اللعب على المصير

طباعة 2020-05-06
اللعب على المصير

ريجيس دوبري[1]

ترجمة الحسن مصباح[2]

 

ها نحن قد تمت تعبئتنا جميعا. وقد دعينا للتحلي بروح الواجب، وطولبنا بإطاعة التعليمات، والإدلاء بالوثائق إذا لزم الأمر. باختصار، نحن في حالة حرب، لقد قيل لنا ذلك مرارا وتكرارا.

 

العودة إلى الواقع

تتبادر إلى الذهن العبارة الشهيرة: "الحقيقة هي الضحية الأولى للحرب". يجب أن نكون حذرين من الحركة الأولى، التي نادرًا ما تكون هي الحركة الصائبة. تلتزم صيغة "كبلينغ"[3] بالضرورة الآنية للدعاية، لرفع الروح المعنوية من الخلف، بما في ذلك للجيش نفسه. والواقع أن الضحية الأولى للحرب هي الكذب. وهاتان الحقيقتان لا تتناقضان: الأولى، تكتيكية، تتعلق بمسار العمليات، والثانية، استراتيجية، وهي الاستنتاج الذي يتم استخلاصه. الأولى ليست حاضرة معنا، وهي لافتة للنظر، في خضم كارثة وبائية تسونامية، فيما يتعلق بشفافية ودقة بلاغات الحرب. لكن الثانية هي التي تؤثر تأثيرا شديدا: العودة إلى الواقع.

دعنا نتفق، على الأقل، على أنها حرب مثيرة؛ يرفع فيها القائد شعار: "اختبئوا"؛ وتتوقف التعبئة العامة، ويدعى إلى الاستغناء عن جعل الجماعة سبيلا لبناء أمة، والاعتزال من أجل التآزر، والفصل بين الأجساد لتقارب الأرواح. لكن التاريخ غني بالمفارقات. عندما لا يكون "العدو" مجرد فيروس موجود في كل مكان وغير مرئي، ولكن الجار المباشر أيضا، وحتى الجدة، والمارة بشكل عام، يمكننا فهم انقلاب المعايير.

 

"هناك جنود الفيروس، مثلما هناك جنود إطفاء. إنهم هم الذين يحق لهم حمل وسام الحرب غدًا، والذين هم من يستحق تقديرنا"

 

يصعب فهم المأزق المزدوج، والأوامر المتناقضة من نوع: "لا تخرج واذهب للتصويت"، ولكن بالرغم من ذلك لدينا مهلة للتعلم، والمدني لا يصبح جنرالا بخمس نجوم في لمح البصر. نحن لا ننتقل بين عشية وضحاها من ثقافة السلام إلى ثقافة الحرب، مع مراعاة الفوارق بالطبع (نذكر أنه خلال معركة المارن "Bataille de Marne"[4]، قتل 26000 جندي فرنسي في يوم واحد، وكان يعتبر مقتل 1000 جندي في اليوم الواحد، خلال الحرب العالمية الأولى، أمرا جيدا). فما يصعب فهمه أن دولة المقاولات الرائدة في مجال التكنولوجيا تواجه صعوبة كبيرة في الحصول على منتج يتطلب تقنية بسيطة وتوزيعه مثل قناع الحماية، وهو ما يعادل إرسال الجنود إلى الجبهة بدون بنادق. لأنه في هذه الحرب الغريبة هناك فئة واحدة فقط من الأشخاص الذين يستحقون هذا الاسم الجميل [جنود]، وهم الأطباء والممرضات وأطباء الطوارئ وجميع العاملين في المستشفيات؛ لكونهم يعرضون حياتهم للخطر كل يوم. إذ أن هناك جنود الفيروس، مثلما هناك جنود الإطفاء. إنهم هم الذين يحق لهم حمل وسام الحرب غدًا، وهم من يستحق تقديرنا.

 

"ولكن ينبغي ألا ننسى أن الصدمة، سواء كانت حربًا أم أزمة، تفرز كذلك بين المزيف والحقيقي"

 

ألا يعد افتراء إطلاق لفظ "حرب" على كارثة درامية وأزمة هائلة، وعلى وجه التحديد أن نجمع ثلاث أزمات صحية واقتصادية ووجودية في أزمة واحدة؟ ما الفائدة من هذا المجاز المستعاد بلاغيا؟ أولاً، الرفع من مستوى المعركةباستدعاء الأسلاف العظماء. قال كليمنصو: "أنا أصنع الحرب، ولا شيء غير الحرب". ولتشرشل تعبير: "الدم والدموع". ولديغول، بالطبع، قوله في 18 يونيو: "هذه الحرب هي حرب عالمية ... لذا أدعو جميع الفرنسيين للإنصات لي واتّباعي". وبعد ذلك سنجد لنا في السياق موقعا ضمن سلسلة الذين مجّدهم التاريخ. ولم لا؟ يمكننا أن نجتاز بنجاح هذا الاختبار، وننتصر في الامتحان الذي عرفته جميع الأجيال الرائدة، أي الفرز بين المتميزين والذين لا يملكون سوى الذكاء، بين الذين يملكون نَفَسا والذين ليس لديهم سوى الشهادات فقط. يمكننا أن نخشى نوعا من قلة الكثافة، وصعوبة في تجسيد الأدوار البطولية لدى المسؤولين الشباب الذين لم يعانوا في أي مرحلة من حياتهم من العطش أو الجوع أو الخوف، ولم يعرفوا ما هو مسمار القدم، ولا حملوا أثقالا على ظهورهم. المعاناة تصنع الشخصية، ولماذا لا يكون اليوم مثل أمس؟ سيكون ذلك خبرا سارا.

 

"أصبحت أوروبا سرابا، تخدع وتثرثر وتتواصل، والصين هي التي تأتي لمساعدة إيطاليا، وليس فرنسا أو ألمانيا. ألم يحن الوقت لتسمية الأشياء بأسمائها، وهو أن الاتحاد الأوروبي، بمشده الليبرالي، كذبة بيضاء"

 

ولكن ينبغي ألا ننسى أن الصدمة، سواء كانت حربًا أم أزمة، تفرز كذلك بين المزيف والحقيقي. إذ تتهاوى قصور الورق، وتفحص الأوزان والقياسات. كان الاعتقاد السائد حتى مايو 1940، أن الجيش الفرنسي هو الأفضل في العالم. لكن في يونيو، عرفنا حقيقته. كان من المسلم به، على مدار 30 عامًا، أن أوروبا هي مستقبلنا، والحدود عبارة عن رواسب بغيضة، والمصلحة الوطنية شيء عتيق وقاتل كارثي. وكذلك الانفتاح وحرية حركة الأشخاص والبضائع والامتثال لقواعد بروكسل. لقد كررت الطبقات الحاكمة لدينا هذا الأمر بكل الصيغ. لا مزيد من المال المجنون (لمن هم في آخر السلسلة [الفقراء]). الخصخصة بأي ثمن (المطار، الخدمات العامة، السكك الحديدية)، دعونا نكسر الحواجز! الآن نحن نتحدث عن التأميم، ومن ثمة إلغاء القاعدة المقدسة لـ 3٪ واستعادة التضامن الأساسي. أصبحت أوروبا سرابا، تخدع وتثرثر وتتواصل، والصين هي التي تأتي لمساعدة إيطاليا، وليس فرنسا أو ألمانيا. ألم يحن الوقت لتسمية الأشياء بأسمائها، وهو أن الاتحاد الأوروبي، بمشده الليبرالي، كذبة بيضاء؟

 

عولمة الأغراض وتشظي الأفراد

لقد قيل لفترة طويلة: عولمة الأشياء، وتشظي الأفراد والأفكار. ما كنا نعتقد أن الزمن قد عفا عنه وتجاوزه عاد إلينا، بشكل مباشر وغير لطيف. الحرب تدمر لكنها تحرر أيضا. ماذا؟ الدماغ الأنفي (rhinencéphale)[5] الكامن وراء الروابط العصبية هو الأقدم [في عملية التطور] والأكثر تعقيدًا. وقد علمنا علماء النفس العصبي أن تفكك الوظائف العصبية العليا، لدى الفرد الذي يعاني من أزمة، والذي تزعزع استقراره بسبب مصير غير متوقع، يعالَج عن طريق مراجعة مسار تطوره. فأحدث الوظائف هي أكثرها هشاشة. فالقشرة المخية الحديثة هي أكثر ضعفاً من دماغ الزواحف، وهي أول من تفقد انتظامها في حالة الارتجاج. هذه ليست أنباء جيدة، بلا شك، والمجتمعات ليست محصنة ضد هذا التفكيك الذي يعيدها إلى الأبسط والأساسي، أي إلى نقطة الانطلاق. ومن الأفضل أن تكون مدركًا لذلك حتى لا تتفاجأ أو تجرفك قوانين الطبيعة. ومن المفارقات، أن حالة الحرب، من خلال كشفها لنا عن مدى سهولة اختفاء القشرة الحضارية، وعن طريق الكشف لنا عن خلفيات خطاباتنا وجاذبية الواجهة التي يخفيها قطار الأيام، يمكن أن تجعلنا نثابر في العمل، دون تهرب أو ادعاءات كاذبة.

 

 

Debray,Régis, «Quitte ou double»,URL : https://www.marianne.net/debattons/billets/quitte-ou-double-par-regis-debray

ملحوظة: الشكر موصول للأستاذ فؤاد بوعلي على ملاحظاته القيمة على النص المترجم.

[1] ريجيس دوبريه (-1940) : فيلسوف فرنسي، وصحفي، ومسؤول حكومي سابق، معروف بنظريته في الميديولوجيا، وهي نظرية نقدية في انتقال المعنى الثقافي في المجتمع البشري على المدى البعيد، وبارتباطه بالثوري الماركسي "تشي غيفارا" في بوليفيا خلال عام 1967.

[2] أستاذ التعليم العالي بجامعة محمد الأول، وجدة، المغرب. كاتب ومترجم. من أعماله: ترجمة كتاب الإنسان المدين: دراسة حول الوضعية النيوليبرالية، الصادر عن منتدى العلاقات العربية والدولية، الدوحة،2017.

[3] روديارد كبلنيغ (RudyardKipling) (1865-1936) كاتب وشاعر وقاص بريطاني حائز على جائزة نوبل في الأدب سنة 1907. من أهم أعماله كتاب الأدغال، والرجل الذي أصبح ملكاً. وإليه تنسب العبارة الشهيرة التي بدأ بها الكاتب الفقرة "الحقيقة هي الضحية الأولى للحرب".

[4]وقعت معركة المارن خلال الحرب العالمية الأولى، (سبتمبر/أيلول 1914)   بين الجيش الألماني من جهة والجيش الفرنسي والقوة الاستكشافية البريطانية من جهة أخرى. خلال هذه المعركة الحاسمة، استطاعت القوات الفرنسية البريطانية صد الهجوم الألماني الذي كان يستهدف احتلال فرنسا سريعا عبر المرور عن طريق بلجيكا.

[5]الدماغ الأنفي (rhinencéphale): جزء من القشرة الدماغية مرتبط بوظيفة الشم، وهو الأقدم في عملية تطور الدماغ في الأنواع الحيوانية. وقد حافظ على تنظيم معقد لدى الإنسان. انظر:

https://www.lalanguefrancaise.com/dictionnaire/definition-rhinencephale/

شارك :

التعليقات (0)

أضف تعليق