مأساة الأويغور الصينيين

طباعة 2020-05-28
مأساة الأويغور الصينيين

ثلاثة تقارير من النيويورك تايمز[1]

 

نشرت صحيفة النيويورك تايمز تقارير عن مأساة الأويغور الصينيين اخترنا منها ثلاثة لكريس بكلي (Chris Buckley) نشرت في عامي 2018 و2019، وفيها تفاصيل عن أزمة الأويغور في الصين، في إقليم شينجيانغ (تركستان الشرقية) على وجه الخصوص. قمنا بتلخيص ما ورد في هذه التقارير الثلاثة من معلومات عن معسكرات الاعتقال وطبيعة الحملة التي شنتها الحكومة الصينية على المسلمين الأويغور، وكذلك أقليات مسلمة أخرى في الصين. وهي حملة تذكّر، حسب التقارير، بالجنون الذي غرقت فيه الصين في العقد الأخير من الحقبة الماوية. تكشف هذه التقارير مدى أزمة الصمت الدولي في فترة حسبت البشرية أنها بدخولها القرن الحادي والعشرين تكون قد تخلصت من الطبيعة الشمولية التي وسمت غالب الأنظمة الحاكمة في القرن الماضي. تكشف مأساة الأويغور كذلك هشاشة الأقنعة الإيديولوجية التي تتستر وراءها أنظمة استبدادية تسعى لفرض ثقافة وهوية واحدة ومنغلقة على جميع مواطنيها. ويبدو أن الثورة التقنية التي شهدها العالم في العقود الأخيرة جعلت الشعوب توّاقة إلى فضاءات أكثر رحابة من جهة، ولكنها أيضًا لم تزد الاستبداد إلا مزيدًا من التوحش من جهة ثانية.

تمهيد

تعد تركستان موطن الشعوب ذات الأصل التركي، وهي بلاد ممتدة "من بحر الخرز في الغرب إلى جبال ألتاي وألتون في الشرق، وخراسان وقره قوروم في الجنوب إلى جبال أورال وسيبيريا في الشمال"[2]. عرفت تركستان طوال تاريخها دولًا عدة كانت تمتد أحيانًا وتنحسر أحيانًا أخر. كما تعرضت تركستان لغزو الإمبراطوريات الصينية طوال تاريخها بنفس وتيرة التوسع والتقلص التي عرفتها مثيلاتها التركستانية. ومع الهجرات العديدة للقبائل التركية غربًا، وتأسيسها لدول مهمة-مثل السلجوقية وانتهاء بالعثمانيين في التاريخ الإسلامي-امتدت ثقافة الشعوب التركية خارج حدودها التاريخية؛ لتصبح تركستان ثقافيًّا رابطة لشعوب تمتد من الشرق في القارة الآسيوية لتطرق أبواب أوروبا غربًا. ويعد الأويغور أحد تلك الشعوب التركية، وموطنها هو ما أطلق عليه في التاريخ الحديث تركستان الشرقية، التي تبلغ مساحتها ما يقارب 6/1 مساحة الصين اليوم.

عرفت تركستان بداية دخول الإسلام في القرن الرابع الهجري؛ إذ "اعتنق الإسلام في البداية ساتوق بوغراخان الحاكم التركي الأويغوري. وقد اعتنق الإسلام كل أتراك الأويغور بصورة متدرجة في عهد حكام مثل: ساتوق بوغراخان وموسى بوغراخان الذي جاء بعده وهارون بوغراخان، وبدأوا يدخلون في إطار ثقافي جديد"[3]. وبعد دخول الإسلام كان لبعض مدنها دور علمي وحضاري بارز في التاريخ الإسلامي، وأبرز تلك المدن في تركستان الشرقية، على سبيل المثال، كانت مدينة كشغر، التي خرج منها أول معجم للغات الترك على يد محمود الكشغري في ديوان لغات الترك الذي ألفه بالعربية في القرن الخامس الهجري[4].

انقسمت تركستان بين السيطرة الروسية والصينية في القرن التاسع عشر. إذ احتلت روسيا القيصرية الجزء الغربي من تركستان سنة 1865 والتي أطلق عليها (تركستان الغربية)، بينما كانت السيطرة الصينية الأخيرة على الجزء الشرقي سنة [5]1877، إبّان حكم سلالة تشينغ، وبعد 1882 أطلق على تركستان الشرقية الاسم الجديد (شينجيانغ) ويعني "الأرض الجديدة"[6]. استمرت السيطرة الصينية على تركستان الشرقية حتى بعد انهيار حكم سلالة تشينغ عام 1911. وذهب بولات تورفاني بأن تركستان الشرقية كانت تحكم من قبل أمراء حرب؛ وعليه كانت فعليًّا مستقلة عن الحكومة المركزية التي أسسها سن ياتسن[7] بعد انهيار إمبراطورية سلالة تشينغ. وفي عام 1932 انطلقت ثورة سكان الإقليم ضد السيطرة الصينية، لتتأسس جمهورية تركستان الشرقية مرتين: أولاهما في 1932، ثم في 1944، ولكن سرعان ما انهارت الجمهوريتان في زمن قصير[8].

لم تكن مأساة الأويغور اليوم مع الحكومة الصينية هي الأولى في تاريخهم؛ فقد عانوا كثيرًا خلال الاحتلال الصيني لأراضيهم، وكانت من أشد الفترات فترة احتلال سلالة تشينغ، ثم الفترة الشيوعية المستمرة حتى اليوم. ففي عهد حكم الأسرة المنشورية (تشينغ) شنت حملة شرسة لمحو مكونات ثقافة الأويغور من لغة إلى دين وغير ذلك. هذا فضلًا عن سياسات الإذلال التي اتخذت ضد سكان تركستان الشرقية؛ فالوظائف الحيوية جعلت بيد الصينيين، وكان على التركستاني، أويغوريًّا كان أو غيره من الأقليات المسلمة، أن ينحني لأي مسؤول صيني يقابله. كما قامت السلطة المحتلة حينها بفتح المدارس الكونفوشيوسية أو النظامية التي تحرص على بث الثقافة الصينية، لتكون بديلًا عن المدارس الإسلامية التقليدية في الإقليم. وحل الحرف الصيني في الكتابة محل الحرف العربي التي كان يستخدمه مسلمو تركستان الشرقية، وغيرت أسماء المدن إلى أسماء صينية. كما أرغم مسلمو تركستان الشرقية على الزواج من الصينيين، وبدأت أعداد هائلة من الصينيين بالنزوح إلى الإقليم في خطوة من السلطة لتغيير ديموغرافيا الإقليم السكانية[9].

أما في ظل الحكم الشيوعي فقد كانت معاناة تركستان الشرقية مثل معاناة كل الشعوب المسلمة التي حكمتها الأنظمة الشيوعية. لم يكن الإسلام، دين غالبية الأقليات في تركستان الشرقية، استثناء من هجمات السياسة الماوية وثورته الثقافية. فقد قام الحرس الأحمر الصيني بالهجوم على كل المظاهر الدينية والتقليدية في تركستان الشرقية. منع السكان من ارتداء الملابس التقليدية، ولم تسلم حتى الموسيقى الخاصة بالأقليات المسلمة في الإقليم، وانتهكت حرمات المساجد والمدارس والمقابر الخاصة بالمسلمين. كما اعتُقل العلماء والوجهاء التقليديون وأودعوا معسكرات الاعتقال التي انتشرت في الصين إبان الثورة الثقافية. بل وصل انتهاك المساجد إلى تحويل بعضها إلى حضائر للخنازير[10].

كما أعاد الشيوعيون الحملات السابقة ضد استخدام الأحرف العربية التي سادت بين سكان تركستان الشرقية المسلمين لقرابة عشرة قرون. وبناء على ذلك أتلفت الآلاف من الكتب والمخطوطات المكتوبة بالأحرف العربية. وتحت مسمى الإصلاح الزراعي صودرت أراضي الأوقاف الإسلامية؛ فغاب أكبر مورد للاستقلال الديني عند المسلمين. هذا فضلًا عن مصادرة الأراضي وإعادة توزيعها على كل سكان الإقليم؛ وهذا يعني في الحقيقة إعطاء الأراضي للمنحدرين من قومية الهان الصينيين الذين توالى قدومهم على تركستان الشرقية لقرابة القرنين، منذ الاحتلال المنشوري الأول في منتصف القرن الثامن عشر[11].

وفي صين اليوم ما تزال الحملة مستمرة على الأقليات المسلمة في الصين، كما سيتضح لاحقًا من تفاصيل تقارير النيويورك تايمز. ففقد قامت السلطات الصينية بهدم بعض قبب ومنارات المساجد من إقليم منغوليا الداخلية حتى هينان ونينغشيا. وفي مقاطعة يونان أغلقت السلطات ثلاثة مساجد هناك. كما قامت بمنع الأنشطة في المساجد، بما في ذلك استخدامها لبرامج روضة الأطفال أو الدروس. كما تم منع مدارس اللغة العربية من إعطاء الدروس الدينية أو إرسال الطلاب في بعثات إلى الخارج. ومنعت سلطات بعض الأقاليم الأذان آمرةً المساجد باستخدام أبواق مزعجة إيذانًا بأوقات الصلوات. وفي مدينة كشغر المشهورة حول مسجد هناك إلى محل تجاري. في العام الماضي، تعرض عدد كبير من المساجد في الصين إما للتغيير أو الهدم أو الإغلاق الكامل[12].

 

تقارير النيويورك تايمز:

 مذنبون بالولادة

في معتقل على حافة الصحراء في غرب الصين أودع مئات من الأويغور معرضين يوميًّا لتلقين أيديولوجي شديد، حيث أرغموا للاستماع إلى محاضرات وإنشاد أغان تبجل الحزب الشيوعي الصيني، ويكتبون مقالات في "نقد الذات"، وفقًا لبعض المعتقلين الذين أطلق سراحهم. الهدف هو إزالة أي التزام بالإسلام.

عبد الرحمن محمت (محمد)، عمره 41 عامًا، قال إنه اعتقل لأنه تلا آية في جنازة حضرها. أودع في معسكر اعتقال قريب إلى جانب أكثر من 30 أويغوريًّا معه وأمروا بالتبرؤ من ماضيهم، يقول إنه جاراهم ولكنه كان يتقد غضبًا في داخل نفسه. يتذكر محمد أن "هذا لم يكن مكانًا للتخلص من التطرف... بل كان مكانًا يولّد الشعور بالانتقام و[هدفه] محو الهوية الأويغورية".

كان هذا المعتقل خارج هوتان (واحة قديمة في صحراء تكلامكان) من ضمن مئات المعتقلات التي شيدتها الحكومة الصينية في السنوات الماضية. وذلك ضمن حملة واسعة وهمجية اجتاحت مئات الآلاف من الصينيين المسلمين لأسابيع وأشهر، فيما يصفه منتقدو الحكومة الصينية بأنها حملة "غسل دماغ" تمارس دون أدنى تجريم. بالرغم من اقتصار الحملة على إقليم شينجيانغ (تركستان الشرقية) فإنها أكثر برامج الاعتقال شمولية منذ حقبة ماو، ومركز انتقاد متنام من المجتمع الدولي. لعقود مضت والحكومة الصينية تتوخى التضييق على ممارسة الإسلام في هذا الإقليم، حيث ينتمي أكثر من نصف سكانه لأقليات مسلمة، غالب هؤلاء هم من الأويغور الذين كان لدينهم ولغتهم وثقافتهم تاريخ طويل من الحركات الاستقلالية والمقاومة للحكومة الصينية، كل ذلك كان مصدر إزعاج للحكومة المركزية في بكّين.

بعد سلسلة من الهجمات المعادية للحكومة، والتي وصلت ذروتها عام 2014، صعّد شي جين بينغ، الأمين العام للحزب الشيوعي الصيني، من حملات القمع بحدة أكثر، ومصممًا لخطة لا ترحم لتحويل الأقلية الأويغورية وأقليات مسلمة أخرى إلى مواطنين موالين ومناصرين للحزب الشيوعي.

بالإضافة إلى الاعتقالات الجماعية، كثفت السلطة من استخدام المخبرين ووسعت المراقبة البوليسية، إلى حد زرع كاميرات في بيوت بعض السكان. وقد نوه بعض الناشطين الحقوقيين والخبراء بأن الحملة أرعبت الأقلية الأويغورية وخلّفت وراءها مجتمعات وأسرًا محطمة.

وقد نفت الصين نفيًا قاطعًا ما ورد في التقارير المتعددة عن إجراءات السلطة الصينية التعسفية في إقليم شينجيانغ. وفي اجتماع للجنة تابعة للأمم المتحدة بجنيف، في يوليو 2018، قالت الحكومة الصينية إنها لا تدير معسكرات لإعادة التنشئة والتأهيل، ووصفت المنشآت محل الجدل بأنها مراكز للتدريب المهني. وقد ضغطت اللجنة الدولية على الحكومة الصينية بكشف عدد المعتقلين وإخلاء سبيلهم فورًا. غير أن وزارة الخارجية الصينية رفضت المطلب لكونه يفتقد "أسسًا واقعية". وأضافت الحكومة أن معايير الصين الأمنية مماثلة لغيرها في دول أخرى.

لكن هذا التنصل المعتاد من الحكومة الصينية يتناقض مع أدلة قاطعة تتضمن أوامر رسمية وتقارير إخبارية ودراسات وخططًا مدروسة كانت قد تسربت إلى الإنترنت، بالإضافة إلى شهادات عيان من معتقلين سابقين تمكنوا من الهروب إلى دول مثل تركيا وكازاخستان. فالوثائق الحكومية تصف شبكة واسعة من المعسكرات يطلق عليها عادة بمراكز "التحويل بواسطة التعليم"، والتي تكاثرت بدون أي نقاش عام أو سلطة قانونية أو أي نظام استئناف لأولئك المعتقلين. ولقد أجرت النيويورك تايمز مقابلات مع أربعة معتقلين سابقين وصفوا فيها التعذيب الجسدي واللفظي الذي مارسه الحراس عليهم؛ روتين منهك من الإنشاد والمحاضرات واجتماعات لنقد الذات، التوجس المخيف لعدم معرفتهم متى سيطلق سراحهم. جاءت شهاداتهم متطابقة مع مقابلات أجريت مع أكثر من دزينة من الأويغور ممن كان أقرباؤهم معتقلين في المعسكرات أو اختفوا، وقد أدلوا بشهاداتهم شريطة أن تبقى هويتهم مجهولة تجنبًا لرد فعل الحكومة الصينية.

كما اكتشفت النيويورك تايمز تقارير تسربت إلى الإنترنت كتبها مسؤولون صينيون كانوا قد كلفوا بمراقبة الأسر التي اعتقل بعض أفرادها، وكذلك دراسة نشرت عام 2017 تفيد بأن مسؤولين صينيين في بعض الأماكن كانوا يرسلون بعض الأويغور عشوائيًّا لتلبية الحصص العددية في المعتقلات. كتب الدراسة أحد العلماء في مدرسة الحزب الشيوعي في إقليم شينجيانغ، حيث يُدرَّب المسؤولون، وقد حذر في دراسته بأن الاعتقالات ستؤدي إلى نتائج عكسية وستبث روح التطرف.

ما تزال أعداد المعتقلين غامضة، ما بين مئات الآلاف إلى رقم قد يصل إلى المليون معتقل من الأويغور والقازاق. تفيد بعض الشهادات بأن البعض يزج به في المعتقلات لمجرد قيامه بزيارة أقرباء له خارج الصين؛ وهناك من يعتقل لمجرد امتلاكه كتبًا تتحدث عن الدين أو الهوية الأويغورية؛ والبعض لأنه يرتدي قميصًا مكتوبًا عليه "مسلم". كما تتعرض بعض النساء للاعتقال جراء تجاوزات صدرت من أزواجهن أو أبنائهن.

تبدو بلدة هوتان وكأنها تحت حصار عدو غير مرئي؛ مراكز شرطة محصّنة، ونقاط تفتيش متناثرة على الشوارع كل مئة ياردة، المدارس والحضانات والمستشفيات مكللة بالأسلاك الشائكة، وكاميرات المراقبة مزروعة على واجهات المحلات ومداخل العمارات السكنية وأعمدة الشوارع.

تغيرت سياسات الحكومة الصينية تجاه الأويغور إلى طابع أكثر حدة بعد 2009، حين اندلعت مظاهرات في أورومكي، عاصمة إقليم شينجيانغ، خلفت مئتي قتيل. تبنى إثرها شي جي بينغ ومسؤولو الأقاليم أساليب تذكر بسياسات ماو الوحشية؛ المسيرات الجماعية، والاعترافات العلنية و(فرق العمل) المخصصة لكشف المعارضين للنظام.

وقد قام النظام أيضًا بإحاطة مدن الإقليم بشبكة من التقنية وضعت المنطقة على قدر عالٍ من برامج كاميرات المراقبة، وكذلك برامج التعرف إلى الوجوه والأصوات. تضخم حجم الأموال المبذولة على الأمن في شينجيانغ حتى وصلت إلى قرابة 8.5 مليار دولار في 2017، خصصت للشرطة والمحاكم وغيرها من أجهزة فرض القانون، وهو مبلغ ضعف الذي كان مخصصًا لذلك في 2016.

حولت الحملة المجتمع الأويغوري إلى أقطاب متنافرة؛ فالعديد من أفراد الأمن المواجهين للمواطنين هم من الأويغور أنفسهم، بما في ذلك الشرطة وموظفو معسكرات الاعتقال وجنود نقاط التفتيش. وعلى الأويغور العاديين المتنقلين في هوتان النزول من الباصات لأكثر من مرة؛ تارة لاجتياز أجهزة التفتيش، أو فحص بطاقات الهوية، أو تسليم هواتفهم لمعاينة ما تحتويه. يكلف أحد السكان أو الكادر المحلي بمراقبة عشر عائلات في الإقليم، راصدًا خروجهم ودخولهم ونشاطاتهم التي قد تثير الريبة، بما في ذلك أداء الصلاة أو الذهاب إلى المساجد. وقد صرّح بعض السكان بأن الشرطة أحيانًا تفتش المنازل بحثًا عن كتب ممنوعة أو مواد مشبوهة مثل سجادات الصلاة، مستخدمين أجهزة خاصة تفحص الجدران لأي نقود مخبأة فيها.

كما قامت السلطات بتجميع البيانات الحيوية وبيانات الـ(دي أن أي) لسكان الإقليم. وبناء على شهادة أحد الطلاب وكذلك مسؤول سابق، أمر الاثنان بالذهاب إلى مركز شرطة حيث سجل المسؤولون أصواتهم، وأخذوا صورًا للوجه من زوايا متعددة، وأخذت منهم عينة من الدم والشعر.

احتد الضغط على قرى الأويغور حين وصلت "فرق العمل" التابعة للحزب الشيوعي وقطنت هناك، متخذة أحيانًا بعض البيوت المحلية سكنى لهم. أمرت الفرق أهالي القرى بالإبلاغ عن أقربائهم وأصدقائهم وجيرانهم، وراقبت اتجاهات السكان وأنشطتهم، حسب تقارير رسمية تسربت إلى الإنترنت. وصف أحد التقارير هذه كيف أن السلطات في إحدى القرى نسقت للمعتقلين المتهمين بالتطرف الديني، ليقوم أقرباؤهم بالتبرؤ منهم علنيًّا في تجمع للمواطنين، وشجعت الأسر الأخرى للإبلاغ عن أي أنشطة من هذا النوع.

فتاة أويغورية في العشرينيات من عمرها، طلبت استخدام لقبها "جول" بدلًا من اسمها الحقيقي، صرحت كيف وضعت تحت المراقبة بعد أن ارتدت الحجاب وبدأت بقراءة كتب عن الدين وتاريخ الأويغور، مما جعل المسؤولين يضعون كاميرا على مدخل منزل عائلتها وأخرى في غرفة الجلوس. كما كان أحد المسؤولين من حيها يزورها أسبوعيًّا للتحقيق معها لساعتين. وفي النهاية قررت السلطات إرسالها إلى معسكر لإعادة التأهيل.

 

أسر محطمة

صرحت السلطات الصينية بأنها كسبت الحرب ضد الإسلاميين المتطرفين والانفصاليين، المسؤولين عن الهجمات التي أودت بحياة المئات غي السنوات الأخيرة. ما تزال التقارير عن هذه الهجمات إما سرية أو ناقصة، غير أن أمثال هذه الحوادث قلّت بشكل حاد منذ 2014، عندما بدأت حملة مكافحة التطرف.

مع ذلك، العديد ممن طلع من برامج التلقين الإيديولوجي هذه أشاروا إلى أنها زادت من السخط العام تجاه بكين. ففيما يتعلق بالعديد من الأسر، يعد اعتقال أحد أبنائهم أمرًا مدمرًا سواء عاطفيًّا أو اقتصاديًّا. انعكست هذه الآثار في تقارير "فرق العمل" المنشورة على الإنترنت. تصف بعض هذه التقارير كيف أن الأسر الأويغورية عاجزة عن جني المحاصيل الزراعية جرّاء اعتقال بعض أبنائها. وذكر إحدى التقارير تلك أن أمًّا وجدت نفسها وحيدة ومسؤولة عن تأمين حياة خمسة أطفال. ومما زاد الوضع سوءًا أن بعض الأسر كان عليها التخلي عن أبنائها وأقربائها، وبعض الأطفال فصلوا عن آبائهم.

 

القادة الذين أطلقوا عنان الحملة على الأويغور

رقية مايماتي، مسؤولة دعاية (بروبجاندا) في أقصى غرب الصين، حذرت زملاءها من أنهم مقدمون على مهمة مؤلمة: اعتقال أعداد كبيرة من الأويغور وأقليات مسلمة صينية أخرى. وأخبرتهم أن الحكومة الصينية تريد تطهير إقليم شينجيانغ من التطرف الإسلامي، وأن على العلمانيين الأويغور من أمثالهم دعم الحكومة لمصلحة الأويغور أنفسهم. ومما يجدر ذكره أن مايماتي مسؤولة في الحزب الشيوعي وتعمل في الحد الغربي من الإقليم. كتبت يومًا قائلة: "عليكم أن تفهموا تمامًا أن هذه المهمة هي للحفاظ على أُسركم وأقربائكم". وتعد ما كتبته ضمن سلسلة من الأدلة التي تكشف عن منشأ الحملة الأكثر شمولية منذ حقبة ماو، لتثبت أن الزعيم الصيني شي جي بينغ وبجانبه عديد من كبار القادة الصينيين هم الذين أدوا دورًا حاسمًا في توسع الحملة السريع. تكشف خطب ووثائق أخرى كيف وجّه كبار القادة هذه الحملة الإيديولوجية وسعوا لتوسيع نطاقها، بهدف اجتثاث أي مظهر إسلامي تقريبًا، والقضاء التام على أي نزعة انفصالية لدى الأويغور. لم يحضّ الرئيس الصيني علنًا على الحملة أو حتى التعليق عليها، لكنه أمر باتخاذ سياسات حاسمة غيرت المشهد في إقليم شينجيانغ، وذلك بعد زيارته له سنة 2014. أراد الرئيس الصيني من سياساته هذه إضعاف الهوية المستقلة لدى الأويغور وإدماجهم في مجتمع تهيمن عليه هوية الهان.

لاحقًا، بعد أن اتضح أن الحملة لم تؤت النتائج المرجوة منها، عين الرئيس الصيني حاكم التبت الصارم تشين كوانغو لقيادة الحملة القمعية، ورقاه عضوًا في المكتب السياسي للحزب الشيوعي الصيني.

في أكتوبر 2018، أصدرت حكومة الإقليم نسخة معدلة من برنامج مكافحة التطرف، وفيه أجازت بوضوح، ولأول مرة، معسكرات الاعتقال.

لعقود مضت، حرص الحزب الشيوعي على إبقاء الأويغور والتبتيين وأقليات أخرى تحت سيطرة سياسية محكمة، مع إبقاء مساحة ما لهذه الأقليات للحفاظ على لغاتهم وثقافاتهم وأديانهم. كانت هذه السياسات استنساخًا لسياسات الاتحاد السوفيتي مع الدول والقوميات المشكلة له حينها.

لكن في التسعينيات من القرن الماضي، بدأ بعض الأكاديميين الاستشاريين في الصين في تحذير الحكومة بأن مثل هذه السياسات أسهمت في تفكيك الاتحاد السوفيتي. ولتجنب مثل هذه المعضلات، جادلوا بأن على الصين تبنّي سياسات ومعايير تهدف صراحة إلى دمج هذه الأقليات في الهوية القومية الأوسع.

 

سجون ومواطنون

أرسلت محاكم إقليم شينجيانغ في سنة 2017 قرابة 87 ألف معتقل إلى السجون، ليصبح الرقم عشرة أضعاف ما كان عليه في السنة التي قبلها. كما زاد عدد المقبوض عليهم إلى ثمانية أضعاف، وعدد المحاكمات إلى خمسة أضعاف.

لقد صرّح خبراء وحقوقيون، وكذلك إيغور منفيون، بأن الحكومة الصينية لم تأخذ بالاعتبار حقوقًا مبدئية في حملتها على الأويغور. فرجال الشرطة والادعاء العام والقضاة في الإقليم عملوا جنبًا إلى جنب لتمرير الإدانات ضد الأويغور المتهمين، خدمة لحملة الحزب الشيوعي في القضاء على الاضطرابات وتحويل الأقليات المسلمة عمومًا إلى موالين للحزب.

أشار منتقدون إلى أن الاعتقالات غالبًا ما تبنى على اتهامات واهية أو مبالغ فيها. كما أن المحاكمات مجرد إجراءات شكلية، واحتمالات الإدانة فيها هي الأرجح على نحو كبير. وأول ما يدان المتهمون فهم غالبًا أمام إساءات ستمارس في حقهم إضافة إلى الأشغال الشاقة في معتقلات مزدحمة ومنعزلة.

عبر شين روبرتس، أستاذ الأنثروبولوجيا في جامعة جورج واشنطن، عن هذا الوضع قائلًا: "يبدو [الوضع] وكأن الشعب بأكمله متهم حتى تثبت براءته". فإقليم شينجيانغ، البالغ عدد سكانه 24,5 مليون نسمة، تجاوز فيه عدد المعتقلين بالنسبة إلى السكان غيره من الأقاليم الصينية المشابهة له في عدد السكان. فعلى سبيل المثال، في منغوليا الداخلية، التي يقارب عدد سكانها إقليم شينجيانغ، بلغ عدد الذي أودعوا السجون 33 ألفًا، وهو ما يمثّل حوالي 38 % بالنسبة إلى عدد المعتقلين في إقليم شينجيانغ (87 ألفًا).

ألماس نظام الدين أويغوري هاجر إلى أستراليا قبل عشر سنوات، ومنذ أن وصل وهو يحاول الحصول على تأشيرة لاستقدام زوجته، ولكنها اعتقلت في الحملة الأخيرة، وهي طالبة في الـ27 من العمر، حكم عليها بالسجن عشر سنوات في عام 2017. يقول ألماس إن زوجته أدينت بتنظيم تجمع للإخلال بالنظام العام، وهذه التهمة، حسب رأيه، تهمة ملفقة. يتابع ألماس بأن تهمة زوجته الحقيقية أنها ذهبت للدراسة في مصر لمدة سنتين، ومصر دولة أعدتها الحكومة الصينية مؤخرًا بلدًا محظورة زيارتها على الأويغور.

إن الأعداد المتصاعدة للمعتقلين من الأويغور يثير الأسئلة حول تصريحات المسؤولين الأخيرة في شينجيانغ بأن معظم المسجونين في معتقلات إعادة التأهيل تم إطلاق سراحهم. غير أن النشطاء من الأويغور أو أولئك الذين استقروا خارج الصين ولديهم أقارب في المعتقلات، يخالفون ادعاءات بكين عن تقلّص معسكرات الاعتقال. وتدل المقابلات التي أجريت مع بعض الأويغور وكذلك الوثائق الحكومية بأن المعتقلين السابقين إما أنهم أرغموا على عمل بعض الأشغال المحددة لهم، أو أخضعوا لأنواع أخرى من الحجز (الإقامة الجبرية مثلًا).

قسم كبير من المعتقلين هم من رجال الأعمال والمهنيين والأكاديميين، وفقًا لحبيب الله ألتاي، أحد تجار الشاي الأويغوري، والذي ترك الصين سنة 2016 واستقر في سويسرا. يقول ألتاي: "تعدهم الحكومة أكثر خطورة لأنهم يملكون المال والمعرفة وغالبًا ما سافروا خارج الصين".

وبالرغم من كثرة معسكرات الاعتقال، فقد وصل عدد الاعتقالات إلى حد جعل نظام السجون في شينجيانغ في أزمة مع السجناء الجدد؛ مما أدى إلى أن ترسل السلطات هناك عددًا منهم إلى أماكن أخرى في الصين، حسب تقارير بثتها إذاعة آسيا الحرة، وهي إذاعة ناطقة باللغة الأويغورية ومقرها واشنطن.

وقف تشو هايلون، أعلى مسؤول أمني في إقليم شينجيانغ، أمام مسؤولين في الإقليم قائلًا لهم:

"اضربوا بدقة، اضربوا بصرامة، اضربوا بإتقان، ثم تأكدوا في النهاية أن تعكس المحكمات كل ذلك". لعل هذه الكلمات تلخص رؤية الحكومة لقضية الأويغور، وتظهر مدى مأساة هذه الأقلية المسلمة في الآن نفسه.

 

 

[1] Buckley, Chris. “China Is Detaining Muslims in Vast Numbers. The Goal: ‘Transformation.’” The New York Times, 8 Sept. 2018: https://nyti.ms/34zZ6Qz 

Buckley, Chris. “The Leaders Who Unleashed China’s Mass Detention of Muslims’.” The New York Times, 13 Oct. 2018: https://nyti.ms/33pV793 

Buckley, Chris. “China’s Prisons Swell after Deluge of Arrests Engulfs Muslims.” The New York Times, 31 Aug. 2019: https://nyti.ms/2NMZswv 

 

[2]                  عيسى يوسف الب تكين، قضية تركستان الشرقية، ترجمة إسماعيل حقي شن كولر، مكة المكرمة: مؤسسة مكة للطباعة والإعلام، د.ت.، ص25.

 

[3]                  أركين آلبتكين، أتراك الأويغور، ترجمة محمد السيد محمد جاد الحق، إسطنبول: وقف تركستان الشرقية، 2012، ص 104.

 

[4]                  راجع: محمد أمين بوغرا، تاريخ تركستان الشرقية، ترجمة محمد قاسم أمين، مكة المكرمة: د.ن.، 1429هـ، ص 323. مع التنبيه إلى ركاكة ترجمة هذا الكتاب المهم.

 

[5]                  كان هذا الاحتلال الثاني لسلالة تشينغ سبقه احتلال لتركستان من عام 1759 حتى 1862 ثار خلالها التركستانيون ضد الاحتلال المنشوري 42 مرة. انظر: أركين آلبتكين، تركستان الشرقية في ظل الحكم الشيوعي الصيني، ترجمة تيمور أحمد علي خان، (د.م. : د.ن.)، 1992، ص 14.

 

[6]                  بولات تورفاني، تركستان الشرقية تحت الاحتلال الصيني، ترجمة إسلام صالح عبد الفتاح، القاهرة: دار اليسر، 2011، ص25-26.

 

[7]                  السابق، ص27.

 

[8]                  أركين آلبتكين، أتراك الأويغور، مصدر سابق، ص 37.

 

[9]                  انظر بخصوص سياسات الاحتلال المنشوري القمعية تجاه سكان تركستان الشرقية كلاً من: أركين آلبتكين، تركستان الشرقية...، مصدر سابق، ص 15-16؛ عيسى يوسف آلب تكين، قضية تركستان الشرقية، مصدر سابق، ص 98-100. وعن النظام التعليمي في الفترة نفسها، راجع:

Millward, James A. Eurasian Crossroads: A History of Xinjiang. New York: Columbia University Press, 2007. pp. 142-146.

 

[10]                Millward, opt. cit. pp. 274-276.

 

[11]                راجع: أركين آلبتكين، تركستان الشرقية...، مصدر سابق، ص 17-20؛ وعن تفاصيل أكثر لمحاكم الثورة الثقافية وفظائعها في تركستان الشرقية، راجع: عيسى يوسف الب تكين، قضية تركستان الشرقية، مصدر سابق، ص 155 وما بعد؛ بولات تورفاني، تركستان الشرقية تحت الاحتلال الصيني، مصدر سابق، ص 68-73.

 

[12]                للمزيد عن وضع المساجد في الصين اليوم، راجع:

Steven Lee Myers. "A Crackdown on Islam Is Spreading Across China". The New York Times, Sep. 21, 2019: https://nyti.ms/2Y31IUQ

 

شارك :

التعليقات (2)

أضف تعليق