ولاية الفقيه: نقد نظرية الحكم في الفكر السياسي الشيعي

ولاية الفقيه: نقد نظرية الحكم في الفكر السياسي الشيعي

تأليف: محسن كديور

ترجمة: حسن الصراف

الناشر: منتدى العلاقات العربية والدولية

سنة النشر 2021 :

عدد الصفحات:   320

إعداد: قسم المراجعات بمجلة أواصر

 

 

الفكرة المسافرة

يضم الكتاب عدة أبحاث للمفكر الإيراني محسن كديور اختارها المترجم حسن الصراف في موضوع واحد هو نظرية "ولاية الفقيه" في الفكر السياسي الشيعي. يتوزع الكتاب على عشرة أبحاث، يرصد عدد منها تطور نظرية ولاية الفقيه بدءًا بالكركي ثمّ النراقي ومرورًا بالآخوند الخراساني وانتهاء بالخميني الذي أدخلها إلى حيز التطبيق.

يقدم المبحث الأول "الفقاهة والسياسة" مدخلًا موجزًا للعلاقة بين الاشتغال الفقهي والممارسة السياسية، حيث يؤكد كديور أن أهمية الفقاهة في المجتمعات الإسلامية لا تعني "بالضرورة أن يكون أعضاء السلطة التشريعية ونوّاب البرلمان كلهم من الفقهاء والمجتهدين" (ص 37). وهذا البحث في العلاقة بين الفقاهة والسياسة، على وجازته، يعد مدخلًا مهمًّا لنقاش نظرية ولاية الفقيه؛ إذ إن هذه النظرية ستنقض من أساسها إذا قامت الحجة على نفي الاتصال "الضروري" بين الفقاهة والسياسة، وهذا ما يذهب إليه المؤلف في هذا البحث.

أما البحث الثاني من الكتاب فيرصد التطور التاريخي لنظرية ولاية الفقيه. ينوّه المؤلف ابتداء بأن "ولاية الفقيه بمعنى الولاية في الأمور الحسبية هو رأي غالب الفقهاء"، ويستطرد بخصوص ولاية الفقيه بمعناها العام والمطلق بأنها "وجهة نظر قليل من الفقهاء" (ص 43). يطلق كديور على الفترة الممتدة من نهايات القرن الثالث وبدايات القرن الرابع الهجريين حتى نهاية القرن العاشر الهجري بـ"فترة تكوين الهوية الشيعية". والبدايات هذه هي بداية ما اصطلح عليه في الأدبيات الاثني عشرية بـ"الغيبة الكبرى" للإمام الثاني عشر، والنهاية هي بدء نشوء الدولة الصفوية في إيران (ص 44). ويمكن القول إن الفقهاء الاثني عشرية مارسوا فعليًّا، طوال تلك الحقبة الطويلة، ولاية الفقيه بشكل أو بآخر. لقد كان للمبادئ الناتجة عن الغيبة الكبرى دور في جعل المجتمع الشيعي يحكم من قبل فقهائه داخل الدولة الإسلامية ذات الغالبية السنية[1]. كان لرفض شرعية الخلافة نتيجة طبيعية؛ وهي تسيير المجتمعات التي اعتنقت أفكارًا أدت إلى عدم الاعتراف بالحكومات القائمة، يظهر ذلك خاصة عند الاثني عشرية والإباضية على سبيل المثال؛ ونموذج الأخيرة كان في ما سمي نظام "العزّابة" الذي تأسس في المناطق التي تلاشت فيها الدولة الإباضية.

 يتابع المؤلف وصف المراحل التي مر بها الفكر السياسي الشيعي، فيطلق على المراحل اللاحقة للفترة التي سبقت أعلاه، على النحو التالي:

المرحلة الثانية -أي بعد نشوء الدولة الصفوية- "ولاية الفقهاء في الشرعيات، وسلطنة المسلم الشيعي ذي الشوكة على الشؤون المعرفية".

"المرحلة الثالثة: ولاية الفقهاء العامة" والتي شهدت اتّساع نطاق صلاحيات الفقهاء، خاصة بعد "تنامي السلطة الاجتماعية للفقهاء في هذه المرحلة".

"المرحلة الرابعة: حقبة المشروطة [الحركة الدستورية]" وهذه الحقبة شهدت نظرية ولاية الفقيه إسهامات كل من الفقيهين الآخوند الخراساني والميرزا النائيني.

"المرحلة الخامسة: نظرية ولاية الفقه المطلقة لآية الله الخميني" وقد سبقت هذا الطور تحولات مرت بها النظرية عند الخميني، بدءًا من إقامته في قمّ ومرورًا بفترة المنفى في كل من النجف وباريس، وانتهاء بإقامة الجمهورية الإسلامية في إيران.

"المرحلة السادسة: حقبة الجمهورية الإسلامية"، ويعد المؤلف هذه المرحلة ضربًا من الثيوديمقراطية، وأنها امتداد منطقي لمرحلة ما بعد المشروطة (المرحلة الرابعة) (ص 75).

وبنظرة عامة على المراحل الست، يذهب المؤلف إلى أنه وعلى الرغم من أنّ ولاية الفقيه كانت حاضرة في كلّ من هذه المراحل السِتّ، لكنّ حدودها تختلف من مرحلةٍ إلى أخرى، ففي المرحلة الأولى لم تتعدّ ولاية الفقيه إلى مجال السياسة، وفي المرحلة الثانية أنيطت إدارة العُرفيات إلى السلاطين الشيعة، وفي المرحلة الثالثة أقِرّ بولاية الفقهاء العامة وأمست شرعية حكم السلاطين والملوك مرهونة بإذن الفقهاء. وفي المرحلة الرابعة التي لم تدم طويلًا أنيط الشأن العام إلى النّاس مع إشراف الفقيه، وفي المرحلة الخامسة استند الحاكمُ إلى ولاية الفقيه المطلقة، ولأوّل مرّة تولّى الفقهاءُ الحكمَ مباشرةً. أمّا في المرحلة السادسة تبلورت قراءة ديمقراطية لولاية الفقيه ورُسمَت الحكومة الدينية والجمهورية الإسلامية من دون ولاية الفقيه (ص 75).

 

الآخوند الخراساني

يتناول كل من البحث الثالث والرابع في الكتاب آراء الآخوند الخراساني في ولاية الفقهاء، خاصة أن الشيخ كان من أبرز علماء الشيعة وأكبر عالم ساند الحركة الدستورية في إيران، إذ "أصبح -منذ تطبيق الدستورية رسميًّا في إيران وحتّى وفاته (أيْ: بعد ستّة أعوام) - الشخصيّة المؤثّرة الأولى في التطورات الفكرية والميدانية في إيران وفي العالم الشيعي على حدّ سواء" (ص 78). ولعل في هذين الفصلين تلخيصًا جيدًا لآراء هذا الفقيه الشيعي البارز، والذي نبّه المؤلف إلى إغفال عدد من الباحثين في الشأن السياسي الشيعي لآراء الخراساني السياسية، معيدًا أسباب هذه الإغفال بكون آراء هذا الفقيه متناثرة في كتبه الفقهية والأصولية (ص 78).

ومقارنة بآراء فقهاء شيعة في حدود ولاية المعصوم (أمثال الأنصاري والنائيني)، فإن الخراساني يذهب إلى:

"حصر الولاية المطلقة في الله تعالى".

 "الرفض المطلق للولاية البشرية المطلقة".

"...الولاية العامة للنبي والأئمة (الولاية المقيدة بأحكام الشرع)" (ص 86).

بيد أن موقف الخراساني هنا لا ينفصل من رؤيته العامة للحكومة المشروعة؛ إذ يعتقد أن مشروعية الحكومة متصلة بوجود المعصوم، وغير ذلك هي حكومات غير مشروعة. ولذلك يرى أن الحكومة -في غيبة المعصوم- إما أن تكون عادلة أو ظالمة، وحينها تكون الحكومة العادلة متقدمة على الحكومة الجائرة (ص 129-132).

إلى جانب الخراساني، تعد آراء الميرزا النائيني وكتابه تنبيه الأمّة وتنزيه الملّة محطة مهمة في الفكر السياسي الشيعي في القرن الماضي. يرى المؤلف أنه بجهود النائيني "الفكريّة أرسيَت لأوّل مرّة قواعد فقهية تخصّ قضايا الفلسفة السياسية الحديثة كالمساواة بين الأفراد أمام القانون، والحريّة السياسية، والإقرار برأي الأغلبية، وحقوق النّاس، وضرورة الرقابة العامة على عمل الحكومة، وضرورة القانون، ومسؤولية الحكومة أمام النّاس" (ص 63-64).

 

الخميني: الولاية المطلقة

مرت نظرية ولاية الفقيه عند الخميني بأطوار مختلفة تطورت فيها آراؤه بشأن ولاية الفقهاء ربما لتطور التجربة السياسية لديه. يختلف الخميني عن بقية من تناولوا "ولاية الفقيه" بأنه هو الذي أدخلها إلى حيز التطبيق. ترى ما الذي يتبقى من الفكرة التجريدية عندما تلامس الأرض؟

كان الخميني من أبرز الأصوات المعارضة لحكم الشاه بداية، ثم أصبح أبرزها وأعلاها ضجيجًا حتى قوضت معارضته، مع أسباب أخرى، حكم الشاه ليشيّد دولة الفقهاء بشكل غير مسبوق في التاريخ الشيعي. مرّ التنظير الخمينيّ لولاية الفقيه، حسب المؤلف، بأربعة أطوار:

"المرحلة الأولى: مرحلة قم (المَلَكية الدستورية بإشراف الفقهاء)".

"المرحلة الثانية: نظريّة النجف (الولاية التنصيبية العامة للفقهاء)".

"المرحلة الثالثة: نظرية باريس (الجمهورية الإسلامية بإشراف الفقيه)".

"المرحلة الرابعة: نظرية طهران (الجمهورية الإسلامية مع ولاية الفقيه المطلقة)". (ص 66-71)

يذهب المؤلف إلى أن الخميني طرح "لأوّل مرّة [في الفقه الشيعي] فكرةَ "قيادة الفقيه المباشرة"، وينوّه كديور أنه بالرغم من وجود فقهاء كبار معاصرين للخميني قبلوا ولاية الفقهاء العامة، أمثال البروجردي والكلبايكاني؛ "ولكنّ ما يُميّز الخميني عن أقرانه نجده في إضافته على هذه النظرية، وقوله بأن الحكومة الدينية في عصر الغيبة ليست إلا تصديًا مباشرًا للأمور من قبل الفقهاء بالنيابة عن المعصوم، وإن إعطاء الإذن للسلاطين يتحقق في حال عدم توافر إمكانية إدارة الأمور لدى الفقهاء" (ص 65).

حظيت آراء الخميني وتطوراتها عن ولاية الفقيه بقسم كبير من أبحاث الكتاب، يناقش ويرصد المؤلف فيها بالتفصيل آراء الخميني وتقاطعها مع آراء فقهاء آخرين، سواء ممن سبقه أو من معاصريه، أو حتى من تلامذته أمثال حسين منتظري. لعل المحطة الأهم في الصياغة الخمينية لولاية الفقيه هي آخرها؛ عندما وصلت صلاحيات الفقيه عنده إلى لحظتها المطلقة، وذلك بعد قيام الثورة الإيرانية بسنوات. "حدود صلاحياتها [أي ولاية الفقيه] هي نفس حدود صلاحيات الله"[2]. توجز هذه العبارة التي قالها الخميني ما وصلت إليه النظرية لديه في أخريات عمره، وبهذا التعديل يصعب نقاش كثير من الأمور المتعلقة بولاية الفقهاء؛ فهذه الصيغة حاسمة وقاطعة، والسبيل الوحيد ليس في نقاش تفاصيلها، بل نقاش الفكرة برمّتها.

وقف عدد من رجال الثورة والمقربين من الخميني ضد هذا التطوير؛ من أمثال حسين منتظري الذي بقي حتى آخر أيامه في معسكر المعارضة، لأسباب عديدة بطبيعة الحال، ولكن كانت الصيغة المطلقة لولاية الفقيه أحد تلك الأسباب.

 

إشكالات أخرى

تستمر أبحاث الكتاب في نقاش إشكاليات تتعلق بمفهوم ولاية الفقيه بشكل أو بآخر. يتناول المبحث الثامن من الكتاب شريعة مجلس صيانة الدستور مقابل قوانين مجلس الشورى؛ وذلك من خلال تناول المادتين (94) و(96) من الدستور الإيراني. تتعلق المادتان، على التوالي، بمطابقة القوانين مع موازين الإسلام و"عدم تعارض تشريعات مجلس الشورى مع أحكام الإسلام" (ص 218).

أما البحث التاسع فيتناول موضوع "ولاية الفقيه وحكم الشعب"؛ وهو جدال يرتبط بالنقاش العريض حول مفهوم الولاية، وهل هي بالتعيين أم بالانتخاب، وما مدى الصلاحيات الممنوحة للفقيه الولي أيًّا كان التصور لولايته، ويدخل في الموضوع كذلك مدى حضور أو غياب الإرادة الشعبية في الحكم. كل هذه التساؤلات تناولها هذا الفصل بإسهاب.

ولأن الجدل المشهور عن الديمقراطية ومدى توافقها مع الإسلام داخل في صلب الفصل التاسع، وهو أيضًا جدل لم يبت الأمر فيه لدى التيارات الإسلامية -سنّيها وشيعيّها- كان موضوع الفصل العاشر والأخير من الكتاب هو الانسجام والتنافر بين الإسلام والديمقراطية. يشير كديور بداية إلى أن "دراسة الحركات السياسية والاجتماعية التي قام بها المسلمون في القرن الأخير تشير إلى أنَّ الديمقراطية، إلى جانب الاستقلال والعدالة والحريّة، مثّلتْ واحدةً من المطالب الرئيسة التي دعا إليها المسلمون، رغم كون هذه الحركات كانت لها سمة دينية بحتة، وكانت مسنودة بنحوٍ جاد من لدن فئةٍ من العلماء المسلمين" (ص 291). غني عن القول هنا أن هذا القول يصدق على "غالب" مسيرة الحركات الإسلامية؛ إذ إن بعض التيارات الإسلامية -الجهادية مثلًا-وإن كانت الديمقراطية متناولة في أدبياتها، إلا أنه كان تناولًا يفضي إلى رفضها.

لا يبتعد الفصل العاشر في موضوع الديمقراطية عن القضايا المتصلة بالحكم الإسلامي؛ من أمثال المساواة السياسية ومدى المشاركة الشعبية في الحكم وغير ذلك من الإشكالات التي يفترض أن الديمقراطية قدمت لها حلولًا جعلت من هذا الإجراء السياسي أكثر الإجراءات السياسية شهرة في العصر الحديث.

 

خاتمة

بالرغم أن المترجم حسن الصراف جمع هذه الأبحاث المتعددة لمحسن كديور، إلا أنها جميعها انصبت في رصد وتحليل ونقد نظرية "ولاية الفقيه" بأبعادها وتطوراتها المختلفة منذ نشأتها حتى تحولها إلى أساس للحكم في الجمهورية الإسلامية الإيرانية. يتميز الكتاب بالرصد التاريخي المتسلسل للنظرية، ويشير إلى الأصوات المختلفة في مسيرتها، والتي كان بعضها غير مطروق في الدراسات التي تناولت هذا المفهوم. وأقرب مثال على ذلك آراء الفقيه الشيعي الكبير الآخوند الخراساني.

لا يقتصر الكتاب، كما دللنا خلال هذا العرض، على الرصد التاريخي فحسب؛ بل كان للنقد والتحليل حضوره البارز طوال أبحاث الكتاب. كما ابتعدت أبحاث الكتاب عن الأساليب البحثية الباردة، أو الإغراق في التفاصيل التي قد تشتت القارئ غير المتخصص. كما أثبت الكتاب أن الآراء حول ولاية الفقيه لم تكن متفقة بين فقهاء الشيعة المعاصرين. ويمكن القول بإن إصلاح المفاهيم المهيمنة يبدأ من رصد نشأتها وتطوراتها، وحينها يُعرف موطن الخلل، عند من يرى ذلك، ومن ثم كيف يمكن معالجته.

 

[1] لمعرفة المزيد عن آثار الغيبة الكبرى السياسية في الفكر الشيعي، راجع: أحمد الكاتب، تطور الفكر السياسي الشيعي: من الشورى إلى ولاية الفقيه (بيروت: دار الجديد، 1998).

[2] توسّع المؤلف في تحقيق نسبة العبارة للخميني، وناقش ذلك نقاشًا مستفيضًا، راجع مبحث "تلك الأمور الأبعد"، ص 193-216 من الكتاب.

 

أواصر - مجلة فكرية فصلية

www.awasr.com