناء مجتمعٍ قمعيّ؟ تُجيب صحيفة التايمس الهندية فتقول:

 لا أيها العزيز رشدي، لا نودّ أن نصنع هِندًا قمعيّة. بل على العكس، نحاول بأقصى ما في وسعنا أن نبني هِندًا حرّة يمكننا جميعًا أن نتنفّس فيها بحرّية. ولكنْ لكي نصنع هِندًا كهذه، علينا أن نحافظ على الهند الموجودة. قد لا تكون هذه هِندًا جميلة، ولكنْ هذه هي الهند الوحيدة التي نملكها[8].

الكلمة المكتوبة والقرية العالمية

في جوهر الجدل الدائر حول رواية الآيات الشيطانية ثمّة قوّتان ثقافيّتان ساعدتا بدورهما على إنشاء "القرية العالمية"، فمن بين القوى المعَولِمَة قوة اللغة وقوة الدين. لقد أدّى نشوء لغات عالمية بالتأكيد إلى خلق فرص جديدة للكتّاب الذين يكتبون بتلك اللغات، إذْ إنهم حين ينجحون يكون المردود هائلاً. والمسألة التي تطرح نفسها هنا هي ما إذا كان على الكتّاب الذين يكتبون بلغات عالمية مسؤوليات خاصة كذلك.   

        نعرّفُ اللغة العالمية بأنها اللغة التي ينطق بها ثلاثمائة مليون شخص على الأقل، وتتبنّاها عشر دول على الأقل كلغةٍ قومية، وتنتشر في أكثر من قارة. فاللغة الهندية مثلاً لها متحدّثون يفوقون عدد المتحدثين بالفرنسية، لكنها مع ذلك ليست لغة عالمية إنْ أخذنا مسألة الانتشار في اعتبارنا. والصينية كذلك لها متحدّثون أكثر من المتحدثين بالإنجليزية، لكنها لا تصل إلى مستوى العالمية لذلك السبب نفسه.         

        لو كان سلمان رشدي كاتبًا مُلهَمًا باللغة الهندية لما وجد ناشرًا يعطيه حتى ربع مليون دولار أميركي كدفعة مقدّمة من حقوقه. ولو كان سلمان رشدي عبقريًّا يكتب باللغة الكشميرية أو الغجراتية لأصبح محظوظًا إنْ حصل حتى على عشرات الآلاف بالعملة الغربية الصعبة. ما صنع من مخطوطة رشدي استثمارًا يستحقّ المليون ليس جدارةً متأصلة فيها بوصفها عملاً إبداعيًّا، وإنما لأنّ مؤلفها كان كاتبًا ناجحًا أصلًا باللغة الإنجليزية*. كان المقياس التجاري يعتمد جزئيًّا على حجم السوق اللغويّة. وهكذا، فلئن كانت الحقوق تقتضي الواجبات، والمكافآت تحمل معها الالتزامات، فلا ينبغي أن نعتبر مستخدمي اللغات العالمية مجرّد أشخاص أوفر حظًا من غيرهم. فنحن مُلزمون بواجبٍ يتمثّل في إدراك ما تنطوي عليه العولمة من تبعات. 

        تتفوّق اللغة الإنجليزية على لغات العالم الثالث في الكلمة المطبوعة أكثر منها في اللغة المنطوقة. فالهندية ليست متخلّفة كثيرًا خلف اللغة الإنجليزية فيما يتعلق بعدد المتحدثين، لكنها في مرتبة أبعد بكثير من الإنجليزية فيما يتعلق بالقرّاء النوعيّين. وهكذا فإنّ الفارق بين الهندية والإنجليزية في سوق الكتب أكبر من ثلاثة أضعاف الفارق فيما يتعلق بالمتحدثين.

        ما نصل إليه من هذه العوامل هو أنّ مفهوم "الكتاب الأكثر مبيعًا" له دلالة مختلفة في سياق الكتب المكتوبة باللغات العالمية، إذْ إنّ حسّ الإنجاز يُصبح شيئًا مميّزًا جدًّا. والمسألة المطروحة هنا مرةً أخرى هي ما إذا كان حجم الانتشار العالمي يتطلّب مقياسًا مكافئًا له فيما يتعلق بالحرص والحساسية.    

        لقد أصبح الكتاب المقدّس "أكثر مبيعًا" بعد فترة طويلة من حياة مرقس ولوقا ومتّى ويوحنا، فقد كُتب أصلًا بلغات محدودة نسبيًّا. واللافتُ هو أنّ الكتاب المقدّس لم يكن له أن يصبح "أكثر مبيعًا" إلا بعد أن تتمّ عولمة الدين. في كل عشر سنوات (لا سيّما في القرن العشرين) يُترجم الكتاب المقدّس إلى لغاتٍ جديدة. وللمفارقة فإنّ الكتاب المقدّس نفسه هو الذي قال "في البدء كان الكلمة"، فهل للكلمة نهاية؟ بالطبع ليس إنْ كانت "الكلمة" هي الربّ نفسه، ولكن إنْ اعتبرنا "الكلمة" هي الكتاب، فهو ما يزال ينتقل إلى لغات جديدة عَقدًا بعد عقد. يُعدُّ كتاب يسوع بهذا المعنى معجزةً مُترجَمة.

        ولكن على أية حال فإنّ الطعن الذي وجّهه سلمان رشدي لم يكن لهذا الكتاب المقدّس، وإنما لكتابٍ عظيم آخر ساعد في تحويل العالم إلى قرية عالمية. فلئن كان الكتاب المقدّس معجزة مترجَمة، فإنّ القرآن انتصارٌ للبقاء. فهو أكثر كتاب يُقرأ بلغته الأصلية في التاريخ، وكل يوم هناك ملايين المؤمنين يقرؤونه أو يرتّلونه في أنحاء العالم. في كلّ ثانية ثمة شفاه في مكانٍ ما على الأرض تحمل كلماته. وفي حين احتاج الكتاب المقدّس والقرآن إلى تحوّل دينيّ كي يصبحا "الأكثر مبيعًا"، احتاج سلمان رشدي في كتابه إلى لغة عالمية. وقد حقّق رشدي نجاحًا كبيرًا حتى قبل أن تصبح روايته حدثًا عالميًّا بعد الحكم عليه بالموت.     

        فإنْ استفاد مثل هؤلاء الكتّاب المحظوظين من فوائد القرية العالمية، أفلا يجب عليهم أيضًا إدراك ما تقتضيه من مسؤوليات عالمية خاصة؟ لو أنّ روايةً منشورة في لندن أو نيويورك يمكنها أن تؤدي إلى مقتل الناس في كراتشي أو بومباي، هل ينبغي للقانون الدولي محاولة التعامل مع مفاهيم جديدة للتحريض العابر للدول على العنف؟ تُرى هل ينبغي للكتّاب أن يكفّوا للحظة واحدة عن التأكيد على حقوقهم وحريّاتهم ويتأملوا التزاماتهم إزاء المجتمع العالمي ولو مرة واحدة؟

        لقد عرضت قضية رشدي هذه المسألة بطريقةٍ درامية جديدة. يمكن لكتابٍ أن يصبح سلاحًا مميتًا، والقلم الذي يكتب ثلاث فقرات مستفزّة في لندن قد يتسبّب في سفك دماء في النصف الآخر من العالم. تُرى متى يكون الكاتب مُذنبًا بالقتل غير المتعمّد؟ هل في وقت الكتابة نفسها؟ هل هذا جزء من الضريبة التي ينبغي لنا أن ندفعها للقرية العالمية؟  

عن الدين والعِرق

هل رواية الآيات الشيطانية الكتاب الأكثر إثارة للفتنة في السياسة العالمية منذ كتاب كفاحي لهتلر؟ كان كتاب هتلر معاديًا لليهود، في حين أنّ كتاب رشدي معادٍ للمسلمين. كانت لهتلر تطلّعات سياسية، في حين تبدو طموحات رشدي في أساسها أدبية وارتزاقية. بيد أنّ الكتابين في جوهرهما تنفيريّان وسببان لإثارة الفتنة من حيث القصد والتأثير.

        في أواخر عام 1989م لاقت ترجمةٌ عبريّة لكتاب هتلر صعوبةً في إيجاد ناشر لها في إسرائيل. أما هتلر نفسه فقد كان يصف نفسه كاتبًا، وكان مصدر دخله الأساسي تلك المكافآت التي يحصل عليها من مقالاته ومن حقوق كتابه. وتشير سجلاته الضريبية من عام 1925م إلى 1929م إلى أرقامٍ تقترب جدًّا من الحقوق التي حصل عليها من كتابه.

يقول آلان بولوك في كتابه هتلر: دراسة في الطغيان: "...إنّ كتاب كفاحي مثير للاهتمام جدًّا لأيّ شخصٍ يحاول أن يفهم هتلر..."[9]. تُرى هل تُعدّ رواية الآيات الشيطانية مثيرة للاهتمام هي الأخرى لأي شخصٍ يحاول أن يفهم سلمان رشدي؟ لكنّ كفاحي لم يصبح "أكثر مبيعًا" إلا بعد أن وصل هتلر إلى السلطة. أما العنوان الأصلي للكتاب فكان أربع سنوات ونصف من الكفاح ضدّ الأكاذيب والحماقة والجبن. ولا أدري ما إذا كان سلمان رشدي يرى نفسه مكافحًا لسنوات عديدة ضدّ "الأكاذيب والحماقة والجبن" الإسلامية. في حالة هتلر قلّص ناشرُه أمي ماكس أمان العنوان إلى "كفاحي"، وكثّف رشدي وناشره عنوان روايته إلى "الآيات الشيطانية". 

        إن كان هتلر قد آذى اليهود، ورشدي آذى المسلمين، فهل حمل الاثنان نفورًا من السُّود أيضًا؟ لا يوجد شكّ في وجود "زنجوفوبيا" [كراهية الزنوج] لدى هتلر، ولكن هل توجد آثار من "الزنجوفوبيا" في رواية سلمان رشدي؟ نحتاج هنا إلى التطرّق إلى نقطة الالتقاء بين الدين والعنصرية. في أوروبا في العصور الوسطى كان الرمز الديني الأعلى للشيطان على الأرض هو محمد، والرمز العنصريّ الأعلى للشيطان على الأرض هو الإنسان الأسوَد. بعبارةٍ أخرى، كان الإسلام هو البُعد الديني الأقصى عن التقوى، وكان السواد هو البُعد العِرقيّ الأقصى عن الإنسانية. 

        بعد ذلك بوقت طويل وصف الشاعر رُديارد كِبلنج السُّود من أبناء المستعمرات بأنهم "نصف شياطين، نصف أطفال". أما النبي مُحمّد فقد اعتُبر لفترة طويلة شيطانًا كاملاً. في وقتٍ لاحق استخدم البِيضُ اسمًا تحقيريًّا للرجل الأسود، ألا وهو "الزنجيّ"، كما استخدموا في العصور الوسطى اسمًا تحقيريًّا لنبيّ الإسلام هو "ماهوند".

        يزعم رشدي أنّه مثلما "قَبِل السُّود جميعًا وبفخرٍ ما أعطي لهم من أسماء تحقيرية، وبالمثل فإنّ المتنسّك متسلّق الجبال المتحفّز بالنبوة سيصبح مخوِّف الأطفال في العصور الوسطى المرادف للشيطان: ماهوند"[10]. ويضيف رشدي: "هو ذا، ماهوند رجل الأعمال، يتسلّق جبله الحارّ في الحجاز، وسراب مدينةٍ يومضُ تحته في الشمس"[11]. كما يسلّط رشدي الضوء على بلال بن رباح أول مسلمٍ أسود في التاريخ. يذكّرنا رشدي بأنّ النبي شاهد بلال وهو يُعذَّب بسبب إيمانه بإله واحد. كان الأمرُ أشبه بكونتا كينتي يُجلَد بالسياط كي يتخلّى عن اسمه الإفريقي ويقبل اسمه في العبودية "توبي". وفي رواية الآيات الشيطانية نجد بلالاً وقد أُمر عند معبد اللّات أن يعدّد أسماء الآلهة:

أجاب "واحد"، بصوته الموسيقي القويّ. إنّ جزاء الكفر الموت. سَحَلوه في السوق وقد وضعوا على صدره صخرة كبيرة. كم قلت؟ قال مرة أخرى: واحد. وضعوا صخرة ثانية على صدره. أحدٌ أحد. دفع ماهوند مبلغًا كبيرًا من المال لمالكه لكي يعتقه.

        أصبح بلال بن رباح أول صوتٍ عظيم للإسلام. بداية إرثٍ صوتيّ أسود في تاريخ العالم، من بلال وحتى بول روبسن* ومن بعده. لقد بدأت القوة الصوتية السوداء في تاريخ العالم من سيّدنا بلال.

        ويبدو أنّ رشدي يُشيد ببلال لثباته على مبدأ التوحيد، وبزعمِ أنّه كان أكثر ثباتًا من النبيّ ماهوند نفسه؛ إذْ إنّ ماهوند (وفقًا لرشدي) قَبِل مؤقتًا بالتثليث الوثني [عبادة اللات والعزّى ومناة تحت الإله الأكبر]. ذُعر بلال لذلك وهتف صائحًا: "لا يمكن لله أن يكون أربعة" (ص107). وقد تبرّأ ماهوند لاحقًا من ذلك واعتبر الآيات التي نزلت في ذلك آيات شيطانية. من اللافت أنّ رشدي لا يقدّم أية إشادة صريحة ببلال أو بالإسلام بوصفه دينًا متعدّد الأعراق منذ بداياته. فبلال بن رباح يمثّل الأسبقية الكبرى للتعددية العرقية الإسلامية، وذلك قبل أربعة عشر قرنًا من محاولة الرئيس الأميركي إقناع كنيسته في جورجيا بأن تصبح متعدّدة الأعراق. هذا ولا يفلح رشدي في مقاومة بعض النعوت ضدّ الرجل الأسود، فيخلق شخصيةً تنظر للرجل الأسود (بلال) على أنه: "الحثالة... العبد بلال، الذي أعتقه ماهوند، وحش أسود ضخم بصوتٍ ينسجم مع حجمه"[12].

        في الرواية نجد شخصية "بَعْل" الشاعر والهجّاء، وربما يرى رشدي نفسه في شخصية بعل. فماذا يقول الشاعر بعل للرجل الأسود بلال؟ "إنْ كانت أفكار ماهوند تساوي شيئًا، فهل تظنّ أنها كانت ستلقى قبولًا لدى زُبالة مثلك؟" (ص104). يحاول بلال أن يردّ لكنّ سلمان الفارسي يمنعه. يقول سلمان للرجل الأسود: "فخرٌ لنا أنّ بعل الجبّار اختار أن يهاجمنا"، فيبتسم، ويهدأ بلال، ويستكين (ص104).

        وفي الرواية أيضًا نجد تناسخًا لشخصية بلال على شكل أميركيّ أسود متحوّل للإسلام، واسمه بلال إكس (مثل مالكولم إكس). ويبدو أنّ بلال إكس يتبع إمامًا شيعيًّا ثائرًا على شخصية متناسخة من زوجة النبي عائشة، واسمها الامبراطورة عائشة. يمتلك بلال إكس القوة الصوتية نفسها التي كانت عند بلال الأصليّ. وبتأثيرٍ من الإمام لا يكتفي هذا الأميركي الأسود بالرغبة في إعادة كتابة التاريخ، بل إنه لُقِّن أن يثور على التاريخ وأن يعتبره "المسْكِر، صنيعة الشيطان، الشيطان الأكبر، الكذبة الأكبر—التقدّم والعلم والحق...".

        هكذا يُحشَدُ صوت الأميركي الأسود الجميل ضدّ التاريخ. يخطب بلال إكس في ليلة المستمعين (على الإذاعة) فيقول: "سندمّر التاريخ، وحين يتكشّف لنا التاريخ سوف نرى الفردوس هناك بكل عظمتها وضيائها"[13]. لقد لقّن الإمامُ الأميركيَّ الأسودَ أنّ "التاريخ انحراف عن الطريق، والمعرفة وهم...". يقول لنا سلمان رشدي:

 اختار الإمامُ بلالًا لهذه المهمة [الدعائية] نظرًا لحُسن صوته، والذي نجح في تجسّده السابق في اعتلاء قمة الأغاني، ليس مرة واحدة بل مراتٍ عديدة. الصوت قويّ وسلطويّ، صوت يستدعي الإنصات له، ثريّ، مُدرّب جيدًا، صوت الثقة الأميركية، سلاح الغرب الذي انقلب على صانعيه، أولئك الذين يدعمون بقوّتهم الامبراطورة وطغيانها[14].

        وحين يعترض بلال إكس، الأميركي الأسود، على هذا الوصف لصوته ويرى أنه يساويه بالامبريالية الأميركية، يضع سلمان رشدي الكلمات التالية على لسان الإمام:

يا بلال، إنّ معاناتك هي معاناتنا أيضًا. ولكن حين تنشأ في بيت القوّة ينبغي أن تتعلّم أساليبها، أن تتشرّبها، في بشرتك التي كانت سبب اضطهادك. يا لَشيمة القوّة، يا لَصوتها، يا لَوضعيّتها، وأسلوبها في أن تكون عند الآخرين. إنها مرض يا بلال، يصيب جميع من يقترب منها. إنْ داسَك القويُّ فسوف تُصاب بالمرض من أخمص قدميك[15].

        هل يسخر سلمان رشدي من الأميركان الأفارقة عمومًا؟ أم إنه يهجو المسلمين من الأميركان الأفارقة؟ أم إنه يحطّ من قدر مالكولم إكس؟ ولكن بما أنّ العديد من الأميركان الأفارقة المسلمين يعتبرون الإسلام طريقًا نحو إعادة الأفْرَقة، أي العودة إلى الجذور، فهل ما يفعله سلمان رشدي ببساطة هو مواصلة احتقاره لجذوره؟

        وفقًا لألكس هيلي فقد كان كونتا كينتي مسلمًا. إذًا فقد سعى ألكس هيلي إلى البحث عن جذوره، أما سلمان رشدي فقد أدار ظهره لجذوره. نعود إلى مسألة ما إذا كانت الآيات الشيطانية عنصريةً بقدر عنصرية كفاحي، فنقول إنّ الجواب هو: بالتأكيد لا. بيد أنّ ثمة تيّارًا من الزنجوفوبيا في الكتابين. كما أنّ الكتابين معاديان للسامية، رغم أنّ كلا منهما موجّه ضدّ قسمٍ مختلفٍ من الشعوب السامية. ففي حين أنّ هتلر كان معاديًا لليهود، نجد تيارًا من العداء للعروبة عند سلمان رشدي. لا يستطيع رشدي أن يصدّق أنّ المسلمين الباكستانيين يمكن أن يناصروا الفلسطينيين دون أن يبيعوا أنفسهم للحكومات العربية. يقول سلمان رشدي في روايته السابقة العار:

...عن معاداة الساميّة، وهي ظاهرة لافتة نرى فيها الناس الذين لم يلتقوا بيهوديّ في حياتهم يطعنون في جميع اليهود، من أجل التضامن مع الدول العربية التي توفّر هذه الأيام للباكستانيين فرص عمل وعملة أجنبية تشتدّ إليها الحاجة الآن...[16]

        ثمة تيّار فكري في جامعة كورنِل يرى أنّ الحجّة القوية لمنع الآيات الشيطانية هي في الجانب الضمنيّ منها حجة قوية لمنع القرآن كذلك. وهذا أشبه بأن تقول للإسرائيليين إنكم إنْ منعتم كتاب كفاحي فعليكم أن تمنعوا أيضًا الكتاب المقدّس والتوراة. بكل تأكيد يُعدّ كتاب كفاحي ورواية الآيات الشيطانية من الكتابات المفعمة بالكراهية، أما القرآن والتوراة فليسا كذلك.

الخلاصة

في عام 1971م نشرتُ روايةً قدّمتُ (ضمن أحداثها) شاعرًا ميّتًا أمام المحاكمة في الدار الآخرة. أما التهمة فكانت هي أنّ الشاعر أخضع إبداعه لولائه الإثنيّ، إذْ إنه عرّف نفسه بصفته من الإجبو أولًا، ثم بصفته شاعرًا. قدّم هذا الشاعر حياته دفاعًا عن أسلافه، وماتت معه ربّة شِعره[17].

        ولو قُدِّر لسلمان رشدي أن يُقتل بسبب الآيات الشيطانية، فإنّ التهمة التي قد يواجهها في الدار الآخرة هي العكس تمامًا من تهمة شاعر الإجبو. وفي حين قرّر كرستفر أوكِجبو قبل مماته أنه من الإجبو أولًا ومبدعًا ثانيًا، فقد قرّر سلمان رشدي أنه مبدع أولًا ومسلم هنديّ ثانيًا. وفي حين قدّم أوكِجبو انتماءه الإثنيّ على إبداعه الفنّي من حيث التقديس، فقد قدّم سلمان رشدي إبداعه الفنّي قبل جماعته من حيث الولاء.

        بيد أنّ الآيات الشيطانية ليست قضية "فنٍّ من أجل الفن"، أليس كذلك؟ والرواية بالتأكيد لها اهتمامات اجتماعية وثقافية، أليس كذلك؟ ترفع هذه الرواية مُتعة الفنّ فوق ألم المجتمع، ويُخضِع رشدي غضب المسلمين المؤمنين لمرتبة أدنى من دغدغة القرّاء الغربيين.

        كان على سلمان رشدي أن يعرف أنّه لا توجد ثقافة عظيمة يمكن إصلاحها عبر إهانتها. إنّ النهج الأفضل للإصلاح هو إعادة ترتيب القيم داخل الإطار الموجود. فإذا أردتَ أنْ تجعل الأميركان يصوّتون لحقوقٍ متساوية للمرأة، سيكون من غير المفيد أبدًا أن تقول لهم إنّ آباءهم المؤسسين، من واشنطن وحتى جيفرسن وغيره، لم يكونوا سوى خنازير شوفينية ذكورية (حتى وإن كانوا كذلك). من الأفضل أن تقول للأميركان إنّ منح النساء حقوقًا مساوية للرجال هو غاية الحكمة والإرث الذي وضعه الآباء المؤسسون (أي إعادة تفسير "كل الرجال خُلِقوا سواسية").

        يقول رشدي إنّ روايته ليست عن الإسلام وإنما عن الهجرة، بيد أنّ الإسلام نفسه في جزء منه دين يتعلق بالهجرة واللجوء الآمن. فالتقويم الإسلامي لا يبدأ بمولد النبي محمد، ولا يبدأ بوفاة محمد، ولا يبدأ بتاريخ نزول الوحي (وهو يوم البعثة النبوية)، بل يبدأ باليوم الذي هاجر فيه محمد من مكة إلى المدينة. إذًا فمبدأ اللجوء الآمن محتفى به في مفهوم "الهجرة" في الإسلام.

        هل الإسلام ضدّ الكتّاب؟ في رواية رشدي يقول النبي ماهوند إنه لا فرق بين الكتّاب والعاهرات. صحيحٌ أنّ بعض الكتّاب يمارسون العهر، وقد اتُّهم رشدي نفسه بذلك إذْ أثرى على حساب كرامة الآخرين. هل كان بإمكان رشدي أن يكتب رواية أكثر احترامًا للإسلام وفي الوقت نفسه تنتقد ذلك التراث؟ بالطبع كان يستطيع. يقول رشدي نفسه في روايته الأخرى العار: "...كل قصة يختار المرء أن يحكيها تنطوي على ضربٍ من الرقابة، إذْ إنها تمنع سرد قصص أخرى"[18].

        مع ذلك يسخر رشدي من الهجرة، ويجعل شاعره "بعل" يؤلف أنشودةً توديعية بعد رحيل ماهوند من الجاهلية (أي مكّة). "كيف تبدو اليوم فكرة الإسلام؟ فكرة مليئة بالخوف. فكرة هاربة"[19]. بالطبع لم يعرف رشدي أنه في غضون أشهر من نشر هذا الكلام سيختبئ هو نفسه، ويُصدر آية شيطانية اعتذارية من مخبئه. فكرة هاربة.

        انشغل الغربيون في البحث عن الدوافع وراء ردود فعل المسلمين. هل يعود ردّ الفعل الإيراني إلى معركة بين المعتدلين والمتعصبين؟ هل كان راجيف غاندي يغازل أصوات المسلمين في الهند؟ هل كان المسلمون يُضعفون من مكانة بينظير بوتو في باكستان عبر سلمان رشدي؟ أما دوافع الكاتب سلمان رشدي فنادرًا ما تهمّ المراقبين السياسيين في الغرب. في الجهة المقابلة نجد أنّ المسلمين حائرون أكثر في البحث عن دوافع الكاتب بدلاً من دوافع المتظاهرين في شوارع دكا أو كراتشي. يجد الغربيون صعوبة في استيعاب غضب المتظاهرين والمنع الحكومي، ويجد المسلمون صعوبة في استيعاب ما يعتبرونه خيانة ثقافية من الكاتب. ولكن هل كان دافعًا كافيًا للخيانة الثقافية أن يتقاضى الكاتب كما قيل أكثر من 800 ألف دولار كدفعة مقدّمة كي يسخر من الإسلام؟ يشير آخرون إلى أنها كانت 800 ألف جنيه استرليني، أي ما يقارب 1.5 مليون دولار أميركي قبل أن يُثار الجدل حول الرواية بسبب الفتوى الإيرانية.

        أما عن القول إنّه لا يمكن للمرء أن يشعر بالسخط من كتاب إلا لو قرأه بنفسه، فأقول: منذ متى؟ هناك ملايين المسيحيين المسلمين الذين لم يقرؤوا من الكتاب المقدّس سوى بضع صفحات. هناك بالطبع مسلمون يمكنهم قراءة القرآن دون أن يفهموا ما يقرؤون. وهناك يهود مؤمنون لا يعرفون من التوراة سوى بضعة مقتبسات. والكثير من أولئك الذين لديهم نظريات حول آية الله الخميني لا يعرفون كلمة واحدة من الفارسية. كم عدد الذين يعرفون من التجربة المباشرة أنّ الخميني أصدر فعلًا الحكم بالموت على سلمان رشدي؟ ماذا عن أولئك المسلمين الذين قرؤوا الرواية؟ هناك افتراض بأنّ جميع المسلمين الذين انتقدوا سلمان رشدي لا بدّ أنهم جاهلون باللغة الإنجليزية أو غير قادرين على فهم الأدب الرفيع.

        إنّ الديانة التي تحمل أكثر الكتب تقديسًا في التاريخ لديها حساسية من الكتب التي يمكن أن تنتهك قدسيته. ولكن لماذا يُعدّ القرآن أكثر كتاب مقدّس؟ أولًا، لأنه يُستخدم خمس مرات في العبادات اليومية، عند محطة الباصات في إندونيسيا، أو في السوق في كراتشي، أو في الحقول الخضراء في نيجيريا، أو في المدرسة في تركيا، وكذلك في المسجد في سوريا. ثانيًا، هناك مليار إنسان ينظرون إلى هذا الكتاب على أنه كلمة الله، وليس الإنجيل برواية مرقس أو متّى. ثالثًا، القرآن معجزة شخصٍ أمّي يتلو أكثر كتاب مقروء بلغته الأصلية في التاريخ. رابعًا، كان للقرآن تأثير كبير في استقرار اللغة العربية، وقد جمع بين عقيدة أنه لا يمكن تقليده واستقطاب محاولات التقليد.

        ولكن بعد أن قلنا كل هذا، نقول إنّ على المسلمين أن يناشدوا القادة الإسلاميين في إيران لإلغاء حكم الإعدام، واستبداله باللعن في أسوأ الأحوال. في بريطانيا أبدى الدكتور زكي بدوي رئيس مجلس الأئمة والمساجد ومجلس الشريعة الإسلامية إدانته لكلٍ من تجديف رشدي في روايته وحكم آية الله الخميني على الكاتب. يقول الدكتور زكي بدوي:

نعم، يمثّل الخميني نظرة المسلمين جميعهم بأنّ سلمان رشدي في الظاهر مجدّف، مهرطق. ولكن لا الخميني ولا أي سلطة مسلمة أخرى تملك صلاحية الحكم على رشدي بالموت. عليّ القول بكلّ ما أملك من صلاحية إنّ أي شخصٍ يسعى أو يحرّض على قتل رشدي فإنه يرتكب جريمة في حقّ الله وفي حقّ الشريعة الإسلامية.

  وحتى لو حُكم عليه حكمًا مشروعًا بالموت، فلا ينفّذ الحكم إلا السلطات الإسلامية المختصة، ولا يمكنك في الإسلام أن تصدر أي حكم، ناهيك عن الإعدام، دون محاكمة كاملة. من غير المقبول في الإسلام محاكمة أحدٍ في غيابه. وتتفق تعاليم الأقلية الشيعية والأغلبية السنية التي أنتمي إليها في هذا الأمر.  

  وحتى لو حوكم رشدي، فليس من المؤكد أن يُحكم عليه بالإعدام. لقد تسامح النبي نفسه مع كثيرين من الذين ارتدوا عن الإسلام لكنهم لم يشكلوا خطرًا على الدولة. أما من قُتلوا فبسبب تمرّدهم على الدولة، وليس بسبب معتقداتهم.

        وأكّد الدكتور بدوي على أنه حتى لو أُدين سلمان رشدي بالكُفر، فستكون لديه فرصة أن يُستتاب، ووفقًا لبعض العلماء فيُمكن أن تُعطى له فرصة إعادة التفكير في معتقداته طوال حياته. لقد سبّب كتاب رشدي "جرحًا عميقًا للغاية"، "بيد أنّ العلاج هو عدم قراءته"[20].

        إن كان لا بدّ من إصدار حكمٍ ما، فلعلّ الحكم باللعن الديني أفضل من الحكم بالإعدام، والأفضل منهما هو ترك أمر سلمان رشدي لله. نعم، يمكننا أن نمنع أدب الكراهية إن اقتضت الحاجة، ولكن علينا أن نحبّ الكاتب بوصفه أخًا في الإنسانية. ينبغي أن نتذكّر أنّ أول كلمة نزلت من القرآن كانت "اقرأ". لقد وُلد الإسلام بأمرٍ بالقراءة، وبروح هذه الآية الأولى ينبغي أن يكون ردّ المسلمين هو الاحتفاء بالكلمة المكتوبة.

 

[1]فصل من كتاب علي المزروعي القُوى الثّقافيَّة في السِّياسة العالميَّة. ترجمة: أحمد حسن المعيني. صدر عن منتدى العلاقات العربية والدولية، الدوحة.

*أثناء الحرب الباردة بين المعسكرين الأميركي والسوڤييتي تنامى لدى الأميركان توجّس هائل من الخطر السوڤييتي داخل الولايات المتحدة، وأعلن السيناتور جوزِف مكارثي أنّ لديه قائمة طويلة من أعضاء الحزب الشيوعي الذين يعملون في وزارة الخارجية الأميركية. وشنّ مكارثي في مجلس الشيوخ حملة تحقيقات رهيبة في منتصف الخمسينيات مع مئات الموظفين الحكوميين والعاملين في هوليوود. وقد عُرفت هذه الظاهرة من إطلاق الاتهامات الجزافية والسعي المحموم إلى الكشف عن الخونة باسم "المكارثية". (المترجم).

[2]   كُتب عن ذلك في صحيفة نيويورك تايمس بتاريخ 20 آذار/ مارس 1989م.

[3]  انظر: Encyclopedia Britannica, 1979, Vol. 16, p. 630. وانظر أيضًا:

 Arnold Kettle (editor), Shakespeare in a Changing World (New York: International Publishers, 1964)

[4] نفسه، ص629-630. وللاطلاع على رأي تشكيكي مشابه فيما يخصّ النبي محمد والقرآن، انظر:
Patricia Crone and Michael Cooke, Haggarism (Cambridge: Cambridge University press, 1977).

**الدعوى القضائية الجماعية (class action): قضية يرفعها مدّعي نيابة عن جماعة أو فئة. (المترجم).

**العبارة المحذوفة فيها وصف لكارل ماركس بالنبوة.

[5]New York Times, 26 october 1986.

*المهمّة المستحيلة (Mission: Impossible): مسلسل أميركي شهير أُذيع للمرة الأولى عام 1966م حتى عام 1973م، وعاد في حلقات جديدة من عام 1988م حتى 1990م، وبعد ذلك تحوّل إلى سلسلة أفلام سينمائية شهيرة من بطولة الممثل الأميركي توم كروز. تدور فكرة المسلسل حول "وحدة المهمات المستحيلة"، وهي وكالة تجسسية مستقلة (يُفترض أن لا يكون بينها وبين الحكومة ارتباط علنيّ) تنفّذ عدة مهمات سرّية ضد بعض الطغاة أو المنظمات الإجرامية. وعادة ما تبدأ الحلقات بمشهدٍ لقائد الوحدة وهو يتلقّى تفاصيل مهمّته من شريط مسجّل، ينفجر بمجرّد تشغيل الرسالة والاستماع إليها. (المترجم).

[6]Time magazine, Vol. 131, 11 April 1989; Newsweek, Vol. 110, 7 September 1987, p. 41.

*تُشير المصادر إلى أنّ سِندي تعرّفت إلى فعنونو في لندن ثم أقنعتْه بالسفر معًا إلى روما، وهناك نُقل إلى سفينة راسية خارج المياه الإقليمية الإيطالية. يمكن الاطلاع على التفاصيل الكاملة لهذه الحادثة في كتابتلك المرأة من الموساد: قصة مردخاي فعنونو والبرنامج النووي الإسرائيلي من تأليف الصحافي الذي التقى فعنونو ونشر بعض المعلومات المتعلقة ببرنامج إسرائيل النووي قبل حادثة الاختطاف. (المترجم):
Peter Hounam, The Woman from Mossad: The Story of Mordechai Vanunu & the Israeli Nuclear Program (London: Frog Ltd., 1999).

**ينصّ الحكم الصادر عن محكمة الاستئناف التي نظرت في قضية فواز يونس في الولايات المتحدة على ما يلي: "في 11 يونيو/ حزيران 1985م ركب [فواز يونس] مع أربعة أشخاص آخرين طائرة الخطوط الملكية الأردنية (الرحلة 402) قُبيل إقلاعها من بيروت. كانوا يرتدون ملابس مدنية ويحملون بنادق عسكرية وذخيرة وقنابل يدوية. سيطر [فوّاز يونس] على قمرة القيادة وأجبر القبطان على الإقلاع مباشرة، في حين قيّد المختطفون الآخرون الضباط السرّيين الأردنيين المكلفين بحماية الطائرة، واحتجزوا الركّاب المدنيين الذين كان من بينهم مواطنان أميركيان. أوضح المختطفون لطاقم الطائرة والركّاب أنهم يريدون من الطائرة الإقلاع إلى تونس حيث كانت تُعقد قمة للجامعة العربية. وقالوا كذلك إنّهم كانوا يريدون اللقاء بوفود القمة وأنّ هدفهم هو إخراج جميع الفلسطينيين من لبنان. وبعد توقّف قصير في قبرص للتزوّد بالوقود توجّهت الطائرة إلى تونس لكنّ السلطات لم تسمح للطائرة بالهبوط. وبعد توقّف آخر في صقلية للتزوّد بالوقود ومحاولة ثانية للهبوط في تونس وتوقّف آخر في قبرص، عادت الطائرة إلى بيروت حيث انضمّ مزيد من المختطِفين إلى الطائرة. ومن بين هؤلاء مسؤول في منظّمة "أمل" اللبنانية والتي يقول فوّاز يونس أنه يأتمر بأوامرها. بعد ذلك أقلعت الطائرة إلى سوريا، ولم يسمح لها بالهبوط فعادت إلى بيروت. عندها أفرج المختطفون عن الركّاب وعقدوا مؤتمرًا صحفيًّا أكّدوا فيه مطالبهم بمغادرة الفلسطينيين لبنان، ثم فجّروا الطائرة وهربوا من المطار.

 تمكّنت التحقيقات الأميركية من تحديد هُوية فوّاز يونس بصفته قائدًا للعملية، وشرعتْ جهات مدنية وعسكرية يقودها مكتب التحقيقات الفدرالي (FBI) في وضع خطة للقبض على فوّاز يونس. وبعد الحصول على إذن قضائي بالقبض عليه بدأ مكتب التحقيقات الفدرالي بتنفيذ "عملية جولدينورد" في أيلول/ سبتمبر 1987م. استدرج عملاء مكتب التحقيقات الفدرالي فوّاز يونس إلى يختٍ في شرق البحر الأبيض المتوسط بعد أن وعدوه بصفقة مخدّرات، واعتقلوه بمجرد عبور اليخت المياه الإقليمية. نقل العملاء فوّاز يونس إلى سفينة عسكرية تابعة للبحرية الأميركية وحقّقوا معه عدة أيام حتّى وصول السفينة إلى حاملة طائرات. ومنها نُقل فوّاز يونس جوًّا إلى قاعدة أندروز التابعة لسلاح الجو، ومنها إلى واشنطن. في واشنطن مثل فوّاز يونس أمام محكمة بتهمة التآمر واحتجاز الرهائن وإتلاف طائرة". وقد حُكم على فوّاز يونس في تشرين الأول/ أكتوبر 1989م بالسجن لمدة ثلاثين عامًا، ثم جرى ترحيله إلى لبنان بعد قضاء ستة عشر عامًا من مدة الحكم. ويمكن قراءة المزيد مما جاء في نصّ الحكم من الوصلة التالية. (المترجم):

 http://law.justia.com/cases/federal/appellate-courts/F2/924/1086/224419.

[7]انظر الرسالة التي نشرها راڤندر: H. V. Ravinder, New York Times, 26 February 1989. “The Week in Review”, p. 22.

[8]Quoted by Rafiq Zakaria, Al-Qalam, November-December 1988.

*كان سلمان رشدي قد حقّق نجاحًا باهرًا قبل ذلك بروايته أطفال منتصف الليل التي صدرت عام 1981م وحصلت على جائزة البوكر، ثم أصدر رواية العار عام 1983م التي دخلت القائمة القصيرة لجائزة البوكر، وحصلت على جائزة "أفضل كتاب أجنبي" في فرنسا. (المترجم، عن موسوعة الويكيپيديا).

[9]Alan Bullock, Hitler: A Study in Tyranny (New York: Harper and Row, 1964), p. 122.

[10]The Satanic Veres, p. 93.

[11]نفسه.

*پول روبسن (Paul Robeson) (1898-1976م): مغنٍّ وممثّل وناشط أميركي أسود ذو ميول يسارية. اشتُهر بقوّة صوته وأدواره في مسرحيات الكاتب المسرحي الشهير يوجين أونيل. (المترجم).

[12]The Satanic Verses, p. 101.

[13]نفسه، ص210.

[14]نفسه، ص211.

[15]نفسه.

[16]Salman Rushdie, Shame (London: Jonathan Cape, 1983), p. 72.

[17]Ali Mazrui, The Trial of Christopher Okigbo (London: Heinemann Educational Books, 1971).

[18]Shame, p. 73.

[19]The Satanic Verses, p. 126.

[20]Guardian, 2 February 1989.

  

شارك :

التعليقات (1)

أضف تعليق