الواقعيون الأطلسيون: الإمبراطورية والفكر الدولي بين ألمانيا والولايات المتحدة

طباعة 2023-04-12
الواقعيون الأطلسيون: الإمبراطورية والفكر الدولي بين ألمانيا والولايات المتحدة

المؤلف: ماثيو سبيكتر (Matthew Specter)

الناشر: جامعة ستانفورد  (Stanford University Press)

السنة: 2022

عدد الصفحات: 336

مراجعة: رانيا أبوشمالة

 

تروي أغلب أدبيات حقل العلاقات الدوليّة الرواية نفسها بشأن الظهور الأكاديمي للواقعيّة وبشأن التأصيل التاريخي للمفاهيم والحُجج التي اعتمدها منظّروها. وتروي القصّة بأنّ الواقعيّة قديمة قدم الممارسة الدبلوماسية، وبأنّ استبصاراتها ربطت ثيوسيديس الذي عاش في القرن الثالث قبل الميلاد بإدوارد كار وجورج كينان ورينهولد نيبور ورايموند آرون، كما ربطت هانز مورغنثاو الذي عاش في القرن العشرين بميكيافيلي والكاردينال ريشيليو وتوماس هوبز. فبالنسبة لمورغنثاو ، الأب المؤسّس للواقعية الكلاسيكيّة، تُقرُّ الأطروحة الرئيسة للواقعيّة بأن السياسة الدوليّة بطبعها هي صراعٌ دائمٌ لتحصيل البقاء والقوة، وبأنّ البيئة الفوضويّة للنظام الدوليّ تجعل خيار الحرب واردًا جدًّا والاستعداد لها أمرًا واجبًا. وعليه، يؤكّد الواقعيّون أنّ هذه الأطروحة لطالما ارتبطت بالتفكير بشأن العلاقات الدوليّة وبالممارسة الدبلوماسيّة عبر تاريخها الممتد إلى أن حلت محلّها المثاليّة الويلسونيّة عقِب الحرب العالميّة الأولى، وهو الأمر الذي كان له عواقب وخيمة لعجز التوجه المثالي عن تحقيق وعوده بشأن نشر الديمقراطيّة وتحقيق الأمن الجماعي، فضلًا عن تعزيزها ظهور الأنظمة الفاشية والشموليّة في أوروبا وغيرها.

يطرح ماثيو سبيكتر[1] في كتابه الواقعيون الأطلسيون: الإمبراطورية والفكر الدولي بين ألمانيا والولايات المتحدة الصادر عن منشورات جامعة ستانفورد (2022)، فكرة أن الواقعية ليست سليلة مفهوم الواقعية السياسية realpolitik الذي ارتبط ظهوره بالسياسة الدولية لبسمارك، ولكن الواقعيين الأطلسيين الأوائل تأثروا كثيرًا بمفهوم السياسة العالمية Weltpolitik الذي ظهر في تسعينات القرن التاسع عشر. والفرق بين المفهومين أن الأول يشير إلى نزوع الدول للموازنة وللحفاظ على الوضع الراهن والاستقرار، فيما يؤكد المفهوم الثاني نزوعها لأفكار الداروينية الاجتماعية بشأن الحركية التطورية والتوسعيّة والإمبرياليّة.

يوضح سبيكتر كيفية نشوء المثل العليا للجغرافيا السياسية في الولايات المتحدة منذ ثمانينيات القرن التاسع عشر، ويرسم التطور المشترك لهذه الجغرافيا للإمبرياليين أمثال ألفريد ثاير ماهان وكوليدج وهنري لودج والرئيس الأميركي ثيودور روزفلت، خصوصًا مع بدء الأميركيين النظر إلى أنفسهم بوصفهم قوة عالمية، لذا يضع ماثيو سبيكتر المثل العليا للجغرافيا السياسية الأميركية والألمانية في محاولة للبحث عن مشترك بديل للدبلوماسية البسماركية في أوروبا وانعزالية المؤسسين في أميركا، حيث سعى كلاهما للحصول على الأطر الفكرية لتبرير تمردهم ضد الهيمنة البريطانية بوصفه"شرطي العالم" آنذاك[2].

لقد تركت نخب الجغرافيا السياسية وأفكارهم تأثيرًا كبيرًا في البلدين حتى القرن العشرين خصوصًا لما تصدروا مناصب حساسة في صناعة القرار السياسي فوجدت أفكارهم طريقًا للتنفيذ؛ ما دفع سبيكتر إلى إجراء دراسة مقارنة لسيرة كارل هاوفهاوسر وآيزيا باومان[3] تمكّن من خلالها أن يعيد بناء الصلات الفكرية والشخصية بين مثقفي السياسة الخارجية للتقدمية الويلسونية الأميركية ومنظري سياسة ويلهلم الألمانية في السنوات التي سبقت الحرب العالمية الأولى وخلال فترة ما بين الحربين.

كان كارل هاوفهاوسر أشهر الأساتذة الجغرافيا السياسية الأوروبيين في القرن العشرين، ونظيره في أميركا آيزيا بومان؛ ففي الوقت الذي كانت فيه رؤية هاوفهاوسر: "أوراسيا تحت هيمنة ألمانية" قد أثرت على سياسة المجال الحيوي النازي -بعد أن تعلم هتلر على يد هاوفهاوسر خلال فترة وجوده في سجن لاندسبيرج-، كان بومان مستشارًا لوودرو ويلسون ومهندسًا للنظام العالمي لما بعد الحرب العالمية الأولى ومناصرًا للهيمنة الأميركية العالمية، وكما يظهر الكاتب فإن كل من هاوفهاوسر وبومان معجبان بعمل بعضهما البعض، وانخرطا في نقاش أكاديمي عبر أطلسي حول الجغرافيا السياسية قبل الحرب العالمية الأولى وفي فترة ما بين الحربين العالميتين[4].

وبالرغم من ذلك شكلت الحرب العالمية الثانية منعطفًا حاسمًا للجغرافيين السياسيين الأميركيين بشأن تصوراتهم حول السياسة الدولية، ولذلك نأوا بأنفسهم عن نُظرائهم الألمان وعن ما يمت بصلة بالمنظومة المفهومية والتحليلية للتقليد السائد للجغرافيا السياسية، وتحرروا من هذه المقاربات في فهم العالم.

لقد شرح سبيكتر كيف أن التفسير الإمبريالي والعنصري لطبيعة السياسة الدولية الذي قدمه الواقعيون الأطلسيون، بما فيهم كارل شميث زمن الحرب، تجسدت آثاره المظلمة مع النازية الألمانية، وعلى هذا الأساس دافع شميث والمتعاطفون مع النازية عن موقفهم بالقول أن الأساس الذي برّرت به أعمالهم السياسة الخارجية النازية كان جيوسياسيًّا وليس عنصريًّا.

يعترض سبيكتر على هذا التصور التبريري، فحتى لو كانت كتابات شميت حول الدولة بوصفها فضاء إقليميًّا واسعًا (Großraum) قد تجنبت اللغة العنصرية الصريحة لمفهوم النازية للمجال الحيوي، إلا أن المفهوم نفسه ارتبط عمليًّا بالغزو والإبادة الجماعية في كل من روسيا وأوروبا الشرقية، وفي تحليل سبيكتر لشميت فإنه يوضح مدى القواسم المشتركة بين الفكر الجيوسياسي الأطلسي قبل الحرب وبين عقيدة المجال الحيوي، بالتالي فإن الإمبريالية الأميركية وأسسها الأيديولوجية لا تقل شرًّا عن الإمبريالية النازية.

لقد كان من نتائج الحرب العالمية الثانية مراجعة الواقعية الأطلسية الإمبريالية في الولايات المتحدة وألمانيا، وتنقيحها من كل النزعات الإمبريالية والعنصرية لتصبح نظرية صالحة في حقل العلاقات الدولية، لذلك سعى بومان وزملاؤه مثل نيكولاس سبيكمان وهربرت بوكيما وغيرهم إلى إعادة إحياء سياسة القوة الأميركية والجغرافيا السياسة بعيدًا عن حمولتها النازية والإمبريالية، ومنه ظهر النظام الدولي الحديث مدّعيًا تقديم دراسة محايدة وقيمة للسياسة الدولية.

يروي سبيكتر في كتابه قصة التطور المشترك للجغرافيا السياسية الألمانية والأميركية في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين بشكل مميز، وقد اهتمت فصول الكتاب بأعمال ويلهلم غريو ومورغنثاو وحاول فيها تحليل عمق روابطهم الشخصية والفكرية مع الواقعيين الأطلسي قبل الحرب، فقد"بدأ هذا الكتاب في الأصل كدراسة لمثلث من الشخصيات: كارل شميت، وهانس مورغنثاو، وويلهلم غريو"، ثم يقول الكاتب:"أردت أن أعرف كيف زرعت المفاهيم الرئيسة لنظرية شميت السياسية بذور خطابات وممارسات السياسة الخارجية الأميركية والألمانية بعد الحرب"[5].

يشكل فكر شميت الذي ركز على توازن القوى والمقاربة الواقعية للقانون الدولي -بالإضافة إلى تقاطعه مع أفكار فريديرك مينيك ( -1862 1954) المؤرخ الألماني الذي تميز بفكره الوطني الليبرالي المعادي للسامية  - ثقلًا مهمًّا للجغرافيا السياسية لهاوسهوفر وأسلافه وله ارتباطات مهمة بحقل العلاقات الدولية بعد الحرب. وبما أنه ليس بمقدرة كل الكتب أن توضح كل تلك العلاقات، لكن تضمين هذه الروابط يُعدّ مهمًّا لأنه يساعد في تقديم صورة متعددة الأبعاد لأصول التقليد الواقعي في العلاقات الدولية.

وفي الفصل الأخير من الكتاب تحدث الكاتب عن صعود عقيدة غريو[6] الواقعية وأفولها، في الوقت الذي كان فيه كونراد أديناور أول مستشار ألماني بعد الحرب العالمية الثانية وحكومة الحزب الديمقراطي الاجتماعي الألماني التي تلت ذلك، وتحدث عن تطور بحوث السلام وصعود الواقعية ثم عودة الواقعية في الثمانينيات، لكن غياب أعمال مورغنثاو في هذا الفصل هو الأمر المثير على الإطلاق.

هناك ثلاثة أفكار مركزية تمثل جِدّة في عمل الكاتب:

أولًا: طرحه بأن جرمنة العقل الأميركي منتصف القرن العشرين، لا ينفي وجود تأثير متبادل بين الفكر الأميركي والألماني في حقل العلاقات الدولية، أي إنه كما تأثرت المدرسة الواقعية بأفكار الجيوسياسيين الألمان، هناك تأثير أميركي في الفكر الألماني أيضًا. والكتاب ضرب مثالين كتأثر النخبة البحرية الألمانية بأفكار ألفريد ماهان الأميركي، وفريدريك راتزل الذي ألهمت زيارته ودراسته في أميركا فكرته حول المجال الحيوي، وكذلك تأثر كارل شميث وولهم جريوي الذين بمبدأ مونرو[7].

ثانيًا: تفنيد القول الشائع بأن الواقعيين تأثروا بالسياسة الواقعية باعتبارها سياسة تتبعها الدولة للحفاظ على كيانها ووضعها الراهن، بل أوضح أنها تأثرت أكثر بالمصطلح الألماني Weltpolitik الذي تم تطويره سنة 1890. وهو مصطلح يعبر عن السياسة التوسعية للدولة، لإظهار قوتها ولتعلن نفسها قوة كبرى على المسرح العالمي[8]. وهنا تؤثر الجغرافيا السياسية الألمانية في الواقعية الأميركية من مدخل فكرتها حول التوسع والهيمنة.

ثالثًا: رفضه للتأريخ السائد للجغرافيا السياسية الكلاسيكية الذي امتد من 1890 إلى غاية 1910 دون إدماج "المدرسة الواقعية" ضمن هذا التأريخ الذي كان من الممكن أن يمتد حتى الحرب العالمية الأولى. ولذا أكد الكتاب بأن أهم خصائص الواقعية الجوهرية نشأت عبر حوار وتفاعل دام قرنًا بين المثقفين الأميركيين والألمان في أواخر القرن التاسع عشر.

هذه باختصار الأفكار التي ناقشها الكاتب ودافع عنها في عمله، وهو يندرج ضمن سلسلة من الدراسات التأريخية للواقعية التي ظهرت مؤخرًا، والتي تقوم على محاولة التأريخ والربط الجدلي بين الأفكار ودراسة أشكال التأثير المزدوج بين المدرسة الألمانية والأميركية، ورصد سياق نشوء المفاهيم الواقعية وتطورها في السياق الأميركي، وكذا تحليل جذورها الفكرية والتاريخية، والعكس كذلك كيف تأثرت بعض المفاهيم الألمانية بالبيئة الأميركية.


[1]  ماثيو سبكتر: زميل أول في معهد الدراسات الأوروبية، ومحاضر في التاريخ الأوروبي الحديث والتاريخ العالمي والفكر السياسي في جامعة كاليفورنيا، بيركلي، وهو أيضًا محرر مشارك في مجلة هيستوري آند ثيري. صدر له كتاب بعنوان «هابرماس: سيرة فكرية» (2010). وينشغل في أعماله بدراسة تاريخ الفكر الدولي.

[2]  Matthew Specter, The Atlantic Realists, 2022, p. 9.

[3]  لمزيد من التفصيل راجع الفصل الثاني من الكتاب.

[4]  Matthew Specter, The Atlantic Realists, 2022, p. 51.

[5]  Matthew Specter, The Atlantic Realists, 2022, p. 202.

[6]  بعد أن أحضره أديناور إلى وزارة الخارجية في عام 1951، ترأس غريو الوفد الألماني الذي تفاوض على إنهاء احتلال الحلفاء لألمانيا الغربية في عام 1955، الفصل الرابع من الكتاب.

[7]  راجع في هذا الصدد: الفصل الأول من الكتاب.

[8]  توسع الكاتب أكثر في هذه الفكرة في الفصل الأول.

شارك :

التعليقات (1)

أضف تعليق