ما بعد الإنسان

طباعة 2023-04-12
ما بعد الإنسان

تأليف: روزي بريدوتي

ترجمة: حنان مظفر

إصدار: سلسلة عالم المعرفة، العدد 488، نوفمبر 2021.

عدد الصفحات: 240

مراجعة: معاذ العامودي

 

مقدمة:

تأتي قوة كتاب ما بعد الإنسان من مكانة الكاتبة الفيلسوفة الأسترالية- الإيطالية المعاصرة وأهم منظري النسوية "روزي بريدوتي" إحدى أهم الرائدات في دراسات المرأة الأوروبية. وبالرغم من أن الكتاب صدر بعنوانه الأصلي " The Posthuman" عام 2013، وطبع منه قرابة 32 ألف نسخة، إلا أن النقاش ما يزال محتدمًا حول ما طرحته الكاتبة، من نقد لنظريات الحركة الإنسانية والمركزية، لتصل إلى نظرية ما بعد الإنسان، وهي تندرج ضمن مسار مستمر لمؤلفها السابق عام 2002، بعنوان "التحول: النظرية المادية للمستقبل"، ونظرًا لمكانة الكاتبة باعتبارها تعمل الآن عضوًا مؤسسًا في الاتحاد الأوروبي للمعاهد والمراكز الإنسانية، وكذلك عملت كعضو منتخب في المجلس العلمي للأبحاث العلمية في فرنسا، أعاد المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في الكويت نشر الكتاب في نوفمبر 2021، بعد ترجمته للعربية ضمن العدد 488 من سلسلة عالم المعرفة.

تقسيم الكتاب

يقع الكتاب في أربعة فصول مع خاتمة ومقدمتين للمترجمة والكاتبة، ويعالج الفصل الأول نظريات الحركة الإنسانية من مؤيديها ومعارضيها وتداعيات إزاحة الإنسان من مركز الكون على الأخلاق وغيرها، فيما يتطرق الفصل الثاني لأنماط تحول الإنسان نحو الآلة والحيوان والأرض عبر قربه من الحيوان وحيازته على الوسائط التكنولوجية وسلطة هذه التكنولوجيا على الأرض.

 وفي الفصل الثالث تتوقف عند سلطة الموت التي صنعتها الآلة كاستمرارية لما بعد الإنسان، إضافة إلى موجة التشكيك في العلوم الاجتماعية باعتبارها غير مناسبة للعصر وغير مؤهلة للحصول على الدعم الحكومي، فيما ترصد الكاتبة في الفصل الرابع دور الجامعة في زمن تشتتت فيه المعرفة وتعددت طرق الوصول إليها عبر التكنولوجيا وتطور العلوم الاجتماعية في ظل العصر الرقمي حيث أرادت الكاتبة إعادة الحيوية مجددًا للعلوم الاجتماعية وإظهار أهميتها.

تطرح الكاتبة مشكلة تراجع العلوم الإنسانية ونتائج التطور التكنولوجي على الإنسان، من تنامي الذاتية وتراجع القيم الأخلاقية والنظر للأشياء من بينهم الإنسان من منظور كمي حسابي إلى ما بعد الإنسان في رؤية مختلفة مع ما تطرحه المركزية الغربية للإنسان.

إشكالية الكتاب وأطروحته

ابتدأت بريدوتي كتابها بدق ناقوس الخطر قائلة إن "مفهوم الإنسان قد انفجر تحت ضغطٍ مزدوج من التقدم العلمي والمخاوف الاقتصادية"[1]، وهو ما أرسى الكتاب على عنوانه الحالي "ما بعد الإنسان"، لتعمّق الكاتبة افتتاحيتها فيما بعد تدفق نظريات الحداثة وما بعد الاستعمار وما بعد الصناعة وما بعد الشيوعية؛ بل ما بعد النسوية -المشكوك في مصداقيتها وفق ما تقوله-[2]، إلى مأزق العصر الجديد والعثرات الكبيرة التي أصابت مركزية الإنسان وبناه الاجتماعية وروابطه الإنسانية ونماذجه السلوكية وكذلك القيم والأخلاق؛ نتيجة السيولة اللامنتهية لما بعد الحداثة، والتي أشار لها عالم الاجتماع البولندي زيجومنت باومان في سلسلته الشهيرة "السيولة"[3]، ثم أعادت الكاتبة تعريف الإنسان في عصر الرأسمالية المتوحشة بعد قولبة مصطلح "الكوجيتو"[4] لأبي الفلسفة الحديثة في عصر التنوير رينيه ديكارت بقولها: "أنا أتسوّق إذن أنا موجود"[5].

ولعل ما شد الانتباه اليقظ لهذا الكتاب تخوف الكاتبة من مشكلة تراجع العلوم الاجتماعية في الغرب لصالح العلوم العلمية وتركيز عصر الحداثة على التكنولوجيا وسلطتها، يما يحمله من انعكاسات على البنى الاجتماعية والقيم الأخلاقية، والنزعة الذاتية[6]، وإعادة تعريف الكاتبة لمفهوم ما بعد الإنسان من خلال مناهضة الحركة الإنسانية وفق نظرة الغرب الإمبريالي المختلف عن غرب الإصلاح الديني والنهضة وفلسفة الأنوار التي اعتبرت الإنسان مركز الكون بقواه العقلية والروحية، حيث جعلت أيديولوجيا السوق الحرة الجديدة من معاداة الفكر سمة مميزة في عصرنا، مقابل صعود النموذج السطحي للتجريبية الحديثة التي تكتفي بتجميع البيانات والتعامل مع الأشياء من خلال التجربة والأرقام الكمية.

وتعمّق الكتاب في العديد من الأزمات التي ضربت مفهوم الإنسان بداية من الأزمة الأخلاقية التي ظهرت بعد ما أعلن عنه ميشيل فوكو "موت الإنسان"[7]، برفضه فكرة مركزية الذات والإنسان التي بنيت عليها الوجودية، وإحداثه تذمرًا من المثل الإنسانية المفروضة والاتجاه إلى أن ما يميز الإنسان هو العقل بما يتصل بالمثالية السيادية والعقلانية، وهو ما عارضته الكاتبة باعتبار أن تحويل الإنسان إلى شيء من أشياء الوجود وإخضاعه لسلطة التكنولوجيا والتجارب البيولوجية، سينزع منه القيم ويفاقم الأزمات الاجتماعية، ولذلك أرجعت الأزمة الحاصلة إلى فكرة "أوروبا البدوية" الرافضة للدور التبشيري الذي خصصته أوروبا لنفسها باعتبارها مركزًا مزعومًا للعالم.

ستركز المراجعة على سرد الأمثلة المختلفة لما يواجهه الإنسان المعاصر من أزمات، والإجابة عن العديد من الأسئلة التي طرحتها الكاتبة في مواضع مختلفة من كتابها[8]حول تعريف الذات الإنسانية في عصر الحداثة، وهل تنتمي إلى هذا العصر؟ وماذا بعد الإنسان وفق المركزية الأوروبية؟ وإلى أين ستوصلنا الاستهلاكية الرأسمالية الشرسة التي سلّعت كل شيء حتى الإنسان ثم أعادت تشكيل الوعي بالبيئات المحيطة حولنا، وعن علاقتنا بالحيوان والطبيعة والتكنولوجيا؟ وهل سقطت المثالية المزعومة وفق ما أطلقت عليه الكاتبة النموذج الفيتروفي[9] الجامع بين كمال القوى الجسدية والعقلية بعد استغلال الرأسمالية له؟

أربعة مشاهد في عمق الأزمة

سردت بريدوتي في مقدمتها أربعة من المشاهد لا يمكن تخطيها، تضرب في عمق الخلل الذي أصاب مفهوم الإنسان اليوم.

 ففي المشهد الأول: الطفل الفنلندي بيكا أوفين 18 عامًا، والذي أطلق النار على زملائه في مدرسة ثانوية بالقرب من هلسنكي وقتل 8 منهم عام 2007 قبل أن يطلق النار على نفسه، وقد نُشر مقطع فيديو مسجل له مرتديًا قميصًا كتب عليه "الإنسانية مبالغ فيها"، ويصطدم المشهد بكونه واقعًا في دولة غنية وديمقراطية، لربما تطبق الرأسمالية والليبرالية الغربية بحذافيرها، ومتقاطعًا مع مسار متصاعد منذ سنوات قليلة من عمليات القتل في أوروبا وأميركا، ثم ترى الكاتبة فيه أنه موت للفكر الغربي الذي يرى في الإنسان الأوروبي ذاتًا مستقلة وثابتة كونية[10].

في المشهد الثاني: أدخلتنا الكاتبة في أتون ما أسمته "جنون البشر" والصناعات التكنولوجية البيولوجية التي احترفوها، وفي دهاليز غَرْبٍ غير الذي نسمع عنه، والذي أصبحت فيه المنظمات الحقوقية تشبه "الإله"[11]، وهو ما نقدته بريدوتي في مشهدها الثاني القادم من مناطق بعيدة مزقتها الحروب مثل أفغانستان، حيث أكل الناس الحشائش من أجل البقاء على قيد الحياة؛ في الوقت الذي كانت فيه أبقار أوروبا وأميركا تتغذى على العلف المكون من اللحوم؛ حيث تحصل الماشية في الاتحاد الأوروبي على ما يعادل 803 دولار للبقرة الواحدة، وفي الولايات المتحدة 1057 دولار، وفي اليابان 2555 دولار ، وتبدو هذه الأسعار مخيفة حين مقارنتها بدخل الفرد في دول مثل أثيوبيا 120 دولار للفرد، بنغلاديش 360 دولار أو هندوراس 920 دولار سنويًّا والأمر ذو قياس على الأدوية وتجارة العقاقير والسلاح؛ فيما تعتبر تجارة الحيوانات التي تباع كسلع غريبة ثالث أكبر تجارة غير قانونية في العالم، أي إن كل شيء تم تسليعه حتى الإنسان[12].

في المشهد الثالث: سلطت الكاتبة الضوء على أخلاقيات الآلة "سلطة الأحياء وسياسات الموت وجهان لعملة واحدة"، وساقت مثال مقتل العقيد معمر القذافي بطائرة استطلاع أميركية في 10 أكتوبر 2011، باعتبار أن هذه الآلة لم تر وجه الجريمة على الأرض من سقوط المدنيين، لتلفت انتباهنا إلى صراع الآلة والأخلاق، وكذلك السلطة السياسية لقرارات القتل الجديدة، فقد قتلت هذه الدرونز -طائرات بدون طيار- ما يفوق بكثير ما قتلته الطائرات والحروب التقليدية، وأسقطت فرضية أن التطور التكنولوجي في التسلح بغرض تلافي قتل المدنيين؛ بل على النقيض تمامًا أصبحت الآلة أكثر تحكمًا في حياة الناس، وزادت السلطة السياسية على الموت ومنحتنا درجة جديدة من السيطرة على التدمير المادي للجسم الإنساني والسكان، مع تنامي المخاوف من فقدان السيطرة على هذه الآلة[13].

أما المشهد الرابع: سردته الكاتبة من داخل اجتماع علمي نظمته الأكاديمية الملكية الهولندية للعلوم حول مستقبل المجال الأكاديمي للعلوم الإنسانية، وجه فيه أستاذ في العلوم المعرفية هجومًا على العلوم الإنسانية، مستندًا إلى ما اعتبره نقصين رئيسين فيها: (اعتقادها الفطري بالمركزية البشرية، ووطنيتها المنهجية)، ومن ثم عد العلوم الإنسانية غير مناسبة للعلم المعاصر وغير مؤهلة لنيل الدعم المالي من الدولة، إذ أصبحت في الوسط الاجتماعي الليبرالي الجديد لمعظم الديمقراطيات المتقدمة أقل أهمية حتى من علوم المهارات الأساسية، وأقرب إلى مدارس تكميلية للطبقات الوسطى، أو هوايات شخصية أكثر من مجال بحثي وحقل معرفي متميز، وبناء على ذلك أشارت الكاتبة إلى الخطر الجاد على العلوم الإنسانية من أن تختفي من مناهج الجامعات الأوروبية في القرن الحادي والعشرين من أجل مواكبة نشوة الليبرالية الجديدة، فيصبح المثقف في حيرة من أمره لمعرفة الدور الذي يمارسه في السيناريوهات الاجتماعية العامة المعاصرة، لينشأ قلقًا إنسانيًّا للغاية بشأن نوع المعرفة والقيم الفكرية التي ينتجها المجتمع اليوم[14].

الإنسانية... جدل متصاعد

أعادت الكاتبة تعريف الأشياء حين رأت في استغلال لوحة الرجل "الفيتروفي"، الذي يجمع بين كمال الجسم وكمال القيم الذهنية والخطابية والروحية للفنان الإيطالي في عصر النهضة "لوناردو دافينشي" حين تم وضعها على أكواب قهوة "ستار باكس" كدعاية تسويقية للكمال، تشكيلًا للتناقض الغربي اليوم بين ما يتم تعريفه وما يتم المضي فيه.

واشتبكت "بريدوتي" مع النظريات المؤيدة والمعارضة للحركة الإنسانية، فقد رأت فرضية النظرية النسوية لها كفكرة مادية للتجسيد توضح أسس التحليلات الجديدة والأكثر دقة للسلطة، وتستند إلى النقد الراديكالي للكونية الذكورية، لكنها ما تزال تعتمد على شكل من أشكال الحركة الإنسانية الناشطة والطامحة للمساواة، مع أنها استخدمت بوصفها أداة استهدفت بشكل صريح العادات القائمة على التمييز الجنسي لليسار الثوري المزعوم[15].

لقد اعتبرت الكاتبة أن جيل "ما بعد البنيوية" المعارض للحركة الإنسانية بأنه جيل "ما بعد الشيوعية"، حيث شكل "موت الإنسان" وفق ما أعلن عنه "ميشيل فوكو" أزمة معرفية وأخلاقية استهدفت في الأساس روح الحركة الإنسانية المضمنة في الماركسية، فيما أنزلت الليبرالية الفردية النموذج الفيتروفي كمثال للكمال وإمكانية الكمال من عرشه، وعملت على تفكيكه لصالح الكمال عبر الاستقلالية وتقرير المصير الذاتي؛ في الوقت الذي رأى مفكرو ما بعد الاستعمار أن "الفيتروفية" هي اعتبار للرجل الأبيض شريعة الجمال، وحمّلوا الأوروبيين استغلال هذا النموذج في خلق المركزية الأوروبية، راهنين مستقبل الحركة الإنسانية بخروجها من المركزية الأوروبية[16].

وحول جدل عدم اختزال الحركة الإنسانية بسرد خطي واحد متصاعد في ظل أزمات الذات والأخلاق والسياسة، والتعمق أكثر في الضرورة التاريخية والأخلاقية والسياسية للتغلب على فكرة الحركة الإنسانية ذات المركزية الأوروبية باعتبارها تاريخًا مملوءًا بالوعود غير المحققة، والوحشية غير المعترف بها، لتظهر المهمة الجديدة التي تقع على عاتق أوروبا في نقض المصالح الشخصية ضيقة الأفق، والتعصب، ورفض الآخر الناجم عن كراهية الأجانب، والذي أظهر ضيق العقل الأوروبي، ما أنتج الحاجة الملحة إلى نظرية جديدة للذات تلفت إلى منعطف ما بعد الإنسان، وتقر بتراجع الحركة الإنسانية مع انتشار مواقف ما بعد الإنسان النقدية داخل وخارج التقاليد الفلسفية الغربية، وهكذا عملت الرأسمالية المتقدمة على استغلال الفرص التي أتاحها تراجع الحركة الإنسانية الغربية وعمليات التهجين الثقافي الناجمة عن العولمة، وخلصت الكاتبة إلى أن التوجه لما بعد الإنسانية كحالة طبيعية لفشل المركزية الأوروبية سيكون له عواقب وخيمة قبل التفكير[17].

الرأسمالية: آلة غزل الاختلافات بهدف التسليع

اعتبرت "بريدوتي" أن الرأسمالية المتقدمة هي آلة الغزل التي تنتج الاختلافات وتضاعف الفروق غير المحددة بين الناس والدول إقليميًّا بشكل فاعل من أجل التسليع، وذلك عبر تشكيل وتسويق السلع تحت علامات الهويات الجديدة والديناميكية والقابلية للتفاوض، واختيارًا لانهاية له للسلع الاستهلاكية، وتطرح السمات البارزة للاقتصاد العالمي المعاصر ضمن هيكلة التقني العلمي، المبني على التقارب بين الفروع المختلفة للتكنولوجيا، والتي كان يُفرَّق بينها سابقًا؛ ولا سيما الفرسان الأربعة لنهاية العالم الما بعد إنساني (التكنولوجيا النانوية، التكنولوجيا الحيوية، تكنولوجيا المعلومات، وعلم الإدراك)[18].

وترى الكاتبة أن استثمار الرأسمالية المتقدمة وتحقيق أرباحها من السيطرة العلمية والاقتصادية أنتج شكلًا متعارضًا وانتهازيًّا لما بعد المركزية البشرية، من جانب قوى السوق التي تتاجر بالحياة نفسها بكل أريحية، وهنا تبرز نظرية ما بعد الإنسان التي تطرحها الكاتبة باعتبارها مشروعًا تجريبيًّا يهدف إلى معرفة ما تستطيع الأجساد المعاصرة التي تستخدم التكنولوجيا الحيوية تنفيذه وتحمّله[19].

ركزت الكاتبة على المعلومات باعتبارها رأس المال الذي تستثمر فيه الليبرالية الجديدة لتنتج اقتصادًا سياسيًّا جديدًا أسمته "ميليندا كوبر" (الحياة كفائض)[20]؛ أي تقديم أساليب سياسية مادية وحوارية للسيطرة على السكان وفق نظام مختلف تمامًا عن إدارة التركيبة السكانية، التي شغلت أبحاث فوكو في نظم سيطرة الحكومة السياسية الحيوية، ونتج عن كل ذلك تحذيرات عالمية وتحليلات للمخاطر التي أصابت النظم الاجتماعية والوطنية بأكملها، حيث تعد بنوك البيانات الخاصة بالمعلومات الوراثية الحيوية والعصبية والإعلامية عن الأفراد رأس المال الحقيقي اليوم[21]، وتحولت معها شركات كبرى -مثل فيس بوك- نتيجة قدرتها العالية على التنقيب في البيانات إلى أداة سيطرة ونفوذ أكبر من حجم الدول نفسها، وجمهوريات رقمية هائلة أعادت تشكيل الجغرافيا السياسية وفق الرؤية الرأسمالية المتوحشة، والسيطرة اللامتناهية التي أحدثتها أنظمة الرقابة لتشكل حاجزًا أمام المجتمع المدني والحريات بشكل عام.

وفي السياق نفسه، فقد ركز عصر الحداثة على التكنولوجيا ليس باعتبارها حدثًا معزولًا، بل بوصفها عنصرًا أساسيًّا في تجميع التصنيع والذي يشمل الأشياء المصنعة والمال والقوة والخيال وبناء الذاتية، وهو ما انتقده الماركسيون والحركة الإنسانية الاشتراكية في أن التّشيؤ والتسليع هو حقًّا تجربة مذلة ومهينة للبشر، لأنها تنكر إنسانيتهم الكاملة وتحط من مكانتهم إلى أشياء مصنعة وممكّنة تكنولوجيًّا ومدفوعة الربح، لكن الماركسيين أنفسهم كانوا حركة نظرية معادية للحركة الإنسانية، حين عرف لينين الاشتراكية محرك التقدم الاجتماعي على أنها عبارة عن السوفييت (مجالس العمال المحليين) مضافًا إليهم الكهرباء[22].

الأناني وصديق الأريكة: الحيوان الفيتروفي

أعادت الكاتبة طرح العلاقة بين الإنسان المعاصر والحيوان ضمن التصنيف الهزلي لـ"لويس بورخيس" الذي قسم الحيوانات إلى ثلاث مجموعات (تلك التي نشاهد التلفزيون معها، وتلك التي نأكلها، وتلك التي نخاف منها)، ولتحصر التفاعل ما بين الإنسان والحيوان ضمن معايير كلاسيكية، وهي العلاقة الأوديبية (أنت وأنا معًا على الأريكة نفسها) والعلاقة المفيدة (يحب أن تُستهلك في النهاية)، والعلاقة الخيالية (كائنات غريبة ومنقرضة للتسلية والترفيه)، وهذه المعايير جعلت استخدام الحيوانات كحالات اختبار واستنساخها ممارسة علمية راسخة مثل "الفأر أونكو"، و"النعجة دوللي"، حولت الحيوانات على هذا الأساس لأجساد قابلة للتداول ويمكن التخلص منها، ومسجلة في سوق عالمي للاستغلال في مرحلة ما بعد المركزية البشرية، ثم أنتجت على غرار الرجل الفيتروفي ما أسمته الكاتبة في صورة هزلية الكلب والقط الفيتروفي[23].

ويتضح من خلال ما قدمته الكاتبة للتعامل مع الحيوان الفيتروفي سطوة الفردية والأنانية الغربية، ويظهر عمق الأزمة الديمغرافية التي يعيشها الغرب، والتي أجبرت بابا الفاتيكان فرانسيس -مع الانتباه لمكانته الدينية- للتعبير عن أسفه من كون الحيوانات الأليفة تحل محل الأطفال قائلًا: "ثمة نوع من الأنانية، وكثير من الأزواج ليس لديهم أطفال لأنهم لا يريدون، أو ينجبون طفلًا واحدًا فقط لأنهم لا يريدون غيره، لكن لديهم كلبان، وقطتان.. نعم، إنَّ الكلاب والقطط تحلّ محلّ الأطفال... هذا الإنكار للأبوة والأمومة يقلّل من قيمتنا ويسلبنا بشريّتنا. وبذلك تصبح الحضارة عتيقة وبدون إنسانيّة لأنها فقدت غنى الأبوة والأمومة. إن البلد الذي ليس لديه أطفال يعاني"[24].

الجامعة والتكنولوجيا ومستقبل العلوم الاجتماعية

استعانت الكاتبة في الفصل الأخير من الكتاب بإحصائية من الأمم المتحدة توقعت بوجود 22 مدينة ضخمة في العالم عام 2015 وبحلول العام 2050 سوف يسكن ثلث سكان العالم في المراكز الحضرية، في حين أنه تم تسجيل رسميًّا أن 50٪ من سكان العالم يعيشون في المدن، ليتيح مزيد من التفاعل المدعوم عبر الإنترنت ضمن مساحات حضرية ذكية تمكنها التكنولوجيا، وما يتشكل داخلها من شبكات العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والمدنية، وستلعب الجامعة هنا دورًا مركزيًّا في الاستجابة للشواغل المحلية والتحديات العالمية ومتطلبات سوق العمل التنافسية وعالم الشركات[25].

 وتطرح الكاتبة ضرورة الجمع بين المهارات الفنية والمسؤولية المدنية والاهتمام بالاستدامة الاجتماعية والبيئية، ضمن الحاجة إلى جامعة تبدو مثل المجتمع الذي تعكسه -أي المجتمع المعولم- المتوسَّط تكنولوجيًّا، والمتنوع إثنيًّا ولغويًّا والمتوافق مع المبادئ الأساسية للعدالة الاجتماعية، بهدف فهم العلاقة الجديدة بين الفنون والعلوم، وتطور الحقل الاجتماعي لتشمل العلوم الإنسانية فيما بعد الإنسانية، حقولًا معلوماتية متشابكة مثل المعلوماتية الإنسانية والعلوم الإنسانية الرقمية، والعلوم الإنسانية المعرفية أو العصبية، والعلوم الإنسانية البيئية أو المستدامة...، حتى نستمر في فهم أكمل للعقل الإنساني الذي هو المهمة الأساسية للعلوم الإنسانية لكي تبقى على قيد الحياة وإطارًا ناظمًا لعلاقات الإنسان في المدن التكنولوجية الجديدة[26].

خلاصة الكتاب

شرّح الكتاب من خلال استدعاء النظريات وروادها، وبالسرد القصصي المعاصر للأحداث أزمات كبيرة يعيشها الغرب، لأنه قدم نفسه مركز العالم وصانع الحضارة الحديثة، أثرت هذه الأزمة على مفهوم الإنسان المعاصر وما بعد الإنسان، وانطلقت من انقلاب الغرب على القيم والاتجاهات الفكرية التي تلت مرحلة الإصلاح الديني والنهضة وفلسفة الأنوار باعتبار لب اهتماماتها قيمة العقل ومركزية الإنسان، لنرى غربًا إمبرياليًّا جديدًا غريبًا عن غرب فلسفة الأنوار، تصاعدت فيه الذاتية والأنانية والفردية، وطغت فيه الآلة والبيانات والمعلومات والتجريبية على الحقول الاجتماعية القِيَمِيَّة، فقد سَلّع الغرب كل شيء، وأنتج وعيًا وقيمًا ينطلق من الاستهلاكية وينتهي عندها، ورأى في الآخر شيئًا "مختلفًا عن" بمعنى "أقل من"، وفض عقد الصلح مع الطبيعة والحيوان والمحيط من حوله.

جمالية الكتاب أنه كسّر العديد من المسلمات بداية من الفكرة السائدة أن مسار البشرية خطي في تصور التقدم، بمعنى (لا يمكن لليوم إلا أن يكون أحسن من الأمس، ولا يمكن للغد إلا أن يكون أحسن من اليوم) ضمن فلسفة "كانت" الغربية، أو من خلال ما طرحه "فوكوياما" في كتابه "نهاية التاريخ والإنسان" باعتبار القيم الغربية سواء في جانبها السياسي -الديمقراطية- صارت كونية أو في قيم الليبرالية الاقتصادية ممثلة في السوق أنها النموذج الوحيد الذي ليس له بديل.

جاء عصر اليوم مليئًا بالأزمات التي أخضعت المركزية الغربية للاختبار؛ فالنيوليبرالية الاقتصادية فشلت في الأزمة المالية عام 2008، فيما عطّلت أزمة كورونا 2020 رفاهية الدولة -كمفهوم أوروبي-، وكشفت الخلل عن علاقة الإنسان الغربي بالدولة من خلال العقد الاجتماعي، وجعلت الدولة تنظر للسياسات الصحية والرعاية والتعليم -المرفق العمومي- من منظور حسابي كمي، ودخلت الليبرالية السياسية -الديمقراطية الغربية- في حالة كساد بعد تنامي الحركات الشعبوية وضعف هيئات التمثيل من وسائط وأحزاب ونقابات، وتصاعد اليمين المتطرف. أما أوروبا التي كانت تظن بمبادئها أنها بعيدة عن الحروب والنزاعات، ونموذج للسلم والسلام صارت اليوم في قلب الحدث مع الحرب الروسية الأوكرانية.

خلاصة القول إن الأزمات المتنامية في الغرب كانت نتيجة لما طرحه الكتاب من تنامي الذات الأوروبية، وكسر علاقة الإنسان بالآخر والطبيعة والحيوان، والتعامل مع كل شيء بمنطلق التّسليع، وطغيان الآلة على الروح والأخلاق الإنسانية، في المقابل تدعو المؤلفة إلى تبني منهج جديد مستدام بوصفه دافعًا وراء البناء الاجتماعي للأمل يرتكز على الشعور بالمسؤولية والمساءلة بين الأجيال، وضرورة التفكير الجدي في وضع الإنسان، وإعادة صياغة الذاتية وفقًا لذلك، فضلًا عن الحاجة لاختراع أشكال العلاقات الأخلاقية والقواعد والقيم ورفاهية الإحساس الموسع بالمجتمع بما في ذلك التداخل الإقليمي، أو البيئي للفرد والتي تليق بعصرنا المعقد، أي إننا وفق ما اختتمت به "بريدوتي" كتابها بحاجة لعقد تصالح مع البيئة والحيوان والإنسان والجامعة بعلومها الاجتماعية[27].

 

[1]  روزي بريدوتي، ما بعد الإنسان، ترجمة: حنان مظفر، سلسلة عالم المعرفة، العدد 488 (الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، نوفمبر 2021)، ص14.

[2]  نفسه، ص14.

[3]  قدم باومان سلسلة مكونة من ثمانية كتب ركزت في ظاهرة ما بعد الحداثة وهي سيولة الحياة والحب والأخلاق والأزمنة والخوف والمراقبة والشر، وعرف فيها الحداثة بأنها حداثة صلبة كمرحلة سابقة من سيادة العقل على كل شيء، ثم ناقشت ظاهرة الحداثة السائلة التي نعيشها الآن والتي أذابت مجموعة كبيرة ومتنوعة من القيم الكيانات التي تستمد بقاءها واستمراريتها من داخلها بشكل ثابت مثل البنى الاجتماعية والروابط الإنسانية والنماذج السلوكية والأخلاق والقيم وتنامي الحياة الفردية والذاتية، وجاء ذلك في عمق ما طرحه كتاب ما بعد الإنسان من معضلة التراجع الاهتمام بالدراسات الاجتماعية وتنامي الذات الفردية وتسليع الأشياء وسيادة العقل.

[4]  هو المبدأ الذي انطلق منه ديكارت لإثبات الحقائق بالبرهان، وهو عبارة عن قضية منطقة ترجمتها "أنا أفكر إذن أنا موجود" للاستدلال على وجود النفس بالفكر، وقد سبق ابن سينا ديكارت في استدلال وجود النفس بالفكر، وهنا حوّلت الكاتبة فيما بعد الإنسان الكوجيتو تحت عنوان أنا أتسوق إذن أنا موجود، أي إن النفس الإنسانية وفكرها أصبح مقترنًا بالاستهلاكية الشرسة.

[5]  روزي بريدوتي، مرجع سابق، ص77.

[6]  نفسه، ص 121-123.

[7]  أشار ميشيل فوكو إلى موت الإنسان ليس بالمعنى البيولوجي بقدر ما يعني أن الإنسان سيصبح شيئًا من أشياء الوجود، بعدما كان في القديم ذاتًا متعالية على المعرفة، بشكل متناقض مع ما جاءت به فلسفة ديكارت من رفع الإنسان واعتباره منفصلًا عن الوجود فهو الذي يدرك الوجود ويحاول معرفته وتسخيره لصالحه.

[8]  يمكن مراجعة الأسئلة التي طرحتها الكاتبة في خلاصات كل فصل، وكذلك داخل الفصول، مثلًا ص 16، 48، 49، 86، 102، 131، 161، 163، 166، 195.

[9]  أطلقت الكاتبة مصطلح "الرجل الفيتروفي" انطلاقًا من لوحة الرجل الفيتروفي التي رسمها الفنان الإيطالي ليوناردو دافينشي خلال عصر النهضة، وترمز على نموذج كمال الجسم الذي يرافقه كمال القيم الذهنية والخطابية والروحية حيث يتداخل فيها رجلان عاريان أحدهما داخل دائرة والآخر داخل مربع، ويطلق على النص والرسم المسند فيها أحيانًا مسمى آخر وهو "شريعة الأنساب"، وقد جسدت الصورة تلاحم الفن والعلوم كأحد مميزات عصر النهضة أو التناسب والتجانس الذي آمن به دافنشي بين جسد الإنسان والكون، وقد اعتبرتها الكاتبة رمزًا للعلوم الإنسانية كعقيدة تجمع بين التوسع البيولوجي والخطابي والمعنوي للقدرات الإنسانية نحو فكر تقدمي عقلاني غائي بما تحمله العلوم الإنسانية في عقيدتها من مفهوم السلطات الأخلاقية الذاتية والفطرية للعقلانية البشرية، انظر روزي بريدوتي، مرجع سابق، ص28.

[10]           نفسه، ص19.

[11]           حول سطوة المنظمات الحقوقية في العالم وتفكيك السردية المهيمنة في كونية خطاب حقوق الإنسان ونقدها والتشكيك بها بعيدًا عن الانتصار التاريخي لفكرة حقوق الإنسان، يمكن الرجوع لكتاب لو كان الإله ناشطًا حقوقيًّا: نحو لاهوت حقوقي مناهض للهيمنة للكاتب البرتغالي بوافنتورا سانتوس وترجمه الباحث المغربي البشير عبد السلام، طرح فيه أن كل الممارسات التي قد تعتبر أفعالًا قمعية وتسلطية متى نُظر لها من خلال تصورات مغايرة للكرامة الإنسانية سيتم إعادة صياغتها لتعتبر أفعالًا تحررية.

[12]           روزي بريدوتي، مرجع سابق، ص20.

[13]           نفسه، ص21.

[14]           نفسه، ص23.

[15]           نفسه، ص29-40.

[16]           نفسه، ص39-40.

[17]           نفسه، ص64-68.

[18]           نفسه، ص72-73.

[19]           نفسه، ص73-77.

[20]           عالجت ميلندا كوبر في كتابها الحياة كفائض: التكنولوجيا الحيوية والرأسمالية في زمن نيوليبرالي العلاقة بين السياسة والاقتصاد والعلوم والقيم الثقافية في الولايات المتحدة اليوم، لفهم تاريخ التكنولوجيا الحيوية المتزامن مع صعود النيوليبرالية كقوة سياسية وسياسة اقتصادية، بمعنى تحويل الحياة البيولوجية إلى فائض القيمة أدخلت الإنسان في أزمة تسليع الأدوية والاختراعات البيولوجية وغيرها.

[21]           نفسه، ص75-76.

[22]           نفسه، ص123.

[23]           نفسه، ص82-90.

[24]           بابا الفاتيكان: تربية الحيوانات الأليفة بدلًا من الإنجاب أنانية، الجزيرة نت، 6-1-2022. على الرابط التالي: https://bit.ly/3CuRu5p

[25]           روزي بريدوتي، مرجع سابق، ص198.

[26]           نفسه، ص201-202.

[27]           نفسه، ص211-217.

شارك :

التعليقات (0)

أضف تعليق