ملحمة النظام السياسي: من عصور ما قبل الإنسان إلى عولمة الديمقراطية

طباعة 2017-04-02
ملحمة النظام السياسي: من عصور ما قبل الإنسان إلى عولمة الديمقراطية

   

ج1: أصول النظام السياسي

ج2: النظام السياسي والانحطاط السياسي

تأليف: فرانسيس فوكوياما

ترجمة: مجاب الإمام ومعين الإمام

عدد الصفحات: 736

الناشر: منتدى العلاقات العربية والدولية. الدوحة

 سنة النشر: 2016

 

قبل أكثر من ربع قرن قدم فرانسيس فوكوياما، الباحث الأميركي-الياباني المغمور آنذاك، أطروحة بعنوان نهاية التاريخ؟ (1989) حملته على الفور إلى قمة الشهرة، ووضعته في بؤرة الاهتمام، وأثارت جدلاً فكرياً وأكاديمياً واسعاً، حين أكدت أن "ما نشهده ليس مجرد نهاية الحرب الباردة.. بل نهاية التاريخ بحد ذاته: أي خاتمة الارتقاء الإيديولوجي للبشر وكوننة الديمقراطية الليبرالية الغربية باعتبارها الشكل الأخير من الحكم البشري".

لم يكن فوكوياما يقصد بالطبع نهاية التاريخ حسب الفهم السائد، بل كما فهمه هيغل وأتباعه: التاريخ وصل إلى نهايته بوصفه نتاجاً لصراعات ومجادلات خلافية دائمة بين وجهات نظر متناقضة ومتعارضة ومتعاركة تجاه العالم. بمعنى آخر: بلغ البشر نقطة النهاية/ الذروة في ارتقائهم الإيديولوجي والاقتصادي والسياسي. فقد سجلت الليبرالية الاقتصادية والسياسية نصراً حاسماً وكاسحاً وكاملاً. ولنا أن نستنتج أن الولايات المتحدة، التجسيد المتفوق لليبرالية المنصورة، هي حامية حمى المستقبل الإيديولوجي للبشرية، فضلاً عن كونها القوة العظمى الوحيدة المتبقية.

أجل، انتصرت الرأسمالية، لكن تبين أن اقتصاد السوق "واسع الذمة" ويقبل "المساكنة" مع أي نظام سياسي، بدءاً بديمقراطية اسكندنافيا في شمال أوروبا وانتهاء ببيروقراطية سنغافورة في شرق آسيا، مروراً طبعاً بصين جين بينغ الشيوعية وروسيا فلاديمير بوتين المافياوية. كما تواجه الديمقراطية الليبرالية الغربية منافساً مهدداً لم يتوقعه فوكوياما: دول رأسمالية في الاقتصاد، واستبدادية في السياسة، وقومية في الإيديولوجيا. وهي تجري تجربة تاريخية فريدة: هل تتمكن الأنظمة التي تسمح بالحرية الاقتصادية وتحظر الحرية السياسية من البقاء والازدهار؟!

لا نستطيع إنكار حقيقة أننا إلى الآن لا نلمح في الأفق مرحلة تاريخية ما بعد ليبرالية وما بعد رأسمالية. ويبدو أن تشخيص فوكوياما الأساسي ما يزال صامداً. لكن أطروحة نهاية التاريخ توقعت أيضاً أن تحذو بقية بلدان العالم حذو الغرب وتصل في نهاية المطاف إلى المرحلة الليبرالية. هذا الجانب من الحجة ما يزال موضع شك على أقل تقدير. إذ تنتشر الدول الاستبدادية والحكومات الفاشلة والأنظمة الدكتاتورية في شتى أرجاء العالم، ولاسيما "قوس الأزمات" (انظر خريطة الديمقراطية في الوطن العربي!)، ومن المستبعد أن يحدث أي تغيير جذري في المستقبل المنظور. وثمة من يدعي أن الديمقراطيات الليبرالية ذاتها أبعد ما تكون عن الكمال، وتكافح إلى الآن ضد اللامساواة والظلم والأداء الهزيل، وتلك الآفة التي أطلق عليها فوكوياما اسماً معقداً تصعب ترجمته إلى العربية بحقله الدلالي الكامل (repatrimonialism) ("إعادة الميراثية"؟). لكن هذه مشكلات تتعلق بالتطبيق، كما يحب أن يعتقد في داخلته، إذ لا تعاني الديمقراطية الليبرالية شروخاً جوهرية أو عيوباً متأصلة أو تناقضاً ذاتياً. ثم يعترف أخيراً بأن التطبيق عاند النظرية. ويشير، مستلهماً أفكار معلمه هنتنغتون، إلى أن الحكم الديمقراطي الرشيد، والتقدم الاجتماعي السديد، واقتصاد السوق المزدهر، عوامل تعتمد كلها على مؤسسات دولة قادرة وقاهرة ولا شخصية ونظيفة اليد.

ليس من المعتاد أن نستمتع في عصر الاختزال "الفيسبوكي" المخل بقراءة سفر موسوعي ضخم ومفصل بمجلدين (1500 ص تقريباً) عن العوامل المؤسسة للمجتمعات السياسية. لكن فوكوياما أكاديمي متمرس في تحليل المجتمع والسياسة مثلما هو "حكواتي" متمكن في الإمتاع والمؤانسة. إذ يأخذنا في رحلة ملحمية مشهودة في الكتاب الأول أصول النظام السياسي[1] بحثاً عن الجذور الاجتماعية-البيولوجية لتطوره، وكيف ارتقى من مستوى الأسرة، إلى الزمرة (الجماعة القرابية الصغيرة)، إلى القبيلة، إلى الأشكال المرتكزة على الدولة من التنظيم السياسي. وعلى الرغم من التحولات الجذرية والتغيرات العميقة، ثمة شعور بوجود استمرارية في الجنس البشري، متمثلة في نزعته الفطرية المحافظة حسب تعبير فوكوياما. هذه النزعة تمارس تأثيراً نافذاً في السياسة، وتقرر أيضاً الميول الفطرية للسلوك المعاصر، كما أن الإنسان "مبرمج وراثياً" ليتعاون (ويتنافس) مع الآخرين. يؤكد فوكوياما أننا نتبع القواعد والمعايير بسبب تجذرها الفكري وليس جراء قيمتها العقلانية بالضرورة. وثمة سبل تتخذها الطبيعة البشرية إلى (الطبيعة) الاجتماعية تكسب السياسة الإنسانية سماتها المميزة، مثل: الكفاءة الكلية والاصطفاء القرابي والإيثار المتبادل. إذ ينجذب البشر كلهم إلى محاباة الأقارب والأصدقاء الذين يتبادلون معهم المنافع، ما لم يحفزهم باعث قوي على انتهاج سلوك مغاير. أما قدراتهم الكامنة على التجريد والتنظير فتولد بدورها نماذج ذهنية/ عقلية للسببية/ العلية، وهذا أساس الإيمان الديني الذي يشكل مصدراً حيوياً للتماسك الاجتماعي. ولا ريب أن ميلهم إلى اتباع القواعد والأعراف متأصل في المشاعر والعواطف، ومن ثم فهم ينزعون إلى إضفاء قيمة ذاتية على النماذج الذهنية التي تنتج عن ذلك الميل. بينما يسعون جاهدين لتحقيق الاعتراف المتبادل، بقيمتهم الذاتية أو صوابية قوانينهم وعاداتهم وطرائق حياتهم، وهذا هو أساس الشرعية التي تتيح بدورها ممارسة السلطة السياسية. يرى فوكوياما أن هذه الخصائص الطبيعية تؤسس لتطوير أشكال تزداد تعقيداً باطراد من التنظيم الاجتماعي. ثم يتناول نظريات تشكل الدولة، بدءاً بالعقد الاجتماعي وانتهاء بالسلطة الكاريزمية.

ينتقل فوكوياما إلى حكم القانون مركزاً على الصين السلالية القديمة، والهند، والدولة الإسلامية المترامية التي امتدت ذات يوم من إسبانيا إلى الهملايا، وأوروبا القروسطية. ويعرض أربعة نماذج للدولة الأوروبية التي تطورت لاحقاً: 1- المستبدة الضعيفة: فشلت في الهيمنة الكاملة على النخب القوية وفرضت أثقل عبء ضريبي على الشرائح الأضعف قدرة على مقاومتها (تمثلها فرنسا وإسبانيا في القرنين السادس عشر والسابع عشر)؛ 2- المستبدة الناجحة: تمكنت من ضم الطبقتين النبيلة والعليا وتحويلهما إلى كتلة خادمة متكلة على الدولة (روسيا القيصرية)؛ 3- الأوليغارشية الفاشلة: نجح الأرستقراطيون فيها في فرض قيود دستورية على سلطة الملك الذي بقي ضعيفاً وعاجزاً عن بناء دولة حديثة (المجر وبولندا)؛ 4- الخاضعة للمحاسبة: تمكنت من تطوير حكم قانون قوي وإقامة حكومة تخضع للمساءلة أمام الشعب وممثليه (إنكلترا والدانمرك). بعد ذلك نعبر مع "الميراثية" بحر الظلمات إلى أميركا اللاتينية، بتنوعها الجغرافي والإثني والثقافي والاقتصادي الهائل، قبل أن يتناول فوكوياما في الفصلين الأخيرين الأسس البيولوجية للسياسة وآليات ارتقاء النظام السياسي، والتطور السياسي ماضياً وحاضراً.

لنكتشف الركائز البيولوجية للسياسة:

  1. لم يوجد البشر قط في حالة سابقة على التعاون الاجتماعي: فقد عاشوا في مجموعات اجتماعية قرابية المرتكز ومتنوعة الأحجام على الدوام، بل بقوا ضمن هذه الوحدات الاجتماعية زمناً طويلاً كافياً لكي ترتقي الملكات الإدراكية والعاطفية والوجدانية المطلوبة لتشجيع التعاون الاجتماعي، وتندمج فيما وهبوا من مورثات. ما يعني أن نموذج الاختيار العقلاني للعمل الجمعي، حيث يعتقد الأفراد نتيجة التفكير والحساب بأنهم سيكونون أفضل حالاً عند التعاون فيما بينهم، يقلل إلى حد بعيد من درجة التعاون الاجتماعي الذي وجد في المجتمعات البشرية ويسيء فهم الدوافع الكامنة خلفه.

  2. تأسست نزعة البشر الطبيعية للتواصل الاجتماعي على مبدأين: الاصطفاء القرابي والإيثار المتبادل. يشير الأول إلى أن البشر سوف يتصرفون بطريقة غيرية تجاه أقرباء الدم بدرجة تتناسب تقريباً مع عدد المورثات المشتركة. أما الثاني فيؤكد أن البشر ينزعون إلى إقامة علاقات تتبادل النفع عند التفاعل مع الأفراد الآخرين. وخلافاً للاصطفاء القرابي، لا يعتمد الإيثار المتبادل على الصلات الوراثية، لكنه يستند فعلاً إلى تفاعل شخصي متكرر ومباشر وعلاقات الثقة المتولدة عن مثل هذه التفاعلات.

  3. في البشر نزعة فطرية لإيجاد المعايير أو القواعد واتباعها. المؤسسات في الجوهر هي قواعد تقيد الحرية الفردية في الاختيار، ويوجد في البشر ميل طبيعي لإيجاد المؤسسات. يمكن للأفراد استخلاص القواعد والأنظمة عقلانياً بعد حساب كيفية مضاعفة المصلحة الذاتية إلى الحد الأقصى.

  4. في البشر نزعة طبيعية نحو العنف. منذ اللحظة الأولى التي وجد فيها البشر على الأرض، مارسوا العنف ضد إخوانهم. وليست النزعة إلى العنف سلوكاً مكسوباً لم يظهر إلا في مرحلة معينة من التاريخ البشري. في الوقت ذاته، وجدت المؤسسات الاجتماعية على الدوام للسيطرة على العنف وتوجيهه. وأهم وظائف المؤسسات السياسية هي السيطرة والتحكم والتجمع على المستوى الذي يظهر فيه العنف.

  5. لا يكتفي البشر بطبعهم بالرغبة في المورد المادي فحسب، بل في الاعتراف المعنوي أيضاً. الاعتراف هو الإقرار بكرامة الإنسان أو قيمته أو مكانته، وكثيراً ما تميز الكفاح في سبيل الاعتراف أو المكانة بطبيعة مختلفة تمام الاختلاف عن المسعى وراء الموارد المادية؛ لأن المكانة قيمة نسبية لا مطلقة. بكلمات أخرى، لا يمكن للفرد التمتع بمكانة رفيعة إلا إذا تدنت مكانة الآخرين. وخلافاً للعبة التعاون، أو المكاسب من التجارة الحرة، التي تعد إيجابية الناتج، وتسمح للطرفين كليهما بالفوز، فإن الكفاح من أجل المكانة النسبية منافسة صفرية الناتج حيث يعني الفوز لأحدهما خسارة بالضرورة للآخر. يعتقد فوكوياما أن الدين متجذر في الطبيعة البشرية ويمارس تأثيراً قوياً في السلوك السياسي (فضلاً عن دوره الفاعل في تأسيس حكم القانون). كما يؤكد استحالة تفسير الدين بالظروف المادية القبْلية. ويرى أن الإيمان الديني يساعد في تحفيز الناس على إنجاز مهمات لا يفكرون بها إذا انحصر اهتمامها في الموارد والرفاه المادي. وهكذا، نتبين دون لبس أن الطريق إلى النظام السياسي طويل وشاق وشائك ولا خطي، وحاشد بالوحشية والقمع والاضطهاد والحروب، لتنتهي "الحكاية" –مؤقتاً- مع انبثاق الديمقراطية الحديثة بعيد الثورة الفرنسية.

في الواقع، أدت الثورة الفرنسية إلى تطور أول قانون حديث في أوروبا ونشره، القانون المدني، أو قانون نابليون (1804). وأقامت دولة إدارية حديثة، يطبق بواسطتها القانون. وحتى في غياب الديمقراطية، مثّل العاملان تقدماً رئيساً جعل الحكومة أقل تعسفاً، وأكثر شفافية وانتظاماً وعدالة في التعامل مع مواطنيها. (زعم نابليون، وهو يستعرض الماضي بعد الهزيمة في واترلو، أن القانون المدني مثّل نصراً أعظم من أي إنجاز حققه في ساحات المعارك). أما الثورة الأميركية فقد مأسست الديمقراطية ومبدأ المساواة السياسية، وتمكنت الثورتان من تدعيم حكم القانون وتوسيعه في نسختيه الشقيقتين، القانون العام والقانون المدني. لكن الحادث الأبرز في لحظة الاضطراب السياسي هذه هو الثورة الصناعية، التي رفعت ناتج الفرد إلى مستوى لم تشهده أي حقبة سابقة من التاريخ البشري؛ ما أفرز تبعات وعواقب هائلة التأثير لأن النمو الاقتصادي بدأ في تغيير الطبيعة التكوينية للمجتمعات.

يركز فوكوياما في الكتاب الثاني النظام السياسي والانحطاط السياسي[2] بؤرة الاهتمام على أصقاع العالم التي شهدت الثورة الصناعية قبل غيرها في أوروبا وأميركا الشمالية، حيث ظهرت أولى الديمقراطيات الليبرالية. ويحاول الإجابة عن سؤالين: لماذا تتميز بعض البلدان، مثل ألمانيا في أوائل القرن الحادي والعشرين، بإدارات الدولة الحديثة والنظيفة (من آفة الفساد) نسبياً، بينما تظل بلدان أخرى، مثل اليونان وإيطاليا، غارقة في وحل السياسة الزبائنية والمستويات المرتفعة من الفساد المستشري؟ ولماذا تمكنت بريطانيا والولايات المتحدة من إصلاح القطاع العام، على الرغم من اختراق المحسوبية والمحاباة والزبائنية لجوانبه كلها في القرن التاسع عشر، وتحويله إلى بيروقراطية أكثر حداثة واعتماداً على أسس الجدارة والأهلية؟ من منظور الديمقراطية، تبدو الإجابة محبطة من بعض الجوانب. إذ إن البيروقراطيات المعاصرة الأكثر حداثة هي تلك التي أقامتها الدول الاستبدادية في مسعاها لتحقيق الأمن القومي. يصح ذلك على الصين القديمة؛ كما ينطبق على النموذج البارز للحكم البيروقراطي الحديث: بروسيا (التي ستوحد ألمانيا فيما بعد)، حيث أجبرت على التعويض عن الموقع الجيو-سياسي الضعيف بإنشاء إدارة كفؤة للدولة. من جهة أخرى، وجدت البلدان التي تبنت الديمقراطية مبكراً، قبل ترسيخ إدارات حديثة، أنها تطور قطاعاً عاماً زبائنياً. أول بلد عانى هذا المصير هو الولايات المتحدة، أول من منح حق التصويت لجميع الذكور البيض في منتصف القرن التاسع عشر. يصح ذلك أيضاً على اليونان وإيطاليا، حيث لم تؤسس أي منهما –لأسباب مختلفة- دولة قوية وحديثة قبل فتح باب التصويت.

هنالك بؤرة توتر محتملة أخرى بين الدولة القوية والديمقراطية، إذ يجب أن يستند بناء الدولة إلى دعامة بناء الأمة، أي إيجاد هويات وطنية مشتركة تخدم وظيفة بؤرة الولاء التي تطغى على الارتباطات الأخرى العائلية أو القبلية أو المناطقية أو الإثنية. في بعض الأحيان، ينبعث بناء الأمة من القواعد الشعبية، إلا أنه قد ينتج أيضاً عن سياسة القوة –عن عنف رهيب، وذلك مع ضم جماعات مختلفة، أو طردها، أو دمجها، أو نقلها، أو "تطهيرها عرقياً". ومثلما هي الحال في الإدارة العامة الحديثة، كثيراً ما تتشكل الهوية الوطنية القوية بأشد الأساليب فاعلية في ظل ظروف الاستبداد. بينما تواجه المجتمعات الديمقراطية التي تفتقر إلى هوية وطنية قوية صعوبات جمة عند الاتفاق على سردية وطنية تلم الشمل. في الواقع، تستفيد ديمقراطيات ليبرالية معاصرة ومسالمة عديدة من العهود الطويلة من العنف والحكم الاستبدادي في الأجيال السابقة (التي ارتاحت بنسيانها!). ولحسن الحظ، لا يعد العنف السبيل الوحيد للوحدة الوطنية؛ إذ يمكن تعديل الهويات لتلائم حقائق السياسة، أو تأسيسها على أفكار استيعابية مثل الديمقراطية نفسها التي تقلص إلى الحد الأقصى استبعاد الأقليات وعزلها عن المجتمع الوطني.

يتناول فوكوياما أيضاً مسألة ظهور (أو غياب) الدول الحديثة في سياق العالم اللاغربي الذي استعمرت القوى الأوروبية أغلب مناطقه. فبينما طورت المجتمعات في أميركا اللاتينية، والشرق الأوسط، وآسيا، وإفريقيا، أشكالاً محلية من التنظيم الاجتماعي والسياسي، واجهت فجأة نظاماً مختلفاً جذرياً منذ لحظة الاتصال الصادم الأولى مع الغرب. في كثير من الحالات، قهرت القوى الاستعمارية هذه المجتمعات، أو أخضعتها، أو استعبدتها، وقضت على الشعوب الأصلية بالحرب أو المرض، ثم وطنت الأجانب في أراضيها. لكن حين لم تكن القوة المادية هي القضية، قوض نظام الحكم الذي قدمه الأوروبيون شرعية المؤسسات التقليدية ووضع مجتمعات عديدة في "الأعراف": لا هي احتفظت بأصالتها ولا نجحت في الغربنة.

هنالك عدد من النظريات التي تناولت على مدى السنين الأسباب الكامنة وراء اختلاف تطور المؤسسات باختلاف أصقاع العالم. فقد أكد بعض المنظرين أنها محددة بالشروط والظروف المادية للجغرافيا والمناخ. بينما قدم الاقتصاديون الحجة على أن الصناعات الاستخراجية مثل التعدين، أو الزراعة المدارية الملائمة للمزارع الكبيرة، شجعت الاستخدام الاستغلالي للعمل بنظام السخرة. وقيل إن هذه الأنماط الاقتصادية للإنتاج أدت إلى انتشار الأنظمة السياسية الاستبدادية. بالمقابل، نزعت المناطق التي هيمن عليها النمط العائلي في الزراعة إلى دعم الديمقراطية السياسية عبر توزيع الثروة بصورة أكثر عدالة على السكان. وما إن تتشكل المؤسسة حتى "تغلق" وتثابر على وضعها على الرغم من التغيرات التي تجعل الظروف الجغرافية والمناخية الأصلية أقل أهمية وتأثيراً. لكن الجغرافيا تظل عاملاً واحداً من بين عوامل عديدة تقرر النتائج السياسية. إذ إن السياسات التي اتخذتها القوى الاستعمارية، والمدة التي استمرت فيها هيمنتها، وأنواع الموارد التي استثمرتها في المستعمرات، أفرزت كلها تبعات وعواقب مهمة للمؤسسات ما بعد الكولونيالية. وكل تعميم حول المناخ والجغرافيا يواجه استثناءات مهمة: كان يجب على دولة كوستاريكا الصغيرة في أميركا اللاتينية أن تصبح جمهورية موز مدارية، لكنها اليوم ديمقراطية تديرها حكومة رشيدة وتتمتع بصناعات تصديرية مزدهرة وقطاع اقتصادي-سياحي حيوي ونشط. بالمقابل، حظيت الأرجنتين بأرض ومناخ يجعلانها أشبه بأميركا الشمالية، ومع ذلك انتهى بها المطاف بلداً نامياً افتقد الاستقرار وخضع للدكتاتورية العسكرية، والحكومة الشعبوية الفاشلة، وشهد تقلبات حادة في الأداء الاقتصادي.

لم تطور بلدان إفريقيا جنوب الصحراء مؤسسات محلية قوية على مستوى الدولة قبل اتصالها بالغرب. وحين بدأت القوى الاستعمارية الأوروبية "التزاحم على إفريقيا" في أواخر القرن التاسع عشر، اكتشفت بسرعة أن مستعمراتها الجديدة لا تكاد تعوض تكلفة إدارتها. ورداً على ذلك، تبنت بريطانيا مثلاً سياسة الحكم غير المباشر، التي بررت حداً أدنى من الاستثمار في إقامة مؤسسات الدولة. ومن ثم، اقتصر الميراث الاستعماري الرهيب واقعياً على الامتناع عن الإعمار والتحضير بدلاً من الإسهام في البناء والتعمير. أما في مجتمعات شرق آسيا فقد شكلت المؤسسات العامة الفعالة أساس النجاح الاقتصادي. حيث شيدت الدول على بيروقراطيات تكنوقراطية حسنة التدريب والإعداد، منحت ما يكفي من الاستقلال الذاتي لتوجيه التنمية الاقتصادية، مع تجنب أشكال الفساد المستشري والسلوك النهاب التي ميزت الحكومات في الأجزاء الأخرى من العالم. بينما فشلت أميركا اللاتينية، على الرغم من وجود إمبراطوريات كبرى قبل وصول كولومبوس، في تطوير مؤسسات قوية على مستوى الدولة من النوع الذي وجد في شرق آسيا. دمرت البنى السياسية القائمة بالغزو والمرض، واستبدلت بمجتمعات المستوطنين الذين جلبوا معهم المؤسسات الاستبدادية والميركانتيلية المهيمنة آنذاك في إسبانيا والبرتغال.

يعاين الجزء الثالث ما حدث في أوروبا بعد الثورتين الأميركية والفرنسية. إذ شهدت بلدان القارة كلها فعلياً اندلاع ثورات عارمة عام 1848، شابهت ثورات الربيع العربي عام 2011. توضح التجربة الأوروبية حجم المصاعب التي تعترض الطريق إلى الديمقراطية الحقيقية. فبعد مرور أقل من سنة على ارتفاع المد الثوري، أعيد النظام الاستبدادي القديم في كل مكان. ولا ريب أن انتشار الديمقراطية يعتمد على شرعية فكرة الديمقراطية، إذ اعتقد معظم المثقفين وأصحاب النوايا الحسنة في القرن التاسع عشر أن "الجماهير" لا تملك القدرة على ممارسة مسؤولية حق الانتخاب، ومن ثم ارتبط نهوض الديمقراطية بانتشار الآراء والأفكار المتعلقة بالمساواة بين البشر. لكن الأفكار لا توجد في فراغ، فقد أشعلت الثورة الصناعية شرارة نمو اقتصادي متفجر غير تغييراً جذرياً طبيعة المجتمعات عبر حشد طبقات جديدة –البورجوازية أو الطبقة الوسطى، والطبقة العمالية الصناعية الجديدة. وحين أصبحت جماعات واعية بذاتها لها مصالح مشتركة، بدأت تتنظم سياسياً وتطالب بحق المشاركة في النظام السياسي. وبعيداً عن النمو الاقتصادي، سهلت العولمة نفسها الانتقال إلى الديمقراطية في شتى أنحاء العالم، حيث أدى تقليص الحواجز إلى انتقال الأفكار والسلع والاستثمارات والناس عبر الحدود الدولية. وغدا من الممكن للمؤسسات التي احتاجت إلى قرون للارتقاء في منطقة من العالم أن تستورد أو تكيف وتعدل لتلائم الشروط المحلية في منطقة أخرى مختلفة كلياً.

يبين الجزء الرابع أن الديمقراطيات الليبرالية أيضاً ليست محصنة ضد الركود والجمود والانحطاط، كحال غيرها من المجتمعات السياسية. وربما تحتاج إلى إصلاح. فهل تعد منظوماتنا السياسية الراهنة جزءاً من الحل أم من المشكل؟ يقدم فوكوياما إجابة ملتبسة. حيث يلح بإصرار على أن المؤسسات الديمقراطية ليست سوى مكون واحد من مكونات الاستقرار السياسي. وفي الظروف الخاطئة يمكن أن تمثل قوة مزعزعة للاستقرار. أما الحجة الجوهرية فتؤكد أن المجتمع المنظم بحاجة إلى حامل ثلاثي القوائم (ربما نتذكر هنا مونتيسكيو والسلطات الثلاث والتوازن بينها): دولة قوية وكفؤة (سلطة تنفيذية)، حكم قانون راسخ (سلطة قضائية)، محاسبة ديمقراطية (سلطة تشريعية): مجتمعة كلها ومتفاعلة معاً. أما الحداثة وحدها فلا تقدم ولا تؤخر (من هنا ازدراء فوكوياما لمقولة إن الدول الفاشلة لا تحتاج إلا إلى تحديث، فقد تمكنت الحداثة من تسريع التطور السياسي لكنها جعلته أكثر تعقيداً وصعوبة).

يقترح فوكوياما أن الإنسان كائن سياسي، وأن الطبيعة البشرية المتطورة تؤثر في السياسة، إذ تكمن في البشر أربعة ميول فطرية وثيقة الصلة بها: محاباة الأقارب، التدين، اتباع المعايير، السعي وراء المكانة والاعتراف. إذاً، من أين أتت الحكومات؟ وما هي فائدتها؟ ومن شكلها؟ كيف أوصلت حرية حالة الطبيعة البشر إلى قيد الدولة المتسلطة القاهرة، "الوحش" (leviathan) القاتل الذي يحتكر الحق في استخدام العنف؟ وجد هوبز الإجابة في هدنة وجيزة أوقفت مؤقتاً "حرب الكل ضد الكل"، بينما أشار روسو إلى العقد الاجتماعي، أما فوكوياما فيرى أن بإمكاننا الحصول على إجابات لا تعتمد على الظن والتخمين، إذ نستطيع، لأننا أتينا بعد داروين وعلماء الأناسة العظام في القرن التاسع عشر، تأسيس نظرية عن أصول الحكومات بالاستفادة من معارفنا الواسعة في البيولوجيا والتاريخ. يتجاهل فوكوياما مقولة أرنولد توينبي: "الماضي فوضى عارمة.. لا تنقاد إلى قوانين". لكن يمنعه تواضعه من اقتراح قوانين صارمة للتطور، وإن عرض تشكيلة متنوعة من النظريات المراوغة التي تضفي على فوضى توينبي ما يشبه النظام. يؤكد مثلاً أن التسلسل التاريخي حاسم الأهمية في تقرير النتيجة الختامية للنظام السياسي: حكم القانون أولاً، فالدولة القوية ثانياً، ثم الديمقراطية لاحقاً؛ لأن دمقرطة الدولة قبل أن تترسخ قدرتها على الحكم سوف تحولها إلى دولة فاشلة حتماً (وهذا ما حدث في كثير من بلدان إفريقيا). بالمقابل، نجح تراث الحكومات المركزية القوية التي سبقت الديمقراطية في أجزاء من شرق آسيا –اليابان وكوريا مثلاً- في تجنيب هذه الدول حالة الشلل الوظيفي والعجز عن الفعل جراء تمكين مراكز القوى وجماعات الضغط والمصالح المتنافسة. لكن الوصفة لا تنفع في جعل العالم مكاناً أفضل حالاً. فالعيش في ظل دولة قوية متغولة في انتظار الديمقراطية الغائبة تجربة كارثية قد تؤدي إلى إبادة جماعية مروعة (كما فعلت "الدولة" السورية بشعبها مثلاً). في أوروبا، تطورت الدولة بعد ترسخ مؤسسات القانون والمحاسبة في بعض المناطق، مدعمة بالإيديولوجية الدينية، حيث أضعفت المسيحية الركيزة الأسروية للميراثية. أما في الصين[3] فقد سار التسلسل في الاتجاه المعاكس: ظهرت دول قوية قبل أن يترسخ حكم للقانون، ولم يتصور أحد إمكانية محاسبة الحاكم فضلاً عن مأسستها. ولذلك بقي –ويبقى- خطر الردة إلى الميراثية ماثلاً ("إعادة الميراثية"). بينما قهر الزبائنية في الولايات المتحدة ائتلاف ضم مصالح تجارية تضررت جراء الإدارة العامة الهزيلة، ومزارعين عارضوا في الغرب مصالح السكك الحديدية الفاسدة، ومصلحين مدينيين خرجوا من طبقات وسطى ومهنية. وخلافاً لكثير من المنظرين المشهورين، يقاوم فوكوياما إغراء التركيز على فكرة واحدة شاملة، ويؤكد بأسلوب أكثر إقناعاً انبثاق النظام (والفوضى) من تفاعل معقد بين عناصر متداخلة تشمل الهوية والجغرافيا والتاريخ والتجارة والتراث والمناخ والحظ.

وهكذا، يمكن أن نستقرئ من الكتابين أن فوكوياما يعتبر الحكومات "متقدمة" بقدر ما هي بيروقراطية وتراتبية. ومن المرجح أن يعتمد النظام السياسي المستقر على أربع ركائز: دولة سلطوية تديرها بيروقراطية "عقلانية" ومؤهلة؛ إيديولوجية تشرعن تلك الدولة؛ نظام قانوني يمنع الحكام من قهر المحكومين؛ محاسبة الحكومات أمام الشعب. أما الدعائم المؤسسة للديمقراطية فتكمن في "جيوب المقاومة" للسلطة الممركزة. تمظهر الصراع بين الدولة وخصومها بطرائق مختلفة. في روسيا، نتجت سلطة استبدادية قوية حين اكتسحت الطبقة العليا جماهير الفلاحين بالتحالف مع الدولة. في هنغاريا، فشل المشروع الاستبدادي في البداية جراء نجاح طبقة قوية وحسنة التنظيم من النبلاء في فرض قيود دستورية على سلطة الملك. في فرنسا وإسبانيا، ساد حكم استبدادي ضعيف؛ لأن الدولة باعت نفسها -"بالتقسيط"- إلى تشكيلة واسعة من النخب، التي وفرت لها الامتيازات والإعفاءات حماية من سلطة الدولة التعسفية –دون أن يشمل ذلك مجتمعاتها؛ في بريطانيا، انتصرت الحرية عندما انتفض البروتستانت ضد آل ستيوارت والكثلكة، مدعمين بالقانون العام وتضامن البرلمان. لم يكن شعار "لا ضرائب من دون تمثيل" مبدأ أخلاقياً بل مطلباً مستنداً إلى تفاضل القوة. الديمقراطية برأي فوكوياما ليست إيديولوجية طليعية بل تابعة؛ لأن بذرة الديمقراطية تنبت في تربة التراتبيات القديمة، وحكم القانون مؤسس على الأعراف السابقة والقانون العام (في إنكلترا) والدين (في العالم الإسلامي). من العقبات الكأداء التي تعيق بناء دولة فعالة وملتزمة بالقانون ولا شخصية انتشار النزعة نحو الأشكال الميراثية من التنظيم الاجتماعي اعتماداً على محاباة الأقارب والمحسوبية والزبائنية. والدولة التي تنجح في مغالبة الميراثية لا تتمتع بقدرة إدارية قوية فحسب، بل بمعايير قانونية حيوية وأنظمة محاسبة ومساءلة فعالة أمام المواطنين.

يقول بارينغتون مور "لا بورجوازية، لا ديمقراطية". ولاريب أن تفاؤل فوكوياما المستتر بالمستقبل يستند إلى "تحشيد" الطبقة الوسطى في العالم، وهو يستشهد بإحصائيات تشير إلى أن أعدادها سوف تقفز إلى 4.9 مليار نسمة عام 2030 (مقارنة بنحو 1.8 مليار عام 2009). وعندما يرتفع دخل هؤلاء سوف يطالبون بحكم القانون لحماية أملاكهم، ثم بالمشاركة السياسية لتأمين موقعهم الاجتماعي. لن يفعلوا ذلك في سبيل المصالح الاقتصادية فحسب، بل لأسباب أخلاقية ومعنوية أيضاً. إذ يشعر البشر بالإهانة والإذلال حين يعاملهم نظام استبدادي باعتبارهم من القاصرين العصاة الخارجين على الطاعة.

تعد النقطة المركزية في الفكر الفوكويامي: الديمقراطية الليبرالية وحدها تلبي تطلعات الإنسان إلى الحرية والكرامة والعدالة. فالقضية الجوهرية لا تكمن في الصراعات التي تتفجر هنا وهناك، ولا في صعود "اليمين" في هذا البلد أو ذاك، ولا في النزعات الشعبوية التي تطفو على السطح بين الحين والآخر، بل في وجود منافسين حقيقيين للديمقراطية الليبرالية في المخيال السياسي لشعوب العالم قاطبة: هل يندفع ملايين اللاجئين الهاربين من جحيم حكوماتهم المتوحشة إلى "نعيم" البدائل المرعبة للديمقراطيات الليبرالية الغربية المتوافرة على مسرح العالم اليوم، مثل: "الدولة الإسلامية في العراق والشام" وإيران والصين وكوبا وكوريا الشمالية؟ هل يحلم العالم بدولة شيوعية على شاكلة الصين، أو خمينية/ قروسطية كإيران، أو مافياوية مثل روسيا، أو طائفية مثل سورية، أم بليبرالية ديمقراطية كالدانمرك وكندا، والولايات المتحدة أرض الأحلام التي تتحقق (شاء الحاقدون من خصومها أم أبوا)، وملاذ الحالمين بالفرص السانحة والمساواة والعدالة، والمؤسسة القانونية المستقلة عن فتاوى فقهاء السلاطين (على الرغم من القلق من حالة الانحطاط التي بدأت تصيبها)؟ قد لا تكون الديمقراطية الليبرالية يوتوبيا فاضلة (مثل "دانمرك فوكوياما"!)، تفيض فيها أنهار اللبن والعسل على الأخيار والأبرار والأطهار، لكنها تظل أفضل العوالم الممكنة، وأكثر رحمة وتحضراً وإنسانية من جميع الأنظمة المروعة التي جربها البشر، وخبروا عذاباتها وعانوا تباريحها: بدءاً بالفاشية والنازية وانتهاء بالستالينية والماوية والبعثية.

أخيراً وليس آخراً بالطبع، لأن سفر فوكوياما يثير إشكالية في كل صفحة تقريباً، لا بد أن نوافقه الرأي على أن أولئك الذين لا يعرفون سوى تاريخ أمة واحدة يجهلون التاريخ وسيرورته.. هل نبالغ إذا أوصينا كل مسؤول نافذ في وزارات التعليم العربية بقراءة "الكتابين"؟

 


[1]فرانسيس فوكوياما، أصول النظام السياسي: من عصور ما قبل الإنسان إلى الثورة الفرنسية، ت. مجاب الإمام/ معين الإمام، الدوحة، منتدى العلاقات العربية والدولية (2016).

[2]فرانسيس فوكوياما، النظام السياسي والانحطاط السياسي: من الثورة الصناعية إلى عولمة الديمقراطية، ت. معين الإمام/ مجاب الإمام، الدوحة، منتدى العلاقات العربية والدولية (2016).

[3]أقامت الصين برأي فوكوياما المعجب بها أول دولة حديثة في العالم -سبقت الغرب بثمانية عشر قرناً. لكن من الصعب الاقتناع بذلك من دون أدلة تاريخية دامغة، وما نعرفه عن الصين في عصر سلالة تشين الحاكمة لا يتعدى وجود بيروقراطية قوية والسيطرة على مساحات شاسعة من الأراضي، وهذا لا يرتقي إلى مستوى الدولة الحديثة.

 

   

شارك :

التعليقات (0)

أضف تعليق