هذه شريعتنا

رائد السمهوري

  • التصنيفات: دراسات وأبحاث -
هذه شريعتنا

ترجمة: شكري مجاهد.

عدد الصفحات: 208.

الناشر: منتدى العلاقات العربية والدولية- الدوحة.

سنة النشر: 2015 م.

 

 

 

لا يملك المهتم إذا ذُكِر أكابر العلماء والباحثين والفلاسفة الغربيين من المعاصرين الذين تحوّلوا إلى الإسلام نتيجة قراءة فاحصة متأنّية؛ أورثت قناعة راسخة بأحقيّة هذا الدين، وكونه رسالة الله حقًا إلى الإنسانية؛ لا يملك المهتم إذا ذُكِر هؤلاء إلا أن يذكرَ واحدًا من أهم هؤلاء العلماء هو الفيلسوف والمفكر والباحث النمساوي ليوبولد فيس الذي سمّى نفسه محمد أسد؛ بعد أن أدام درس الأديان السماوية الثلاثة بحثًا عن الحقيقة، حتى هُدي أخيرًا إلى الإسلام – وقد سجّل قصة تحوّله المثيرة في كتابه الشهير الطريق إلى مكة، ليكون من أكابر مفكريه، والمدافعين عنه، والناقدين لتراثه الفقهي بغية التطوير والإصلاح، فصنّف عدة كتب تدور حول هذه الأهداف، ومنها هذا الكتاب الذي أقوم بعرضه وقراءته قراءة عجلى.

أوضح المؤلف في المقدّمة أن كتابه هذا ما هو إلا مقالات كتبها حين كان في الهند، وكانت تنشر في مجلة دورية اسمها عرفات تحت عنوان "عرض نقدي شهري للفكر الإسلامي"، أي إنها في عمومها مقالات نقديّة، دفعه إلى كتابتها – كما يقول – ما أهمّه وأقلقه، مما رآه من اضطراب في فهم المسلمين لدينهم، وتخبط في تصوراتهم، وتخلخل في أوضاعهم الاجتماعية والأخلاقية.

باستطاعتي أن أقسم هذا الكتاب – بحسب أفكاره الكليّة – إلى ثلاثة أقسام توزعت عليها المقالات بلا ترتيب مقصود في جميع الكتاب:

  1. مفهوم الحضارة الإسلامية.
  2. نقد الفكر الإسلامي.
  3. العلاقة بين الإسلام والغرب.

أعرضها فيما يأتي:

أولاً: مفهوم الحضارة الإسلامية

تناول محمد أسد في تمهيده لهذا الكتاب فكرة استقلال الحضارة الإسلامية وتميّزها عن غيرها من الحضارات، ونبّه إلى أنه لا يعني بالحضارة تعيّناتها التاريخية، وأنظمتها المتجددة بحسب الأحوال والزمان والمكان تأثرًا بالحضارات الأخرى في تلك الجوانب المادية الإدارية، بل يعني - على التحديد - أصولها الفكرية والأخلاقية والاجتماعية، أي نظامها الخاص الذي أتى به الإسلام؛ فكانت حضارة خاصة لا تشبه شيئًا من تلك الحضارات في كل تلك الأصول التي تقوم عليها، وأن الوعي بتلك الأصول لا بد منه لكي نسعى في بناء حضارتنا واستمرارها.

هذا المعنى الذي ذكره في التمهيد كرره في عدة مواطن في الكتاب، لا سيّما في مقالة "أساس حضارتنا" ومقالة "الحضارة الإسلامية والشريعة الإسلامية".

كرر المؤلف في تينك المقالتين كلامه ذاته عن استقلال الحضارة الإسلامية وتميزها بالأصول "الأيديولوجية"- حسب تعبيره – التي تخصّها، وأن لا استقلال للحضارة الإسلامية عن روحها التي هي الشريعة الإسلامية ومبادؤها العظيمة، وأن الانحراف عن تلك المبادئ لن يسهم في إعادة هذه الحضارة وبنائها من جديد، فالشريعة الإسلامية هي منبع هذه الحضارة التي لا يمكن بحال من الأحوال أن تستغني عنها، وحين تنحّى الشريعة من الحياة، أو يساء فهمها؛ فلا بد لهذه الحضارة الإسلامية من أن تتراجع، وهاهنا يتساءل محمد أسد: "لماذا ضعف تأثير الإسلام إلى هذه الدرجة؟ ولماذا لا يؤدي وظيفته – ولم يؤدها لفترة طويلة – كما ينبغي؟ هل يحتمل أن كل أفكار الإسلام ومُثله معيبة بصورة أو بأخرى، ومن ثم ليس بها من القبول ما يكفي لاجتذاب أهل كل زمان؟ هل ما زال له رسالة يؤديها أم إنه "قوة مستنفدة"؟ هل لديه فعلًا شيء فريد يقدمه – شيء لا مثيل له في أي أيديولوجية أخرى – أم إن هذا وهم نتج عن حبنا للأشكال التقليدية؟ بإيجاز، هل هو مجرد نزعة رجعية؟ هل مازالت رسالة القرآن الأصلية حية ومجدية بما يكفي لإشباع حاجاتنا الروحية وتشكيل رؤيتنا للحياة – أم هي تتناقض مع ما وعيناه من الخبرة والعلم؟ هل يقدم الإسلام حلولاً لكل مشكلات زماننا الاجتماعية والاقتصادية الملحة – أم إن برنامجه كان مرهونًا بزمانه، أي لا يصلح إلا للظروف الاجتماعية والاقتصادية السائدة وقت ظهوره، ولا يتعلق بحاجات حياتنا اليومية الحاضرة ومشكلاتها؟ وبتعبير صريح: هل الإسلام طرح عملي يصلح للحاضر أم إنه مجرد تراث قديم؟" (مقالة "أساس حضارتنا").

هذه التساؤلات هي التي ستقودنا إلى محور آخر من محاور الكتاب، هو:

ثانيًا: نقد الفكر الإسلامي:

كان محمد أسد يؤمن أن الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان، وأن مبادئها الإنسانية العظيمة كفيلة بحل المشكلات التي يواجهها المسلمون اجتماعية كانت أو اقتصادية أو غيرها، لكن هناك معضلات فكريّة يعانيها الفكر الإسلامي، ويعانيها علماؤه تستوجب النقد والبيان والإصلاح، وألخّص أهم المشكلات التي تناولها محمد أسد – وهي متشابكة قد ارتبط بعضها ببعض - في هذا المحور في نقاط:

  • الشريعة بين البساطة والتعقيد:

يرى محمد أسد أن "هذه الشريعة على قدر من الدقة والتحديد والبساطة تجعل كل رجل وامرأة منحه الله عقلًا سليمًا وليس العالم المتخصص وحده، قادرًا على التمييز بين ما هو "إسلامي" وما هو "غير إسلامي"، أي كيف ينبغي أن يعيش المسلم". (مقالة "منهج جديد").

ولكن المشكلة هي أنه "دُفن ما كان معروفًا عن بساطة الشريعة الإسلامية وعقلانيتها في غابة من الاستنباطات الذاتية التي زادتكثافتها أجيال عديدة من العلماء عبر ألف عام تقريبًا. ومن ثم، فإن كثيرًا مما يسمى مفاهيم "إسلامية" هي في الحقيقة ليست إلا ميراثًا من الفلسفة الأفلاطونية الجديدة التي كانت شائعة في العصور الوسطى. وإن كثيرًا من هذه المفاهيم خاطئة بلا شك لأنها قامت على فهم خاطئ أو غير ملائم لعالم من حولنا ولتعاليم الإسلام الأصلية (وينطبق هذا تحديدًا على آراء كثيرة في أمور اجتماعية وأخلاقية). مع ذلك، فقد اعتنق تلك المفاهيم الخاطئة أعلام دينيون "مشهود لهم" مما أكسبها هالة القداسة الدينية، أي إن العقل العام اعتاد على أن يطابق بين هذه العمليات الفكرية البالية والإسلام نفسه – وهذا تقليد له توابع مأساوية". (مقالة "خطأ من؟").

وإذن فلا بد من العودة إلى المنبع الأصيل بدون التقيّد بأفكار البشر تلك، المأخوذة من فلسفات غريبة عن روح الشريعة الإسلامية الغرّاء، أخذ بها علماء كبار، حتى نالت تلك الأفكار الغريبة قداسةً تساوي قداسة الشريعة الإسلامية، فمن انتقدها فكأنه قد انتقد الشريعة الإسلامية نفسها، أي إننا يجب أن نحرّر الشريعة مما قيّدها من أفكار البشر واستنباطاتهم عبر القرون فننظر فيها مباشرة بدون التقيّد بتلك الاستنباطات التي أضحت – عن غير قصد – كبولاً وقيودًا تحول دون الارتواء من نبع الشريعة بلا وسائط، وفي هذا يقول المؤلف: "فلابد أن تكون [أي الشريعة] يسيرة الفهم بالنسبة لكل مسلم ومسلمة لديه قدر معقول من الذكاء والتعليم، وليس لعدد قليل من العلماء، لابد أن يكون هذا اليسر مرتبطاً بمرجعية القرآن والنبي ولا غير". (مقالة "منهج جديد").

ويؤكد المؤلف أنه على يقين أن: "مراجعتنا ستثبت أن التعقيد التقليدي والتنوع المغالي في الدقة في الفكر الشرعي، واحتكار طبقة من "المتخصصين" لا سند له من المشرّع". (مقالة "منهج جديد").

  • الشريعة الإسلامية بين الجمود والإبداع:

وإذ قرّر محمد أسد "بساطة" الشريعة الإسلامية؛ قرّر أيضًا أن الشريعة ما هي إلا "منظومة قليلة جدًا من القوانين. وبسبب ما تتميز به هذه القوانين من الوضوح والدقة اللغوية، لن تحتاج أي إرشاد خارجي لفهمها – وبذلك يتمكن كل مسلم ذكي من العامة أو العلماء من أن يعرف بنفسه قول الإسلام في أي مسألة". (مقالة "خلاصة القول").

وإذا كان الأمر كذلك فالمساحة – إذن – واسعة للاجتهاد والاستنباط والإبداع، لكن ما حدث في التاريخ الطويل خلاف هذا، إذ فقدَ "المجتمع اتصاله الشعبي المباشر بأصول الشريعة (البرنامج) في مرحلة معينة من تطوره؛ لأن أجيالًا من بعد أجيال من العلماء قد أضافوا إلى الأصل استنتاجاتهم الشخصية إلى الأحكام الشرعية الأصلية الصريحة، مما أكسبها تعقيدًا وأبعدها عن وعي عامة الناس". (مقالة "الحضارة الإسلامية والشريعة الإسلامية").

فكانت النتيجة أن تراجع الوعي المجتمعي بالشريعة، حتى اضطرّ الشخص العادي إلى أن يعتمد على الشروح الجاهزة بدلاً من أن يفكّر ويبدع كما فعل أسلافه. ومع طول العهد، وكثرة التشعب، واحتكار المتخصصين، وصعوبة الإلمام بكل هذا الإنتاج؛ "تهدأ حركة الدوافع الإبداعية، وتفتر حرارتها، ويقل وضوح البرنامج الاجتماعي شيئًا فشيئًا... حتى يتوقف نهائيًّا. أما السلطة السياسية التي بنيت أصلًا على التمسك الواعي للمسلمين بأيديولوجية الإسلام فتتقلص تدريجيًّا وتنحسر أمام كل ألوان الصراعات بين القبائل والأسر الحاكمة والطوائف". (مقالة "الحضارة الإسلامية والشريعة الإسلامية").

إن المؤلف يرى أن العالم الإسلامي يتدهور بمجرد أن يتخلّى زعماء الإسلام الدينيون عن القيام بدورهم في التفكير الإبداعي القائم على أصول هذه "الأيديولوجية الإسلامية". (مقالة "الإسلام وروح العصر").

ورغم تحفّظي – حال كوني قارئًا – على تسمية الشريعة الإسلامية ومبادئها "أيديولوجية"؛ إلا أنني أفهم مقصد محمد أسد في الدعوة إلى الإبداع القائم على أسس هذه الشريعة وأصولها.

أما النقطة الثالثة التي تناولها محمد أسد في نقده للفكر الإسلامي فهي:

ج. الشريعة الإسلامية بين الاجتهاد والتقليد:

إذا كان محمد أسد نقم على الزعماء الدينيين جمودهم وعدم إبداعهم، فإنه كذلك يرفض من عامّة الناس تقليد السلف الماضين، ويدعو كل مسلم ذكيّ إلى الاجتهاد بنفسه.

فيقول في هذا: "مرت قرون اتبع فيها غالبية المسلمين منهج التقليد (أي اتباع المرجعية والسلطة). وحسب تعريف اللغويين القدامى فالتقليد معناه "أن يتبع شخص آخر فيما يقول أو يفعل باعتقاد جازم أنه على صواب ‘دون التفكير في دليل أو برهان’". (مقالة "التقليد في الفكر").

ويرى أن من مشكلاتنا التي تثبّت مفهوم التقليد مشكلة التقيد المطلق بالسلف الصالح، فيقول: "وعلى نموذج "آباء" الكنيسة المسيحية لدينا في التاريخ الإسلامي مجموعة كبيرة من العلماء (رغم أن الشبه ليس بادي الوضوح) المعروفين "بأهل السلف الصالح"، الذين تربى المسلمون على النظر إليهم وكأنهم معصومون من الخطأ". (مقالة "التقليد في الفكر").

وأضحى "تعظيم السلف" وسيلة للكسل العقلي كما يقول.

ولا يفتقر المؤلف إلى تعزيز رأيه باستحضار ابن حزم، والاستشهاد بكلامه داعمًا وجهة نظره بتحريم التقليد ووجوب الاجتهاد على كل مسلم ومسلمة (مقالة "صوت من تسعة قرون").

 كما لم يفته أن يسرد أسماء علماء كبار وقفوا بقوة مع الاجتهاد ضد التقليد، مثل: الحسن البصري، والبخاري، وداود بن علي الظاهري، والجويني، وفخر الدين الرازي، وابن تيمية، وابن قيم الجوزية. وشاه ولي الله الدهلوي، ومحمد بن عبد الوهاب النجدي، ومحمد بن علي الشوكاني، ومحمد بن علي السنوسي، وإسماعيل شهيد، وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده. (مقالة "التقليد في الفكر").

 

ثالثًا: العلاقة بين الإسلام والغرب

وهو ما نال ما يقرب من نصف الكتاب، وقد كان المؤلف مهتمًا بالشأن الهندي ثم الباكستاني – إذ كتب مقالاته هذه كلها وهو في الهند - وقد شهد استقلال باكستان عن الهند، وقدّم آراءه تجاه تلك الدولة (الإسلامية) الوليدة، وبنى عليها آمالاً عراضًا، ورجا أن تتحقق فيها نظرياته عن الحضارة الإسلامية والفكر الإسلامي والدولة المنشودة التي "تحكم فيها كلمة الله" على حد تعبيره.

يعلن محمد أسد أنه كان يرى منذ مدة "أن مستقبل الإسلام في الهند مرهون بإنشاء باكستان، فإذا صارت باكستان واقعًا؛ ربما نتج عن ذلك ثورة روحية في العالم الإسلامي كله". (مقالة "ماذا تعني باكستان؟").

ولكنه يتخوّف من تلك "النزعة الغربية" التي قد تسيطر على طائفة كبيرة من الباكستانيين الذين لا يرون في استقلال باكستان إلا أنها على طريقة (مصر للمصريين)، و(تشيكوسلوفاكيا للتشيك) وهكذا، تأثرًا بالنزعة الغربية التي تنافي الفكر الإسلامي. (مقالة "ماذا تعني باكستان؟").

إنه يوجه نداءه إلى الباكستانيين ليخبرهم أن "الحرية" وسيلة لغاية، وليست هي غاية في ذاتها، في إشارة واضحة إلى التحذير من هذه المقولة الغربية. (مقالة "دعوة المسلمين كافّة").

ويحذرهم من الوقوع في فخّ القومية بمعانيها الأوروبية، في إشارة أخرى (مقالة "دعوة المسلمين كافة").

لكنه ينتقل من الحديث عن العلاقة مع الغرب من الخاص إلى العامّ، أي من خاصّ الوضع الباكستاني إلى النظرية الكليّة في علاقة الإسلام مع الغرب، فيعترف بتلك العلاقة التاريخية المتوترة مع الغرب (مقالة "المواجهة بين الإسلام والغرب")، ويرى أن العالم الغربي عجز أن يعطي شيئًا للمسلمين مدّة ألف سنة، إذ كان المسلمون فقط هم المانحون، وكان الغربيون هم المتلقّون، ثم قوي الغرب وتغير اتجاه العطاء بعد العصر الصناعي، وتسلط الغرب على المسلمين، وأصيب المسلمون – وهنا المشكلة – بضعف الثقة بالذات الذي أدّى إلى اقتفاء أثره في كل شيء، وضعف الإنتاج والعطاء. ويوصي بالتفاهم بين الكيانين الثقافيين، لكنه يؤكد من جهة أخرى أن الصراع ليس صراعًا بين عالم قوي وضعيف، أو عالم صناعي وغير صناعي، ولكنه على التحقيق صراع بين ثقافتين.

ويتناول في حديثه مفاهيم إسلامية فهمها الغرب فهمًا مشوّهًا كمفهوم الجهاد. (مقالة "المواجهة بين الإسلام والغرب").

ويخصص قسمًا من كتابه هذا بعنوان "إجابات الإسلام" يردّ فيه على أسئلة طرحها عليه غربيّون في مناسبات عديدة.

ويختم كتابه بعد هذا بالحديث عن مدينة القدس، ويتحدث عن الصراع مع إسرائيل، وأن بإمكان القدس أن تكون مفتوحة لأبناء الديانات الثلاث؛ شريطة أن تكون بيد المسلمين، لأن دعوتهم الإسلامية تؤمن بكلتا الديانتين السماويتين، وليس هذا متحقق في دين غير الإسلام، فلا يمكن أن تكون القدس مدينة مفتوحة إلا تحت ظلال الحكم الإسلامي، الذي يعترف هو بالديانتين الأخريين.

 

أواصر - مجلة فكرية فصلية

www.awasr.com