حجر الأرض: تاريخ الغزاة والحماة في أفغانستان

حجر الأرض: تاريخ الغزاة والحماة في أفغانستان

المؤلف: أحمد فال الدين

الناشر: مركز الجزيرة للدراسات

سنة النشر: 2021

عدد الصفحات: 179

إعداد:  قسم المراجعات في مجلة أواصر

 

 

توطئة

هذا الكتاب هو ثمرة تغطية المؤلف لدخول حركة طالبان العاصمة الأفغانية كابل (15/8/2021)، ومن ثم رحيل آخر جندي أميركي غازٍ من أفغانستان (30/8/2021).

كان العالم على غير انتظار لما حدث في الخامس عشر من أغسطس/آب 2021؛ حين تهاوى النظام الأفغاني وهرب رأسه أشرف غني فجأة محملًا حقائبه بملايين الدولارات والخيبات والهزائم. دخلت حركة طالبان العاصمة الأفغانية كابل بعد أن تساقطت بيدها المدن الأفغانية الواحدة تلو الأخرى، وغالبها بدون أدنى خسارة.

كانت قناة الجزيرة من أبرز القنوات التي تابعت الأحداث التي تلت ذاك اليوم المشهود، وأحيانًا ربما كانت الوحيدة في قلب الحدث، مثل تغطيتها الحصرية للحظات دخول بعض قادة طالبان قصر الرئاسة الأفغاني.

أوفدت قناة الجزيرة الكاتب لتغطية ما تلا من أحداث، ومنذ وصوله شهد حجم الحدث ومقدار الخلخلة التي يحدثها الغازي؛ فتوتر الجنود الأميركيين في مطار كابل لا تخطئه العين، وجموع الأفغان الذين احتشدوا عند المطار مثّل حجم الخوف من المجهول لدى البعض، وثمن التعاون مع الغزاة لدى آخرين.

لربما رأى الكاتب حينها تاريخ هذا البلد يعرض على آلاف الوجوه الحائرة، وإذا كانت مغادرة المحتل مفهومة، لكن كيف يُفهم أن يغادر المرء أرضه معهم؟ كان في الكتاب محاولة للإجابة عن ذلك.

 

من كانساس إلى كابل

يستهل الكاتب توثيق رحلته بالعودة إلى أيام إقامته في الولايات المتحدة إبّان أحداث الحادي عشر من سبتمبر، ولقاء موظفي مكتب التحقيق الفدرالي معه، ومقدار الرعب الذي أصاب المسلمين في تلك البلد ساعتها. كان لعودة الذكريات هذه تصوير حجم الجنون الذي أصاب الولايات المتحدة وإدارة بوش الابن جرّاء حدث الحادي عشر من سبتمبر. بدأت مأساة أفغانستان في ذاك اليوم، والتي طالت لعشرين عامًا.

 

الملّا عمر: صلابة تمشي على قدمين

من القضايا التي طرقها الكتاب نشوء حركة طالبان وظهور زعيمها الملا عمر. كثير من التفاصيل عن نشأة الحركة طرقت من قبل في عدد من الدراسات التي تناولت نشأة طالبان. الجديد في كتاب حجر الأرض هو بعض الشهادات عن فترة اختفاء الملا عمر بعد الغزو الأميركي لأفغانستان؛ تتمثل أهمية هذه الشهادات أنها جاءت ممن صاحب الملا في تلك الحقبة. كما يطرق الكتاب النقاشات التي دارت بين قادة طالبان عند بدء الغزو الأميركي لبلدهم، والخيارات التي كانت أمامهم حينها. أصر الملا عمر على المقاومة، رغم أن غالبية قادة الحركة وقفوا بخلاف ما رآه؛ متعللين بأنه ليس من الحصافة مواجهة قوة مثل أميركا (ص 70). أغرب ما ورد في الكتاب أن الملا، الذي اعتقد الأميركان أنه مختفٍ في باكستان، كان طوال الوقت في بلده، بل على بعد أميال -وأحيانًا أمتار- من قوات الغزو التي كانت تجوب الأماكن بحثًا عن قادة طالبان[1].

 

تاريخ الغزاة والحماة

يتطرق الكتاب إلى تاريخ أفغانستان مع الغزاة؛ ليتضح أن ما حدث في العصر الحديث من مقاومة الأفغان للغزو السوفيتي وبعدها الأميركي ليس سوى مصداق لمسيرة طويلة في مواجهة هذا البلد وأهله لكل غزو مهما تعددت راياته. غير أن سور المقاومة الأفغانية العالي لم يفتح بابه أمام أحد سوى مرة واحدة: للمسلمين الفاتحين. ومنذ بداية الفتح الإسلامي لأفغانستان صبغت هذا البلد علاقته بالإسلام، وظهرت خراسان (أفغانستان اليوم كانت جزءًا من هذا الإقليم الكبير) إقليمًا بارزًا من أقاليم العالم الإسلامي. لذا، صاحب فال الدين قارئ كتابه برفق ليريه من التاريخ ما يفهم به أحداث اليوم، ولم يثقل الكتاب بتفاصيل تاريخية تشتت ذهن القارئ، وليجد من تميز الموقع والثقافة لهذا البلد صورة بعيدة عن رائحة البارود التي يتذكرها أحدنا متى ما سمع بهذا الاسم: أفغانستان.

 

طالبان بين الأمس واليوم

عندما تأسست طالبان في تسعينيات القرن الماضي، كان قادتها والمنظمون إليها قاتل أو شهد حقبة الغزو الشيوعي السوفيتي. وبزغت طالبان وقتها ومجاهدو الأمس يقاتل بعضهم بعضًا. كانت مأساة أفغانستان، بعيد الحقبة الشيوعية، تتشكل على أيدي من قاتل لأجل حريتها. هكذا كانت طبيعة ما شهده الجيل الذي أنشأ طالبان. لكن هل يبقى المقاوم بعد حمل سلاحه على ما كان عليه؟ عشرون سنة "أميركية" مرت منذ وصلت طائرات أميركا لتقصف الجبال والمدن والأفغان، ثم تؤسس حكومتها في كابل، ومع القاذفات والقنابل كانت تمطر شعارات "الثقافة الأميركية" وأفلامها (ومكدونالد) وديمقراطيتها التي أرادت منها صبغ قنابلها التي تقتل الأفغان بألوان قوس قزح!

كانا عقدين مليئين بالرماد والأوهام والجنون، والكثير من حقائق حماة الأرض ومقاومي الغازي. يحاول فال الدين تبين طبيعة الجيل الطالباني الجديد؛ يتساءل عن ما تبقى من طالبان الملا عمر ورفاقه، وأي أفكار وتصورات للدولة تدور في أذهان طالبان اليوم. هل يمكن تجاوز مخاوف بعض الأفغان التي اتضحت على شاشات التلفاز، والتقارير الصحفية التي حرص كثير منها على تذكير العالم بطالبان ما قبل الغزو. يدع فال الدين للقارئ حريته في الحكم؛ فينقل بعض تفاصيل مفاوضات الدوحة بين طالبان والإدارة الأميركية، وأسئلته لبعض من لقيهم من قادة طالبان الجدد عن تصوراتهم لأفغانستان المستقبل. ثمة مخاوف عديدة وأسئلة لا تنتهي: عن المرأة ووضعها، وعن حرية الصحافة، وعدد من القضايا التي ارتبطت ببنية الدولة الحديثة.

كما يتطرق المؤلف إلى "سر صمود طالبان"، وما تتميز به الحركة في تركيبتها الفكرية عن بقية الحركات الإسلامية المعاصرة (121-130). كان نقاش مثل هذه الأمور أثناء لقاء المؤلف بأحد شباب طالبان، محمد أعظم، والذي فقد عددًا من أبناء أسرته أثناء مقاومة الغزو الأميركي. في هذا اللقاء تتبين طبيعة من يجدون أنفسهم في صف الدفاع عن بلدانهم في لحظة خاطفة، لا تترك لترف التنظير عند المرء ما يمكنه من تشكيل شخصيته حسب الأنماط المنتشرة عند الجالسين على أسرّتهم. هذا الشاب الأفغاني وجد نفسه في "الرابعة عشرة من العمر يتولّى مسؤولية تدريس نفسه ومعيشة أهله، ويدخل المعمعة السياسية الكونية محاولًا طرد أقوى قوة في العالم" (ص 125). هذه الحالة قد تصف الملايين من أمثاله؛ إنها حالات إنسانية معقّدة ومركّبة تعاش لتعرف، ولا يمكن للوصف أو البحث مهما كان عظيمًا أن يوصل همًّا واحدًا من هموم أمثال هذا الشاب. إنها لحظة يجتمع فيها الطموح والانكسار، كرّاس الجامعة مع بندقية المقاوم، شعارات الغازي البراقة التي تكذّبها الدماء التي يسفكها كل لحظة.

 

برنارد لويس: مثقف الإمبريالية

يختم المؤلف كتابه بحديث قصير عن المستشرق برنارد لويس، المثقف الذي كرّس العقود الأخيرة من عمره لخدمة الخطاب الإمبريالي. تحت عنوان "بين برنارد لويس وابن خلدون" يشير فال الدين إلى العصبية الخلدونية التي يشكل الدين بؤرتها، وهذا ما نسيه برنارد لويس في نقمته على العالم الإسلامي وديانته وثقافته. لا يمكن دراسة الغزو الأميركي لكل من العراق وأفغانستان بدون المرور على دور لويس وتأثيره على المحافظين الجدد في الولايات المتحدة على وجه الخصوص.

 

الخاتمة

يمزج فال الدين في هذا الكتاب بين التاريخ وواقع اليوم، ويسير القارئ بين ثنايا الكتاب بسلاسة لا تتعثر، وأقسام الكتاب تراوح ما بين مشاهدات الكاتب مراسلًا لقناة الجزيرة، وتقديم ومضات عن تاريخ أفغانستان الحديث. بعض الشهادات التي رصدها الكتاب، خاصة عن مؤسس طالبان الملا عمر، تضيء كثيرًا من مواطن الغموض التي اكتنفت سيرة الرجل، خاصة بعد الغزو الأميركي لبلده. لكن ما تزال الكثير من الأسئلة بخصوص مستقبل أفغانستان، وقدرة طالبان على بناء دولة حديثة، طبعًا نظرًا إلى تجربة الحركة في الحكم نهاية القرن الفائت، وحقوق المرأة وغيرها، أسئلة لا يمكن تجاوزها اليوم، ولعل كتاب حجر الأرض محاولة للتفكير فيها، أما الحلول فلا يملكها سوى الأفغان أنفسهم.

 

 

[1] نشرت الصحفية الهولندية بيته دام كتابها الحياة السرية للملّا عمر وأوردت فيه هذه المعلومات، وجاء تأكيدها عند المؤلف فال الدين من قادة مقربين من الملا عمر.

 

أواصر - مجلة فكرية فصلية

www.awasr.com