الإسلام يتحدّى العَلْمَانيّة الغربيّة - قراءة في كتاب: الإسلام والفصل بين الكنيسة والدولة

طباعة 2022-07-20
الإسلام يتحدّى العَلْمَانيّة الغربيّة - قراءة في كتاب: الإسلام والفصل بين الكنيسة والدولة

التجاني بولعوالي[1]

تمهيد

تتناول هذه الدراسة قضية فكرية وسياسية تعدّ من بين أهم القضايا التي استرعت انتباه أغلب المفكرين والفلاسفة والباحثين المعاصرين، وهي قضية العَلْمَانيّة في علاقتها بالإسلام كما قاربها المفكر الفرنسي أوليفيه روا في كتابه الإسلام والفصل بين الكنيسة والدولة، فتوقف عند شتى جوانبها الاصطلاحية والتاريخية والقانونية، وناقش مختلف تمظهراتها الفكرية والسياسية والإيديولوجية. ونركز في هذه الورقة أكثر على العلاقة الجدلية بين العَلْمَانيّة الفرنسية والدين الإسلامي الذي أصبح يشكل مكونًا مهمًّا في المجتمع الفرنسي. وقد تم تقسيم الدراسة إلى أربعة محاور. عقدنا المحور الأول للعلمانية وظاهرة الإسلاموفوبيا، لاسيما إن صورة الإسلام تحضر بشكل لافت في الفكر العلماني الذي يؤدي دورًا كبيرًا في بلورة هذه الصورة وإعادة إنتاج عواملها، بل تخويف المجتمع الغربي من "الخطر الإسلامي". أما المحور الثاني فناقشنا فيه مصطلحي العلمانية واللائكية انطلاقًا من التمييز المفهومي الدقيق الذي يطرحه الكاتب نفسه. في حين حاولنا في المحور الثالث الإجابة عن السؤال الإشكالي الذي ما انفك يحضر في الفكر الغربي المعاصر: هل يشكل الإسلام عائقًا في وجه العلمانية؟ وفي المحور الأخير، عالجنا أزمة العلمانية في العالم العربي والإسلامي أمام صعود الإسلام السياسي من جهة، وتلمس الشعوب البديل في الخيار الدين من جهة أخرى.

 

العلمانية والخوف من الإسلام

"ليس الإسلام مشكلًا، وإنما المشكل هو الديني (المتزمت)، أو بالأحرى الصيغ الحالية لعودة ذلك الديني. وما يتم تناوله، ليست دعوة إلى التضامن مع أولئك الذين يبدون منغلقين، غير أنها إشارة محضة إلى تقييم الإسلام بالمعايير نفسها التي تُعامل بها الأديان الأخرى، وبكونه ظاهرة دينية في حد ذاتها. وهذا ما يشكل بالفعل الاحترام الوحيد للآخر ويحمل له روح النقد الحقيقي"[2].

بهذه العبارة يختم المفكر الفرنسي أوليفيه روا[3] (Olivier Roy) كتابه الإسلام والفصل بين الكنيسة والدولة، وهي تنطوي على عنصرين جوهريين يطغيان على أغلب أجزاء ليس هذا المؤلف فقط، بل على مجمل مؤلفاته حول الإسلام أيضًا، ويتحدد هذان العنصران كالآتي:

أولًا: التمييز الواعي بين صنفين من الإسلام، الإسلام الأصولي المنغلق والإسلام المعتدل المتسامح، إلا أن الإشكال المطروح دومًا لدى روا هو: ما المقصود بهذين الصنفين من الإسلام؟ وكيف تتحدد دلالتهما الاصطلاحية؟ وإلى أي مدى يمكن اعتبار هذا التحديد واقعيًّا وموضوعيًّا، ومن ثم مقبولًا داخل الأوساط الإسلامية؟

ثانيًا: عدم المفاضلة بين الإسلام وغيره من الأديان كالمسيحية واليهودية، بمعنى أن روا يحاول أن يؤسس رؤيته في أحايين كثيرة على مبدأ التجرد العلمي، فلا تَمِيل كفة تناوله إلى طرف ديني أو إيديولوجي أو فكري معين دون آخر، بقدر ما ساوى بين الأطراف كلها. وهذا ما يكاد ينعدم لاسيما في الدراسات الفكرية السياسية[4] الغربية التي اشتغلت بقضايا الإسلام المعاصر.

ثم إن صورة الإسلام تحضر بشكل مكثف في الفكر العلماني، إن لم نقل إن هذا الفكر يؤدي دورًا هائلًا في بلورة هذه الصورة وإعادة إنتاج عواملها، بل تخويف المجتمع الغربي من "الخطر الإسلامي". ويشكل الأنموذج العلماني الفرنسي أهم ركائز العلمانية الغربية، الذي تجاوز تأثيره الحدود الفرنسية والأوروبية، ليصل إلى العالم العربي والإسلامي، أولًا عن طريق الاستعمار العسكري، ثم بعد ذلك عبر الغزو الفكري والإيديولوجي، كما حدث في الجزائر وسوريا وتونس ومصر وتركيا. لذلك فإن استيعاب علاقة الإسلام بالغرب يقتضي منا أيضًا معالجة مسألة العلمانية، وذلك لتأثيرها الكبير في نظم الحكم في بعض دول العالم العربي والإسلامي من ناحية، ولحضورها الدائم في أغلب قضايا المسلمين المستقرين في الغرب، كالتعليم والحجاب والمساواة بين الرجل والمرأة و"الإرهاب"، من ناحية أخرى.

 

الإسلام بين اللائكية والعلمانية

يتطرق أوليفيه روا في هذا الكتاب إلى جملة من القضايا التي ترتبط بثنائية الإسلام والعلمانية، كعلاقة المسيحية بالعلمانية واللائكية ومدى سريانها على الإسلام، وإمكانية صلاحية النهج العلماني للمجتمع الإسلامي، وعلمانية بعض الدول الإسلامية، والإسلام بكونه معرقلًا للنظام العلماني أو اللائكي، والأقليات المسلمة في خضم المجتمع العلماني المهيمن، وغير ذلك.

ويفرق بين مفهومين أساسيين هما: العلمانية (Sécularisme)، واللائكية (Laïcité)، فالعلمانية تعدّ ظاهرة اجتماعية لا يلزم على الإطلاق أن تكون موجهة من قبل السياسة، وهي تحضر في المجتمع عندما لا يكون الدين هو المبدأ الذي تتمحور حوله حياة الناس. بمعنى أن معاملات الناس، وكذا تفسيرهم للوجود، تصبح غير مصطبغة بالتسامي والإيمان، حتى إن المجال الأخير الذي اشتغلت عليه العلمانية هو تلاشي المكون الديني من المجتمع الأوروبي. ثم إن العلمانية ليست ضد الدين أو الكنيسة، فالدين ما عاد يشكل موضوعًا للنقاش.

في مقابل ذلك، تُعدّ اللائكية اختيارًا سياسيًّا يحدد مكانة الديني بطريقة سلطوية وقانونية. وهي تنفذ من قبل الدولة باسم الدستور، قصد تنظيم المجال العام، حيث ينظر إلى الجانب الديني بكونه مسألة شخصية، ويمنح الدولة حق التحكم في تنظيم ممارسة الديني في الفضاء الخارجي. ويشير أوليفيه روا إلى أن مشكلة اللائكية تتمثل في فصلها بين الدين والسياسة على المستوى الاجتماعي، ويرى المتدينون أن مثل هذا الفصل ليس ضروريًّا[5].

ثم يتساءل روا حول السبب الذي يجعل العقيدة المسيحية تتلاءم والنهج اللائكي وحول الاستجابة السياسية للائكية من قبل الكنيسة، في حين يظل الإسلام محافظًا على هيكله العقدي الثابت لا يمنح أي فسحة للفكر العلماني، ومن ثم فهو يختلف جذريًّا عن المسيحية التي تربت اللائكية وترعرعت في حضن بعض دعاتها. لذلك فهو يسعى جاهدًا إلى العثور على تفسير لهذا السؤال الذي يحضر بقوة في الأوساط الفكرية والسياسية الفرنسية، التي تنقسم بين من يدعو إلى إسلام ليبرالي فرنسي أو إسلام لائكي يقتضي التفعيل والتحفيز، وبين من يرى أن الإسلام لا يتفق في جوهره مع اللائكية[6].

فهل يعني هذا أن الإسلام ضد العلمانية واللائكية؟ وإن كان الأمر كذلك، فإنه من شأن هذا الموقف الإسلامي الرافض أن يعمق الشرخ بين الإسلام والغرب، ويرسخ مشاعر النفور مما هو إسلامي لدى شريحة من الغربيين ترى في الإسلام عنصرًا أجنبيًّا غريبًا عن تركيبة المجتمع الغربي العلماني.

يذهب روا إلى أنه بمجرد ما تمكنت اللائكية من استغواء المسيحية وإسكات صوتها الرافض، طفت على السطح مختلف الأشكال الدينية المشككة في اللائكية، كاليهودية السفردية والبروتستانية الإنجيليكية، غير أن أشد عدو ديني جديد لها هو الإسلام، الذي أصبح يشكل في عقر دار الغرب تحديًا ديمغرافيًّا عظيمًا للدولة ولتوجهها اللاديني، ويتخذ هذا التحدي الديمغرافي طابعين. يتمثل أحدهما في التجمعات الإسلامية المنغلقة (الغيتوهات) المنتشرة في ضواحي المدن، ويتجلى الآخر في التزايد الملحوظ لأعداد المهتدين الجدد إلى الدين الإسلامي.

وهذا يدل على أن الإسلام يشتغل على مستويين: المستوى المحلي حيث الحضور الإسلامي يجعل المجتمعات الغربية ذات الهوية الوطنية منقسمة ومنشطرة، والمستوى العالمي عن طريق إقبال الغربيين الأصليين الكبير على الإسلام. وهكذا فإن الضغط الديمغرافي الإسلامي يخلخل توازن المجتمع الفرنسي من خلال التجمعات الإسلامية المنغلقة، التي تمزق لحمته وتحجم عن الاندماج فيه من جهة، وترتبط في بطرف خارجي غريب وهو الإسلام العالمي من جهة أخرى. وهذا يعني أن الواقع الغربي محبوس بين رؤيتين متضادتين أو تحديين صارخين: بين الإسلام الإثني الذي يستورد مشاكل الشرق الأوسط إلى فرنسا، وبين الإسلام الأوروبي الذي يخلو من النزوع الإثني.

ويساهم التخبط السياسي والحزبي في فرنسا في تعميق هذه الإشكالية، وهو تخبط ناتج بالدرجة الأولى عن التوظيف الإيديولوجي للّائكية في جملة من القضايا المرتبطة بالمسلمين في الغرب، مثل مشاكل ضواحي المدن التي تقطنها تجمعات سكانية أجنبية ومسلمة، وعادة ما تسوق على أنها مشكلة إسلامية وليس اجتماعية كما تزعم الديمقراطية الفرنسية، التي تستخدم اللائكية لاحتواء النقاشات الاقتصادية. وبالتبرير نفسه يتم التعامل مع قضية ارتداء الحجاب، حيث المفارقة الغريبة أن العلمانية الفرنسية تضطهد المرأة المسلمة إيديولوجيًّا بمنع اختيارها لارتداء الحجاب، مدعية بذلك أنها تسعى إلى تحريرها![7]

وهكذا يمضي روا، تارة مفككًا، وطورًا مزحزحًا جملة من مبادئ اللائكية الفرنسية، التي تشكل حالة استثنائية في الغرب كله، ويكشف الستار عن ازدواجية الخطاب السياسي الرسمي، ما يقتضي إعادة النظر في مدى التطبيق السليم للائكية قبل النظر في مدى ملاءمتها للإسلام. ثم ينفي كون الإسلام سبب أزمة الأنموذج اللائكي الفرنسي، الذي لم يستقر بعد على مفهوم جامع مانع. يقول في هذا الشأن:

والخلاصة هي أن الإسلام ليس هو سبب الأزمة التي يتخبط فيها الأنموذج الفرنسي، لكن السبب هو المرآة التي ينظر فيها الآن المجتمع. فرنسا ترى في صورة الإسلام أزمة هويتها. ثم إنه من ناحية أخرى يتم تفسير مصطلح اللائكية بمختلف المعاني. فالمشكلة تتعلق إذن بالتحديد الحقيقي لمعنى اللائكية، إذا أردنا أن نبحث عن دلالة هذا المفهوم في مجتمعنا، لأن مؤيدي اللائكية غير متحدين في صف واحد: تنتصب هوة سحيقة بين أتباع اللائكية المفتوحة والمنفصلة، مثل جون بوبيرو، ومساندي اللائكية باعتبارها مشروعًا كونيًّا (هنري بانيا - راوز)[8].

كما أن ما يطلق عليه روا "علمانية الإسلام"، وهو يقصد بذلك الأنظمة العلمانية التي تحكم العديد من دول العالم الإسلامي، كمصر والجزائر وتونس وسوريا، هو الذي يشكل عائقًا في وجه دمقرطة الشرق الأوسط. ما يعني أن سبب الاضطهاد لا يكمن في الإسلام، بل في هذه الأنظمة اللائكية نفسها، لأن كل دولة من تلك الدول صاغت أنموذجًا علمانيًّا للحكم يلائم الآلية السياسية أو الحزبية أو العسكرية التي انقضّت بواسطتها على زمام الحكم.

 

هل يشكل الإسلام عائقًا في وجه العلمانية؟

يذهب روا إلى أن الإسلام، وهذا ما قد ينطبق أيضًا على أي دين آخر، عبارة عن عقيدة تتضمن جملة من النصوص الدينية وتفسيرات العلماء لها، وأن نقد هذه النصوص (القرآن الكريم) هي مهمة علماء الدين، وهذا أمر ذو طابع داخلي صرف لا يهمه في شيء، لأن شغله الشاغل هو استيعاب الجدل القائم داخل الوسط الديني والفكري الإسلامي حول مسألة العلمانية، ويعتقد أن ثمة مدرستين فكريتين تنتصبان على طرفي نقيض:

المدرسة الأولى: يرى أصحابها أن العقيدة الإسلامية تشكل بالفعل عائقًا في سبيل العلمانية واللائكية، ويؤسس هؤلاء طرحهم على ثلاثة مبررات. أولها أنه ليس في الإسلام فصل بين الدين والدولة، وثانيها أن الشريعة الإسلامية غير متوافقة مع حقوق الإنسان ولا مع الديمقراطية، وثالثها أن المسلمين لا يندمجون إلا في مجتمع المتدينين؛ مجتمع الأمة، ويرفضون الانخراط في المجتمع المدني. ويسجل روا خلاصتين محتملتين بخصوص هذه المدرسة وهما: إما أن الإسلام في حاجة إلى إصلاح ديني، وإما أن الإسلام غير قابل للإصلاح، وأن المسلمين يظلون في العصر الحالي منغلقين لا يقبلون أي مشروع حداثي. ولعل هذا ما يسري أكثر على الرؤية الأصولية التي ترى في الإسلام نظامًا شموليًّا من ناحية، وأنه لا يقبل أن يمس ليس في عقيدته وشريعته فقط، بل في فقهه أيضًا من ناحية أخرى[9].

المدرسة الثانية: ويمثلها الإصلاحيون، الليبراليون، أو المفكرون الإسلاميون المعتدلون الذين يرتكزون في طرحهم على التراث الإسلامي الفلسفي والديني الغني (مثل الاتجاه العقلاني المعتزلي، الذي يعدّه الأصوليون وليد التأثير الفلسفي اليوناني)، ويتوزع ممثلو هذه المدرسة على شتى التوجهات الفكرية والدينية. أولها ما يطلق عليه روا الليبراليين المتشددين، الذين يستخدمون التقنيات التقليدية لعلوم التفسير والحديث والأدوات التي طورتها المذاهب الإسلامية، كما أنهم يعتمدون على أكبر قدر من النصوص القرآنية والحديثية، ولا يسارعون إلى تضعيف الأحاديث كما يسود لدى الأصوليين/السلفيين، ثم إنهم لا يرفضون القيم الغربية كلها، بل يعارضون فقط ما يتنافى ويتصارع مع القيم الإسلامية. ولا يرفض هذا التيار النهج العلماني، بل يتعايش معه ويعضد اللائكية، كما هو الشأن بالنسبة إلى أغلب الأئمة الرسميين في مختلف دول العالم الإسلامي من تركيا إلى المغرب. ويؤسس التوجه الثاني مقاربته على فقه الأقليات، كما هو الحال لدى اتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا، والمجلس الأوروبي للإفتاء، وهي مؤسسات تمت بصلة وثيقة إلى جماعة الإخوان المسلمين، ويراعي هذا التيار السياق الغربي الجديد الذي يوجد فيه المسلمون في تطبيق قوانين الشريعة الإسلامية. وتجدر الإشارة في هذا الصدد إلى المفكر الإسلامي طارق رمضان، الذي دعا إلى إعادة النظر في تطبيق بعض الحدود الإسلامية، وهذا لا يعني الدعوة إلى الإصلاح، بل الدعوة إلى التكيف العملي مع المنظومة العلمانية العامة. ويضيف روا توجهًا ثالثًا يدعو إلى التعامل مع رسالة القرآن مفصولة عن الزمان والمكان، ويقر أن الشريعة الإسلامية قابلة لمختلف التأويلات والقراءات، ويمثل هذا التوجه كل من أركون وسروش وكاديفار وأبو الفضل وأبو زيد[10].

فهل يشكل الإسلام حقًّا عائقًا أمام تنزيل العلمانية في الواقع الإسلامي؟ وهل تمكن المفكر أوليفيه روا من الإجابة الشافية عن هذا السؤال الإشكالي؟ لقد تحدث عن أن الأنظمة الإسلامية كانت عبر مختلف المراحل التاريخية، باستثناء المرحلة النبوية، ذات طابع علماني خاص بها، غير أنه لم يشر إلى أن العديد من تلك الأنظمة كانت استبدادية، وبلغت سدة الحكم عن طريق الحروب والانقلابات والاغتيالات، وأن الشعوب المسلمة لم تحظ إلا نادرًا باختيار حاكميها، وهذا ما يتعارض بالتأكيد مع مبدأ الديمقراطية الذي تدعو إليه العلمانية الغربية نفسها.

لذلك فإن مصطلح العلمانية الذي يطلقه روا على تلك الأنظمة يظل إجرائيًّا وليس واقعيًّا ووظيفيًّا، لأنه لم يراع فيه أن الكثير من الدول التي حكمت المنطقة العربية الإسلامية قديمًا وحديثًا كانت استبدادية أو جبرية حسب التوصيف النبوي لها، فالإسلام يطرح نظام حكم يختلف تمامًا عن أنظمة الحكم الغربية، وهو نظام مستوحى من التوجيه القرآني والنبوي مع الانفتاح على التجارب الإنسانية التي لا تتعارض معه، ولم تمنح إلى حد الآن الفرصة الحقيقية للمسلمين قصد تطبيق ذلك النظام في مناخ سياسي مناسب، بل إنه بمجرد ما تطفو على السطح تجربة إسلامية ما إلا ويتم القضاء عليها قبل أن يشتد عضدها باسم محاربة الإرهاب وحماية الديمقراطية وعدم استغلال الدين. والغريب في الأمر أن الذي يقف وراء هذه الحملة الشرسة هو العلمانية نفسها! لذلك فليس الإسلام، كما أعتقد شخصيًّا، هو الذي يشكل عائقًا في وجه العلمانية، بل العكس صحيح؛ العلمانية هي التي تشكل عائقًا في وجه الإسلام.

 

أزمة العلمانية والعودة إلى الدين

رغم أن العلمانية نشأت بشكل غير شرعي في العديد من دول العالم الإسلامي؛ ذلك لأن الحكام العلمانيين الذين يتربعون على كراسي تلك الدول وعروشها لم يؤسسوا أنظمتهم العلمانية على نتائج صناديق الاقتراع، أو عبر الإجماع الشعبي على اختيار ذلك الأنموذج. هذا يعني أن أي حديث عن العلمانية في العالم الإسلامي يتعارض مع حقيقة العلمانية الغربية، التي تأسست على مبادئ الإخاء والمساواة والعدالة. وهكذا فإن العلمانية المهيمنة في بعض الدول الإسلامية إنما هي نسخة هجينة من العلمانية الغربية الأم، أي إنها بمثابة علمانية متسلطة أو إنه استبداد في قشيب علماني.

ثم إن العلمانية الغربية في شتى نماذجها وتمظهراتها تظل خاصة بالسياق الغربي الذي أنتجها، بل تمارس أحيانًا ديمقراطية مزدوجة لاسيما في تعاملها مع الآخر. وقد أثبت أوليفيه روا هذا الأمر كما سبقت الإشارة، عندما اعتبر أن اللائكية الفرنسية تضطهد المتحجبات لأجل تحريرهن، ما دام أنها لا تحترم حق اختيارهن لارتداء الحجاب! على هذا الأساس، إن العلمانية الغربية تحكم الخناق على الأقليات الدينية المسلمة، وتعبث بما هو ثابت في هويتهم وثقافتهم ومعتقداتهم وهي تتذرع بمختلف الأسباب، كحماية المجتمع الغربي، ومواجهة التهديدات الإرهابية، واندماج المسلمين، في حين إنها لا تُعامل الأقليات اليهودية بالمعيار نفسه. ألا تتعارض مثل هذه الديمقراطية مع فلسفة التعددية التي تقف فيه كل الأديان والثقافات والشرائح على قدم المساواة؟

إن العلمانية الغربية تعامل الرافد الإسلامي الدخيل على المجتمع الغربي بمعيارين متناقضين. أحدهما ترمي من خلاله إلى احتواء الخطر الإسلامي الأخضر المزعوم عن طريق إدماج المسلمين في بوتقة المجتمع الغربي. وتنفق من أجل ذلك الميزانيات الضخمة وتحشد الجهود الهائلة ليس حبًّا في عيون المسلمين، بل سعيًا إلى تذويبهم المقنن، وفصلهم عن الهوية الإسلامية الأصلية، وتعويضها بهوية جديدة تجمع بين القيم الغربية المسيحية والأشكال الثقافية الإسلامية الخالية من روح العقيدة الإسلامية. وتحاول من خلال المعيار الآخر الترويج للتهديد المتوهم الذي يمثله الإسلام للمجتمع الغربي، فهي تزرع بذلك مشاعر الخوف من الإسلام بين مختلف الأوساط الغربية. ومثل هذا التعامل المزدوج مع الإسلام أصبح مرفوضًا حتى من بعض الغربيين أنفسهم، لكن صارت العلمانية في مختلف الخطابات السياسية والإعلامية والفكرية توظف آلية لمواجهة العامل الديني عامة والإسلامي خاصة، أحيانًا بشكل مباشر وجلي، وأحيانًا أخرى بشكل مبطن وخفي.

تُرى كيف يفسر المفكر أوليفيه روا هذه الازدواجية العلمانية التي ما هي في الحقيقة سوى مظهر من مظاهر أزمتها؟ وكيف يتناول ظاهرة العودة إلى الدين من حيث هي رفض للنهج العلماني، وكشف بالملموس عن فشل المشروع العلماني وتأزمه سواء في الغرب أو في العالم الإسلامي؟

إن رؤية روا حول أزمة العلمانية وعودة الناس إلى الدين، تتجلى من خلال عنصرين مهمين، يتحددان كالآتي:

فشل المشروع العلماني في العالم الإسلامي: يسلّم روا بأن عددًا من دول العالم الإسلامي المعاصرة استقدمت النظام العلماني الغربي، واعتمدته في تسيير الشؤون السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، غير أن تلك التجارب العلمانية باءت بالفشل الذريع بعد مرور بضعة عقود، فلاحت في الأفق دعوات إلى اعتماد الدولة الدينية الإسلامية بديلًا لفشل المشروع العلماني في تمثيل الشعوب الإسلامية، وانتزاع حقوقها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، والتعبير عن مشاعرها الرافضة للهيمنة الإمبريالية الغربية. وما يعزز هذا الطرح أن البديل الإسلامي ليس دخيلًا على المجتمع، بل أصيل فيه؛ ينبثق من روح الإسلام. ثم إن الأهم من ذلك كله، هو أن الدعوة إلى بديل الدولة الإسلامية لم تعد دعوة تقليدية، بل هي دعوة ومطمح الجيل الجديد (الطلبة، التكنوقراطيون، المدنيون) أيضًا[11].

التحدي الأصولي للمشروع العلماني الغربي: بدأ الغرب يدرك في الآونة الأخيرة أنه في صراع حقيقي مع أصولية (داخل- غربية) جديدة لا علاقة لها بالأصولية التقليدية المستوردة من المشرق، فالأصوليون الجدد غربيون بالولادة والتربية والانتماء. ومع ذلك، فإنهم يتمسكون بالاختيار الإسلامي مشكلين مجتمعًا إسلاميًّا صافيًا ومنغلقًا في قلب المجتمع العلماني الشمولي، وهم ينفرون من كل ما لا يمت بصلة إلى الإسلام، ما يطرح تحديًا حقيقيًّا أمام العلمانية الغربية عامة والفرنسية خاصة. وتحاول هذه الأصولية الجديدة أن تخلق أشكالًا جديدة من التعامل مع العالم الخارجي الذي يحيط بها، فهي تحافظ على عقيدتها الخاصة من ناحية، وتتعايش مع السلطة والمجتمع دون الاصطدام معهما من ناحية أخرى، مدركة أنها مجرد أقلية صغيرة ضمن مجتمع علماني واسع، ما يجعلها تعبر عن نفسها في الفضاء الخارجي بمختلف أدوات التظاهر كاللباس الإسلامي مثلًا. في مقابل ذلك، ترى العلمانية الغربية في هذه الأصولية تهديدًا محدقًا بها، لذلك تسعى جاهدة إلى محاصرتها بمختلف القوانين والمساطر الصارمة. وفي معرض تناوله لاتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا ينجرّ روا خلف تيار العلمانية أو اللائكية الفرنسية وهو يردد: "باختصار، نريد أن يُحترم القانون والنظام العام، وليس أن تُكيف المعتقدات مع القانون، وهذا نفسه ما نطلبه أيضًا من التنظيمات الإسلامية"[12]. غير أنه لم يوضح كيف يجب أن يحترم القانون والنظام العام، هل بنزع المسلمة للحجاب الذي هو جزء ثابت من عقيدتها أم بماذا؟

 

خلاصة

إن لهجة المفكر أوليفيه روا تغيرت نوعًا ما في الصفحات الأخيرة من الكتاب لصالح كفة العلمانية الفرنسية التي قام بنقدها في أغلب الفصول، لأنه يطالب المسلمين باحترام القانون والنظام العام والخضوع التام لبعض بنوده، وإن كانت تتعارض مع الشريعة الإسلامية. كما يدعو المسلمين إلى إعادة النظر والتكيف مع السياق العلماني الذي يوفر لهم الحرية، بل يعاتبهم على الولاء الدائم لانتمائهم الإثني الشرق-الأوسطي.

ومع ذلك كله، يمكن اعتبار روا، من خلال مؤلفه الإسلام والفصل بين الكنيسة والدولة، من بين المفكرين الغربيين المعاصرين الذين تتسم مواقفهم بموضوعية نسبية في مقاربة بعض القضايا الإسلامية، وهذا ما يتجلى من خلال سؤاله الاستنكاري الجريء الذي طرحه في مقدمة الكتاب، وهو سؤال من شأنه أن يغضب كل علماني أو لائكي غربي: "ترى هل بلغ الإسلام هذا الحد من التهديد أم إن الهوية الفرنسية تتخبط في أزمة بسبب بضع مئات من الفتيات المحجبات وبعض الدعاة الملتحين؟!"[13].

 

 

[1] كلية اللاهوت والدراسات الدينية، جامعة لوفان -بلجيكا.

[2]  Roy, O. (2006). De islam en de scheiding van kerk en staat (transl. Henneke Los). Amsterdam: Van Gennep. p. 115

[3]  أوليفير روا مفكر فرنسي متخصص في قضايا الإسلام المعاصرة، أستاذ بالجامعة الأوروبية بفلورنسا في إيطاليا، شغل العديد من المناصب الدبلوماسية والسياسية لدى الدولة الفرنسية، وساهم بالكثير من المؤلفات المشهورة عالميا، مثل: عولمة الإسلام، إخفاق الإسلام السياسي، أفغانستان الإسلام والحداثة السياسية، علم الأنساب في الإسلام، وغيرها.

 

[4]  في مقابل ذلك، نجد أن الدراسات التي قام بها عدد من اللاهوتيين ودارسي الإسلام الغربيين المعاصرين أكثر موضوعية ووعيا بالمشترك اللاهوتي والأخلاقي والإنساني بين الإسلام وغيره من الأديان التوحيدية.

 

[5]  Roy, O. op. cit. p. 14

 

[6]  Roy, O. op. cit.. p. 31

[7]  op. cit. p. 40

[8]  op. cit.. p. 24

[9]  op. cit. p. 50, 51

[10] op. cit.. p. 51-53

[11]  op. cit. p. 71- 72

[12]  op. cit.. p. 106, 107

[13]  op. cit. p. 7

شارك :

التعليقات (1)

أضف تعليق