علمانية الحضر: التفاوض على التنوع الديني في أوروبا

علمانية الحضر: التفاوض على التنوع الديني في أوروبا

العنوان الأصلي:

Urban Secularism negotiating religious diversity in europe

مؤلفة الكتاب: خوليا مارتينيز أرينيو   (Julia Martínez-Ariño)

سنة الصدور: 2021

دار النشر: روتلدج

عدد الصفحات: 155                                                   

إعداد: عثمان أمكور[1]

 

مقدمة

تقدمُ خوليا مارتينيز أرينيو (Julia Martínez-Ariño) المتخصصة في رصد تحولات العلمانية في النسق الأوروبي، من خلالِ كتابها علمانية الحضر: التفاوض على التنوع الديني في أوروبا (UrbanSecularismnegotiatingreligiousdiversityineurope)، الصادر عن روتلدج سنة 2021، محاولة أكاديمية جادة ترصدُ عبرها مدى تأثير مفاهيم وسرديات العلمانية في صيغتها الفرنسية على المدنِ التي تنتمي إلى الهامشِ، وتأثيرِ هذه الأخيرة على حدة وجود سردية العلمانية/ اللائكية (laïcité) في السياسات المحلية الفرنسية؛ بصيغة أخرى: هل اللائكية الفرنسية موجودة في سرديات المُدُنِ كوجودها في العاصمة ودوائر الدولة المركزية، أم إن المدن البعيدة عن المركز تقدمُ تصورات أخرى عن اللائكية؟ وما أَثَرُ المدُنِ الهامشية الفرنسية البعيدة عن المركز في تحديد سياسات التعايش وتقبل الآخر المختلفِ دينيًّا وعرقيًّا؟ هذه الأسئلة وغيرها هو ما يحركُ الباحثة أرينيو في بحثها السوسيولوجي، الذي ركزَ على الجزئي من أجل فهمِ الكلي؛ أي فهمِ طبيعة تدبيرِ الشأن الديني في البلديات الفرنسية من أجل فهمِ طبيعة تشكلِ وعي الفرنسيين ونظرتهم للمختلفِ عنهم دينيًّا وكذا نظرتهم للأقليات الدينية الموجودة بينهم، خاصة نظرتهم للمسلمين والإسلام؛ وهو ما تسميه الباحثة بالإدارة الحضرية للتنوع الديني.

فرغم عدمِ امتلاكِ الحواضِر/المدن في الدراسة لقدراتٍ تنظيميةٍ عاليةٍ، إلا أنها تتمتع بمساحة معينة للمناورة داخل حدود الدولة الوطنية الفرنسية، التي تقدمُ صيغة متطرفة للعلمانية اتجاه الإسلام بالتحديد.

 فإذا كانت بيروقراطية الدولة تتمتعُ بحيزٍ من السيادة في رسم سرديات الدولة فيما يخص مفاهيم الدولة، فإن بيروقراطية الحواضر تتسمُ بوجودِ مساحات وإن كانت هامشية تُتيحُ لها إمكانية مناورتها لسردية الدولة الحديثة في صيغتها المركزية، وكذا مناورة سردية اللائكية الفرنسية المنتجة في العاصمة[2]، هذا الأمر يجعلنا نلمسُ مدى توافق أطروحة المؤلفة مع طرح الأكاديمية الكبيرة "صبا محمود" بخصوصِ نظرتها للعلمانية، وبالضبط ما يخصُ "سلطة الدولة الحديثة وسيادتها وعلاقتها بإعادة تنظيم السمات الجوهرية للحياة الدينية، وكذا النظر في ماهية الدين وربطهِ بالممارسات الأخلاقية"[3].

وبناءً على ذلك، لا تتعامل الباحثة أرينيو مع العلمانية كوحدة تحليلية ثابتة، بل كموضوع تحليلي، أي فئة ذات معاني سياسية متغيرة تاريخيًّا، وحتى أوضحَ هذه الفكرة؛ فالباحثة ترى أن العلمانية هي في الحقيقة علمانيات، أو بصيغة أخرى الباحثة تفصلُ بين الإطار النظري المؤطرِ لسردية العلمانية في دولة معينة وبين تطبيقات هذا المفهوم في أرضِ الواقعِ، وهو الأمرُ الذي تفترضهُ الباحثة حتى في النموذج الفرنسي الذي يجسدُ التوجهَ المتطرفَ للعلمانية/اللائكية.

 كما أن الباحثة أرينيو تقومُ في بحثها بسبرِ أغوارِ علاقة مفهوم العلمانية الفرنسي وتفاعلهِ مع سياسات المدنِ التي "تتفاوضُ" حسب تعبيرها مع سردية المركزِ من أجل تدبير الشأن المحلي الذي يعرفُ تنوعًا دينيًّا، ونظرة متصالحة أكثر مع الآخر ثقافيًّا ودينيًّا مقارنة مع ما هو حاصلٌ في مركز الدولة الفرنسية؛ هذه المفاوضات المشار إليها سلفًا والتي يدبرها مسؤولو البلديات بدل أن تدبر من طرف الرئاسة الفرنسية؛ تتيحُ تبني "تدين مقبول" يعززُ من مكانة الدين في المجال العام الفرنسي، خاصة بعدَ ما شهدتهُ فرنسا من أحداث إرهابية نسبت للإسلام دون تمحيصٍ وتدقيقٍ.

هذه الأحداث وغيرها أعادتْ النقاش حول العلمانية للمركز كل مرة وهو ما يجعلها "سردية لائكية" تتقوى في المجال العام[4]؛ خاصة حينما يكونُ النقاشُ مرتبطًا بدمج المهاجرين، والتماسك الاجتماعي والحاجة إلى تعزيز التزام الوطني وعلاقته بـ"قيم الجمهورية" (les valeurs de la République)، هذه الخطابات تذهبُ إلى نقطة أبعد حينما تحاولُ ربط اللائكية بقيم الجمهورية الفرنسية المعروفة، والمطالبة بجعلها قيمة رابعة إلى جانب "الحرية والمساواة والأخوة" (Liberté, égalité, fraternité)؛ وهو ما يجعلُ اللائكية جزءًا من تعريف الهوية الوطنية في فرنسا[5]، هذا السعيُ في جعلِ اللائكية الفرنسية جزءًا لا يتجزأ من الهوية الفرنسية هو ما جعل هذه الأخيرة تتسمُ بالتطرفِ والحزمِ والصرامة على حد تعبير المفكر الكبير في مجال العلمانية أحمد ت. كورو[6].

وهنا يجدرُ الإشارة لما يسعى الكتابُ توضيحهُ من خلالِ مضامينه والتي يمكنُ تكثيفها في خمس نقاط:

أولًا- السعي نحوَ فهمِ قضايا التنوع الديني وتأطيرها والتعامل معها في كل من رين وبوردو وتولوز في فرنسا وربط النقاشات المحلية بنظيرتها الوطنية والمرتبطةِ بأسئلة العلمانية والهوية والتنوع الديني.

 ثانيًا- يرصدُ الكتاب الهياكل المحلية المتمثلة في البلديات، وكيفية عملها في رسم سياسات التفاعل مع الرموز والجماعات الدينية وكيف تحددُ هذه السياسات ما هو مقبولٌ وما هو مستبعدٌ عن المجال العام الفرنسي.

ثالثًا- يقومُ الكتاب بدراسة البعد الخطابي للحَوْكَمَةِ الدينيةِ داخل مدن مثل: "رين" و"بوردو" و"تولوز"، مع التركيز على القواسم المشتركة والاختلافات داخلها.

رابعًا- يقوم الكتاب بتحليل كيفية تشكيل السياسات والجهات المتفاعلة مع السرديات المرتبطة بالدين، وبالتالي إنشاء تعريفات للتعبيرات العامة المقبولة عن التدين.

خامسًا- يفحص الكتاب كيفية تأثير واختلاف السياسات المحلية التي تُهندسُ في المدنِ ونظيرتها الوطنية التي تصنعُ في العاصمة في تفاعلهما مع التنوع الديني وعلاقته بمفهوم العلمانية، وبالتالي في تعريف الأمة والدولة من منظور المدينة.

 

أولًا- أدوات البلدية السياسة في تنظيم التنوع الديني

توضحُ الباحثة في الفصل الأول المعنون بـ"أدوات البلدية السياسة في تنظم التنوع الديني"، أن السياسات الحضرية لإدارة التنوع الديني موجودة في جميع المدن الفرنسية الثلاث (رين وبوردو وتولوز) التي قامت بدراستها، والتي تتجسدُ بشكلٍ رسميٍّ أو غير رسمي، وتشمل هذه التنظيمات والتدابير الرمزية الاعتراف بالتنوع الديني، المعزز بتوفير الموارد المادية ومشاركة الجماعات الدينية في صنع السياسات الحضرية، علاوة على ذلك يُظهر التحليل الذي تقدمهُ الباحثة بأن الدولة تعتمدُ على شبكات جهوية فاعلة غير الحكومية من أجل تدبيرِ الشأن الديني داخلها.

وهنا تبرزُ الدراسة مدى تغلغلِ القضايا الدينية واللائكية في جداولِ أعمالِ البلديات في المدن الثلاث المدروسة (رين وبوردو وتولوز)، وكيف تستخدمُ سلطات هذه البلديات الموروث الثقافي المشترك لتبرير بعض سياساتها، والتي يمكن أن يُنظر إليها من المركزِ على أنها تتعارض مع بعض مقتضيات قانون 1905 المؤطرِ لعلمانية الدولة الفرنسية (ص 25)، ومنه فإن واقع الممارسة في المدنِ المدروسة والتي تشهدُ وجودًا كبيرًا للمواطنين من أصول أفريقية وكذا وجود أعداد كبيرة من المهاجرين، تتيحُ لبلديات هذه المدنِ انتهاجَ سياسات لا تتوافقُ في مضمونها مع العلمانية الفرنسية الصارمة، وذلك بُغية تعزيزِ سياسات المشترك الثقافي والقبول الديني باعتبارهما المسلكين الوحيدين اللذين يمكنُ عبرهما تدبير الشأن العام لتلك المدنِ، فبدونِ هذه المرونة سيغدو من المستحيلِ تدبيرُ الشأن العالم لمدنٍ تعرفُ وجودًا كبيرًا للمهاجرين والإسلام. وهنا تشير الباحثة بأن هذا الأمر لا يقتصرُ على فرنسا، فهو اتجاه شائع جدًّا في البلدان الأوروبية الأخرى، ومع ذلك، فإن الوظائف التي لها سردية التنوعِ الثقافي تتغير من سياق إلى آخر ومن لحظة إلى أخرى.

إلا أن هناك اختلافات في النهج الذي تدبر به هذه المدن قضايا الدين والتنوع الديني، هذا الأمر يتجلى في اختلاف درجة التدخل اتجاه الفاعلين الدينيين. تتبنى مدينة "رين" مثلًا نهجًا تدخليًّا بشكلٍ كبير، في حين نجدُ كلًّا من مدينتي "بوردو" و"تولوز" يعرفان نهجًا أقل تدخلية (ص 30)؛ ومن أجل توضيحِ هذه الفكرة من المهمِ التذكيرُ بأن مدينة "رين" ساهمت في إنتاجِ فكرة خضوعِ الكنيسة الكاثوليكية لسيطرة الدولة، هذه الفكرة هي التي تشكلُ جوهر اللائكية الفرنسية، في حين أن كلًّا من "بوردو" و"تولوز" لم ينخرطا تاريخيًّا في تشكيل هذه الفكرة المحورية، بل شهدتا في المقابل وجود أقليات دينية مهمة تعايشت مع المواطنين طوال عقود، وهو ما ساهم في تشكيلِ فهم المواطنين في هاتين المدينتين للعلمانية والدين المغاير في جزئياتهِ "المهمة" عن فهم الدولة المركزية الفرنسية للعلمانية وتقبلِ الآخر.

كما توضحُ الباحثة كذلك أنه في الوقت الذي يُنظر إلى الجماعات الدينية في بعض الحالات من منظور طبيعتها المذهبية (إسلامية أو مسيحية أرثودوكسية أو مسيحية كاثوليكية) كما هو الحاصل في "رين" مثلًا، فإن كلًّا من "بوردو" و"تولوز" لا يصنفون الجماعات الدينية من مقاربة مذهبية؛ بل ينظرُ لها على أنها فاعلٌ مستقلٌ داخل النسيجِ المدني، هذا الأمر لهُ أثرٌ بالغٌ على عملية صنع السياسات العمومية المرتبطة بالتنوعِ الديني وقبول الاختلاف.

يمكنُ رصد أمرٍ آخر مرتبطٍ بتغير السياسات العمومية داخل إحدى هذه المدنِ، حيثُ يمكنُ أن نجدها تعترف بالتنوع الديني في سياق معين وتُنكرهُ في سياقٍ آخر (ص 35)، وهي مفارقة حقيقة بالتأمل، حيث تغدو هذه السياسات متسمة بالازدواجية التي يمكنُ أن تجعلَ المواطنين المنتمين إلى مختلف الشرائح الدينية خاصة الإسلامية التي تتصدرُ المشهد، لا تثقُ بهذه السياسات حتى وإن قدم لها الدعم في سياقٍ معين، لأنها هذه الفئات مدركة أنها قد تتنكرُ السياسات إذا ما تغير شرطٌ واحدٌ من شروطِ السياق.

ولأجل سبرِ أغوارِ هذه المفارقة قامت الباحثة في الفصل الأول بتوضيحِ أبعاد السياق؛ مثل تاريخ العلاقات بين الفاعلين السياسيين والكنيسة الكاثوليكية، أو تاريخ الحوار بين الأديان داخل هذه المدن، والتي يمكنُ أن تؤدّي دورًا في كيفية قيام المدن بإدارة وتنظيم التنوع الديني (ص 36)، ورغم ذلك نجدُ أن ما قامت به الباحثة غيرُ كاف لتبرير وجودِ هذه المفارقات الكبيرة بين سياسات هذه المدن اتجاه الشأن الديني داخلها وكذا تقبلها للآخر.

فرغمَ أن الباحثة قامت بإنشاء تصنيف لأنماط إدارة هذه البلديات لمسألة التنوع الديني، من أجل فهم الوضع في المدن الفرنسية، ومقارنة الحاصلِ داخل هذه المدن وفق نهجٍ يسعى للحَوْكَمَةِ الدينية التي تستحضرُ السياق (ص 36)، إلا أن هذا الأمر غير كافٍ لفهمِ وتبريرِ وجودِ مفارقات جوهرية في سياسة هذه المدن نحو الدين والتنوعِ الثقافي.

 

ثانيًا- الفاعلون الكبار في صياغة السياسات الدينية

أما الفصل الثاني من الكتاب فقد سلط الضوء على "أهم الفاعلين" الصانعين لسياسة التنوع الديني داخل هذه المدن الفرنسية (رين وبوردو وتولوز)؛ وهنا فإن الباحثة تظهرُ وجودَ مجموعة متنوعة من الجهات الفاعلة الحكومية وغير الحكومية، الدينية وغير الدينية باعتبارهم شركاء شرعيين لتنظيم الدين داخل أسوار هذه المدن.

وهنا ترى الباحثة أن المنظمات الدينية جزء لا يتجزأ من هذا الجسم، خاصة في سياق يُنظر فيه إلى التطرف باعتباره أحد التحديات الرئيسة التي تواجهها الدول الأوروبية[7]. وهنا فإن صناع السياسة العمومية لهذه المدن ينظرون إلى هذه المنظمات بوصفهم شركاء للإدارة الحضرية[8]، ورغم هذا الأمر فإنهُ لا يُنظر إلى كل الجماعات الدينية على نفس النهج (ص 50)؛ حيث يقتصرُ الاهتمامُ بالجماعات الدينية المسيحية التي تحظى بأولوية كبيرة في هذا المسار، فيما تجدُ الأديان غير المدمجة في قوانين الجمهورية نفسها خارج دوائر صناعة القرار المرتبط بمجال الدين. هذا الأمر يكرسُ هذه المفارقة المشار إليها سلفًا والمتمثلة في التضييقِ على أديان معينة دون غيرها؛ حيثُ يمكنُ أن نستشفَ أن الممارسة الفرنسية تجاه الدين "المسيحي" ليست بتلك الصرامة المبثوثة في قانون 1905 العلماني، بل هناك مرونة حقيقية في إدراج الجماعات المسيحية في عملية صياغة السياسات العمومية، في المقابل نجدُ إقصاء حقيقيًّا وكليًّا للجماعات الدينية الأخرى خاصة الإسلامية، رغم ادعاءهم أنهم يعانون من توغلِ التطرف الإسلامي؛ الذي كان يجبُ أن يجعلَ الدين الإسلامي حاضرًا عبر جماعاته في طاولة الحوار وصناعة السياسات العمومية المرتبطة بالدين لهذه المدن بدل إقصائه، إذا كانت نية محاربة التطرف حقيقية.

 تعزز هذه البنية المزدوجة تصنيفَ الفاعلين الدينيين إلى "جيدين" وآخرين "سيئين"، وهذا التصنيفُ لا يساهمُ في تقديمِ حلولٍ للواقع الفرنسي، بل يعززُ من أزمة النموذج الفرنسي؛ حيث إن هذه السياسة تكرسُ الوجهَ السيئ للعلمانية والحداثة المتمثلِ في تكريسِ ثقافة "الأنا" و"الآخر"، وهي ثقافة ضد صناعة المشترك الثقافي وضد تكريس تقبل التنوع الديني الذي تدعي هذه البلديات أنها تكرسهُ بسياساتها. ونشير إلى أننا نختلفُ مع طرحِ الكاتبة التي ترى وجود اختلافات جوهرية بين ممارسة المركز والأطراف للعلمانية اليعقوبية؛ فالواقع يؤكدُ أن هذا الاختلاف يبقى جزئيًّا فقط، كما أن سياسة الانفتاح على الأديان هي تعبير عن انفتاح على صيغة دينية معينة. وللمفارقة فهو انفتاحٌ على الصيغة التي ثار ضدها الفرنسيون حينما صاغوا مفهومهم للائكية، أي انفتاحٌ على الكاثوليكية فقط.

لقد عزز الوضع الاجتماعي والسياسي بعد الهجمات الإرهابية التي شهدتها فرنسا من حضور بعض الجهات العلمانية وانخراطها في النقاش العام، مما أثر في تكوين هذه الهيئات الاستشارية الصانعة لسياسات العمومية المرتبطة بالتنوع الديني، وذلك على حساب الإسلام الموجود بكثرة في هذه المدن.

ترصدُ الباحثة دينامية جمعيات أصغر ولكنها مؤثرة مثل جمعيات الآباء وأولياء أمور التلاميذ، وكذا الفروع المحلية للنقابات العمالية والأحزاب السياسية، فضلًا عن منظمات المجتمع المدني الأخرى التي كانت تحشدُ دعمها لديانات معينة دون أخرى (ص 55)، وهو ما كرس الأزمة بدل السعي نحو إيجاد حلٍّ لهذه المعضلة التي يمكن تجاوزها بجعل الجماعات الدينية الأخرى ممثلة في عملية صياغة السياسات الدينية لهذه المدن.

 

ثالثًا- أساطير العيش المشترك

يعنى الفصل الثالث بتسليط الضوء على الأساطير التي نُسِجَتْ حول "العيش المشترك" (Vivre ensemble) ؛حيث لفتت الباحثة الانتباه إلى بعدِ وأثر الخطابات في صياغة السياسات العمومية داخل رين وبوردو وتولوز؛ حيث تناقشُ الباحثة المناهج التفسيرية لتحليل السياسات؛ وذلك اعتمادًا على مجموعة مهمة من المقابلات التي قامت بها الباحثة، فحصت عبرها السرديات والخرافات السائدة التي تكمن وراء مقاربات السياسة المرتبطة بالتنوع الديني، وذلك مع إيلاء اهتمام خاص لفكرة "العيش المشترك" مقابل الانقسام الاجتماعي المرتبطة بالاستجابة المجتمعية (Répli communautaire). (ص 70)، ولكن تحديد الثابت والمتغير والحقيقة والأسطورة فيما يتعلقُ بـ"العيش لمشترك" لا يستقيمُ في ظلِ غياب التمثيليات المختلفة عمن يوافق ويتماهى مع اللائكية الفرنسية أو الكاثوليكية.

في المقابل يتم استخدام "الشيوعية" (Communautarisme) للإشارة إلى السلوكيات الاجتماعية التي تعدّ مُهَدِدَة لحالة العيش المشترك وقيم الجمهورية الفرنسية على نطاق أوسع؛ وذلك على الرغم من الدلالة الإيجابية لخطاب العيش المشترك، فإن كلا الخطابين لهما طابع تأديبي حسب رأي الباحثة؛ حيث يتم تقديم أشكال معينة من الارتباط على أنها هوية المدينة، وبالتالي فهو أمر يشرعنُ استبعاد ما لا يتوافق مع تلك المعايير؛ وذلك من خلال ترسيخ ما يُنظر إليه على أنه سلوك وتفاعل اجتماعي جيد أو سلوك "غير مقبولٍ" ولا يتوافق مع "معايير وقيم" المجتمع، فإن الخطابات السائدة داخل هذه الجماعات تساهم في التحكم والتأديب والقهر والإقصاء كما تؤكد طروحات ميشيل فوكو تجاه الأقليات الدينية، خاصة الجماعات المسلمة داخل هذه المدن ومنه داخل فرنسا (ص 75)؛ وهو أمرٌ نوافق عليهِ الباحثة وخاصة استحضارها لسردية فوكو لتفسير طبيعة العقاب والإقصاء الممنهج ضد الأقليات المسلمة، وذلك باسم العيش المشترك. والأصل أن هذا المفهوم لا يمكنُ بناؤه بشكلٍ قويمٍ في ظل سياسات الإقصاء والعقاب الرمزي الموجه ضد هذه الجماعات الدينية التي لا تمثلُ ولا تجسدُ اللائكية الفرنسية التقليدية.

 

رابعًا- إعادة تشكيل العلمانية: كيف تحدد علمانية الحواضر/المدن الحياة الدينية الطبيعية

 قامت الباحثة بدراسة أسلوب تعريف المدن للحياة الطبيعية الدينية، وتحليل طبيعة تشكل المفاهيم المرتبطة بالعلمانية أو الدولة أو الانتماء إلى الأمة، فقد جادلت بأن السياسات والجهات الفاعلة والخطابات تساهم في تحديد أشكال التدين التي تعدّ مقبولة للجمهور، وبالتالي تحديد ما تبدو عليه الحياة الطبيعية والعلمانية للأمة في مكان ولحظة معينة.

هذه النتائج لها أمور نظرية متمثلة، في دور المدن الذي تلعبهُ والذي تصفهُ بأنه مركزي يوازي دور الدولة المركزية في النزاعات الدينية، وتحديد ما يمكنُ اعتبارهُ دينيًّا أو علمانيًّا، خاصًّا أو عامًّا، وما هو جوهر علمانية الدولة؛ هذه السياسات تعيدُ "صياغة" الدين بطرق معينة وفقًا للإطار القانوني، وكذا للثقافة العلمانية السائدة في فرنسا. وهنا نختلفُ مع الباحثة في هذه النقطة كذلك؛ بحيث إن الواقع يؤكدُ أن هذه السياسات لا تعززُ من قوة العلمانية بقدرِ ما تعززُ ضعفها وعدم قدرتها في التفاعل مع أسئلة الدين التي تسكنُ المجتمع الفرنسي خاصة عند الجماعات الدينية، أو الجماعات الاجتماعية التي تعطي لنفسها انتماء دينيًّا مغايرًا لما هو ممثل في فرنسا.

إذا كان الفصل الأول يناقشُ فكرة التفاوض ومساراته باعتباره فكرة محورية وقابلة للمَنهَجَة؛ فإن هذا الفصل يرى أن العلمانية هي إطار معياري في طور التكوين، وهو أمر محوري لاحظته الكاتبة في هذا الفصل، من خلال رصد المناقشات التي أطرت أشغال لجنة رين الاستشارية (Comité Consultatif de Rennes). فمن منظور الحكومة، ينبغي فهم هيئات الحوار البلدية على أنها أدوات لإعادة تشكيل التدين (ص 94)، خاصة الدين الإسلامي، وبالضبط ما هو مرتبطٌ بـ"جسد المسلمة"[9]، يتيح فحص موضوع "جسد المرأة" المسلمة حسب هذا التصور فهمًا أعمق لكيفية جعل ممارسات دينية معينة تتناسب مع معايير العلمانية؛ ولا يمكن إلا الاستغراب من هذا الطرح الرامي إلى إعادة تشكيلِ تدينٍ إسلامي وفق المعايير العلمانية المبني على جسدِ المرأة ونظرتهِ إلى الحجاب دون استحضار رأي هذه المرأة لنفسها داخل النسق الفرنسي والمسلم في الوقت نفسه، فضلًا عن استحضار رأي المسلم؛ بصيغة أخرى: لا بدّ من استحضار رؤية الفرنسية المسلمة لنفسها ولجسدها ولحجابها. ومن ثم تتناقض سياسات المدنِ التي تدعي أنها تقدمُ سردية أكثر تفاعلًا مع الآخر مقارنة بسردية الدولة الوطنية في باريس، وتسقطُ في كل مناسبة في نفس الأخطاء الكامنة داخل الأنموذج اللائكي المغلق.

 كما يوضحُ الكتاب حسب هذا التصور أن الحالات التي يمكن اعتبارها في البداية شكلًا من أشكال الاعتراف تسن أيضًا "ممارسات رقابية"[10]، ومن ثمّ تحافظ على كل الأشكال السلبية والحازمة لعلمانية الدولة (بلغة أحمد ت. كورو) في المشهد.

 لذلك يجب فهم فرنسا على أنها تشكيل علماني غير مستقر من ناحية كونها "مشروعًا سياسيًّا تنظيميًّا" ينظم رعاياه على الرغم من تناقضاتهم وتوتراتهم[11]، ولكن رغم تغيرات السرديات فهي تغيرات جزئية فقط لا تمسُ جوهر هذه السردية وثوابتها الفكرية والحضارية.

تبرزُ هذه الفجوات بين الخطاب والواقع على المستويين الوطني والحضري/المدن؛ في العديد من التدخلات البلدية التي تنحازُ للعلمانية اللائكية الكلاسيكية بدل مجابهتها وتغييرها حتى يستقيم الواقع مع الخطاب.

وهنا كذلك نسائلُ رأي الباحثة حينما ترى أن العلمانية المبثوثة في الحواضر/المدن مؤهلة في الانخراط في عمليات الاستجابة والاعتراف بطلبات المجموعات المختلفة واستيعابها أكثر، مقارنة بما هو حاصلٌ على المستوى الوطني الذي يغلبُ عليه "الحزم" تجاه الدين عمومًا وخاصة الإسلام (ص 95)؛ لأن الواقع يؤكدُ عكس ذلك؛ ويؤكدُ أن سردية العلمانية اللائكية الفرنسية هي المؤطر والفيصل النهائي لسياسات الكبرى المتبعة داخل هذه البلديات.

 

خامسًا- جدلية الوطني والحضري وتنقل علمنة الدولة

وفي النهاية فإن المؤلفة ترى أن إدارة التنوع الديني، أي التعرف على طبيعته الديناميكية متأثرٌ بالقوانين والتوجيهات الوطنية التي تؤثرُ بقوة، إلا أن الدول المركزية ليست لديها القدرة الكافية المتصورة لفرض هذه القوة على مختلف البقاع بنفس الدرجة، وهو ما يتيحُ مجالًا للبلديات لمناورة سياسات المركز المرتبطة بالتنوع الديني وتشكيل علمانية مرتبطة بالمدن واختلافاتها (ص 110)؛ وهنا لا يمكنُ إلا أن ننتقد هذا الطرح الذي لا يتوافق مع الواقع وتنزيلاته، التي يمكنُ أن نشهدَ عبرهُ أن هذه السياسات لا تختلفُ من حيث الجوهر عما هو موجودٌ في المركز؛ فالاختلاف الحاضرُ هو اختلافٌ هامشيٌ يعنى أساسًا بالفروع بدلَ أن يعنى بالأصول؛ وهو ما يجعل هذه الفروق هامشية ولا تؤثر في حل الأزمة التي تسكنُ واقع فرنسا وعلاقتها بالدين داخلها.

 تكمن قيمة ما قدمتهُ الباحثة في تحديد مجموعة متنوعة من آليات نقل السياسات؛ من أعلى إلى أسفل ومن أسفل إلى أعلى، علاوة على ذلك فإنه بينما يستخدم البعض الهياكل الرسمية المتأصلة، مثل الإجراءات القانونية أو المنافذ الإعلامية، يعتمد البعض الآخر على وسائل غير رسمية وأقل مؤسسية ولكن تحظى بنفس الكفاءة، مثل الاجتماعات الشخصية أو الخطاب السائد في مواقع التواصل الاجتماعي من أجل تكريس سردية العلمانية على حساب التنوع الديني داخل فرنسا.

ترى الباحثة أن ادعاء تطبيق آليات القانون من أعلى إلى أسفل قد تبدو أقوى للوهلة الأولى، فإن قدرتها على نقل السياسات أو الخطابات تعتمد على السياق الاجتماعي والسياسي، في حين أن القنوات التي قد تبدو أضعف مثل المعرفة الأكاديمية حسب الكاتبة، تمتلكُ تأثيرًا أقوى في بعض الأحيان في صنع السياسات البلدية المرتبطة بالدين (ص 113)، ولكن الواقع يثبتُ محدودية أثر الشريحة الأكاديمية إذا أردنا أن نبقى مع نفس المثال على تشكيل مفاهيم العلمانية داخل كل مدينة، وبدلًا من ذلك فإن الواقع يؤكدُ أن العلمانية المركزية المبثوثة في القوانين هي التي تنتصرُ على كل المحاولات الرامية إلى تقديم بدائل مفهومية يمكنها أن تقوم بإحياء تجديد مفهوميٍّ للّائكية.

 

خاتمة

حسب الكتاب فإن الباحثة ترى وجود ضرورة رصد لعمل البلديات في إحداث مسارات مختلفة عما أحدثته فرنسا في صيغة الدولة الحديثة المركزية فيما يرتبط بالعلمانية؛ مدعية أن إنتاج السياسات المحلية لها الأثر البليغ على المواطنين في حياتهم اليومية، وهو كفيلٌ بصياغة ممارسات مختلفة عن العلمانية الموجودة في المركز.

 إلا أن هذه السياسات لا تختلفُ في جوهرها عكس ما تدعي الباحثة عما هو منتجٌ من الدولة المركزية الفرنسية، ولكن هذا لا يعني التبخيس من زاويتها في النظر إلى أهمية سياسات الأطراف؛ أي السياسات المحلية للبلديات في "إمكانية" تطوير سردية أكثر انفتاحًا على الدين في صيغته العامة التي يندرجُ داخلها الإسلام، ولكن هذه الإمكانية يتمُ الإجهاز عليها انطلاقًا من تحديد الأطراف الفاعلة داخلها وتهميشِ الأطراف البقية.

وهكذا تتحول البلديات إلى أداة من أدوات الدولة الحديثة الفرنسية في ترسيخ سياساتها المتطرفة تجاه الدين عامة والإسلام خاصة، وجعلها أكثر إقصائية، ورغبة في إعادة تشكيله؛ وهو الأمر الذي لا زال يستعصي على النموذج الفرنسي، بحكمِ انغلاقهم على أشكال التدين المغايرة عن الكاثوليكية المسيحية؛ ومنه فإن سياسات الأطراف لا تختلفُ في الجوهر عن سياسات المركز، أو لنقل إن سياسات الأطراف تختلفُ عن سياسات المركز شكليًّا فقط، أي هو اختلاف من حيث الدرجة وليس اختلافًا من حيث النوع، وهو ما يكرسُ الأزمة داخل فرنسا خاصة في تعاملها مع الإسلام، ويجعلُ من هذه الأخيرة أسوأ دولة في تعاملها مع الاختلاف الديني رغم ما تدعيه من سعي وراء احتضان التنوع الديني.

 

 

[1]  باحث بمعهد المقاصد وباحث سلك دكتوراه جامعة سيدي محمد بن عبد الله-فاس.

[2]  انظر:

Linder, S. H., & Peters, B. G. (1989). Implementation as a guide to policy formulation: A question of “when” rather than “whether”. International Review of Administrative Sciences, 55(4), 631-652.

[3]  انظر:

Mahmood, S. (2016). Religious difference in a secular age: A minority report. Princeton University Press.

[4]  راجع:,

Amiraux, V., & Koussens, D. (2016). From law to narratives: Unveiling contemporary French secularism.

[5]  انظر:

Amiraux, V. (2015). Après le 7 janvier 2015, quelle place pour le citoyen musulman en contexte libéral sécularisé ? After January 7, 2015, https://doi.org/10.3917/mult.059.0083

[6]  See, Kuru, A. T. (2009). Secularism and State Policies Toward Religion: The United States, France, and Turkey. Cambridge university press.

[7]  راجع:

Edmunds, J. (2012). The “new” barbarians: Governmentality, securitization and Islam in Western Europe

Contemporary Islam, 6(1), 67-84. https://doi.org/10.1007/s11562- 011-0159-6

[8]  راجع:

Blanco, I., Lowndes, V., & Pratchett, L. (2011). Policy networks and governance networks: Towards greater conceptual clarity. Political Studies Review, 9(3), 297-308. https://doi. org/10.1111/j.1478-9302.2011.00239.x, p.829

 

[9]  راجع:

Amir-Moazami, S. (2011). Dialogue as a governmental technique: Managing gendered Islam in Germany. Feminist Review, 98(1), 9-27. First Published July 1, 2011, Research Article. https://doi.org/10.1057/fr.2011.8

[10] Lamont & Molnár, 2002, p. 176.

[11] Fernando, M. L. (2014). The republic unsettled: Muslim French and the contradictions of secularism. Duke University Press.

أواصر - مجلة فكرية فصلية

www.awasr.com