الإسلام ضد الغرب: شكيب أرسلان والدعوة إلى القومية الإسلامية

طباعة 2021-02-03
الإسلام ضد الغرب: شكيب أرسلان والدعوة إلى القومية الإسلامية

المؤلف: وليام كليفلاند

ترجمة: محمد هيثم نشواتي

الناشر: منتدى العلاقات العربية والدولية-الدوحة

سنة النشر: 7201

عدد الصفحات:  368

عرض: رياض المسيبلي

 

تاريخ جيل

"هذا الكتاب هو عن الجيل الأخير من العرب العثمانيين الذين كبروا واشتدت أعوادهم قبل عام 1914 [...]. تلقى أبناء هذا الجيل تدريباتهم وأسسوا حياتهم المهنية وخططوا لمستقبلهم في عالم الإمبراطورية العثمانية المتأخرة، وأرغموا بعد عام 1919 على إعادة تأسيس حياتهم في عالم لم يكن من اختيارهم"[1] (ص 29).

هكذا استهل وليام كليفلاند كتابه هذا عن شكيب أرسلان. أن يعيش المرء في برزخ بين عالمين وعصرين مختلفين تمامًا، يودع عالمه القديم وهو لا يعلم عن ملامح العالم الجديد سوى الغموض والمجهول. كان هذا حال أبناء جيل أرسلان، وهكذا كان حظهم. ولج العصر الحديث، في القرن التاسع عشر، على العالم العربي والإسلامي مدجّجًا بالأفكار والأسلحة وألوان من الاحتلال، ووجدت النخب نفسها أمام عالمين: عالم قديم يتداعى ليصبح أطلالًا تستهل بالبكاء عليها قصيدة رثاء طويلة، وعالم جديد لم يكن من صنعها.

أصدر وليام كليفلاند في مطلع السبعينيات كتابه المهم عن ساطع الحصري[2]، وبعد قرابة خمسة عشر عامًا أصدر كتابه هذا عن شكيب أرسلان. الفكرة المشتركة في الكتابين هي (القومية)، بشكلها العروبي عند الحصري وغايتها الإسلامية عند أرسلان.

وإذا كان الاثنان، أرسلان والحصري، من الجيل العثماني، غير أن ردة فعلهما تجاه انهيار الخلافة العثمانية، كما أشار ألبرت حوراني، كانتا على طرفي نقيض. انتهى الحصري ليصبح منظّر القومية العربية، بينما تمسّك أرسلان بفكرة "الجامعة الإسلامية" التي عرفها جيل المدرسة الإصلاحية حينها[3].

الدفاع عن خلافة محتضرة

وجد أرسلان نفسه في حقبة تودع فيها الخلافة العثمانية عالمها التي حكمته، وكان الاضطراب هو عنوان تلك المرحلة، تصاعدت فيها أصوات المعارضة للحكم العثماني في عدة أماكن، والعالم العربي على وجه الخصوص، وغدت فيها سياسات الولاة العثمانيين، في أماكن كالشام مثلًا، محفزة لمزيد من حركات الثورة على العثمانيين. كان جمال باشا مثال الوالي العثماني الذي قدم دماء العرب قربانًا للحفاظ على ما كان يسميه "الرابطة العثمانية"، ولاقى أرسلان حظه السيئ في قربه من هذا الوالي الدموي. أصبحت علاقة أرسلان بجمال باشا محطة لم ينسها أحبابه له فضلًا عن خصومه (ص 91-92)، غير أن هذه العلاقة صورت أزمة أرسلان وجيله أكثر من كونها مجرد مادة تسرد في كتب التاريخ.

هي أزمة الدفاع عن عالم بدأت ملامحه تتوارى وأفسح مكانه لعالم جديد مختلف، ومأزق التمسك بـ"خلافة" لم تعد تسعف المدافعين عنها بأسباب استمرارها. كانت معضلة جيل أرسلان هي معضلة الخلافة العثمانية نفسها، العمى التام عن رؤية التغيرات العاصفة بالعالم حينها، والاصطدام بقوى أوروبية حثت السير سريعًا للسيطرة على العالم، قوى لم تعد فيها الراية الصليبية، كما تتذكرها الذاكرة المسلمة، ترفرف فوق رؤوس الجيوش القادمة من الغرب، وأوروبا لم تعد أوروبا الحقب الصليبية، فقد حضر الدين في الغزو الأوروبي الجديد مختلطًا مع السياسات الإمبريالية والتوسع الاقتصادي، وكانت ألوان الاحتلال هي هدية عصر التنوير الأوروبي للعالم "المتخلّف" خارج أوروبا "المتقدّمة".

هكذا عصفت تلك المرحلة بمسيرة أرسلان، وفي نهاية الحرب العالمية الأولى وجد هذا الأمير نفسه مترجلًا بين ألوان المنافي، وفي قلبه هم الدفاع عن العالم الإسلامي ضد الغزاة الجدد. وبالرغم أن كليفلاند عنون الفصل الثالث من كتابه بـ"تبنّي القضية العربية"، غير أن محطات حياة أرسلان تؤكد أن ما كان حاضرًا لدى الرجل هو الحفاظ على الرابطة الإسلامية، وتوحيد جهود المسلمين أمام القوى الغازية. لم تكن، إذن، "القضية العربية" سوى محاولة من أرسلان لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من هذا العالم الإسلامي الذي استولى على كافة اهتماماته. ولذلك حوّل أرسلان "مقر إقامته في جنيف إلى مركز للحركة الإسلامية العالمية" (ص 38).

"مؤسسة ... متحرّكة"

في تقديمه كتاب كليفلاند، يصف الدكتور محمد الأحمري أرسلان بأنه كان "مؤسسة عظيمة متحركة" (ص 10). تتضح هذا الصورة طوال فصول الكتاب، فكما تقاسمته أنواع الأماكن، اتجهت جهوده كذلك إلى ألوان متعددة من الاهتمامات: الأدب والسياسة والتاريخ والنضال ضد المحتل. لم يكن أرسلان حبيس الصفحات، بل سار به نضاله من العراق والشام والجزيرة العربية إلى المغرب الإسلامي الكبير، وكانت علاقاته بملوك العرب ملأى بالصراعات حينًا وبالوفاق أحيانًا أخرى.

كان في الشمال الإفريقي "معلم جيل"، كما عنون كليفلاند الفصل الخامس من كتابه، وارتبط به رموز حركات مناهضة الاحتلال أمثال مصالي الحاج الجزائري والحبيب بورقيبة التونسي ومحمد المكي الناصري المغربي. لذا نقل كليفلاند عن لوتورنو قوله: "بسبب شكيب أرسلان احتلت المغرب دائرة الضوء بوصفها قضية المسلمين" (ص 193).

وصل عدد المقالات التي كان يكتبها أرسلان لمجلات مختلفة في العالم الإسلامي مئة مقالة سنويًّا (ص 42)، وصدّر كتبًا لعدد من معاصريه، مثل مصطفى صادق الرافعي وغيره، وكانت تعليقاته على كتاب حاضر العالم الإسلامي للوثروب ستودارد مثالًا ناصعًا على سعة اطّلاع الأمير على التاريخ الإسلامي. بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، أخذ الرجل الخمسيني حينها هموم أمّته وامتدت جهوده من مشرق العالم الإسلامي إلى مغربه. خاض مغامرات سياسية ونضالية، وآثر حياة القلق والمكافحة على أن يخلد إلى الدعة والطمأنينة. عرفته مكة وصنعاء، وقبلها دمشق والقاهرة، والصحراء الليبية إلى طنجة وتطوان. وحسب تعبير كليفلاند، كان أرسلان بعد الحرب العالمية الأولى مثل الأفغاني آخر أيامه "يجوب العالم الإسلامي وأوروبا فيستقطب مريدين مستجدين، ويحذر وينبه بعض الحكام العرب إلى الخطر، وينتزع تعابير القلق من المسؤولين البريطانيين والفرنسيين الذين يقتفون أثر تجواله" (ص 149).

خاتمة

أرّخ كليفلاند لحياة أرسلان من خلال قضاياه التي تبنّاها ودافع عنها حتى آخر حياته: الجامعة الإسلامية، القضية العربية، الصلة بحركات التحرر في الشمال الإفريقي، وكانت ميزة الكتاب هي رجوع كاتبه إلى مختلف الوثائق الاستخباراتية عن شكيب أرسلان وتحركاته، سواء كانت البريطانية أو الفرنسية أو الإيطالية. يتميّز كليفلاند في كتاباته عامة بالاستقصاء المبهر، والتحليل العميق، وكتابه الشهير عن تاريخ الشرق الأوسط الحديث ما يزال حتى اليوم مقرّرًا في أكثر من جامعة أميركية[4].

لم يخلُ هذا الكتاب، الإسلام ضد الغرب، من براعة كتابات كليفلاند وتحليلاته التي بدا أغلبها -في الكتاب- متّزنًا وعادلًا. وإذا كان بعض ما كتب عن أرسلان من قبل كتّاب عرب، أمثال الشرباصي والدهّان، وافيًا عنه في حياته الشرقية، فإن كتاب كليفلاند هذا أحاط بحياة أرسلان في المهجر، مستعينًا بوثائق وكتابات عدة عن أرسلان بلغات مختلفة.

كانت حياة شكيب أرسلان حافلة بالأحداث، ملتزمة بما اعتقده الرجل من قضايا دافع عنها وكلّفته الكثير، ما جعل أمير البيان يعيش أكثر من حياة، ويموت كذلك أكثر من مرة مع كل قضية من قضايا أمّته رأى إخفاقها. حارب الاستعمار بكل صوره وأشكاله، وأراد للفرد المسلم أن يتحرر من أوهام الهزيمة التي تسللت إليه تحت أقنعة شتى، وعشق العربية وغاص في تاريخ أمّته الإسلامية ليكتب تاريخ ما مضى لصناعة ما هو آت.

 

[1] التشديد من كاتب المقال.

[2]Cleveland, William L. The Making of an Arab Nationalist: Ottomanism and Arabism in the Life and Thought of Sati; al-Husri, by William L. Cleveland. Princeton: N.J., Princeton University Press, 1971.

ترجم إلى العربية تحت عنوان ساطع الحصري من الفكرة العثمانية إلى العروبة، ترجمة فكتور سحاب، بيروت: دار الوحدة، 1983.

[3]     راجع مراجعة ألبرت حوراني لكتاب كليفلاند، موضوع المقال، في نشرة مدرسة الدراسات الشرقية والإفريقية:

Hourani, Albert. “William L. Cleveland: Islam against the West: Shakib Arslan and the Campaign for Islamic Nationalism”. Bulletin of the School of Oriental and African Studies, vol. 50, no. 3, 1987, pp. 555–556.

[4]     صدر الكتاب في مقتبل التسعينيات وتوالت طبعاته منذئذ، صدرت طبعات الكتاب الأخيرة بمشاركة مارتن بونتون، أستاذ التاريخ في جامعة فيكتوريا الكندية:

Cleveland, William L. A History of the Modern Middle East. Boulder: Westview Press, 1993.

 

شارك :

التعليقات (0)

أضف تعليق