فهم الإسلام السياسي

طباعة 2021-10-19
فهم الإسلام السياسي

المؤلف: فرنسوا بورغا

ترجمة: جلال بدلة

الناشر: دارالساقي

سنة النشر: 2018

عدد الصفحات:  254

مراجعة: سلمان بونعمان

 

يحكي هذا الكتاب مسار شخص استثنائي وتجربة بحثية غنية عاشها المفكر الفرنسي وعالم السياسة فرنسوا بورغا، خلال رحلاته الميدانية ودراساته المتعددة للظواهر الدينية والسياسية في العالم العربي والمغاربي. وهو عمل يسعى لإحياء ذاكرته العلمية وسرد سيرته الذاتية وأهم انعطافاته الفكرية، إذ يختلط في هذا العمل البوح الذاتي بالتنقيب الموضوعي، ويتقاطع فيها الهم الفكري برصد الصراعات السياسية والأيديولوجية داخل العالم العربي والمغاربي، مع تحليل التوتر الذي يطبع العلاقة بين عالم الإسلام والغرب.

 يكشف المؤلف لحظات لقائه الأولى بالمشرق ورحلاته إلى الشام ثم بعثته الدراسية إلى الجزائر، وإرهاصات التفكير والبحث في موضوع الحركات الإسلامية، وكذلك تجاربه البحثية والمؤسساتية ضمن برامج البحث في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. ويتوقف عند علاقاته بالساسة العرب ولقاءاته بالنخب السياسية الأوروبية وصناع القرار. كما يتناول الجدال الذي يعرفه الحقل الأكاديمي والإعلامي الفرنسي مع باقي المتخصصين في دراسات الإسلام والتطرف وخبراء الحركات الإسلامية.

يستعرض الكتاب فكرتين مركزيتين دارت حولهما أطروحات المفكر الفرنسي، الأولى محاولته فهم أسباب عودة الخطاب الإسلامي بقوة في الفضاء الاجتماعي والسياسي للمجتمعات العربية منذ الستينيات، إذ تكمن قوته -حسب رأيه- في ارتباطه بالإرث الثقافي وتعبيره عن الأصالة الدينية، ومن ثم لا بدّ أن ينصب التفكير في الخطاب الإسلامي بوصفه امتدادًا لدينامية التحرر والاستقلال عن الاحتلال، بدل النظر إليه بوصفه قطيعة مع مسار التحرر من الهيمنة الأجنبية[1].

أما الفكرة الثانية التي يطرحها الكاتب، فتتعلق بحالة القصور التي تعتري المناهج الفكرية والمقاربات البحثية، التي سعت لاختصار ظاهرة بروز التيارات الإسلامية في المرجعية الدينية وحدها، دون ربطها بالأوضاع السياسية والاجتماعية والعلاقات المتوترة مع الغرب واستراتيجياته في الهيمنة ورؤيته لهذه الظاهرة، في ظل إمبريالية ممتدة واستعمار متجدد الأشكال والرموز.

 

مراحل تطور التيار الإسلامي

يحدد فرنسوا ثلاث مراحل زمنية رئيسة للتأريخ لظاهرة "الإسلام السياسي" المعاصر التي باتت تشكل جزءًا لا ينفصل عن تكوينه الداخلي. تميزت المرحلة الأولى بالتصدي لمواجهة التدخل الاستعماري وتعبئة الموارد الثقافية المحلية وإحياء الأبعاد الدينية لمقاومة الاستعمار، والتحذير من مخاطره وآثاره السياسية والثقافية والقيمية. بدأ ذلك مع تيار جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا، ليطرح بعدها "السؤال المصيري الذي صاغه الإخوان المسلمون بدءًا من عام 1928 في الحقل السياسي (ما السبيل إلى تعبئة مواردنا الإيديولوجية الذاتية لتنظيم المقاومة في وجه تنامي الهيمنة الغربية؟)"[2]، خاصة مع ما خلفته آثار انهيار الخلافة.

أما المرحلة الثانية فسينتقل فيها الصراع بعد إعلان استقلال البلدان العربية من أطروحة مقاومة السلطات الاستعمارية المباشرة إلى مواجهة وكلائه من النخب المحلية التي حلّت محلّها[3]، إذ حصل إجماع عند "الإسلاميين الجدد" رغم تنوع خطاباتهم على مطالبة نخب ما بعد الاستعمار باستكمال سيرورة التمايز عن المستعمِر في الميادين الأيديولوجية والرمزية، التي بدأت إرهاصاتها الأولى مع الاستقلال والتأميم؛ الأمر الذي أدى إلى بروز تصدعات بين التيار القومي والإسلامي. كما حدث هذا الانقسام حتى في المنطقة المغاربية بين التيار العلماني والإسلامي، بل حدث الخلاف حتى داخل التيار الوطني نفسه وأنظمة ما بعد الاستعمار، وسيبرز هذا التوتر مع إصرار نخب الدولة وشبكاتها على الاستخدام الرسمي والعلني للغة الفرنسية، وستُتهم النخب العلمانية بسبب تأكيدها فرنكوفونية الدولة بأنها تمثل "حزب فرنسا" ومصالحها[4]، وتسهم في تثبيت التبعية الاقتصادية والثقافية واللغوية. هكذا ستشهد هذه المرحلة صراعًا حادًّا حول هوية الدولة وطبيعة العلاقة بين سلطاتها، وسيطرح سؤال مرجعية الدولة وكذا محددات إنتاج القيم في المجتمع.

فيما يرى بورغا أن المرحلة الزمنية الثالثة للتعبئة الإسلامية بدأت مع تنامي السياسة التدخلية وأحادية الطرف للولايات المتحدة الأميركية، التي برزت بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وإعلان النظام الدولي الجديد. وقد عرفت هذه المرحلة قرار المشاركة الانتخابية والبرلمانية لبعض التنظيمات الإسلامية الإصلاحية (الأردن واليمن والكويت والمغرب والجزائر). كما وُسِمت هذه المرحلة الزمنية بإجماع ثوري عابر للقوميات لدى المجموعات الراديكالية التي ستشكل من أفغانستان الإرهاصات الأولى للظهور اللاحق لتنظيم القاعدة وداعش، مع تفاقم الأزمة العراقية وتعقد الأزمة السورية[5].

يعطي الكاتب مثالًا من تجربة "الإسلاميين" في تونس الذين استخدموا خطابهم الإسلامي بطريقة غير إقصائية، حيث لم يترددوا في تبني دستور ما بعد الثورة التونسية الذي اعتبره أول دستور ديمقراطي في العالم العربي. كما قاموا بفصل المجال الدعوي-الديني عن السياسي-الحزبي. خلافًا لذلك، جنّد أبو بكر البغدادي المصطلح عينه في الطرف الآخر من الطيف الإسلامي ومن على عرش "خلافته" ليستخدمه بطريقة راديكالية جدًّا وطائفية صريحة، متبنيًا قطيعة علنية مع مقولات الموروث السياسي الغربي[6]، ليخلص الكاتب إلى تنوع الظاهرة الإسلامية السياسية وتعدد أشكال تكيف المرجعية الإسلامية مع الواقع الاجتماعي والسياسي.

ثمن الإنصاف

رغم كل محاولات التضليل وحملات التزييف الإعلامي التي تعرض لها فرنسوا وأشكال الحصار الناعم والخفي، ظل عاشقًا للحقيقة مُجسدةً في الصرامة المنهجية والإنصاف الأخلاقي والنزاهة الفكرية والموضوعية الملتزمة.

وبنوع من الوضوح مع الذات والصدق مع القارئ في هذا العمل، يبوح بالكلفة الباهظة، فكريًّا وسياسيًّا، التي دفعها منذ اللحظة الأولى التي قرر فيها معاكسة التيار الأكاديمي السائد والرؤية الفرنسية الرسمية، التي تقوم على فكرة تجريم التيار الإسلامي وشيطنته، فضلًا عن التحالف الذي تأسس بين الكيان الصهيوني وأنظمة الاستبداد العربي[7] من أجل مواجهة المعارضة الإسلامية الصاعدة منذ أواخر الثمانينيات، سواء بالاحتواء والاستئصال أو بالتشويه الإعلامي والتخويف السياسي من نواياه ومواقفه. وستشكل اعتداءات الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر 2001، لحظة مهمة لتسريع هذا المسار والسعي لإجهاض التيار الإسلامي فكرة وحركة وهوية، وربط الإسلام بالإرهاب. يعبر بورغا عن ذلك بكل صراحة قائلًا: "باتت الرغبة في الدفاع عن الإسلام ضد الاتهامات الموّجهة إلى مليار ونصف مسلم تكلف ثمنًا باهظًا، إذ يغدو صاحبها عرضة (...) للاتهام بـ"يسارية محابية للإسلام"، و"الولاءات الإسلامية"، أي باختصار: بالخيانة. من جهتي، أنا مستعد لدفع هذا الثمن، فما أدركه أن المسألة لا تختزل في "الدفاع عن الإسلام"، وإنما تقوم على تبيان كيف ولماذا يمكن للغته المساعدة في التعبير عن احتجاجات معاصرة ذات طابع سياسي أكثر منه ديني، كنتيجة لسيرورة تاريخية يمكن تفكيكها كليًّا"[8].

 

صراع المقاربات البحثية

ينبه المؤلف إلى مستوى الخلط التي تتعرض له كتاباته ومقارباته المنهجية من غياب التمييز بين التفسير والتبرير. وهكذا اتهم بورغا في تفكيكه العلاقات السببية وآليات اشتغال الراديكالية العنفية بأنه يبرر أفعالها وتبني وجهة نظرها، ليصبح في نظر هذا الخطاب الإعلامي والبحثي المتحامل بوقًا، نعابًا، نصيرًا، الأهبل المفيد للإسلاميين، أو حتى كما رشيد بوجدرة، صاحب كتاب الحقد في الجبهة الإسلامية للإنقاذ (1992)، "صديق الذباحين"[9].

يكشف بورغا المسكوت عنه في طرق اشتغال مراكز الأبحاث والدراسات الفرنسية والدولية المتخصصة في التيارات الإسلامية، وكذا برامج البحث في قضايا الدين والسياسة بالعالم العربي والشرق الأوسط، حتى بعض الجامعات المهتمة بالظاهرة، فيشير إلى أن هناك وصفة جاهزة تطبق بصفتها قاعدة غير معلنة، "مفادها أن من يريد الحديث عن الإسلاميين عليه أن يقتصر على دعوة خصومهم الأكثر استبسالًا (من السلطة واليسار)، أي كل من هو متأكد أنه سيتفق معه في الرأي -"علميًّا" طبعًا- في جوّ من التبسيط الانفعالي والتأييد المباشر لموضوع اللقاء"[10].

ينتقد فرنسوا التأويلات الغارقة في النظرية والمصنوعة "من على بعد" وخارج كل اتصال مباشر مع موضوع البحث أو الظاهرة المدروسة، خاصة في مجال العلوم السياسية، ويرى أن القرب من ميدان البحث شرط لا مناص منه لعلميته[11].

يعترض بورغا على مقاربة جيل كيبيل للظاهرة الإسلامية ويعلن اختلافه معها من زاوية منهجية؛ إذ يعتبر المدخل السليم لفهم الظاهرة وتحليل أسبابها هو خيار المقابلة مع الفاعلين والملاحظة الميدانية لحركيتهم الاجتماعية والدينية والسياسية، وليس مقاربة الاكتفاء بقراءة برامج الإسلاميين أو تحليل إنتاجهم الفكري أو التركيز العلمي على وثائقهم السياسية ونصوصهم الأيديولوجية، مثل الانشغال بنصوص سيد قطب وتأثيرها في حدث اغتيال أنور السادات، وكتابات أبي مصعب السوري وغيرها من النصوص، دون استدعاء السياق السياسي والاجتماعي وباقي الفاعلين المتصارعين في النسق السياسي، وكذلك المعرفة المباشرة بمنتجي الخطاب الإسلامي وتنوعهم، وهذا جوهر الخلاف مع كيبيل وبشكل أقل مع أوليفيه روا.

تنطلق المقاربة المنهجية عند بورغا من تأكيد أهمية المعرفة الميدانية بالعالم العربي وخصوصياته، واللقاء المباشر مع الفاعلين المعنيين بالدراسة، حتى يقع اتصال مباشرة بين المحلل وحقله السوسيولوجي. كما يضيف أهمية الوعي بطبيعة المحيط المحلي والبيئة الإقليمية والدولية التي يتحركون فيها وفهم رؤيتهم للمجتمع وللعالم، فالحركات الإسلامية لا يمكن فهمها انطلاقًا من نصوصها المرجعية فحسب، بل لا بدَّ من رصد أشكال تكيفها مع مستجدات واقعها السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وطبيعة تأويل النخب الإسلامية الحركية للمرجعية الدينية وتتبع قراءاتهم لتحولات النظام المحلي والدولي[12].

يستمر بورغا في انتقاد مأزق "التعميم"، هذه المرة عند أوليفيه روا في محاولته إسقاط تجارب إسلامية على الفضاء العربي والمغاربي بينها تمايز حضاري وجغرافي ولغوي، إذ طغى على روا في مساره انشغاله بالفضاءات الأفغانية والفارسية، وهما ميدانان يعتقد بورغا أنهما لم يتعرضا تاريخيًّا لأشكال من المواجهة الاستعمارية المباشرة، ومن ثقافة الكراهية التي أنتجتها في الشرق الأوسط والمنطقة المغاربية[13]، إذ يرى غياب هذا المحدد أو ضعف حضوره عاملًا في تفسير التمايز الحاصل بين الديناميات الإسلامية.

وإن كان يقر بورغا باتفاق جزئي مع بعض الأفكار المضيئة التي طرحها روا في بدايات أعماله، خاصة اعترافه بالمدى "القومي" و"المناهض للإمبريالية" المستبطن في الظاهرة الإسلامية، وأهمية مقاربته الأولية للتجلي الأفغاني للظاهرة، أي الإسلام السياسي بكونه "سيرورة تملك ثقافي للحداثة"، فإنه يرى تبدلًا في مواقف روا وتغيرًا في تحليلاته لاحقًا، مما سينتج عنه تباعد بينه وبين أطروحات بورغا، خاصة في أطروحته "إخفاق الإسلام السياسي"، وقراءة فصول الربيع العربي وأحداثه، وكذلك نموذج تحليل الظاهرة الجهادية[14].

لكن بورغا يؤكد من ناحية أخرى أن المنهجية المتوازنة تقتضي عدم الاكتفاء بمراقبة السلوكات السلبية للفاعلين الإسلاميين وحدهم، وإنما الانشغال أيضًا برصد السلوكات الصادرة عن الأطراف المقابلة أيضًا -المحلية والإقليمية أو الدولية- التي لا تتخذ من الإسلام مرجعية سياسية، وبشكل أوسع أيضًا، الأطراف غير المسلمة[15]، مما يسمح بفهم الصورة بشكل شامل ومنصف وجدلي.

لقد أتاح كل ذلك لبورغا قدرة تفسيرية أكثر لأنماط التفاعل القائم بين مختلف مكونات المجتمعات العربية، ودراسة تأثير الدين في بنائها الاجتماعي والسياسي والثقافي، فضلًا عن تفكيك آثار الفعل الاستعماري في توتر العلاقة بين عالم المسلمين وعالم الحداثة الغربي.

 

بورغا: مُفسرًا ومُتمردًا

لقد اختار بورغا التمرد على القوالب الاستشراقية المتحيزة والأحكام الجاهزة، وأسس خطابًا فكريًّا نقديًّا وحقلًا لعلم سياسة يهتم بالظاهرة الدينية-السياسية بنفس سوسيولوجي يسعى للفهم المركب والتحليل العميق لا التبرير المختل أو الاختزال المنحرف. يقوم هذا التصور على الركائز الآتية:

نقد النزعة الإمبريالية وإرث الهيمنة الاستعمارية القديمة والجديدة.

نقد المركزية الغربية-الفرنسية المتمركزة حول ذاتها وتفكيك أزمة نظرتها إلى الآخر والسعي لتنميطه.

نقد النزعة العنصرية الاستعلائية في التفكير الأوروبي والغربي.

نقد المقاربة الجوهرانية الثقافية التي تعتبر العنف أصلًا ثقافيًّا ودينيًّا في الإسلام ونصوصه.

نقد العلمانية الفرنسية "المنحرفة" و"المُحرفة" التي حادت عن مبادئها وتنكرت لقيمها وصارت متحيزة ضد الإسلام والمسلمين، تدخلًا وتضييقًا وتقييدًا وتطويعًا وتنميطًا.

إن هذه النزعات الإيديولوجية التي انتقدها فرنسوا تريد أن تكون صوتًا واحدًا مهيمنًا في الحقل الأكاديمي والسياسي والإعلامي، لكن فرانسوا ينطلق من نقدها وتفكيكها لتأسيس مقاربته البديلة القائمة على أهمية الوعي "بالسياق التاريخي والاجتماعي والسياسي" في فهم تحولات المجتمعات المسلمة وبروز التيارات الدينية الإصلاحية الحديثة، ومن أجل بناء تفسير للأسباب العميقة للتطرف الديني، مؤكدًا ضرورة الربط الجدلي بين سلوك التطرف العنفي الممارس في الحالة الفرنسية مع ما خلفه الإرث الاستعماري، من جراح في مُستعمراتِه خلفت آلامًا غائرة في جسم مجتمعات ونظم ما بعد الاستعمار.

لقد سعى بورغا في رحلاته إلى أقطار البلدان العربية والإسلامية وبحوثه الميدانية، ومقابلاته المباشرة مع الرموز الفكرية والسياسية للإسلاميين والقوميين الذين انتموا إلى الحالة الإسلامية العامة (راشد الغنوشي، حسن الترابي، محمد قحطان اليمني، عادل حسين، طارق البشري)، إلى الاستكشاف الداخلي العميق لنظرة الإسلاميين إلى قضايا الدولة والمجتمع والدين، ساعيًا إلى فهم الخصائص الاجتماعية وكذلك نوعية التشكيلات القبلية والعشائرية المميزة لكل مجتمع ومستويات العنف داخلها وفي محيطها، فضلًا عن طبيعة النظام السياسي السائد ونمط التحديث القائم، وأشكال التحالفات القائمة بين النخب السياسية والدينية داخليًّا وحتى ارتباطاتها الإقليمية والخارجية.

يستحضر فرانسوا تأثير السياقات الاجتماعية والسياسية في التفكير الحركي والمواقف الفكرية والسياسية للتيارات الإسلامية، مجتهدًا في تفسير سبب تنوع تنظيماتها ومؤسساتها رغم انتمائها الفكري العام لمدرسة الإخوان المسلمين التي تتميز بالوسطية والسلمية. كما ينبه إلى أشكال التوتر الفكري والديني الذي حصل لتيار الإخوان المسلمين مع باقي التيارات السلفية والجهادية وحتى الصوفية، متوقفًا عند أسباب التمايز والاختلاف بينهم على المستوى الفكري والدعوي والسياسي، والتي يرجعها إلى الأصول المعرفية والتأويلات الدينية وطبيعة الرؤية الإصلاحية، وخصوصية التجارب المتعددة التي اصطدم بعضها بوحشية الاستبداد المحلي، وتدخل الاستبداد العالمي لضبط المشهد السياسي الداخلي، ومنع حدوث أي طفرة فجائية تمنح التيار الإسلامي الإصلاحي قوة سياسية.

لذلك يفكر بورغا في الإسلام السياسي -والتيارات الإسلامية- بوصفها تعبيرًا عن صوت الجنوب المقموع والمحاصر والمقهور منذ بداية غزو الموجة الإمبريالية للعالم العربي، فهو ليس كتلة أحادية صلبة وجامدة بل حالة إسلامية وحركات اجتماعية هوياتية متنوعة المشارب والتوجهات والتأويلات، ولذلك لا يمكن أن تكون هذه الحركات الإسلامية مرحلة عابرة ومؤقتة في تاريخ العالم الإسلامي ستمر وسيأتي ما بعدها.

 إنه يراها صوتًا احتجاجيًّا/ انتفاضيًّا يدافع عن هوية المجتمع المسلم ورؤيته للعالم أمام هيمنة مُستَعمِر قديم جديد يسعى لتأبيد السيطرة والهيمنة وسلخ الهوية وتحقير الجنوب واستنزاف الثروات.

 

على سبيل الختم

إن فرنسوا فكرة حية تتجاوز الشخص/ الذات إلى إرادة البحث عن "النموذج التفسيري" المركب، وروح إنسانية صادقة وتجربة بحثية تستحق الكثير من الدراسة والاهتمام في عالمنا العربي والمغاربي، فهو يمثل محاولة فرنسية نادرة وجادة لفهم الآخر والانفتاح على الشرق والانشغال عن قرب بهمومه الاجتماعية والسياسية والدينية، إذ مكّنه مُكوثه الطويل في بلدان العالم العربي بدءًا من الجزائر ثم مصر مرورًا باليمن وسوريا ولبنان، من معرفة دقيقة بالمنطقة العربية وثقافتها، فضلًا عن حرصه على إجراء مقابلاته المباشرة مع رموز سياسية وإسلامية في كل من تونس والسودان وليبيا وباقي الدول التي اشتغل فيها.

يشكل فرنسوا بورغا حالة فريدة في التفكير الفرنسي المعاصر والغربي عمومًا، على مستوى تعاطيه مع قضايا العالم العربي، وعلى الأخص جهوده البحثية في فهم تنوع الظاهرة الإسلامية الحديثة وتعقدها وتركيبيتها، وسعيه الدؤوب لتفسير أسباب نشأتها وسلوكها السياسي وحركتها الدينية وديناميتها الاجتماعية والاحتجاجية في ضوء طبيعة العلاقة التاريخية مع الغرب وسياساته في العالم العربي.

في الختام، يطلق فرانسوا دعوته للأوروبيين والعقل الفرنسي إلى بذل جهود أكبر للاعتراف بثقافة الآخر وقيمه ومرجعتيه، وإدراك تميزه وتمايزه من منظور المواطنة الحقة لا المزيفة، والتخلي عن فكرة تغيير الآخر، وهو يراها دعوة إلى مزيد من الانسجام الأوروبي مع ذاته الحداثية، والوفاء لما تدعيه من دفاع منظومة القيم الكونية التي تؤمن بها نخب العلمنة وحقوق الإنسان.

 

[1]  فرنسوا بورغا، فهم الإسلامي السياسي (بيروت: دار الساقي، 2018)، ص14.

[2]  ص15.

[3]  ص15.

[4]  ص16.

[5]  ص16.

[6]  ص17.

[7]  انظر، ص20-21-22-23.

[8]  ص23.

[9]  ص214.

[10]  ص184-185.

[11]  ص183.

[12]  ص242.

[13]  ص243-244.

[14]  ص244.

[15]  ص18.

شارك :

التعليقات (0)

أضف تعليق