القومية العربية في القرن العشرين: من النصر إلى اليأس

القومية العربية في القرن العشرين: من النصر إلى اليأس

المؤلف: عضيد دويشة

ترجمة: عبد الواحد لؤلؤة

الناشر: منتدى العلاقات العربية والدولية-الدوحة

سنة النشر2019 :

عدد الصفحات: 368

إعداد قسم مراجعة الكتب بمجلة أواصر

القومية: غموض المفهوم

يأتي كتاب عضيد دويشة القومية العربية في القرن العشرين: من النصر إلى اليأس، الذي صدر في مستهل القرن الحادي والعشرين، في حقبة كانت فيها القومية العربية -كإيديولوجيا-قد فقدت بريقها. لذلك، كان أمام دويشة تاريخ كامل لنشوء الفكرة ومن ثم انتصاراتها وانكساراتها، تاريخ امتلأ برموز القومية العربية وقادتها ودولها، والصراعات والتناقضات التي لم تنقطع طوال الحقبة القومية.

يبدأ كتاب دويشة بنقاش الفكرة القومية على وجه العموم، وكذلك مفهوم الأمة الذي لا يمكن تجاهله عند الحديث عن القومية، بصرف النظر عن التعاريف المختلفة لكلا المصطلحين. يؤكد الكاتب في مستهل الكتاب أنّ "ما يميّز أمة عن جماعة عرقية أو أي تجمع آخر يجب أن يكون رغبة الأمة المستمدة من الذات في تحقيق سيادة سياسية ضمن أرض معترف بها" (ص 12). هذا مدخل حرص عليه المؤلف لتأكيد الهدف السياسي في مفهوم "الأمة" عنده؛ إذ إن هذا العنصر السياسي كما يقول هو " الركيزة المؤسسة لتعريف القومية العربية" في دراسته لها (ص 12). غير أن هذا السبب ليس وحده لفهم القومية العربية كما يراها المؤلف؛ بل هو أيضًا حريص على فصل فكرة "العروبة" المرتكزة على أسس ثقافية (اللغة، التقاليد، الأدب...الخ) عن فكرة "القومية العربية". فإذا كانت الأولى "تسلّم بالميراث الثقافي" فإن الثانية تصبغها "هذه الوحدانية الثقافية بمكوّن إضافي هو الإدراك السياسي" (ص 12). يخلص المؤلف إذن إلى تعريف محدد عنده للأمة؛ ليكون هذا التعريف مفتاحًا للقارئ في بقية فصول الكتاب، ومن ثمّ يصبح تعريف الأمة لدى الكاتب: " تضامن بشري، يؤمن أفراده بأنهم يشكلون كلًّا ثقافيًّا متلاحمًا، ويظهر رغبة قوية في الانفصال السياسي والسيادة" (ص 16).

البدايات: تناقضات لم تحلها سوى الإيديولوجيا

كانت أوضاع الخلافة العثمانية في نهاية القرن التاسع عشر توحي بسقوطها في الربع الأول من القرن العشرين. فالنزعة القومية الطورانية التي بدأت بين بعض مسؤولي الدولة العثمانية كانت تحمل ضمنًا بذرات القضاء على الأسس التي قامت عليها الخلافة العثمانية، أو ادّعتها أحيانًا: رابطة الأمة الإسلامية. بدأت بوادر التحريض السياسي ضد العثمانيين على أيدي أشخاص أمثال: جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، والكواكبي، ورشيد رضا. كانت كتابات الكواكبي أشد وضوحًا في الهدف إلى الاستقلال السياسي للعرب عن الترك، بينما لم تكن هذه النزعة قائمة على أساس قومي عند الأفغاني وعبده ورضا؛ إذ كانت الأمة الإسلامية والرابطة التي تجمعها هي مرتكز دعواتهم، ومع ذلك يؤكد دويشة أن الكواكبي "لم يكن يدعو إلى سيادة عربية" (ص 25). في الأخير كان الهم الجامع لأولئك الرموز -السالفة أسماؤهم - هو إيجاد تضامن متين بين الأمتين العربية والتركية (ص 25).

لكن الخارطة السكانية للعالم العربي لا تقتصر على المسلمين فحسب، فالمسيحيون العرب، الذين برزت جهودهم في النهضة الأدبية العربية منذ القرن التاسع عشر، أرادوا لجهودهم أن تتوج بدعوة سياسية كذلك. لم تسعف الظلالُ الدينية الدولةَ العثمانية من تتابع انهياراتها؛ فمظاهر الفساد السياسي والمظالم المتلاحقة على الشعوب المحكومة من العثمانيين، والدعوات القومية والاستقلالية التي بدأت تظهر في أقاليم الدولة العثمانية سارعت في انتشار المد القومي خاصة، وانفرطت بذلك الرابطة الدينية التي كانت المرتكز الجامع لمختلف الشعوب الخاضعة للحكم العثماني. وفوق ذلك، كانت بعض الأقاليم، خاصة في العالم العربي، قد اقتطعها التنافس الاستعماري، خاصة بين بريطانيا وفرنسا في جهة ضد الخلافة العثمانية التي بدأت تلفظ أنفاسها الأخيرة.

ساطع الحصري: تشكّل النظرية القومية

 كانت النظريات القومية عند المفكرين الأوروبيين في منتصف القرن التاسع عشر قد تمحورت في اتجاهين رئيسين: "فمن ناحية، كان الفلاسفة الإنكليز والفرنسيون لا يستطيعون تصوّر الأمة من دون لازمتها السياسية: الدولة" (ص 47). غير أنّ "المفهوم الآخر للأمة، الألماني في الجوهر، مختلف تمامًا. فحسب هذا التفكير لم تكن الأمم تكوينات سياسية بل ثقافية" (ص 47).

وظّف ساطع الحصري المفهوم الألماني في تنظيره للقومية العربية؛ إذ كان يرى أن وضع الشعوب العربية يشابه كثيرًا وضع الشعب الألماني الذي تقاسمته الدويلات المختلفة قبل سنة 1871 (ص 57). ولأن التنظير القومي، سواء عند الحصري أو غيره من بعض منظّري القومية العربية، كان ذا صلة بالمفهوم الألماني الذي يعد الثقافة جوهر الأمّة، كان التركيز على النظم التعليمية الانطلاقة للتربية القومية ونشر الوعي بها في العالم العربي. وعليه، أصبح للتاريخ واللغة دورهما في تشكيل الوعي القومي العربي؛ فالرومانسية التي صبغت المفهوم الألماني للأمة، الذي تأثر به الحصري وغيره، كان ميدانهما التاريخ واللغة معًا. هكذا أصبحت اللغة "أهم رابط روحي يجمع الفرد مع بقية الجنس البشري؛ لأنها أداة التواصل بين الأفراد، إضافة إلى كونها وسيلة التفكير". أما التاريخ، فقد كان الحصري يرى "أن الشعور القومي يعتمد على الذكريات التاريخية أكثر من أي شيء آخر. فالأفكار والحقائق، المتصلة بالتاريخ تقوم بدور مهم في حياة الأمم، ولها تأثير كبير في توجيه الحوادث التاريخية" (ص 58-59).

ثورات وأنظمة في الطريق القومي

يتابع دويشة في كتابه رصد تطورات وتحولات القومية العربية من خلال دول قامت على أساس هذه الدعوة، أو ثورات جمعت ووجهت الشعور القومي العربي؛ دول مثل مصر بعد ثورة يوليو 1952، وقضية ثورية مثل الثورة الفلسطينية وامتداد النضال ضد الكيان الصهيوني.

تميزت الفصول السبعة، التي استحوذت على معظم الكتاب، بدراسة رصدية واستقصائية لتجارب القومية العربية؛ سواء كانت أنظمة أم حركات على امتداد العالم العربي. يتناول دويشة القومية العربية وإشكاليات الولاءات المتعددة، البنية القبلية والطائفية في المجتمعات العربية مثلًا، في الفصل الرابع. ثم يرصد المد القومي من الثورة الفلسطينية إلى الثورة المصرية، وبعدها ظهور مصر العربية وبروز شخصية عبد الناصر التي دفعت بالاتجاهات القومية قدمًا أمام التيارات الفكرية الأخرى، والثورة العراقية، عام 1958، وما توالى بعدها إلى بداية الستينيات من وصول القومية العربية إلى ذروتها، ومن ثم الانحدار الذي شهدته الفكرة عبر أحداث كانت فاصلة في تاريخ التيار القومي؛ مثل فشل الوحدة بين مصر وسوريا، وما شهدته العراق من الصراع الشيوعي-القومي الذي انتهى بسقوط نظام عبد الكريم قاسم ووصول عبد السلام عارف إلى سدة الحكم سنة 1963.

يختتم دويشة رصده للقومية العربية في القرن العشرين بمرحلة انحدارها التي بدأت سنة 1967؛ إذ شهد عبد الناصر، نجم الفكرة ورمزها السياسي، هزيمته التي أودت بالهالة التي أحاطت به، والرمزية المنقطعة النظير لدى الجماهير العربية. أشار دويشة، في حديثه عن بدايات انحطاط القومية العربية، إشارة لافتة وذكية؛ إذ ربط الخفوت الذي أصاب الفكرة القومية في منتصف الستينيات بسلسلة خروج المحتل من الدول العربية الذي بدأ في نهاية الخمسينيات: تونس 1956، المغرب 1956، موريتانيا 1960، الجزائر 1962...الخ. أصبح الاستعمار هو "(الآخر) الذي تحتاج إليه القومية العربية... (الآخر) المناسب" (ص 241).

"نهاية القومية العربية"

عقد دويشة فصلًا تحت عنوان "نهاية القومية العربية: تشريح تحليلي"، كان في غالبه تلخيصًا لما مضى من فصول الكتاب أكثر مما يحمله عنوان الفصل من نفَس تحليلي. وهذا يقود إلى الحكم على الكتاب بأكمله؛ فالرصد والتتبع التاريخي لفكرة القومية العربية كانت ميزة هذه الدراسة، ولكن غاب في الكتاب التفكيك الصارم سواء للقومية العربية كفكرة أو تمثلاتها التي عرفتها كأنظمة وحركات. على سبيل المثال، يشير دويشة إلى عدم حرص رعاة القومية على إيجاد مؤسسات ديمقراطية فاعلة، وإسهام الاتجاهات الاستبدادية لديهم في أفول القومية العربية (ص 252). ولكن هذه الملاحظة تصدق على أي نظام بأي إيديولوجيا تلبسّها؛ وهذا الفشل المتوالي للدولة الحديثة في العالم العربي، التي غابت عنها غالبًا الملامح الإيديولوجية مؤخرًا، دليل على أن غياب المؤسسات الديمقراطية يعني غياب الدولة الحقيقية. كان الأولى الحديث، مثلًا، عما تحمله فكرة القومية العربية في داخلها من عوامل انهيارها، والذي شهدته في آخر المطاف.

كما أن بعض التحليلات تمر على المؤلف دون أدنى محاكمة؛ فاللهجات العامية تشكل عنده عقبة من عقبات الفكرة القومية، كما طرحت في العالم العربي، ومن ثم هدف الوحدة العربية، ويذهب إلى أن اللهجات هذه تحول دون التواصل بين العرب (ص 73-74). لا يمكن، في الواقع، إنكار صعوبة التواصل بين الشعوب العربية عند الحديث باللهجة، ولكن ما ينبغي الالتفات إليه هنا هو مدى فهم العربي اليوم للعربية الفصحى. فواقع أن العربي الأمي، فضلًا عن المتعلم، كان يستمع لخطابات القوميين وزعمائهم بالفصحى ويتفاعل معها، إبّان الحقبة القومية، التي كانت أساس الكتاب، لا يسعف الكاتب في ما ذهب إليه.

تبقى أهمية الكتاب في الجهد الاستقصائي الذي بذله المؤلف في دراسته للقومية العربية، وكذلك في توقيت إصدار الكتاب الذي سمح لصاحب الدراسة في تناولها كحقبة طويلة شهدت بدايات الفكرة ومن ثم انتصاراتها وانكساراتها، وليس ثمة عائق أكبر من الكتابة عن ظاهرة أثناء وجودها؛ إذ يجد المرء نفسه في إحدى الجهتين: حماس لا يرى سوى المحاسن، وخصومة لا ترى سوى الفشل.

أواصر - مجلة فكرية فصلية

www.awasr.com