عن سيرة مرمدوك بكتال

طباعة 2017-04-02
عن سيرة مرمدوك بكتال

بعد اعتناقه للإسلام اجتهد لتوسعة معارفه وآفاقه في قضايا دينه الجديد وأمته الجديدة وأخلص لها، مساهماً في معالجة بعض أمراضها متعلما ومعلما وكاتبا ومترجما بقية حياته. إنه أديب وداعية ورحالة جاس البلدان والأفكار. وعاش حياته كما أحب وكما انتمى.

تأليف: بيتر كلارك.

ترجمة: أحمد بن يحيى الغامدي.

الناشر: منتدى العلاقات العربية والدولية.

سنة النشر: 2015 م.

عدد الصفحات: 254.

 

عن سيرة مرمدوك بكثال

قراءة هذه السيرة رحلة ممتعة، كما كانت القصة الواقعية لبطلها مرمدوك بكثال. منحنا هذه المتعة المؤلف السيد بيتر كلارك، وهو مغرم بصاحب السيرة، ويشاركه -رغم فارق الزمان-بعض وجوهها؛ فكلاهما إنكليزي تعلق بالشرق وعاش فيه، وكلاهما منغمس في الأدب وخاصة الرواية والسرد عن هذه الأقاليم. كانت حياة بكثال وثقافته ومغامراته غنية ومغرية، لذا فربما رأى فيها المؤلف من المتعة والتجربة والاندماج في الشرق ما لم يظفر به. فكانت سيرة بكثال أشبه بسيرة متمناة أو نموذجية ربما يسقطها كاتب السيرة على الشخصية المكتوب عنها؛ فبكثال ولد في بريطانيا عام 1875م وجاء للشرق مبكراً في حياته وهو مراهق، والشرق آنذاك كان مختلفاً وغريباً في عين زائره، قبل أن يغرق هذا الشرق في وعثاء تقليد صورة الغرب، وهذا وصف نستعمله هنا تخفيفاً من عبارة جلال آل أحمد المشهورة "التسمم بالغرب"، وهي عنوان لأحد كتبه، وقد نقل العبارة في هذا السياق بعض من ترجم لبكثال.

 عرف بكثال العالم العربي وتركيا صغيراً، وأجاد عدداً من لغاته وعاشه بتفاصيله المختلفة، وانتمى إلى قضاياه الكبرى، وأصبح جزءاً من الموقف، وكتب روايات تجاوزت أربع عشرة رواية يحكي معظمها مظاهر هذا العالم وأسراره وغموضه، وفنه ومجتمعه ومآسيه ومحاسنه، ويحكي سيرة هؤلاء الإنكليز المجتاحين له في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين الذين انفعلوا وتفاعلوا مع الشرق، فمنهم من كرهه واستعمره ونظر إليه نظرة محتل ومحتقِر لتلك الحضارات الشرقية التي تعالت ثم تهاوت، فكان هذا المراقب المحتل إما شامتاً أو متعاطفاً مع بؤساء من بقايا الحضارات، أو حاملاً لأثقال الانتقام الغربي من الشرق الذي طالما كان سيداً له أو غازياً أو معلّماً في زمن مضى. فبقي مراقباً خارجيّاً أو محتلاً متحكماً جافياً جاهلاً به، أو رحالة فاتح العين مغلق القلب متلصصاً لقومه، ومنهم شخصيات نادرة عرفت الشرق وتعمقت في حياته وثقافته ولغاته وأديانه فأحبته وعاشت قضاياه ونافحت بصدق عنه، ودرسته وشاركت بجد في قضاياه السياسية والفكرية، بل أخلصت في محاولة معالجة بعض أوجاعه كما فعل بكثال.

شخصية هذه السيرة (بكثال) من علية القوم -بحسب الطبقية البريطانية المعروفة- كان صنيعة وعيه النافذ ومواهبه المتعددة وقلبه وعقله الطُلعة المستقل، ومزاجه ومغامراته وقناعاته المتمردة على مواضعات مجتمعه، كان ذكياً لمّاحاً ثاقب النظرة حر التفكير، حيث لا حكومات الشرق ولا الغرب استطاعت أن تمارس عليه قسراً فكريّاً، ولا هو استجاب للأفكار المسبقة. وكانت لديه -إلى جانب مغامراته وذكائه البارع - مهارات رائعة، منها سرعة إجادته للغات الشرقية، والانغماس الجاد في مجتمع الشرق وهمومه، مما آل به إلى أن أعلن في محاضرة عامة في لندن إسلامه، وساق إلى الجمع فكرته ومبررات اعتقاده الجديد.

 وإذا تحرر الإنسان من قلقه على الرزق، ومن خوفه من الموت، ومن خضوعه لعادات قومه، فإنه يفتح الباب لإنسان جديد، يعيش آفاقاً أوسع، وحياة أغنى، إذ لا نكون نسخاً مكررة إلا بمقدار ما نكرر المخاوف والعادات والمعارف نفسها جيلاً إثر جيل، وإنما يصبح الإنسان إنساناً مبدعاً مستقلاً إذا تخلص من هذه المخاوف، وعندها يكون بتحرره ذا قوة وأثر أبقى وأبعد زماناً ومكاناً ممن يدور حول ذاته يستعيد ما لا يعيه من ثقافة قومه.

تمتع بكثال بعمق ووعي وانفتاح لقلب حيّ خلا من العقد، فأعطاه هذا الشرق أحسن ما فيه، مما ساعده أن يشارك في إدراك كثير من قضايا عصره، وأن يندمج بنضوج في شؤون العالم الإسلامي وثقافته ويصبح صاحب رؤية إسلامية صادقة وحانية، وواجه بشجاعة توجهات قومه السياسية والثقافية المتحيزة. حاول بكل جهده صرف قومه عن محاربة تركيا، وحثّ وزيّن لقومه طريق التعاون والتفاهم مع العثمانيين لا الحرب، ولكن جشع المستعمر ونيران أحقاد التاريخ كانت غلّابة، وقد كان مرشحاً لنفس المنصب الذي تولاه لورنس، ولكن لم يفز بالمنصب بسبب أن القادة الإنجليز لاحظوا تعاطفه مع الأتراك.

بعد اعتناقه الإسلام اجتهد لتوسعة معارفه وآفاقه في قضايا دينه الجديد وأمته الجديدة وأخلص لها، مساهماً في معالجة بعض أمراضها متعلماً ومعلماً وكاتباً ومترجماً بقية حياته. إنه أديب وداعية ورحالة جاس البلدان والأفكار. وعاش حياته كما أحب وكما انتمى، عاش في الشام، خاصة دمشق وبيروت، والقدس ومصر والهند وتركيا، وترك لنا تراثاً فكريّاً نحتاج إلى اكتشافه، وما هذا الكتاب إلا فاتحة لمعرفة هذه الشخصية الفريدة وجوانب من فكرها.

وقد بلغ في بلده مبلغ كبار الأدباء في شبابه بنتاجه الروائي الكثير والنوعي، وكان أحد كبار الكتاب في مجلة العصر الجديد (The New Age)،وكان يكتب معه فيها أمثال جورج برنارد شو وعزرا باوند وويلز وآخرون من طبقتهم. ونشر عنه بعضهم معجباً بإنتاجه، وكان من زملاء دراسته وينستون تشرشل الذي كان يمتعض بكثال من لسانه المنفلت.

لم تمر روايات بكثال الأولى بسلام، بل انتقِد عليه في إحداها شيء من الخلاعة ولامته والدته وبعض أصدقائه لهذا، وسبق أن تورّط فأرسل نسخة منها لأسقف القدس فكرر عليه اللوم، مما جعله يشتري بقية النسخ التي لم تُبع ويعدمها.

بعد معرفة بكثال بأحوال المسلمين لم يتحمل تلك الأناشيد الحربية المثيرة والمعادية للمسلمين وضاق بها، وخاصة تلك القصيدة أو الأنشودة التي رددها أسقف لندن كليفلاند كوكس يهيج فيها "المسيحيين" على الكفار "المسلمين"، ويستوحي النفخ في الصور وصيحة الحرب ضدهم، والتي معناها قريب من:

يا صُوْرَ الرب!

أسمع صوتك الصداح:

إلى السلاح! إلى السلاح!

يا أيها الصليب إلى الأمام تقدم؛

والكون كل الكون سوف يعلم

بأس يهوه في القتال

حين يسقط العدو- اللعين الهلال

فالله شاء ولا جدال

عاف بكثال دين قومه وتحريض كنائسهم، وهجر الكنيسة في لحظة التحريض، ثم غضب لاحقاً من مصادرة تشرشل غير المشروعة لسفينتين تركيتين في بريطانيا كانتا تبنيان في أحواض صناعة السفن. غادر أمة ظالمة لينصر أمة مظلومة، بقناعة وعزيمة ولم يتردد، وبعد إسلامه تفتقت مواهبه الفكرية والسياسية، وارتبط بمبدأ الأخوة الإسلامية الذي أكثر الكتابة والعمل وفقه بقية حياته. كتب كثيراً وأسس مجلات ومدارس، ومن مجلاته مجلة الثقافة الإسلامية (Islamic Culture)، وقد كانت منبراً لنضاله بجانب غيرها، ولما كبر عهد بالمجلة إلى محمد أسد في حيدر أباد قبل عودته في أواخر عمره لبريطانيا، حيث بدأ سلسلة محاضرات تهتم بالجالية المسلمة -القليلة العدد آنذاك- في بريطانيا.

لم يعلم هذا الشاب القارئ الذي وقع في سحر كتاب ألف ليلة وليلة أن تلك البداية ستجره إلى القرآن ليبلغ الانفعال به تمامه، فيؤمن به، ويعمل وفق ما فهم منه، وينفق زمناً في ترجمته ويقارن وينتقد الترجمات الأخرى، كترجمة يوسف علي التي رآها "ترجمة غير دقيقة"، وكتب مراجعة لها في مجلته الثقافة الإسلامية عدد 1، ص 100-109عام 1927م.

بعد تمكن بكثال الكبير من اللغة العربية والمصادر الإسلامية لاحظ حاجة مسلمي الهند وغيرهم لترجمة القرآن، فترجم القرآن بلغة أدبية عالية، واستدرك على ترجمات من سبقه، وقد أدرك أن ترجمته لن يكون لها قبول كبير ما لم تجد تأييداً من علماء المسلمين، وحينها كان قد ألغي منصب شيخ الإسلام في إسطنبول وكان الأزهر أقرب بديل، فضج بعض علمائه ضد مبدأ الترجمة، ومنهم الشيخ محمد شاكر، الذي كتب في الأهرام معترضا على مبدأ الترجمة، واقترح عليه ترجمة تفسير الطبري بدلا من ذلك. كتب بكثال قصة معركة الترجمة في مجلته وقد جمع عدداً من العلماء وتحدث إليهم بالعربية عن ترجمته ليروا تمكنه ويقنعهم بأن العالم من حولهم أصبح يحاصر لغتهم باللغة الإنجليزية، ومسلمو العالم لم يعد كثير منهم يقرأ إلا بالإنجليزية، وأصر واستعان عليهم برشيد رضا -الذي كان مع الحاضرين- حتى استجاب له شيخ الأزهر المراغي، مشيراً إلى أنه إن كان مقتنعاً بقوة بصوابه فليمض باسم الله، ولا يلتفت إلى أحد. خرجت الترجمة عام 1930م وعقبت جريدة تايمس ليتراري سبلمنت على الترجمة بأنها: "إنجاز أدبي عظيم".

 عاش مرمدوك أكثر حياته الإسلامية في الهند، وكانت له صداقات كثيرة مع علمائها وعامتها ومثقفيها وسياسييها من المسلمين وغيرهم. كما كانت له علاقة بغاندي (رثاه غاندي في رسالة لزوجته). وقد ترك بكثال حيدر أباد عام 1935 وعاد إلى بلاده، وفيها مات في 19 مايو عام 1936. وعند تنظيف مكتبه بعد وفاته وجدت زوجته مراجعته لمسودات: محاضرات مدراسنشرت بعنوان: الجانب الثقافي للإسلام. وكان آخر سطر كتبه قوله تعالى: "بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ" البقرة، 112.

ومن العرفان بالجميل أن الاهتمام ببكثال لم يزل يتجدد، ففي بريطانيا يُحتفل بذكراه وأعماله في مايو 2015 في مدينة براد فورد، وتعاد طباعة بعض رواياته بهذه المناسبة، وكذا مؤلف هذا الكتاب السيد بيتر كلارك عزم على الرحيل إلى حيدر أباد ليقابل بعض أسر وأبناء أصدقاء بكثال هناك، ليتتبع ما بقي له من آثار ثقافية.

المؤلف اهتم ببكثال، وسجل تجربته بأسلوب جميل لم يخل من تقدير موزون وتعاطف وتقدير لتلك الحياة الغريبة لرجل من بلاده، واهتم أكثر بالإنتاج الأدبي لصاحب السيرة، ربما بسبب غزارة ذلك الإنتاج، فهناك أكثر من أربع عشرة رواية، ومجموعات من قصص قصيرة، وقد أحسن المؤلف حين خصّص الفصل قبل الأخير للحديث عن تلك الروايات، فكانت كتابته عنها أشبه برواية عن الروايات والراوي.

السيد بيتر كلارك "المؤلف" عاش أيضاً حياة الشرق وخبرها وعايشها بحكم وظيفته، وتقلب في مناصب ثقافية ودبلوماسية عديدة لبلاده في المنطقة العربية، وترجم من الأدب العربي إلى اللغة الإنكليزية. ومن هنا كان كلارك يرى نفسه أحياناً في منازل أو قصة الأديب الذي كتب عنه.

أما المترجم فهو مختص بحياة بكثال وفكره، وكنت قد قابلته منذ أكثر من عشرين عاماً، وما كنت أعرف اهتماماته حتى جرى نقاش عن ترجمات القرآن فلحظت إلمامه بذلك، وبخاصة حديثه عن ترجمة كلاسيكية للأديب الإنكليزي بكثال. وكان المترجم يتدفق متحدثاً عن تلك الترجمة تدفقاً ينمُّ عن معرفة راسخة بالموضوع والمترجم بكثال. ثم أهداني رسالته الدكتوراهفإذاهي عن بكثال. قرأت السيرة الموجزة التي كتبها عنه فوجدتها ممتعة، ووددت لو أنه كتب أو ترجم تلك السيرة إلى العربية، ولكنه أفاد بأن الرجل كتبت عنه نصوص عديدة، ولما أهداني السيد كلارك كتابه تذكرت الأستاذ الجامعي الذي قضى ردحاً من الزمن مع صاحب السيرة يدرس ويعالج ترجمته للقرآن، فهو إذن أولى بترجمة الكتاب، وبحثت عنه بعد تباعد الأمكنة والسنين فقبل مشكوراً أن يترجم الكتاب عن رجل عرفه جيداً، وعاش مع أعماله وكتب عنه من قبل. بدأ بالترجمة وكان يرسل الفصول تباعاً، وكنت أجد فيها متعة وانفعالاً بالنص، والحق أن الترجمة جاءت جميلة جذابة وأشبه بعمل أدبي جديد.

لعل هذا الجهد يحرك الاهتمام بترجمة بعض أعمال بكثال الأخرى الفكرية والأدبية مثل روايته المهمة سعيد الصياد أو السماك –وقد وعد الدكتور أحمد بترجمتها، أرجو أن لا يكون ذلك بعيداً- وكذا رواياته عن أحوال الشام ومصر خاصة، ففي الملخصات التي قدمها السيد بيتر كلارك ما يغري ويجعلنا نهتم بها، فهي صورة لمجتمعاتنا قبل قرن، كما أن الحاجة تدعو إلى البحث في تراث بكثال الفكري والسياسي، فهو يعطي للمعاصرين صورة عن مواقف وأحداث وأفكار إصلاحية في مرحلة حاسمة منذ قرن، تلك القضايا الفكرية التي شغلت إنسان عالمنا ذلك الزمان. ثم إنه إلى جانب ما تمنحنا كتابات بكثال من المتعة والمعرفة فإن فيترجمتها وفاء لمن أحب بلاد العرب والمسلمين وثقافتهم ودان بدينهم. أشكر المؤلف والمترجم اللذين منحانا نصاً لطيفاً يستحق الاهتمام[1].

 

[1]بعض معلومات هذه المقدمة تجدها في عدة مصادر غير هذا الكتاب الذي نقدم له، ومن الشبكة ومن مراسلات مختلفة. وهذا أحد المصادر على الشبكة:

http://www.masud.co.uk/ISLAM/bmh/BMM-AHM-pickthall_bio.htm

شارك :

التعليقات (0)

أضف تعليق