العلمانية وحرية الضمير

طباعة 2022-07-20
العلمانية وحرية الضمير

المؤلف: جوسلين ماكلور وشارلز تايلور

المترجم: محمدالرحموني

الناشر: الشبكة العربية للأبحاث والنشر

سنة النشر:  2019

عددالصفحات:  144

مراجعة: محمد اسموني[1]

 

 

إشكالية الكتاب

 هل من الممكن أن تستحيل العلمانية مدخلًا أساسًا لإعادة الاعتبار للدين؟ هل نحن أمام نموذج علماني وحيد؟ أم إن تطور هذا الاختيار السياسي وتنوع أشكال تصريفه يسمح بالحديث عن علمانيات مختلفة؟ وهل لا زال الفصل بين الدين والدولة هو التعريف المناسب للعلمانية اليوم؟ وما الإشكالات التي يثيرها مبدأ حرية الضمير؟ أليس هذا المبدأ في الجوهر مصدر كل أشكال الإحراج الموجهة إلى النموذج العلماني عبر العالم؟ وكيف السبيل إلى تأمين ممارسة علمانية تدير بذكاء التعدد العقدي والأخلاقي في المجتمعات الديمقراطية الحديثة؟ ألسنا اليوم في حاجة ماسة إلى تعميق المراجعات الفكرية القمينة بصياغة مشروع علماني يرفع كل أشكال الحرج التي تمس جوهر العلمانية وتصورها للحدود بين الدين والدولة؟

 هذه مجموعة الأسئلة التي ترشح عند قراءتنا لهذا المصنف المشترك للباحثين جوسلين ماكلور وشارلز تيلور، وهي تعكس في الجوهر الرهانات المعرفية المتصلة بسؤال العلمانية في المجتمعات الديمقراطية الحديثة. وضمن هذا المسعى تستحيل حرية الضمير إلى واحدة من الإشكالات المقلقة التي تحرج أكثر المتحمسين للخيار العلماني. ولعل من مشمولات الانخراط في هذه الإشكالية إعمال مراجعة نقدية لمفهوم العلمانية ذاتها، والتي لم تعد تتساوق والتحديدات الكلاسيكية، التي تحصرها في "فصل الدين عن الدولة" أو "حياد الدولة حيال الدين" أو "استبعاد الدين من الفضاء العمومي". ولما كان مبدأ حرية الضمير في جانب منه محصلة لطلبات الإعفاء التي يكفلها كل نظام علماني من باب الضرورة والإلزام الأخلاقي، فإن المشكل الجديد الذي يُطرح أمام الأنظمة الديمقراطية هو الكيفية التي ينبغي بها تأمين ذلك المبدأ دون المساس بجوهر العلمانية، وهنا تغدو هذه الأخيرة من غير قصد حامية للمعتقد.

 

 قضايا الكتاب

 يناقش المؤلفان بناء على المتقدم من الأسئلة قضيتين، تتصل الأولى بالتفكير في العلمانية، وذلك من خلال مساءلة مبادئها الأساس، وأنظمة الحكم التي ترتبت عن التصريف العملي لمقتضياتها النظرية، وما ترتب عن ذلك من إشكالات من قبيل استعمال الرموز في الفضاءات العامة بين المنع والترخيص، واتخذ المؤلفان في هذا الباب من النموذج الكيبيكي[2] عينة للاستدلال على ما ينبغي أن تكون عليه الأنظمة الليبرالية من مرونة في التعامل مع التكيفات التي تترتب بالضرورة عن حياة الأفراد والمجموعات داخل المجتمعات العلمانية. ويعنى القسم الثاني من الكتاب بإمعان النظر في مسألة حرية الضمير في بعدها الإجرائي، حيث عمد المؤلفان على التفصيل في بعض الجوانب التي يقتضي مراعاتها للحفاظ على المساواة في المنفعة بين الأفراد والجماعات، دون أن يخل ذلك بالخصوصيات الاعتقادية لكل فئة.

 

أولًا: التفكير في العلمانية

 تبقى التعددية الأخلاقية من الأسئلة المؤرقة، التي ما فتئت تطرح نفسها بإلحاح كلما أمعنا النظر في الحدود التي ينبغي أن تكون عليها العلاقة بين الدين والدولة، وتتعمق هذه الإشكالية لتغدو مأزقًا حقيقيًّا يستعصي على الأنظمة العلمانية تجاوزه. وهنا تبدو الحاجة ملحة إلى إعادة النظر في مطلب الحياد وما يتصل به من قيم من قبيل الحرية والكرامة والسيادة الشعبية، والتي تدّعي الأنظمة الليبرالية حمايتها في إطار دولة تقف على ذات المسافة من كل المعتقدات[3]. وهي قيم تستمد أهميتها من طابعها الكوني المشترك، الذي يجعل منها أداة لصياغة التمثلات الإنسانية حيال العام والغير، والأهم أنها تعد مدخلًا لتيسير استقلالية الفرد، والتي تعد مطلبًا ينافحون عنه جميعًا باختلاف معتقداتهم ومرجعياتهم الفكرية. ويفرض هذا الواقع على الدولة ليس فقط احترام المعتقدات والوقوف منها على ذات المسافة، ولكن أيضًا تقدير التصورات الفلسفية المختلفة التي من البديهي أن يحفل بها المجتمع. ومن جملة ما يقترح المصنفان في هذا الباب ضرورة عدم الخلط بين "علمنة النظام السياسي" و"علمنة المجتمع"، وذلك بصرف النظر عن المرجعيتين السياسية والاجتماعية اللتين يحيل عليهما المفهومان، ما دامت حيادية الدولة شرط صحة لا تستقيم الممارسة السياسية الاجتماعية من دونه في الدولة العلمانية[4].

 ولعل من مقتضيات تأمين حيادية الدولة في المجتمعات الليبرالية الحديثة تجاوز التعريفات التقليدية للعلمانية، إذ تحصرها في فصل الدين عن الدولة، أو حياديته اتجاه الدين... والتأسيس بالمقابل لتعريف يرتكز مبدأ على عنصرين أساسيين يقوم عليهما التصور العلماني؛ الأول هو معاملة المواطنين بنفس القدر من الاحترام، ثم منحهم الحق في حرية الضمير، بالقدر الذي لا يخل بالفصل الجذري بين الدين والدولة ولا بمبدأ الحيادية. وهنا تغدو العلمانية، حسب ميشلين ميلوت (Micheline Milot)، "تطويرًا مستمرًّا للسياسة التي تضمن الدولة بمقتضاها الحياد تجاه مختلف تصورات الحياة السعيدة المتعايشة في المجتمع، الحرية الدينيةَ وحرية الضمير، طبقًا لما لها من إرادة في معاملة الجميع على قدم المساواة"[5]. ولما كان من العسير تأمين تناغم بين مبادئ العلمانية وطرقها الإجرائية، فإن من اللازب البحث عن توافقات توفر الحد الأدنى من الانسجام بينهما، في سياق مجهودات الدولة الليبرالية الحديثة لتجاوز معضلاتها الدينية[6].

 يسمح النظر إلى موقف الدولة العلمانية من الشعائر الدينية في الفضاء العمومي إلى التمييز بين نموذجين للعلمانية؛ الأول متشدد يقيد أكثر من غيره حرية أداء الشعائر الدينية بمقتضى فهم معين لحياد الدولة، والثاني منفتح يدافع عن نموذج للحكم يرتكز على حماية حرية الضمير والحرية الدينية. كما يمكن التمييز بين أنظمة حكم علمانية جمهورية، وأخرى ليبرالية تعددية. ومهما يكن من أمر فإن التحرر العلماني لا يمكن بأي حال اختزاله في مجرد علمنة المؤسسات العلمانية، بقدر ما أن المفروض هو حماية المواطنين وتحريرهم مما سمّاه ريجيس دوبري (Régis Debray) "سطوة الأوصياء"، حيث يعتبر "أن الجمهورية هي الحرية مضاف إليها العقل [...] والديمقراطية هي ما تبقى من الجمهورية عندما يسود الظلام"[7]. ومن الأمثلة التي يمكن التوسل بها في هذا الباب تقرير لجنة ستازي في فرنسا، والقانون المتعلق بإظهار الرموز الدينية في المدرسة العمومية الذي اعتمد عام 2004، اللذين أحدثا جدلًا واسعًا في المجتمع الفرنسي، وكان من انشغالاته الإجابة عن السؤال الآتي: أي علاقة بين منع إظهار الرموز الدينية في المدارس العمومية من جهة، وحماية الفتيات المسلمات واليهوديات و... اللواتي تعرضن إلى ضغوط غير قانونية؟ وكيف يمكن حمايتهن في حالة إظهارهن بشكل إرادي لرموزهن الدينية؟

 تفتح الأسئلة المتقدمة إشكالًا جديدًا متصلًا بالتمييز بين المجال العام والخاص في علاقته بالشعائر الدينية، وهو ما يقتضي مبدأ مراجعة دلالة لفظ عمومي (res publica) في محاولة لتأصيل المصطلح تاريخيًّا ولغويًّا، بالقدر الذي يسمح بتمثل مرجعياته المختلفة التي يتأسس عليها كل تصنيف ترتضيه الدولة العلمانية اليوم للفضاءات، ومن جملتها المدارس. يصطدم كل تصنيف يمكن اعتماده في هذا الباب دون شك مع نوعية النظام التعليمي المعتمد في كل دولة على حدة، وتغدو هذه المسألة أكثر إحراجًا حين يتعلق الأمر بالتعليم الديني. وهكذا يغدو كل تصنيف بين العمومي والخاص، حسب مصنفي الكتاب، على قدر كبير من الضبابية التي تحول دون تقدير المكانة التي يستحقها الدين في الفضاءات العمومية. ثم ما موقع الفضاءات التي توفرها المجتمعات المدنية ضمن التصنيف المذكور؟[8]

 يتأسس تعريف العلمانية في جانب كبير منه على ضرورة الفصل بين مبادئها الأخلاقية المؤسسة، والإجراءات التنظيمية القمينة بتنزيل تلك المبادئ. ومن هذا المنطلق يجعل البعض من حيادية الدولة، باعتباره أسمى المبادئ المذكورة، مرتكزًا أساسًا لمنع موظفي الدولة من إظهار رموزهم الدينية، ما داموا ممثلين للدولة، لا لجماعة دينية معينة[9]. بيد أن هذا المنع على انسجامه مع الاعتبارات المتقدمة فإنه يمس ضمير المواطنين في الجوهر، ويضرب تساوي المواطنين في ولوج الوظيفة العمومية في الصميم. ومن ثمة فالمطلوب أساسًا هو حمل الموظفين العموميين على أداء وظائفهم بكل حيادية، وأن لا تؤثر معتقداتهم على سير المرفق العمومي.

 ولعل من أوجه التناقض الذي تقع فيه العلمانية هو خضوعها المعلن لدين الأغلبية المسيحية، كما يجسده أمر إغلاق المؤسسات يوم الأحد في إشارة إلى إرث تاريخي مسيحي، يعبر في الأصل عن سند تمتع به أتباع هذا المعتقد منذ عهد سحيق. لذلك لا غرابة أن يقصر المهاجرون إلى البلدان الأوروبية مطالبهم على تعددية الرموز الدينية، أمام عجزهم الكلي على المطالبة بإلغاء ذلك التمييز التاريخي القديم.

 

ثانيًا: التفكير في حرية الضمير

 اختار المؤلفان النموذج الكيبيكي بالنظر إلى نزعته البراغماتية، إذ توفق في تأمين تعايش في ظل تعددية أخلاقية ودينية مكينة. ويعد هذا الواقع في جانب كبير منه نتيجة لتراكم تاريخي حققه هذا البلد من ظفره بالاستقلال عن فرنسا في العام 1760، وجعل اعتماد المذهب الأنجليكاني مقرونًا بإقرار تسامح ديني منذ القرن الثامن عشر، رغبة في إقرار تعايش بين العناصر المختلفة المشكلة للمجتمع الكيبيكي. ومن أوجه التفرد في هذه المقاطعة أن دستورها نص على فصل الكنيسة عن الدولة بشكل ضمني. وهذا ما جعل العديد من المؤسسات تبقى تحت رعاية الكنيسة. وجاء التخلص من سلطة هذه الأخيرة بشكل تدريجي أشبه ما يكون بالمسلسل الثوري الهادئ المتصل بالحاجات التي استوجبها التنوع الثقافي في هذه المقاطعة. وتعزز هذا الواقع مع تعميق ثقافة حقوق الفرد، والحريات الجماعية التي اتفقت في كيبيك منذ النصف الثاني من القرن العشرين.

 واتسم النقاش العمومي حول العلمانية في كيبيك بنوع من الثراء والحيوية، كان من نتائجه اعتماد هذه المقاطعة مقاربة ليبرالية وجامعة، بالقدر الذي يسمح للمواطنين المجاهرة بمعتقداتهم الدينية ما دام ذلك لا ينتهك حقوق الآخرين وحرياتهم. وبذلك اتفق تحقيق الهدفين الأساس اللذين يطمح إليهما كل نظام علماني، وهما المساواة الأخلاقية بين المواطنين وحماية حقهم في حرية الضمير[10].

 استحالت طلبات التكييف الديني في المجتمعات الليبرالية إلى قضية القضايا، سيما وأنها ملازمة للاختيارات العلمانية المقرة لحرية الضمير والتعبير، وتعددية القيم والمعتقدات. بيد أنه في الوقت الذي ينظر فيه البعض إلى هذه الطلبات بعين الرضا، ويعتبرها من صميم ما يترتب عن العلمانية، فإن الكثيرين يرون فيها تقويضًا لمبادئ العدالة الاجتماعية التي تستند عليها النظم السياسية الديمقراطية والليبرالية، والتي يفترض أن يعامل بموجبها الأفراد بكل إنصاف، ودون أن يؤثر على التوزيع العادل للمنافع في مجتمع يرجو العدالة الاجتماعية[11].

 تصطدم حرية المعتقد التي يكفلها العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية مع القوانين الموضوعة لخدمة الصالح العام، مما يجعل من طلبات التكيف لأسباب دينية أن يفهم التمييز الديني باعتباره التزامًا دينيًّا منبثقًا عن قوانين أكثر عمومية تضمنتها مواثيق الحقوق والحريات، وتحديدًا الحق في المساواة والحق في عدم التمييز العنصري أو حرية الضمير والحرية الدينية.

 تتجه الغالبية العظمى إلى رفض المساواة بين طلبات التكيّف لأسباب دينية ونظيرتها لأسباب صحية، بالنظر إلى كون الأولى اختيارية، والثانية تنزل منزلة الواقع الإنساني الذي لا يرتفع. بيد أن هذا المنطق يصدم مع مبدأ حق الأفراد في المساواة الأخلاقية الذي يقتضي أن يكون للجميع حق اختيار تصوراته لماهية الحياة الناجحة، والتي قد توجهها أحيانًا المعتقدات الدينية. وللخروج من هذا الموقف الحرج اقترحت الحركة العلمانية في كيبيك رفض كل أشكال التكيف مهما كانت مرجعيتها.

 تمكن الحرية الدينية الأفراد من اعتناق معتقدات دينية وفق اختيارهم، وممارسة شعائرهم عند الاقتضاء، ومع ذلك فإن المطالب بالتمييز الديني يبقى ملزمًا بالاستدلال على موضوعية معتقده. وإذا كان هذا الإجراء قد جنب المحاكم الكيبيكية عناء تنصيب نفسها مفسرة للعقائد خلال عملية الرد على طلبات التكييف، فإنه أعفاها في الوقت ذاته من مشكلة عويصة تتصل في تعريف الدين[12].

 

على سبيل الختم: من استبعاد الدين من الفضاء العمومي إلى إدارة التنوع

 باتت مهمة أي نظام علماني اليوم أكثر حرجًا بالنظر لحجم التنظيرات الأخلاقية التي تؤطر مصداقيته السياسية والاجتماعية. إذ لم يعد الرهان معقودًا على تأمين ذلك التعايش الكلاسيكي بين الدين والدولة، ولكن الغاية الفضلى هي تكيفه مع التنوع الأخلاقي والروحي الذي تعيشه المجتمعات المعاصرة. ولم يعد من المقبول اليوم استبعاد الدين من الفضاء العمومي وفرزه عن بقية التصورات للعالم وللخير. ويجعل المصنفان هذه الغايات مشروطة بإقرار تعاون اجتماعي يؤدّي فيه المواطنون دورًا أساسًا في خلق تناغم بين مبادئهم المشتركة. وتبدو ضمن هذا المناخ الحاجة الملحة لاحترام معتقدات المتدينين وعدم السخرية منها، ولكن في الوقت ذاته عدم الحد من حرية التعبير باسم المقدس.

 

 

[1] أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر، جامعة القياض، مراكش.

[2]  نسبة إلى كيبيك، المقاطعة المعروفة في كندا (المحرر).

[3]  John Rawls, Libéralisme politique, Quadrige, Paris, P.U.F, 2001. p3.

[4]  جوسلين ماكلور وشارلز تيلور، العلمانية وحرية الضمير، ترجمة محمد الرحموني (بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2019)، ص 29.

[5]  Milot, Micheline. Laïcitédans le Nouveau Monde: le cas du Québec. Turnhout: Brepols, 2002. p.34.

[6]  يراجع في هذا الصدد القراءة التي وضعتها لكتاب دين الليبرالية للباحثة سيسيل لا بورد: محمد اسموني، "دين الليبرالية: في الفصل الجذري بين الدين والدولة"، ضمن مجلة أواصر، العدد التاسع، 2021 (1422هـ)، 181ـ-188.

[7] Régis Debray, Cours de médiologie générale. Paris : Gallimard, 1991. p. 356.

[8]  جوسلين ماكلور وشارلز تيلور، العلمانية وحرية الضمير، م.س، ص، 52.

[9]  نحيل في هذا الصدد على خطاب الرئيس الفرنسي جاك شيراك حول العلمانية، 18 ديسمبر 2003 في قصر الإليزيه.

[10] «Les Principes de la laïcité politique au Québec et au Canada», dans : Micheline Miot, dir, La laïcité au Québec, et en France numéro spéciale du Bulletin d’histoire politique, vol.13, n°3, 2005, p,19.

[11] John Rawls, A Theory of Justice. Cambridge: Cambridge U.P, 1971. p. 4.

[12] Greenawalt, Kent. Religion and the Constitution. Princeton: Princeton University Press, 2006. pp. 124-156.

شارك :

التعليقات (0)

أضف تعليق