السياسة الخارجية الأميركية ومفكّروها

طباعة 2020-10-01
السياسة الخارجية الأميركية ومفكّروها

السياسة الخارجية الأميركية ومفكّروها[1]

 

تأليف: بيري أندرسون

ترجمة: ابتسام بن خضراء

الناشر: منتدى العلاقات العربية والدولية، الدوحة

سنة النشر :2019

عدد الصفحات: 255

 

 

يُعدّ بيري أندرسون من أبرز المؤرخين اليساريين اليوم. أما فيما يخص المؤرخين اليساريين البريطانيين، فحسب تعبير مايكل إيغناتييف، يعد أبرز الأحياء اليوم من جيل المؤرخين والمنظرين الماركسيين في بريطانيا ممن "هيمنوا على الحياة الفكرية المهمة لليسار البريطاني منذ أواخر الخمسينيات حتى التسعينيات". وهو جيل ضم أمثال: إيريك هوبزاوم، إي. بي. تومبسون، إسحاق دويتشر وآخرين[2]. تأتي أهمية كتاب أندرسون السياسة الخارجية الأميركية ومفكّروها من منطلق أهمية الموضوع والكاتب معًا. فعين هذا المؤرخ اليساري، غير الأميركي، تلتقط ما تعجز أعين الذين حالت ضبابية الأيديولوجيا اليمينية المتصاعدة، أو الانتماء إلى هذا العالم الجديد المهيمن، عن رؤيته في الخطوط البارزة للسياسة الخارجية الأميركية منذ نشأة الولايات المتحدة حتى اليوم.

ضم الكتاب قسمين: السلطة الإمبراطورية والمجمع، احتويا على ثلاثة عشر فصلًا. في القسم الأول يتتبع أندرسون أبرز منعطفات السياسة الخارجية الأميركية، ثم تشكلها إبان الحرب الباردة، ومن ثم تحولاتها بعد انهيار المعسكر السوفيتي. ويتناول القسم الثاني (المجمع) أبرز منظري السياسة الخارجية الأميركية باختلاف توجهاتهم.

السلطة الإمبراطورية

يتضح من الكتاب أن الدول الرأسمالية الكبرى، مثل الولايات المتحدة، لا تقتصر حدودها على تلك الخطوط الطبيعية التي تفصل الدول عادة، بل تتجاوز ذلك لتصل إلى حيث وصل المال وهيمنة اقتصاد الشركات الكبرى في أرجاء العالم. هذه السمة الاقتصادية الرأسمالية إلى جانب العاطفة الدينية سمتان وسمتا السياسة الخارجية الأميركية في بدايات تشكلها، ولم ينفكّا عنها حتى اليوم. يشير أندرسون: "ما إن اتسعت حدود الولايات المتحدة لتصبح تقريبًا ما هي عليه الآن، حتى بدأ نفس الإحساس بالمستقبل يكتسب شكلًا تجاريًّا أكثر منه مناطقيًّا" (ص 16). وقد اتضحت النزعة "المناقبية"، كما يسميها أندرسون، منذ بدايات تأسيس الجمهورية الأميركية، فهذا العالم الجديد اتصف في نظر الأميركيين بميزات أربع:

"توليفة مؤلفة من اقتصاد الاستيطان المتحرر من أي رواسب إقطاعية".

"منطقة قارية يحميها محيطان".

"فكرة أمة تتمتع بحظوة إلهية مشربة بدعوة مقدسة".

"الاعتقاد -المستمد من حرب الاستقلال- بأن جمهورية تنعم بدستور يكفل الحرية في كل الأوقات قد نشأت في العالم الجديد" (ص 15).

هكذا سارت الدولة الجديدة في بداياتها. لا يمكن فصل نظرتها إلى العالم عن نظرتها إلى ذاتها. ظهر اندماج النظرتين في مفهومي: الاستثنائية (Exceptionalism) والكونية (Globalism)، وهما مفهومان، كما يشرح أندرسون، "يمثلان احتمال مركب غير مستقر". فالاعتقاد بمفهوم الاستثنائية الأميركية "يسمح بالاعتقاد أن بإمكان الولايات المتحدة الحفاظ على فضائلها الفريدة فقط من خلال بقائها مجتمعًا منفصلًا عن عالم متهالك"، بينما كان "الالتزام بالكونية...يمنح الولايات المتحدة صلاحية القيام بأنشطة رسولية (messianic) لتخليص هذا العالم" (ص 17).

ولأن مسيرة الولايات المتحدة في بداياتها كانت في ظل نظام عالمي تهيمن عليه القوى الإمبريالية القديمة، على رأسها بريطانيا وفرنسا، فإن الهيمنة الأميركية لم تظهر بكامل سطوتها إلا في الحرب العالمية الثانية. حينها، كان لعملية إعادة التسليح، جراء الحرب التي بدأت، دور في أن "تدعم عملية التعافي من الضعف" داخل الولايات المتحدة التي خرجت لتوها من أزمة الكساد العظيم، مما أمّن لبرامج الصفقة الجديدة، التي بادر بها فرانكلين روزفلت، انطلاقة جديدة. "ومنذ تلك اللحظة، ارتبطت المصائر الداخلية للاقتصاد الأميركي بالمواقف الخارجية للدولة الأميركية، كما لم يرتبطا من قبل" (ص 22).

تبلورت السياسة الخارجية الأميركية، في أعقاب الحرب العالمية الثانية، بصورة تستوعب موقع الولايات المتحدة في العالم، وتشكل العالم الجديد الذي ظهر بعد الحرب. فالإمبراطوريات الإمبريالية القديمة بدأت تفقد سيطرتها على المستعمرات، وخرجت أوروبا منهكة ترسمها خرائط جديدة ويحمي دولها الغربية حامٍ جديد (الولايات المتحدة)، والشيوعية وجدت لها أرضًا وأنظمة تبشر بها وتنشرها في أرجاء المعمورة، ونمت النبرة الرسولية الأميركية/الغربية منادية بالدفاع " عن العالم الحر في مواجهة العبودية الشمولية للشيوعية" (ص 57). ولكن هذا الدفاع، كما يوضح أندرسون، كان في حقيقته دفاعًا عن الرأسمالية، ولكن اقتضت السياسة تجنب هذا المصطلح الذي كان يستخدمه الخصم الشيوعي ضد عدوه الرأسمالي (ص 57). أفضى تقرير جورج كينان الشهير عن سياسة الاحتواء في عهد ترومان؛ ليبدأ عصر الحرب الباردة التي حلت فيها الإيديولوجيا والدعاية، بشكل أساس، محل الأسلحة التقليدية. انقسم العالم منذئذ إلى عالمين إيديولوجيين متصارعين: الرأسمالية/الغرب مقابل الشيوعية، وكان العالم الثالث ساحة هذا الصراع. تصالح العالم الحر مع الديكتاتوريات التي تقاسمت دول العالم الثالث؛ وذلك لأن الحرية التي كانت تميّزه لم تكن "حرية المواطنين، بل حرية رأس المال-العامل المشترك بين فقرائه وأغنيائه، وبين الدول المستقلة والمستعمرة، وبين المناطق المعتدلة والاستوائية، على السواء" (ص 60). فالجانب الذي فشلت السجالات التي حدثت بعد الحرب العالمية الثانية في الوصول إليه هو "تحديد البنية العامة للعلاقات بين الدولة والرأسمال في العصر الحديث"، كما يشرح أندرسون، خاصة عندما تحوّت الممالك الاستبدادية القديمة، في أوروبا خاصة وخارجها كذلك، إلى دول رأسمالية؛ مما أدى حينها إلى انفصال بين القوتين الاقتصادية والسياسية. وجدت تلك الدول نفسها أمام واقع جديد يلخص نتيجته روبرت برينر بجانبين:

"لم يكن بوسع هذه الدول معارضة مصالح الرأسمالية دون تقويض نفسها".

"لم يكن بوسع أنشطة الدول أن تخضع لنفس المجموعة من المحفزات والقيود التي تتحكم بالشركات" (ص 46).

وبناء على ذلك، إذا كان "هدف رأس المال تحقيق الربح" فالسؤال المبني عليه "ما هدف الدولة المماثل له؟"، يجيب أندرسون بأنه "الأمن" (ص 47). يمكن ملاحظة ذلك، بعد الحرب العالمية الثانية، في تغير مسميات وزارات الحرب إلى وزارات الدفاع. يؤكد المؤلف بعدها أن هذا التعبير (الأمن) كان "وما زال رغم غموضه (...) مناسبًا على نحو مثالي للاستخدام الأيديولوجي الذي يناسب كل الأغراض" (ص 47). ولأن الرأسمالية، كما أشرنا من قبل، تمتد حدودها حيث يتمدد اقتصادها؛ فإن مفهوم الأمن لم يعد مقصورًا على الشأن الداخلي للدول، بل تجاوز ذلك إلى كل موطن (دولار) للرأسمالية.

بهذه النظرة التي لا تتجاهل الاقتصاد الرأسمالي، ودور الشركات الكبرى، واختلاط المال بالسلاح، والدعاية بالحرب، رصد أندرسون السياسة الخارجية الأميركية طوال الحرب الباردة. وسيظهر الدفاع عن الرأسمال الحر جليًّا بعد سقوط الاتحاد السوفيتي. هكذا عزم بيل كلينتون بعد فوزه بالرئاسة بـ"إنشاء نظام ليبرالي للتجارة الحرة ضمن منظومة عالمية شاملة تأتمر بتعليمات الولايات المتحدة" (ص 92). سيتضح من القسم الأول من الكتاب أن تغير الرؤساء في الولايات المتحدة لا يعني الكثير في سياستها الخارجية؛ فغالب القرن الماضي طبع هذه السياسة العداء والمواجهة مع الشيوعية، وهي مواجهة تبلورت بعد الحرب العالمية الثانية، وكان من أعظم ركائزها أن يكون العالم سوقًا حرة لأكبر رأسمالية في العالم (الولايات المتحدة). ومن الطريف أن تدل المناصب على مثل هذه التوجهات التي عادة ما تخفيها ادّعاءات التحرر والليبرالية؛ فقد كانت "المستويات العليا من صناع السياسة في إدارة ترومان حافلة بالمصرفيين المستثمرين" (ص 48).

المجمع

يتناول القسم الثاني من الكتاب الدور التنظيري في السياسة الخارجية الأميركية، دور قامت به مراكز البحوث، والمنصات الإعلامية، وأبرز المفكرين الذين أسهمت كتاباتهم في تشكل السياسة الخارجية الأميركية من حقبة لأخرى، أو حتى أولئك الذين كانوا يوجهون النقد أحيانًا لبعض جوانب تلك السياسة ويحذّرون من مآلاتها. يعد هذا القسم أشبه بسيرة فكرية سياسية لأبرز المنظرين السياسيين في الولايات المتحدة. ولم تقتصر دراسة أندرسون لهؤلاء المنظرين على الرصد فحسب، بل تناول بالتحليل مهاد أفكارهم، وتغيرات توجهات بعضهم وما الأسباب وراء هذه التغيرات.

لعل الوصف البارع الآتي لما أسماه أندرسون "توليفة ديمقراطية فريدة" يعطي صورة واضحة للنزعات المختلفة التي شكلت سياسات الولايات المتحدة في الماضي: "سعي هاملتوني (Hamiltonian) لتحقيق مزية تجارية للمشاريع الأميركية خارج البلاد؛ التزام ويلسوني (Wilsonian) بنشر قيم الحرية في كل أنحاء العالم؛ اهتمام جفرسوني (Jeffersonian) بحماية قيم الجمهورية من الإغراءات الأجنبية؛ وبسالة جاكسونية (Jacksonian) في مواجهة أي تحدٍ لشرف البلد وأمنها" (ص 127).

وضمن هذه التوليفة، وأحيانًا في مواجهتها، تأتي عينات المنظرين الذين تناولهم أندرسون في هذا القسم من كتابه. شمل هذا القسم أسماء بارزة أمثال: والتر رسل ميد، مايكل مندلبوم، تشارلز كبتشان، روبرت كاغان، زبيغنيو بريجينسكي، روبرت آرت، تواس بارنيت، وفرانسيس فوكوياما.

وكما كان الحال في مسيرة السياسة الخارجية الأميركية، فإن المنظرين الذين تناولهم أندرسون في القسم الثاني من الكتاب لم يجمعهم اتجاه فكري واحد. صنّف الكاتب منظري السياسة الخارجية حسب اتجاهاتهم؛ فعنون فصول القسم الثاني بما يوحي به هذا الاتجاه أو ذاك: "الصليبيون" و"مثل واقعية" و"الاقتصاد أولًا"، عناوين بعض فصول هذا القسم الذي خصصه المؤلف للحديث عن بعض رموز الجيش الفكري للولايات المتحدة.

تعد كتابات مندلبوم، على سبيل المثال، في نظر أندرسون "النسخة الأبرز من عقيدة ويلسونية منذ انتهاء الحرب الباردة" (ص 142). بينما كان الاقتصاد هو ركيزة أفكار توماس بارنيت، وتعد الرأسمالية، بالنسبة إليه، "هي القوة الثورية الحقيقية التي تنتجها أميركا" (ص 175).

خلاصة

يلاحظ أندرسون ببراعة أن ما ميّز هيمنة الولايات المتحدة على ما مضى من الإمبراطوريات هو اعتمادها "أكثر من سابقاتها على استيعاب النخب التابعة لها لا على الإخضاع الصريح" (ص 159). وهذا الكتاب يشرح أهمية الأفكار لأي قوة تريد أن يكتب لها دوام الهيمنة. يتضح ذلك في تشكلات السياسة الخارجية الأميركية؛ مجموعة من العقول والكتب أثرت في مسار هذه السياسة طوال تاريخ الولايات المتحدة.

شرح أندرسون أيضًا أن الاقتصاد لا يمكن فصله عن أسس الهيمنة، وأن الدول الرأسمالية، بشكلها الحديث، أصبح الرأس مال فيها هو الذي يحدد حدودها، ويجعل من هذا العالم سوقًا حرة أمامه. وسيخرج القارئ من الكتاب، كما أشار كاتبه أكثر من مرة، بأن لدى الرأسمالية القدرة دومًا على تجديد نفسها؛ فالرأسمالية "نظام ديناميكي يدمّر مرة بعد أخرى ما أوجده هو ليتيح الظهور لصيغ جديدة من ذاته" (ص 133). هذا التجديد الذاتي لا يمكن له الاستمرار بدون وجود أفكار ومفكرين ينفخون الروح في الرأسمالية لتستوعب التحديات الجديدة. ولكن أندرسون لم ينس كذلك أن يرصد بعض الأيديولوجيات، بل والقيم، التي كانت تؤثر في السياسة الخارجية، وليس أدل على ذلك من بدايات دخول الولايات المتحدة الساحة الدولية قبل أكثر من قرن.

لم يكن هذا الكتاب مسحًا وافيًا لمراحل السياسة الخارجية الأميركية فحسب، بل كان للتحليل الذكي، الذي لم تخل حادثة ولا فكرة دون التفاتة عميقة من الكاتب، والأسلوب الذي جانب الجفاف، ما يجعل هذا الكتاب أحد الكتب المفتاحية لفهم السياسة الخارجية الأميركية. وسيجد القارئ من آراء الكاتب ما يعترض عليها تمامًا، كتلك التي قد يوافق عليها، وهذه حيوية الكتب الممتازة.

 

[1] إعداد قسم المراجعات في مجلة أواصر.

[2] Ignatieff, Michael. "Messianic America: Can He Explain It?". The New York Review of Books.

Nov,19 (2015): https://bit.ly/2BvEIXw

شارك :

التعليقات (0)

أضف تعليق