الخطاب الفقهي والتحيزات السياسية

طباعة 2021-10-19
الخطاب الفقهي والتحيزات السياسية

المؤلف: أحمد مرعي المعماري

الناشر: مركز نهوض للدراسات والبحوث

سنةالنشر:  2020

عددالصفحات: 270

مراجعة: مصطفى فاتيحي[1]

 

توطئة

يعد النقد حاجة منهجية وضرورة علمية لتطوير الكسب المعرفي عبر الأجيال. ولأن الفقه الإسلامي منتج بشري من تفاعل العقل المسلم مع النص والواقع، فقد استلزم ذلك المراجعة المستمرة، من أجل مواكبة المستجدات الطارئة ومراعاة التحولات المتسارعة. تتعدد جوانب النقد وزواياه حسب رؤية الناقد وتصور الكاتب، وكتاب الخطاب الفقهي والتحيزات السياسية من الأعمال النقدية الجديرة بالقراءة والتأمل والتفاعل البناء مع الأفكار الواردة فيه وإدراك إمكانات الإفادة واستئناف النظر. وما أحوج المشتغلين بالفقه إلى مثل هذه الأطروحات النوعية الجديدة والمجددة التي تنبه إلى أعطاب العقل الفقهي عبر مراحله التاريخية، وإلى أهمية قراءة تاريخ الأفكار، وإدراك البنى والأنساق الثاوية خلف إنتاج المعرفة، والسياقات الواردة فيها.

يتضمن الكتاب عنوانًا دالًّا ومعبرًا ويشي بمضمونه ومراميه، ويقع في 270 صفحة من القطع المتوسط، صادر عن مركز نهوض للدراسات والنشر سنة 2020. أما المؤلف فهو الدكتور أحمد مرعي المعماري، كاتب وباحث عراقي، حاصل على درجة الدكتوراه في فلسفة الشريعة الإسلامية تخصص أصول الفقه، وعلى درجة أستاذ مساعد في أصول الفقه، ومحاضر في كلية الإمام للعلوم الإسلامية -جامعة الموصل. وله عدد من المؤلفات منها: فقه التنزيل دراسة أصولية - مراعاة المشقة عند الإمام مالك وأثرها في فقهه - دور أصول التشريع في ترسيخ مبدأ العدالة والتسامح.

 

سياق تأليف الكتاب

نستشف سياق تأليف الكتاب من ملاحظة جملة من الأعطاب التي يعاني منها الفقه في الواقع المعاصر، وأهمها تبعيته للسلطة السياسية وخضوعه لمطالبها، حتى وإن تعارض ذلك مع أساسيات الدين ومقاصده الكلية. وقد تجلى ذلك بشكل صارخ في الحراك الأخير والأحداث السياسية والاجتماعية، إذ كشفت كثير من الوقائع ارتهان الفقيه في فتاويه لموقف السلطة السياسية. ولا يخفى على المتابع الكثير من الفتاوى التي شرعت مجموعة من الممارسات الاستبدادية.

كذلك يأتي الكتاب في سياق معرفي ثقافي وفكري ظهرت فيه مجموعة من المراجعات التي تستهدف الحفر في البنى الفكرية المشكلة للعقل المسلم، حتى يتمكن من الاستجابة للتحديات المعاصرة، دون أن يغترب في الحاضر ويتنكر للماضي أو تأسره الأفكار الموروثة ويظل مكبلًا بسلطانها وأحكامها. دون أن ننسى سياق الجهود الرامية إلى استنبات قيم الديمقراطية ومقاومة كل أشكال الاستبداد والانفراد بالسلطة وتدبير الشأن العام.

 

أطروحة الكتاب

 تضمن الكتاب أطروحة مفادها: معالجة المشاكل المنهجية التي تصدرت الخطاب الفقهي في ظل الاستبداد؛ لأن الخطاب الفقهي يتجاوز منطقة الكشف عن الحكم الشرعي إلى بناء أطر ومفاهيم وقيم أدرك الفقيه أو لم يدرك. ومن ثمّ فإن إطلاق الأحكام الشرعية ووسمها بالحلال أو الحرام مع نسبة ذلك الحكم إلى الله ليس بالسهولة التي يتم ترويجها عبر دعوات جاهزة، فإن أخطر إفرازاتها الجرأة التي من خلالها يتم العبث بالأحكام.

وهي رؤية تبين تحول الخطاب الفقهي وخطورته ومآلاته، ولا بدَّ بعد هذا أن يصحح باتجاه يتوافق ومقاصد الشريعة وأصولها، وتقديم ما يمكن أن يعالج فيه الخطاب الفقهي[1].

ومن ثم فإن كشف مكامن الخلل وتلافيها في المستقبل والتقليل من تداعياتها أمر يستحق المرافعة للتأكيد على أن هذه المؤثرات تسود بين فترة وأخرى، نتيجة التوظيف السياسي للخطاب الفقهي، ولا يعني ذلك طابعًا عامًّا للخطاب الفقهي، لكنها مؤثرات تركت انطباعات تشكلت من جرائها فهوم مخالفة لمقاصد الشريعة وأصولها، وهي تطفو كلما تسيد الخطاب السياسي واستدعى الخطاب الفقهي لتحشيد الموقف، ويتصدر بتوظيف الخطاب الفقهي في ذلك، فيبقى تأكيده ضرورة تصحيحية[2].

إن دراسة المؤلف تعمل على ألا يكون الفقه طريقًا للاستبداد وتسويغه، ومنبهة على خطورة الأيادي التي تحرك بعض مناطقه خدمة للاستبداد وجنوده.

 

منهجية الكتاب

حرص المؤلف على تقديم أفكار متراصة وبنفس طويل في التحليل على امتداد فصول الكتاب، ولم يقع في الاستطراد، بل اعتمد على تكثيف المواقف والرؤى التي يصوغها، كما حرص على التزام الموضوعية فنأى عن التعميم وإصدار الأحكام الجاهزة.

تدقيق مضامين الفصول والمطالب أفضى إلى انسيابية في الأفكار وتكامل في بنائها من التفكيك إلى التركيب مع لغة سهلة ووظيفية ليس فيها إلغاز أو تعقيد.

استثمر المؤلف جملة من المراجع الوازنة التي كانت عمدته في الاستشهاد وانتقاء أليق الدعامات التي يؤسس عليها تحليلاته واستنتاجاته. وقد أحسن التصرف في الاقتباسات بحيث كانت شخصيته العلمية بادية بشكل لا غبار عليه.

وقد استطاع أن يوازن بين استثمار معطيات المراجع القديمة من أجل إدراك تحولات الخطاب الفقهي، وبين المراجع المعاصرة من أجل رؤية نقدية استشرافية. فنجد النصوص تتقارع لتنبجس منها أفكار جديدة، فيحضر إمام الحرمين الجويني وتلميذه الغزالي ويحضر الذهبي وابن تيمية وابن القيم والآجري والرازي والماوردي وابن خلدون والشاطبي، وهذا في القديم. أما في العصر الراهن فنجد محمد الغزالي والجابري والكواكبي وحاكم المطيري ورضوان السيد ومهدي فضل الله وجاسم سلطان ومعتز الخطيب وغيرهم. لكن يجدر التنبيه إلى غياب العز بن عبد السلام، خصوصا إذا استحضرنا مواقفه في معارضة السلطة وإزعاجها وإحراجها، فهل كان ذلك سهوًا من المؤلف أو عمدًا؟

بالإضافة إلى ذلك، فإن عين القارئ لا تخطئ اطلاع المؤلف على العلوم الإنسانية ومناهجها وقد انعكس ذلك على أسلوبه في الكتابة وزوايا النظر والمعالجة.

 

هدف الكتاب

نص المؤلف على هدف الكتاب، وهو بيان تحول الخطاب الفقهي من طبيعته الأصلية إلى الطبيعة الاستثنائية، وبيان التجربة العملية لفقه السياسة الشرعية. وكذا بيان أن نقل الآراء والأفكار التي نمت في ظل الاستبداد من غير مراعاة لظروف صدورها، يعد من الخلل المنهجي الكبير. ثم تحديد العناصر الشرعية التي تم استخدامها في الخطاب الفقهي في ظل الاستبداد، كالضرورة والمصلحة والمفسدة، وكيفية معالجة ذلك بإعادة استخدامها الصحيح على ضوء مآلات ما تحقق من إفرازات استخدام تلك القواعد. كذلك تحديد الرؤية الشرعية لمعالجة الخطاب الفقهي السابق واللاحق. ورصد المآلات المترتبة على الخطاب الفقهي في ظل الاستبداد وخطورتها على المنظومة الشرعية. ثم في الأخير تقديم رؤية للمعالجة من خلال الاحتكام إلى البنية العقدية، والمقاصد الشرعية، والأصول المنهجية، والرؤية الفكرية، لمعالجة الآراء الفقهية في ظل الاستبداد[3].

ومن الأسئلة المنهجية التي طرحتها الدراسة وحاولت الإجابة عنها:

هل الخطاب الفقهي لم يتأثر بظلم السلطان وقهره؟

هل الخطاب الفقهي مجرد عن الظروف السياسية والحياة الواقعية؟

هل الفقيه لم يطله سيف الحكم وبطشه، وعطاء السلطان ونفعه؟

هل بالإمكان تحويل الخطاب الفقهي في محاربة الاستبداد إلى خطاب فعال يأتي بنتائج إيجابية؟ هل ما مر من خطاب فقهي معارض ساعد على ردع الاستبداد؟ وخاصة ما مر من سنين طويلة تم فيها تغذية المجتمع، سواء عن طريق الجماعات الإسلامية أو عن طريق البيئة المجتمعية والحواضن التربوية التعليمية. وتبقى المسألة يشوبها التعقيد، ما لم يكن هناك وعي كبير يتسلق من خلاله المجتمع قمة العدل. وهذا ما تحاول الدراسة تثبيته، والوقوف على تحولات هذا الخطاب ومآلاته، وكذلك تقديم رؤية للمعالجة، للعمل على تحجيم دور الاستبداد[4].

 

مضامين الكتاب

 توزعت مادة الكتاب على مقدمة ومدخل مفهومي وأربعة فصول[5] وخاتمة. أما المقدمة فقد تضمنت هدف الكتاب وأطروحته وأسئلته ومنهجيته. وأما المدخل المفهومي فتضمن تحديد معنى أربعة مفاهيم محورية، وهي الخطاب والفقه والتحيز والاستبداد، من أجل استثمار معانيها إجرائيًّا أثناء التحليل والمناقشة. أما محتويات الفصول، فالأول جاء بعنوان: التحذير من خطورة الاستبداد في القرآن الكريم والسنة النبوية. وفيه أوضح أن القرآن الكريم تضمن منظومة متكاملة لتفككيك الاستبداد واقتلاع جذوره وأسبابه، من خلال:

نصوص كلية تأسيسية، سواء تلك المنددة بشكل صريح بكل صور الاستبداد والركون إلى المستبدين، أو تلك الداعية إلى إعمال مبدأ الشورى وعدم الاستفراد بالقرارات[6].

التحذير من الاستبداد عن طريق التشريعات الجزئية، ويتجلى ذلك من خلال كثير من الأحكام التي تجعل من الشورى ثقافة سارية في المجتمع، سواء في التربية أو تحريم بعض المعاملات وحل النزاعات والخلافات[7].

التحذير من الاستبداد من خلال القصص القرآني، وهو أمر له دلالته، على اعتبار أن القصص القرآني يعرض لقوانين الاجتماع البشري وبيان عوامل الإقلاع وأسباب الانهيار والسقوط. ومن أبرز الأمثلة التي تكشف خطورة الاستبداد قصة فرعون وزبانيته، مع الإشارة إلى الصورة المقابلة والموقف الحضاري لملكة سبأ.

ضرب الأمثلة بالعدل وعلو قيمته[8].

وهذه التجليات كلها -الكلي منها والجزئي- وقصص القرآن الإخبارية تسير في نسق واحد واتجاه واحد غير متضادة، مقررة مبدأ كليًّا، وهو العدل ورفض الظلم والتسلط والاستبداد[9]. ويرى المؤلف أن هذه الخلفية النظرية مهمة، فالدخول إلى تفاصيل الخطاب الفقهي لا بدّ فيه من استحضار هذه المقاصد القرآنية، وأن يسير الخطاب الفقهي موافقًا للمنظومة القرآنية[10].

أما بالنسبة إلى السنة النبوية بوصفها تمثل البعد التطبيقي للفهم القرآني فإنها تتضمن سعة من الجزئيات الواقعية، التي ينبغي أن تسير مع النسق القرآني، وعدم مصادمة الكليات القرآنية[11]. ومن هذا المنطلق قام بتوجيه الأحاديث التي تتناول موضوع السمع والطاعة منتقدًا النظر الجزئي فيها الذي لا يراعي سياق ورود النص ولا القرائن الحافة به أو النصوص المقابلة له، تقييدًا وتخصيصًا وتفصيلًا وبيانًا[12].

ومنه لا بدَّ من استحضار أمرين مهمين هما: سياق ورود أحاديث الطاعة الموجهة إلى مجتمع يرفض النظام وتسوده الفوضى والمزاجية، والأمر الثاني تقييد الطاعة بالمعروف وألا تكون في معصية. ليصل المؤلف في النهاية إلى خلاصة مهمة، وهي أن القرآن الكريم يرفض الاستبداد بكل أشكاله، وذلك من حيثيات ومسارات متعددة، من خلال الأحكام الشرعية، ومن خلال العقيدة، ومن خلال القصص القرآني. وقد عززت السنة النبوية ذلك وأكدته. وما ورد في السنة النبوية من نصوص اتكأ عليها الاستبداد واستدل بها فهي نصوص لم تقرأ في سياقاتها الصحيحة، ولم تحمل مطلقها على مقيدها، ولم تقرأ في ضوء نصوصها التأسيسية[13].

بعدما بيّن في الفصل الأول موقف القرآن والسنة النبوية من الاستبداد انتقل في الفصل الثاني إلى رصد تحولات الخطاب الفقهي ثم مآلاته في الفصل الثالث، ليقدم معالجات لهذه التحولات والمآلات في الفصل الرابع.

 

1. تحولات الخطاب الفقهي

في هذا الفصل حاول المؤلف أن يرصد كيف ومتى بدأ التحول من فقيه الشرع إلى فقيه السلاطين. فبعد أن كانت سلطة الفقيه العلمية تقاوم الاستبداد أصبح يشرعن له ويبرر تجاوزات السلطة. وقد تجلى ذلك في الفقه السلطاني وكتب الأحكام السلطانية التي شرعت في البحث عن مبررات لإمارة المتغلب[14]. فحدث تحول في المفاهيم بحيث استطاع الاستبداد بسطوته وسيطرته على الخطاب الفقهي أن يحول الكثير من المفاهيم والمصطلحات والتي تتعارض مع سلطانه ودولته إلى مفاهيم تتماشى مع الرأي السائد للاستبداد، فأصبحت هذه المفاهيم تتشكل بغير صورها الحقيقية وتتخذ منهجًا يسير عليه الناس باسم الدين[15].

ومن المفاهيم التي طالها التشويه مفهوم أولي الأمر الذي كان يعني العلماء ورجال الفكر. ولكن مناهج التربية التي هيمنت بإشراف فقهاء السلاطين والخلفاء في الماضي بدلت محتوى أولي الأمر ليصبح أصحاب القوة والعصبية والجاه والمال. وبالإضافة إلى تغيير المفاهيم هناك التأويل المغرض للنصوص بما يخدم مصالح الاستبداد. فكان الخطاب الفقهي الممالئ للاستبداد وراء غياب المؤسسات والحيلولة دون أدائها لدورها[16].

لقد تمثل الانحراف الأول بخط الإرجاء مؤسسًا بخط الضعف، ثم جاء خط الجبر نتيجة نظرية القضاء والقدر التي وضعت المسلم في إطار الاستسلام لكل شيء، أي إن كل ما يحصل له فهو مكتوب عليه سلفًا. فأصبحت الأعمار والأرزاق والأعمال مكتوبة ومحددة بزمن، فبقي الإنسان جامدًا دون حراك، وبدأ الاتجاه في تعريف القضاء والقدر هو بصمة الاستبداد السياسي الخطيرة على العقيدة الإسلامية، فلا احتجاج على الحاكم ولا فقه دستوري يحدد شرعية الدولة، فظهر مفهوم الطاعة العمياء للحاكم دون نقاش[17].

حسب رأي المؤلف وفي ظل التحولات السريعة على الفقيه ورأيه، انقسم الخطاب الفقهي في ظل الاستبداد إلى: خطاب المواجهة، وخطاب المسالمة، وخطاب المداهنة.

وتكوين رؤية صحيحة للخطاب الفقهي لا تتأتى من خلال خطاب واحد من الأنواع الثلاثة، بل لا بدَّ من قراءتها جميعها من أجل تكوين رؤية صحيحة متكاملة.

ولأن التحول الفقهي ابن واقعه ويحتكم إلى قانون المصالح والمفاسد المرحلية وما يطرأ على ذلك، فإننا نجد عند الأئمة تحولات في الآراء والمواقف من الاستبداد تبعًا للواقع وظروفه[18].

ولذلك فإن الاستبداد قد يغير مسار الفتوى كاملة ليس من باب مداهنة العلماء للسلطة،  ولكن من باب الكوارث التي قد تحصل على الناس من جراء عدم التغيير، كما حصل في مسألة الخروج على الحاكم الجائر الظالم[19].

في هذا الصدد ينبه المؤلف إلى مسألة مهمة وهي شرعنة الاستبداد من خلال الخطاب الفقهي. ومن هنا كانت خطورة الخطاب الفقهي وسيطرته على قيام المجتمع وتعثره. ولقد تجاوز الخطاب الفقهي منطقة الكشف عن الحكم الشرعي إلى بناء أطر ومفاهيم وقيم، وقد تلازم الانحراف السياسي والتأويل الفقهي[20].

ولن يستطيع أحد أن ينكر أن النظرية السياسية الموجودة في كتب فقهاء السلطة قد هدفت إلى إيجاد شرعية دينية لتبرير الأمر الواقع، بقصد إقراره وإعطاء الشرعية لمن لا يملكها من أجل الاحتفاظ بمصالحه الخاصة، فأدخلوا تبريراتهم قسرًا في صلب التشريعات[21].

بعد ذلك ينتقل المؤلف إلى إبراز أهم التحولات الأساسية المنهجية المهمة على مستوى الأصول في تشكيل الخطاب الفقهي. ومن أبرز هذه التحولات:

من الفقه إلى العقيدة، حيث نقلت مسائل فقهية جزئية إلى مباحث العقيدة ليضفي عليها طابع القداسة، لأنها تخدم أغراض الاستبداد. ومن ذلك إدراج مسألة الخروج على الحكام ضمن مسائل الاعتقاد[22].

وبهذا دخل الخطاب السياسي الفقهي مرحلة جديدة قام العلماء بتأويل النصوص لإضفاء الشرعية على الواقع وترسيخه، تارة بدعوى أن هذا ما تدل عليه النصوص، وتارة أن هذا ما تقضي به المصلحة وأن الخروج لا يؤدي إلا إلى المفسدة... إلخ، دون قراءة صحيحة للواقع ودون إدراك أن المصلحة التي تظن بتحريم مقاومة طغيان السلطة وانحرافها هي مصلحة آنية مؤقتة، إذ ما تلبث أن تكون النتائج أشد مفسدة مما كان يخشى من الخروج[23].

وكان لهذا الاتجاه امتداداته على الخطاب الفقهي المعاصر، وما فتاوى الربيع العربي إلا خير شاهد على استعمال نفس تلك المعطيات والأدلة اليوم[24].

من الخلاف إلى الإجماع. وإذا كان لتحول الفقه إلى العقيدة أثر كبير في مآلات الخطاب الفقهي، فإن الانتقال من الخلاف إلى الإجماع مسلك خطير، حيث جعل الدوائر المغلقة حول المسائل المفتوحة وإحاطتها بالإجماع من أجل التشريع للاستبداد.

وهنا استخدم الإجماع -كما يرى المؤلف- لتمرير إرادة الاستبداد كما استخدم المتن العقائدي من قبل ذلك. ومن الأخطاء الفقهية السائدة في مجال السياسة الشرعية دعاوى الإجماع غير الدقيقة والتوسع فيها وما يلحق بها من مسائل[25].

الإجماع على شرعية الحاكم المتغلب. وبعد مناقشة ادعاء الإجماع في هذه المسائل يصل المؤلف إلى تأكيد أن هناك اضطرابًا وتأرجحًا في أصل الإجماع، وهو الذي ألقى بظلاله على النزاعات والخلافات الفقهية المعاصرة في هذا الاتجاه، على اختلاف مشارب الفقهاء وتوجهاتهم وانتماءاتهم. وفتاوى الربيع العربي والفتاوى الموسمية خير مثال على نقل صورة التخبط واللعب على الأصول بالصورة القديمة نفسها، والعمل من جديد على قداسة تلك التصورات وجعلها في خانة المعتقدات الدينية الصحيحة، ليتم بعدها بناء الأفكار والتصورات عن الشريعة[26].

إن عدم تقديم رؤية صحيحة في المسائل الفقهية المطروحة ساعد على إصدار كثير من القضايا والفتاوى، التي يتم من خلالها إبعاد الأصول الكلية للشريعة ومقاصدها التطبيقية[27].

اضطراب العلاقة بين القطعيات والظنيات في الأحكام الشرعية. ولأن الخلل المنهجي يكون في العادة ممتدًا ومتشابكًا، فإن من تحولات الخطاب الفقهي تلك المتعلقة باضطراب العلاقة بين القطع والظن وتأثير ذلك في التأصيل الشرعي، فتحويل المتغير إلى ثابت والمظنون إلى مقطوع إضعاف لقيمة النص وحضوره الواقعي. على أن هذه النصوص تشكل الجزء الكبير في الشريعة وهي المحركة لعجلتها في الحياة والحاملة للثوابت، فإن كسر تلك العجلة كسر للشريعة وثوابتها[28]. وهذا الداء سرى في واقعنا من حيث توسع الدوائر المغلقة، وهو داء منهجي خطير في تشكل المفاهيم وبناء المسائل وتحليلها؛ لأنه تم تحجيم دور النصوص المبنية على العلل بصفتها المتغيرة اعتبارًا للزمان والمكان والحال والمكلف[29].

أفرزت التحولات السابقة إشكالية سماها المؤلف الاستبداد المعرفي عندما يرفض الاختلاف فينشأ التعصب، ووصل ذروته عندما تسنمت المذاهب الفقهية القضاء فلعبت على وتر السياسة، فقربت قريب الرأي منها وأبعدت البعيد، فتنامى التعصب وتسابقت كل المذاهب على السلطة لتقوي مذهبها؛ لأن المذاهب الفقهية التي تصدرت القضاء كانت تراهن على العامل السياسي الذي لا يدوم لمذهب، فحدثت تحولات كثيرة جراء ذلك[30].

وقد وصل التعصب مديات خطيرة وصلت إلى حد التصفية الجسدية، وسجلت كتب التراجم نهايات مأساوية لكثير من العلماء وأهل الفضل نتيجة للتعصب، وعدم وجود فقه ينظم الاختلاف ويضع حدودًا لما هو مقبول ومرفوض، فساد العنف وما زال هو الخط السائد حتى اليوم مع الفكر عمومًا.

وظل المنهج الإقصائي مسيطرًا على فكر التوجهات الإسلامية منذ عقود مبكرة من ولادة الفرق والمذاهب الإسلامية، سواء على المستوى العقدي أو الفقهي، وكل مرة يتم ذلك عبر الاستنجاد بالفاعل السياسي، ليزيد الاحتقان وتتعالى حدة التكفير. وهو من أخطر المزالق في التشكيل الفكري وقيام المناهج، في حين حذر الخطاب القرآني من ذلك الانزلاق الوعر[31].

عندما يتحول المسار الفقهي من الفقه إلى العقيدة ومن المظنون إلى المقطوع ومن الخلاف إلى الإجماع، والوصول إلى التعصب المذهبي يعني بلا شك تضييق خانة الاجتهاد وتغلق الأبواب المفتوحة والفضاءات الواسعة[32]. والفقه الفعال بمبدأ الاجتهاد أجهض بسيف الاستبداد، فأنتج فقهًا مشوهًا منسوبًا إلى الدين، وهذا لم يقتصر على مرحلة تاريخية محددة، بل توالت وتعددت بتعدد وجوه الاستبداد[33]. لقد غاب الفقه والاجتهاد وممارساته العلمية، ليـأتي دور من لا يملك الاجتهاد وأدواته ليجتهد من جديد للسلطان، فيفسد أكثر من قبل، ليتم إعلان سد باب الاجتهاد من باب سد الذريعة[34].

وعندما يهمين الجمود على الاجتهاد فإن الترخيص (المبالغة في الرخص وفقه الحيل) يحل محل التأسيس والاستثناء محل الأصل، حيث تظهر مع الاستبداد أحكام الاستثناء، وتتحول بمرور الزمن إلى الأصل الذي يعمل به، نتيجة طول سنوات الاستبداد، وتتحول إلى لغة مسيطرة على الخطاب الفقهي[35]. وهذا يؤدي إلى منزلق خطير وهو تحول الحقوق إلى الحدود، فمن التحولات في مفاهيم الحكم والدولة وتطبيق الشريعة عمومًا حصرها في تطبيق الحدود، ومتى ما تم تطبيق الحدود الشرعية من قبل السلطان يكون مطبقًا للشريعة وأميرًا للمؤمنين، مع تغييب كامل للضروريات الأساسية للعيش وحضور الشريعة، وهذا مما زاد الاستبداد ضراوة وجرأة وجسارة، فسوغ لنفسه باسم الشرع أن يبطش باسم إقامة الحدود، مع قيام العشرات من الشبه المانعة[36].

ولأن التحولات يفضي بعضها إلى بعض فقد حدث تحول جوهري يتمثل في تفريغ الفقه من معناه الحقيقي وهو التحذير إلى التخدير، وهذا ما يفعله الاستبداد من نقل المعنى الحقيقي للفقه إلى المعنى الصوري الشكلي ليتوافق مع السلطة الحاكمة ويناغم الجماهير بلغة الشرع. وبهذا يكون الفقه وبالًا على المسلمين وليس مخرجًا[37].

وقد ساهم الفقه المخدر في بناء الشخصية المستسلمة للأقدار، عبر الترويج للقصص الخيالية ولفكرة الجبر، فتم تسطيح العقول لتنام في سبات عميق، وتغيب فيه عن وجودها في الحياة وعن كرامتها وأمنها وشريعتها[38].

ولا غرو أن من التحولات التي لا تخطئها العين تلك التي أفرزها الاستبداد، وهي تحويل الخطاب الفقهي من اتجاه يحافظ على مصلحة الشرع ومقاصده إلى مصلحة الاستبداد وجنوده، وأداة لاستثمار المكاسب والمنافع باسم الشرع ولسان الفقيه وفتاواه[39].

قد يكون في عبارات المؤلف بعض المبالغة والقسوة، ولكنه يقصد رواج بعض القصص الخيالية، كتلك التي في كتاب إحياء علوم الدين للغزالي، أو الشريعة للآجري، حول بعض الأحوال والمبالغات التي تصادم النصوص الشرعية الواضحة.

كانت تلك أبرز التحولات التي شهدها الخطاب في ظل الاستبداد وتحت تأثيره كما يرى المؤلف، والتي كانت لها مآلات وخيمة، وذلك ما خصص له الفصل الثالث.

 

2. مآلات الخطاب الفقهي

يرى المؤلف أن التربية الاستبدادية لم تتوقف عند تلك التحولات الخطيرة، بل امتدت إلى ترسيخ قيم أخرى تعد نتائج وإفرازات لتلك التحولات، وهي مآلات الصناعة الأحادية.

صناعة الوثنية: فالأساس الذي تقوم عليه العلاقة بين المستبد والشعب ليست طاعة في المعروف، ومعصية له في المنكر، فهي لا تقبل إلا الطاعة المطلقة، فكل جنود الطاغية يملكون عقلك وجسدك وبيدهم كل أجهزة الدولة قد سخروها لطاعة ولي الأمر، ومن أين لأسير الاستبداد أن يكون صاحب رأي أو تأثير، وقد شلت لديه إرادة الطاعة أو إرادة المعصية؟[40].

قلب الحقائق: إن الحقيقة لا يقبل بها الاستبداد، ومن ثمّ لا بدّ من قلب الحقائق إرضاء للاستبداد وصيانة له[41].

نقل ثقافة الاستبداد إلى الجماعات الإسلامية: لقد تحول الاستبداد إلى أوساط الجماعات الإسلامية، فبدأت تفرض الوصاية والطاعة وعدم الخروج عن منهجها وفكرها[42].

التناقض والتقاطع في الرؤى: ويتجلى ذلك في الموقف المتناقض من المشاركة السياسة، قبولًا مطلقًا أو رفضًا مطلقًا[43].

توسيع دائرة التسامح إلى التمايع، والتعايش إلى الذوبان: وذلك باسم الوطنية ولو أدى ذلك إلى لي أعناق النصوص[44].

تقزيم مفهوم الشريعة: إذ أصبح الخطاب الفقهي ينشغل بالهامش ويترك المتن، فصنع خطابًا يتغنى ويفتي وفق ذلك، وعندها يشوه الاستبداد الواقع ويحوله إلى بيئة غير طبيعية.

فساد أخلاق المجتمعات ونشوء الذل والهوان: إن الاستبداد يروض الناس ويجعلها شعوبًا خانعة وخاضعة، تحمل أخلاقًا تفتقد قيم الإسلام الحقيقية[45].

التغيير بيد السلطان: لقد كون الخطاب الفقهي فكرة مفادها أن التغيير والتحويل بيد السلطان، فهو الآمر والناهي بشكل مطلق ولا تجوز مخالفته[46].

صناعة الفرق والملل والنحل: كان الاستبداد السياسي وراء نشأة بعض الفرق أو تأجيجها منذ مقتل عثمان رضي الله عنه إلى اليوم[47].

المبالغة في خطاب الفتنة: إن الفتنة يستخدمها الفقيه، ليلجم من يتكلم بوجه الاستبداد ويرفض ممارسته.

تشويه المفاهيم الشرعية: مثل مفهوم الجهاد والولاية والإصلاح.

التربية الاستبدادية: من أخطر المآلات أن يكون الاستبداد ثقافة سائدة في كل المجالات على مستوى الفرد والبيت والعمل، فيشكل طابعًا ويصبح الاستبداد مدعاة للفخر والتباهي، والمستبد من أكثر الأفراد قبولًا اجتماعيًّا[48].

بعد مرحلة الوصف والتحليل والتشخيص يصل المؤلف إلى اجتراح بعض معالم الحل في الفصل الرابع.

 

3. الحلول والمعالجات

معالجات عقائدية

إن إصلاح الاختلالات السابقة يمر عبر إصلاح الجانب التصوري وهو الذي تضطلع به العقيدة، فبناء الاعتقاد السليم من أهم المعالجات التي من خلالها يتم ترسيخ قاعدة صلبة تواجه الاستبداد، وهذا لا يتأتى من خلال العقيدة الكلامية الفلسفية الجدلية، وإنما عبر التركيز على أثر العقيدة في تزكية الفكر والوجدان والسلوك، وعلى أثرها في النفس والفرد والمجتمع وما يثمر ذلك من تعشق للحرية عبر التوحيد الخالص من شوائب الخرافة والدجل، وخلق الحافزية للإنجاز والعمل والمبادرة الخلاقة والإبداع المستمر، وهنا تحضر بقوة مقاصد العقيدة الإسلامية المبسوطة في القرآن والسنة[49].

 

 معالجات مقاصدية

إن صناعة خطاب مقاصدي يمثل إحدى المعالجات المهمة في مقارعة الاستبداد والتوصل إلى رؤية إسلامية معاصرة ومتجانسة تقدم حلولًا واقعية، وتتحرك مع الواقع وتكيفه، وتعمل معه، وتسيره بما يتناسب والوقع المعاصر[50].

والمعالجات المقاصدية تكمن في عدة صور أهمها:

الكليات الخمس وتفعيل كليتي العدل والحرية. فالمهم أن العدل إحدى أدوات حفظ الدين والنفس، وبلا عدل سيذهب بالدين إلى غير مراد الشارع، وبلا عدل ستزهق النفوس وتذهب كرامتها وعزتها التي أرادها الشرع أن تكون حاضرة في النفس المؤمنة. بل أي نسب يحفظ وأي عرض يصان بغير عدل؟ وأي عقل ينمو ويتحرك من غير حرية؟[51]. وأما مقصد الحرية فهو ينحدر من أصل التكليف المتجه إلى الحر، والحرية شرط في التكليف[52].

تفعيل الفقه المآلي الذي يقضي بالنظر في العواقب والمآلات المتحصلة عند تطبيق الأحكام الفقهية، وتفعليه ينشئ فقهًا متزنًا يراعي الواقع ومستقبله، ويبني رؤية استراتيجية للخطاب الفقهي[53].

إن غياب الفقه المآلي يعد من أهم الأسباب التي أدت إلى تمدد الاستبداد ونموه، لأن التقدير المصلحي الآني غالبًا ما يبرر فعل الاستبداد آنيًا، حفاظًا على الأرواح أو الأموال وغيرها من الضروريات، ومن شأن هذا التقدير الآني من غير ملاحظة مآل هذا الخطاب أن يحول الاستبداد إلى آلية يجب المصير إليها[54].

إن فقه المآلات يعين على قراءة الواقع وتحدياته ومعطياته ومستقبله، وبعد ذلك يتم بناء الأحكام الصحيحة والتصورات السليمة، المتتبعة للنتائج المستقبلية[55].

تأكيد الكليات الأساسية عند قراءة الجزئيات. فمن المعالجات المقاصدية تأكيد المسلمات الكلية الشرعية وقراءة النصوص الجزئية في ضوئها[56]. ومن دون شك أن النظر الكلي يقطع الطريق على التأويل الاستبدادي الذي يعبث بالنصوص.

النصوص جملة واحدة. ظل الخطاب الفقهي يركز على الجوانب منفردة من غير اعتبار للتداخل، فقد تم التركيز مثلًا على باب الأحكام وحصر الآيات بعدد محدود، وأصبحت هذه الآيات هي وحدها التي تشكل منظومة الحلال والحرام أو الأحكام الشرعية، من غير اعتبار للعقيدة بكونها الأصل المحرك لهذه الأحكام باتجاهها الصحيح، وكذلك ما تنتجه من سلوك تطبيقي يعبر عن تأثير تلك العقيدة الباعث على العمل بمقتضى الحكم، فتحول ذلك إلى منهج حياة وسلوك منتظم.

وهذا الانفصال يخدم الاستبداد؛ لأنه سيسهل تكييف الأحكام الشرعية لأفعاله وممارساته وفق منظومة الأحكام التي غالبًا ما يمكن الحصول على دليل لها من تلك المنظومة للتأييد. مع عدم ملاحظة هل سيؤدي ذلك إلى خلل عقدي أو أخلاقي، لأنه خارج الإطار[57].

استثمار فقه الصحابة المقاصدي، والمقصود طرق الاستنباط والمناهج الأصولية عند الصحابة وليس المسائل الجزئية والفرعية؛ لأن فقه الصحابة لم يتأثر بالاستبداد قطعًا كالفقه الذي بعده. أي استلهام منهجية الصحابة في استثمار النصوص الشرعية لا استنساخ الأحكام المستنبطة بشكل حرفي.

 

معالجات أصولية

إن الإشكالية الأكبر تكمن في تغييب الأدلة الأصولية وقواعدها الكلية عند الاستدلال في الواقعات والنوازل، فتفعيل المنظومة الأصولية كاملة أحد الطرق المهمة في معالجة الاستبداد، وكذلك معالجة الانتقائية في الاستدلال الفقهي[58]. ويتم ذلك من خلال:

نقد المنظومة الأصولية التي يستند إليها الخطاب الفقهي: فمن المشكلات اعتماد الصياغة الأصولية على التحليل الجزئي، فهي وإن ركبت من مسائل وقواعد كلية لكنها عند التعامل مع الفروع تتعامل بالنظر الجزئي، وتسير هذه القواعد بالنحو الجزئي المجرد. ولهذا نجد الصياغة الفقهية المدونة تخلو من التركيز على الجانب القيمي المنتج من خلال الفقه، بينما نجد النصوص القرآنية والنبوية تربط دائمًا الفقه بالأخلاق والعقيدة وتجسيد القيم، وخلو الفقه من هذا الجانب جعله قوالب جامدة، وأداة للفتوى فحسب، من غير النظر في أبعادها السلوكية والعقدية والقيمية التي كونتها النصوص الكلية[59].

دليل القرآن: عبر تجلية منهج القرآن في تجلية الأحكام والتعرف على مقاصد التشريع من خلال الآيات البينات. ولا بدَّ أيضًا من قراءة الآيات قراءة متكاملة وبشكل كلي وجزئي، وتفعيل النظر الاستقرائي في تتبع الجزئيات، وتشكيل الكليات من خلال ذلك[60].

دليل السنة: المعالجة من خلال أصل السنة هي بيان أن ليس كل ما ورد في السنة هو من قبيل السنة التشريعية، وليس كل ما ورد في كتب الحديث يعمل به، بل لا بدَّ من خضوعه للقواعد الأصولية والنصوص التأسيسية. والاستدلال لكل فعل من الأفعال من خلال استدعاء حديث أو واقعة من الوقائع من كتب الحديث، من غير اعتبار لمسائل الفقه وأصوله، ومراعاة الواقع وحيثياته، وعدم اعتماد آليات الأخذ والاستدلال والتنزيل أحدث شرخًا كبيرًا بين التوجيهات النبوية من جهة والقرآنية من جهة أخرى[61].

الإجماع الأصولي: إن تشغيل أصل الإجماع وتفعيله مهم وتحريك للأصول، وللمحافظة على سلامة الخطاب الفقهي من خلال النظر الجمعي الذي يكون أقرب إلى المنطق والصواب. وبالإضافة إلى تفعيل وتشغيل أصل الإجماع هناك اعتبار آخر هو تحقيق معنى الإجماع في كتب الفقه، وإعادة النظر في المسائل التي قيل إنها مجمع عليها. والوقوف على حقيقة المسائل يساهم في تقليل دعاوى الإجماع التي قيلت باعتبار إجماع المذهب، أو الإجماع المناطقي، أو الإجماع السياسي[62].

معالجة الانتقائية وتجزئة النصوص: إن معالجة الانتقائية في الاستدلال معتمدة على الأدوات الأصولية تجعلنا نعيد النظر في صيغة المنظومة الأصولية، معتمدة على النظر المقاصدي والفقه المآلي الذي يعد أحد أركان العملية الاجتهادية المقاصدية. ولهذا فإن الخطاب الفقهي في عصور الاستبداد لا يعدم الدليل، ولا يعدم القاعدة الأصولية التي يستند إليها. والإشكالية الكبرى التي يصار إليها ليست هي صحة الدليل أو القاعدة الأصولية التي يستند إليها، لكن الإشكالية ما مدى انسجام وانضمام ذلك مع النظر الكلي المقاصدي للشريعة، ولهذا نحا الأئمة إلى مسلك الاستحسان والمصلحة عندما رأوا الإكثار من القياس قد يذهب بالشريعة غير وجهتها ومقاصدها[63].

 

معالجات فكرية

لا يخفى أن العقل الفقهي المعاصر مسكون بجملة من الأفكار والتصورات والمفاهيم التي تحتاج إلى إعادة ترميمها وترتيبها، وبنائها بناء صحيحًا، من ذلك:

البحث عن القائل لا القول، بحيث ينظر في الدليل ونتائج إعماله بتجرد عن المنسوبين إليه، للتخلص من داء الشخصنة.

 تحرير المفاهيم: فلا زلنا مقيدين بجملة من المفاهيم التي لم يعد لها حضور في الواقع. والمشكلة أننا نعيد تلك المفاهيم ونلبسها المفاهيم الجديدة، مما يحدث خللًا كبيرًا في التصور والتصديق، فاجترار المفاهيم القديمة مشكلة كبيرة في ساحتنا الفكرية[64].

الوعي بخطورة الاستبداد وامتلاك رؤية مستقبلية لقراءة المآلات.

التحيز الفكري: لا بدَّ أن يعلم أن في عالم الأفكار ميولات نفسية واجتماعية تكوينية تصنع تلك الأفكار وتمجدها قبل أن تحتكم إلى العقل. ويخضع تفسير النصوص وتأويلها واختيار الآراء وترجيحها في بعض الأحيان للتوجهات الفكرية المسبقة في الذهن، أو ضغط الرؤية السياسية أو الهوى[65].

استقلال العالم عن المنصب الحكومي، بما يضمن له الاستقلال في مواقفه واختياراته العلمية.

تمكين العلماء وإعطاؤهم دورهم.

تفعيل القيم وتحريكها.

ويختم المؤلف فصل المعالجات بتأكيد جملة من الأمور:

القضاء على التعصب وفسح مجالات التنوع والاختلاف، والتقليل من المساحات المغلقة تنظيرًا وتفعيلًا، والإفادة من البناء الأصولي والتوجه المقاصدي.

المنهج الظاهري خادم للاستبداد، ولا بدّ من سلوك المنهج المقاصدي.

مناهج التيارات الإسلامية المعاصرة، ومسالك التربية والرؤية التنظيمية، والبيعة وشروط الطاعة، والتسميات وغيرها من مبادئ الانغلاق الفكري، تحتاج إلى مراجعات عملية، وفلسفة فكرية، وقواعد علمية على ضوء القرآن والسنة.

تفعيل مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحسب الاستطاعة وعلى ضوء المنطلقات القرآنية.

تقييم عام للكتاب

يعد الكتاب إضافة نوعية إلى المكتبة المعاصرة لما تضمن من تساؤلات عميقة ومقترحات استشرافية واعدة، وتكمن أهميته رغم عمقه أنه في متناول فئات عريضة، سواء المتخصص في الدراسات الفقهية أو المهتم بالشأن الثقافي بشكل عام.

ولا بدَّ من التنبيه إلى أن دفاع المؤلف عن أطروحته جعله يغض الطرف عن مواقف مناهضة للاستبداد ومقاومة للظلم، وإن كان يشير إلى ذلك أحيانًا، لكنه يظل خافتًا في الدراسة.

كذلك لم يشر إلى بعض الدراسات المهمة مثل ما ذكر الدكتور محمد عابد الجابري في العقل الأخلاقي العربي والعقل السياسي العربي، لما أرجع أخلاق الطاعة التي مكنت لاستبداد إلى الموروث الفارسي، الذي تخلل الثقافة العربية وهيمن عليها. كذلك هناك أطروحة أخرى لعبد المجيد الصغير في كتابه الفكر الأصولي وإشكالية السلطة العلمية في الإسلام، لما عزا نشأة أصول الفقه إلى أسباب سياسية، وهي سعي علماء أصول الفقه إلى تقييد السلطة السياسية ومنعها من التلاعب بالنصوص الشرعية.

كما أنه أشار إلى مجموعة من الإشكالات التي تصلح أن تكون أطروحات يشتغل عليها المختصون في الدراسات الفقهية من أجل تجاوز حالة التكرار والاجترار في طرق القضايا المطروقة.

وتبقى المعالجات المقترحة أماني ما لم تتبناها المؤسسات؛ لأن جزءًا كبيرًا منها موجود لدى الأفراد، لكن عدم وجود السبيل إلى التفعيل من خلال تبنيها ممن يملك القرار يجعل الأمل معطلًا والمعالجة متوقفة، وهو ما لم يجد له المؤلف جوابًا.

كذلك يمكن تسجيل ملحوظة تتعلق بترتيب المعالجات المقترحة والتي لم يبين المؤلف وجه التكامل بينها وأيها أولى بالبدء والإنجاز، لاسيما إذا استحضرنا صعوبة تنزيلها جملة واحدة.

على سبيل الختم

نخلص إلى أن الكتاب فريد في بابه وعميق في طرحه، لما تضمنه من محاولة جادة في النقد المسؤول والاستشكال الباني والهادف. ووجه التميز فيه أن صاحبه يصدر من داخل البنية باعتبار تخصصه، فهو خبير بما يقول وليس مثل الدراسات التي يحصل النقد فيها من خارج الدائرة مما يوقع في التجني والتسرع في إصدار الأحكام، لذلك جاءت مواقفه هادئة بعيدة عن الانجراف مع العاطفة والميولات الشخصية، وهو منزع يستوعب المخالف ويدفعه دفعًا إلى تأمل النقد المطروح وعدم الضرب عنه صفحًا لعوائق نفسية.

 

 


[1]  دكتوراه في الأصول والدراسات القرآنية المعاصرة.


[1] أحمد مرعي المعماري، الخطاب الفقهي والتحيزات السياسية (تحولاته - مآلاته - معالجاته)، ص 17.

[2]  ص 17.

[3]  ص 18.

[4]  ص 20.

[5] جاءت فصول الكتابة متفاوتة في حجمها وهو ما راعته المراجعة.

[6]  ص 53 وما بعدها.

[7]  ص 61.

[8]  ص 63.

[9]  ص 69.

[10]  ص 69.

[11]  ص 71.

[12]  ص 77.

[13]  ص 85.

[14]  ص 94.

[15]  ص 96.

[16]  ص 98.

[17]  ص 99.

[18]  ص 100. 101.

[19]  ص 102.

[20]  ص 105.

[21]  ص 105.

[22]  ص 107,

[23]  ص 111.

[24]  ص 114.

[25]  ص 115.

[26]  ص 129.

[27]  ص 129.

[28]  ص 132.

[29]  ص 133.

[30]  ص 138.

[31]  ص 145.

[32]  ص 147.

[33]  ص 147.

[34]  ص 150.

[35]  ص 53.

[36]  ص 157.

[37]  ص 161.

[38]  ص 168.

[39]  ص 169.

[40]  ص 184.

[41]  ص 187.

[42]  ص 187.

[43]  ص .188

[44]  ص 189.

[45]  ص 191.

[46]  ص 192.

[47]  ص 193.

[48]  ص 197/ 198.

[49]  ص 203.

[50]  ص 209.

[51]  ص 214.

[52]  ص 215.

[53]  ص 216.

[54]  ص 219.

[55]  ص 219.

[56]  ص 222.

[57]  ص 225.

[58]  ص 227.

[59]  ص 229.

[60]  ص 232.

[61]  ص 233.

[62]  ص 236.

[63]  ص 236.

[64]  ص 245.

[65]  ص 247.

شارك :

التعليقات (0)

أضف تعليق