محمد الفاضل بن عاشور (1327هـ - 1390هـ) مؤرخًا للأفكار

طباعة 2020-05-31
محمد الفاضل بن عاشور (1327هـ - 1390هـ)  مؤرخًا للأفكار

لاحظ دارسو الثقافة التونسية ومؤرخوها أن علماء تونس الأقدمين تميزوا بالنظر الكلي في مختلف العلوم، وأن مؤلفاتهم اتجهت إلى تقعيد أصول المسائل، فهم حسب الحبيب الدريدي "أهل تأسيس وتنظير، وأصحاب ريادة وسبق وابتكار، وكانوا ذوي نزعة واضحة إلى تثبيت أصول المعارف، وإرساء مبادئها، وتأصيل مناهجها، وتدقيق قواعدها"[1]. ومثَّل لهذا التوجه التأصيلي بعلماء أجلاء وضعوا أمهات كتب في التفسير والفقه والقضاء والنقد الأدبي والمعاجم اللغوية.

والمتأمل في الفكر التونسي في عصر النهضة العربية الحديثة يدرك أن تلك الميزة لم تغب عن علمائها المعاصرين، فمطالعة كتابات العلامة محمد الفاضل ابن عاشور تنبئ عن تميزه بنظر كلي ونقدي في مختلف العلوم والآداب الإسلامية والعربية، وتلك النظرة الكلية أورثته اهتمامًا خاصًّا بتاريخ الأفكار، وذلك ما يحاول هذا المقال البحثي كشفه والتوقف معه، من خلال قراءة تحليلية في بعض آثاره العلمية حسب المساحة المتاحة في المجلة.

لقد كُتبت عن الآثار العلمية والأدبية والفكرية للحركة الإصلاحية المعاصرة في تونس كتابات كثيرة، وخص محمد الفاضل بن عاشور بعدد منها بين مؤلفات ودراسات أكاديمية[2]، وذلك ما يجعل الإطناب في ترجمته كلامًا معادًا، وهو غني عن التعريف كأبيه وأسرته وجده[3] وأصهاره[4] وكثير من معاصريه، لذا سنضرب صفحًا عن تلك المعلومات التفصيلية ليرجع لها من أراد في مظانها المحال إليها.

محمد الفاضل وتاريخ الأفكار

تركزت كتابات محمد الفاضل بن عاشور ومحاضراته على التأريخ للعلوم ورصد تطورات الأفكار؛ فقد أرخ للتفسير ورجاله، والمذاهب الفقهية، خاصة مذهب مالك ومؤلف مدونته الكبرى سحنون وتطور مصطلحاته، كما أرخ لأصول الفقه وعلاقته بالمقاصد، وللفلسفة الإسلامية، والأدب العربي، والدراسات اللغوية في تونس، وللحركة الأدبية والفكرية المعاصرة في تونس، وأعلام الفكر في تونس والمغرب العربي.

اشتهر مصطلح تاريخ الأفكار أو التاريخ الفكري في العصر الحديث مع كتابات فرانسيس بيكون (1561-1626م) في كتابه تقدم المعرفة، وهو علم اعتنى به المؤلفون المسلمون قديمًا وإن لم يكن تحت هذا المصطلح، فكتب الملل والنحل والردود والسجالات، ومقدمة ابن خلدون مثلاً، كلها تندرج تحت هذا القسم الراصد لتطورات الأفكار وتمظهراتها واختفائها أحيانًا.

والمقصود عندنا هنا بتاريخ الأفكار هو وضع النظريات العلمية في سياقاتها التاريخية لتبيان ما أحاط بها من ظروف في نشأتها الأولى، وتطورها بعد ذلك حتى استقرت على ما هي عليه، وكشف الأسباب الكامنة في تأليف بعضها وتبني بعضها الآخر، مع ذكر الرجال الذين كان لهم دور في نقلها من مكان إلى آخر أو ساهموا في تطويرها.

وبسبب عدم اتساع المجال هنا سنقتصر على الأفكار الرئيسية التي أرخ لها محمد الفاضل في كتابه التفسير ورجاله.

أسباب ظهور التفسير ورجاله

يستهل محمد الفاضل كلامه عن التفسير ورجاله بمحورية دعوة القرآن في تكوين الأحداث التي تولد منها التاريخ الإسلامي[5]، معرجًا على عدم حاجة المجتمع الذي نزل فيه القرآن إلى تفسير مصاحب لفهمهم الأساليب العربية بالسليقة، ولمعايشتهم أسباب النزول المعينة على فهم السياق وتنزيل الأحكام.

"فالقرآن العظيم عندنا معاشر المسلمين كلام دال على معانيه دلالة مأخوذة بالطريق العادي لدلالة الكلام العربي"[6]. فهو بهذا لم يكن محتاجًا إلى التفسير، لكن التطورات التي طرأت بعد تناقص الجيل الذي شهد تنزل الوحي أحوجت الناس إلى التفسير لسببين: الأول: أن القرآن لم ينزل دفعة واحدة وإنما نزل منجمًا على نحو عشرين عامًا، وكان بعضه مرتبطًا بأحداث معينة، سميت فيما بعد بأسباب النزول، والثاني: أن دلالات القرآن الأصلية "الواضحة بوضوح الألفاظ والتراكيب تتبعها معاني تكون دلالات التراكيب عليها محل إجمال أو إبهام"[7]، وهي بهذا الاعتبار الأخير تحتاج إلى ما يوضحها ويكشف اللبس عنها.

لهذين السببين اهتم الصحابة بمعرفة "الملابسات الوقتية" معرفة نقلية تصورية، ليتمكن الآتون من استعمال القرائن والدوال المعينة على فهم القرآن، ومن هنا كان الاهتمام المبكر بأسباب النزول وتفسير المبهمات. وهما أول فرعين ظهرا من التفسير، وهما مدرجان ضمن التفسير بالمأثور.

 

التفسير بالمأثور

يقول محمد الفاضل إن الدواعي توفرت لـ"تطلب الأخبار الراجعة للتفسير المأثور في العصر النبوي، وزادت توفرًا في عصر الصحابة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم"[8]. وكان أهل النقل حينها كلهم أمناء معدلين، لكن في العصر الذي تلا ذلك "خضعت النقول المتعلقة بالأخبار التفسيرية للناموس العام وللأحاديث والأخبار النبوية من احتمال الاختلاف والخلط والمجازفة والوضع أو الثبات والإتقان والتحري والتصحيح، فشملته قواعد النقد التي وضعت للأخبار بصفة عامة"[9].

وبسبب الحاجة الملحة إلى معرفة الصحيح من السقيم والقوي من الضعيف فيما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة في أسباب النزول، أو ترجيح بعض معاني الألفاظ والتراكيب، ظهر التفسير بالمأثور بفروعه المختلفة، وكان تركيزه الأساسي على ثنائية الصحة والضعف، ومعرفة الرجال الذين نقلوا تلك الآثار بمن فيهم الصحابة ونجمهم في التفسير ابن عباس.

 

ابن عباس: أسباب التميز والشهرة

في تاريخ التفسير وعلوم القرآن عد عشرة من الصحابة المكثرين في نقل الآثار التفسيرية[10]، من ضمنهم عبد الله بن عباس وهو أشهرهم في ميدان التفسير على الإطلاق. وهنا يفسر لنا محمد الفاضل سبب شهرة ابن عباس التفسيرية الذائعة بقوله: "وقد كان لوفاة التسعة الأولين من هؤلاء العشرة وقلة اختلاطهم بالناشئة الغالبة في عصر التابعين ما رفع منزلة آخر العشرة وأصغرهم، وأبرز مقامه في جيل لم يجد الناس فيه مفزعًا للحديث في التفسير أهم اضطلاعًا منه"[11].

فبقاء ابن عباس ومعاصرته للتابعين جعلا منه مرجعًا لا منازع له في التفسير منذ منتصف القرن الأول الهجري، فلم يبق من بين الصحابة ولا غيرهم إلا مذعن له "مسلم له مقدرته الموفقة وموهبته العجيبة وعلمه الواسع في تفسير القرآن". فمحمد الفاضل هنا يقدم لنا تفسيرًا تاريخيًّا لسبب شهرة ابن عباس الذي دعا له النبي صلى الله عليه وسلم بالفقه في الدين ومعرفة التأويل.

يرصد محمد الفاضل أن تفرد ابن عباس لم يكن في الآثار المروية فقط، بل أضاف عنصرين مؤسسين في مدرسة التفسير في بدايتها الأولى، وهما:

البعد اللغوي في فهم معنى المفرد وسر التراكيب، متخذًا من الشعر الجاهلي دلائل على ذلك، وكان كثيرًا ما يقول بعد تقرير معنى الآية: أما سمعتم قول الشاعر. وأثر عنه قوله: إذا تعاجم شيء من القرآن فانظروا في الشعر، فإن الشعر عربي.

أما العنصر الثاني الذي أضافه ابن عباس فهو عنصر الأخبار التي لم تجئ في حديث النبي صلى الله عليه وسلم مما يرجع إلى بيان مبهمات القرآن، فعاد إلى "مصادر المعرفة المتوفرة لهم يومئذ من التاريخ العام وأخبار الأمم، لا سيما الأمتين الكتابيتين اليهود والنصارى"[12].

 ويشير الفاضل إلى أن هذين العنصرين وإن وجدا في كلام ابن عباس عن التفسير إلا أنهما لا يمكن اعتبارهما من التفسير بالمأثور؛ "لأن مرجعهما إلى الفهم وإلى المعرفة العامة مما يجوز أن يكون محل خلاف مقبول من طرف من يفهم فهمًا غير الفهم الذي ارتضاه ابن عباس، اعتمادًا على شاهد غير الذي اعتمد عليه، أو جنوحًا إلى تخريج للتركيب على غير ما رجحه عليه"[13].

ولهذين السببين "بدأ التفسير بالمأثور يختلف بلون آخر من التفسير يقبل اختلاف الأفهام، واختلاف التقادير، واختلاف الاجتهاد في استنباط المعنى، تبعًا لاختلاف ما يرجع إليه الاستنباط من فهم لغوي أو معرفة تاريخية لم تؤثر في السنة"[14]. ولأن غير ابن عباس من الصحابة أثرت عنه آثار أخرى من التفسير بالمأثور وغيره، وإن كانت مروياته هو أكثر رواجًا من غيره.

ولشهرة ابن عباس في التفسير كثر الوضع عليه من قبل الكذابين والوضاعين والقصاص، حتى حكم بعض العلماء أن الصحيح عن ابن عباس في التفسير نحو مئة حديث فقط. وقد كانت إحدى السلاسل عن ابن عباس يضرب بها المثل في الضعف، وسميت بسلسلة الخزف، وهي رواية الكلبي عن السدي المسندة إلى ابن عباس. وبسبب تكاثر الوضع على ابن عباس انتقل علم التفسير إلى طور جديد مع علم بارز من رجاله هو عبد الملك بن جريج.

 

عبد الملك بن جريج: بداية التدوين المختلط

يشير الفاضل إلى أن علماء النقد الحديثي بدأوا غربلة الروايات في أواخر القرن الأول، وكانت الروايات الشفهية مقرونة بأحكامها التوثيقية في تصحيح الصحيح وتضعيف السقيم، وعند بدء تدوين العلوم الإسلامية انبرى أحد رجال الحديث الثقات، وهو عبد الملك بن جريج (ت 149هـ)، لجمع الأحاديث التفسيرية في كتاب واحد فكان أول من ألف في التفسير.

وابن جريج رغم ثقته التي شهد بها علماء عصره "لم يتحر آثار تلك النقود، ولكنه أورد الأقوال في تفسير القرآن على علاتها، فعقب كل خبر بما قيل فيه من ترجيح أو تعديل"[15]. وابن جريج بعمله هذا أدخل علم التفسير في طور جديد هو التدوين والتوثيق، لكن خلطه بين القوي والضعيف من الروايات، وإن شفعها بأحكامها النقدية، أحوجت الوضع إلى دراسة نقدية للروايات تلم بالنواحي الأثرية واللغوية والعلمية، وهي النواحي التي استقر عليها التفسير في ذلك العصر، وقد قام بتلك المهمة النقدية عالم من القيروان لم ينل حقه من الدراسة والتناول هو يحيى بن سلام.

 

يحيى بن سلام: مرحلة الجمع بين الأثر والنظر

يذكر الفاضل أن مهمة نقد الروايات التي جمعها ابن جريج في كتابه وما بقي منها شفهيًّا هي "الخطة التي انتهجتها كتب التفسير ابتداء من النصف الثاني من القرن الثاني"، وكان الرجل الأبرز الذي قام بتلك المهمة هو يحيى بن سلام الذي كتب تفسيرًا هو ثاني كتاب يظهر بعد كتاب ابن جريج.

 في المهمة النقدية التي تصدى لها يحيى بن سلام احتاج أن يضيف عناصر جديدة بعد الأحكام النقدية الموثقة والمضعفة للرواة، وكانت تلك العناصر هي: العنصر الشخصي في النقد والتقدير، ويراد به انتهاء العالم إلى حكم موضوعي حسبما أداه إليه اجتهاده وتقديره بعد جمع كل الروايات والنظر في رجالها، والعنصران الأخيران هما عنصرا الإعراب والقراءات.

كان لجوء رجال هذه المرحلة إلى عنصري الإعراب والقراءات "قوى من ساعدهم ليقتلعوا شيئًا كثيرًا مما علق بالتفسير بالمأثور من الأخبار الواهية أو الدعاوى التي لا بينات عليها، فوضعوا الأيدي على مكان الفوائد التي يتوهم الناس أنها مأخوذة من القرآن، وليس في القرآن ما يقتضيها ولا ما يقتضي خلافها في إيضاح مبهماته"[16].

وفي هذا المقام تظهر محورية تاريخ الأفكار وتسلسلها الزمني عند الفاضل ابن عاشور فينبه إلى "أن الذين يشيرون إلى هذه الطريقة وخصائصها من الكاتبين حديثًا في تاريخ التفسير يبادرون إلى ضرب المثل بمحمد بن جرير الطبري، فيقطعون بذلك اتصال سلسلة التطور في الأوضاع التفسيرية بين القرن الأول والقرن الثالث بإضاعة الحلقة من تلك السلسلة التي تمثل منهج التفسير في القرن الثاني؛ لأن تفسير الطبري ألف في أواخر القرن الثالث وصاحبه توفي في أوائل القرن الرابع"[17].

وينبه محمد الفاضل إلى أن هذه الحلقة المهمّة في تاريخ التفسير التي أهملها مؤرخو التفسير من المستشرقين وغيرهم هي حلقة أفريقية تونسية، وقيمة التنبه لها توضح "كيف تطور فهم التفسير عما كان عليه في عهد ابن جريج إلى ما أصبح عليه في عهد تفسير الطبري، ويتضح لمن كان الطبري مدينًا له بذلك المنهج الأثري النظري الذي درج عليه في تفسيره العظيم"[18].

يقصد الفاضل بهذه الحلقة المفقودة تفسير يحيى بن سلام (ت 200هـ)، ويرى أنه تفسير عظيم من أهم آثار القرن الثاني الهجري، وهو أقدم التفاسير الموجودة اليوم على الإطلاق، وقد كتب في القيروان وبقيت نسخته الوحيدة فيها. ويدلل محمد الفاضل على أسبقية هذا التفسير وريادته في تأسيس المزج بين الطريقتين الأثرية والنظرية بقول إمام القراءات الأندلسي أبي عمرو عثمان الداني عنه بأنه :"ليس لأحد من المتقدمين مثل تفسير ابن سلام"[19].

ويدلل على ذلك أيضًا باستقرائه منهج التفسير وكونه يأتي بالأخبار مسندة ثم يعقبها بالنقد والاختيار، ويتتبع القراءات واحتمالات الإعراب. ومن شغف الفاضل بتاريخ الأفكار وانتقال المعارف من مكان لآخر، اعتذاره لمؤرخي التفسير المعاصرين الذين أهملوا شأن ابن سلام في مراحل التفسير بكون تفسيره توجد منه نسخة واحدة في تونس، "وإن كان التعريف بها حاصلًا منذ أكثر من خمسين عامًا، من خلال الجزء الأول للمكتبة العبدلية، وقد أخذت عنها صور لمعهد المخطوطات العربية وكثير من دور الكتب في المشرق والمغرب"[20]، وكان تفسير ابن سلام تمهيدًا لظهور تفسير بحجم ابن جرير الطبري.

 

ابن جرير الطبري: موسوعية لتطوير التفسير

يعتبر محمد الفاضل أنه إذا كان ابن سلام مؤسس طريقة التفسير النظري الأثري، "فإن محمد بن جرير الطبري هو ربيب تلك الطريقة وثمرة ذلك الغراس"، ويصف الفاضل الأثر الذي ترك ابن جرير في التفسير في أوائل القرن الثالث بأنه كان "نهرًا مزبدًا ذا ركام ورواسب، قد انصب إلى بحر خضم عباب فامتزج بمائه وتشرب من عناصره، وصفا إليه من زبده، وتطهر لديه من ركامه ورواسبه"[21].

 ويعلل الفاضل تأثير ابن جرير الكبير في التفسير بكونه رجلًا موسوعيًّا "جمع نواحي متباعدة من فنون العلم"، وبلغ في جميعها درجة متساوية من الإمامة، فكان إمامًا مجتهدًا في الفقه، ومحدثًا متقنًا روى عن العراقيين والشاميين، واشترك مع البخاري في كثير من شيوخه، وكان مؤرخًا ضليعًا بمعرفة الرجال والأحداث، وكتابه في التاريخ مرجع المراجع.

ولهذا كان "جديرًا بالتفسير حين تناوله الطبري بتلك المشاركة الواسعة، وذلك التفنن العجيب أن يبلغ أوجه، وأن يستقر على الصورة الكاملة التي تجلت فيها منهجيته، وبرزت بها خصائصه مسطرة على كل ما ظهر بعده من تآليف لا تحصى في التفسير". وبسبب هذا التميز كما يرصد الفاضل انتشرت نسخ تفسير الطبري بالعربية، وترجم إلى الفارسية في القرن الرابع الهجري، واهتم به المستشرقون حديثًا[22].

تميز منهج ابن جرير بتحقيق دلالات القرآن والإفصاح عن معانيه بإحكام، وتتبع ألفاظه كلمة كلمة وآية آية، وذكر ما يستفاد منه من أحكام وطرق الاستفادة، مع ترجيح بالقواعد اللغوية والقراءات، وأحكام نقدية للآثار المروية، فكان بهذا نهجًا جديدًا تأثر به أغلب من جاء بعده من المفسرين.

ويصحح الفاضل هنا قضية ذات أهمية في تاريخ أفكار التفسير، وهي أن تفسير الطبري ليس تفسيرًا أثريًّا كما هو مشهور، بل يرى أنه بطريقته الموسوعية أضحى "تفسيرًا علميًّا يغلب عليه جانب الأنظار غلبة واضحة على جانب الآثار، حتى لو اقتصر فنه على مجرد عزو الأقوال المتخالفة لأربابها"، بل يرى أن ابن جرير حرر بكتابه تفسير القرآن من التبعية الملزمة لعلم الحديث[23].

ويضيف الفاضل أن الذين اعتبروا تفسير ابن جرير تفسيرًا أثريًّا إنما اكتفوا "بالنظر إلى ظاهره بما فيه من كثرة الحديث والإسناد، ولا يتدبرون في طريقته وغايته التي يصرح بها من إيراد تلك الأسانيد المرتبة الممحصة". ويعجب من أن ابن خلدون "راجت عليه هذه الشبهة فعده من مدوني الآثار المنقولة مثل الواقدي والثعالبي". ويرى الفاضل، بسبب ملاحقته للأفكار وتاريخها، أن هذه الشبهة قد تكون راجت على ابن خلدون بسبب كون تفسير الطبري "كان منذ قرون مفقودًا أو في حكم المفقود، حتى إن صاحب كشف الظنون لم يقف عليه"[24].

ويرصد محمد الفاضل أثر تفسير الطبري في العصر الحاضر حين خرجت طبعته الأولى قبل ستين سنة من تأليفه كتابه التفسير ورجاله، ثم علو قدره وغلاء قيمته بسبب إخراج آل شاكر له-يقصد تحقيق وتخريج "الأديب الضليع والعالم الورع محمود شاكر له" وأخيه "الفقيه والقاضي المحدث الثبت أحمد" فجاء في "حسن عرضه ودقة ضبطه وترتيب مفاصله، وتحقيق معانيه وتخريج أحاديثه واستيعاب فهارسه آية للسائلين"[25].

لئن كان ابن جرير استطاع أن يحرر التفسير من أيدي المحدثين فإنهم لم يستسلموا لذلك، سيما في مواجهتهم النزعة المعتزلية التي كانت تنمو بسرعة في ذلك الزمن، وتركز دراساتها على القرآن وإعجازه البلاغي، وكان زمن ابن جرير عصر مواجهة بين المعتزلة وأهل الحديث.

 

التدافع الشريف من البخاري إلى المعتزلة

على هامش تحرير ابن جرير الطبري للتفسير من الطريقة الأثرية المحضة اشتد التدافع بين أهل الحديث والمعتزلة، فبعض المحدثين أصر على الطريقة الأثرية التي تورد الآثار من غير نقد ولا تمحيص، والمعتزلة ينزعون إلى التفسير بالرأي المحض، وأصبح كل من الطرفين يعرض بالآخر.

وفي وسط ذلك التدافع ظهر الإمام البخاري الذي اشتهر بالتدقيق والتحري فقوى حصون التفسير بالمأثور، ومتن أسسه، وذلك بعد أن صار التفسير بالمأثور مرتعًا للكذب والوضع من لدن القصاصين، وجعل البخاري منهجه في التفسير يعتمد على تحقيق معاني الألفاظ، وضبط مراجع الاشتقاق ومواقع الاستعمال، وتحري المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة من معاني الآيات "بجعله معلقًا على الثبوت من طرق ثبوت الحديث عنده بشروطه الضيقة الدقيقة في المتن والإسناد"[26].

وعلى هذا النهج سار البخاري في كتابه التفسير الكبير، وهو كتاب ضائع لكن صحيحه احتفظ بما يكفي من التدليل على منهجه الذي استطاع به أن يمكن "للشيعتين من أهل التفسير: شيعة الآثار وشيعة الأنظار، بسبب تقارب، ومهد لهم طريق تراجع"[27]. ورغم الجهد الذي بذله البخاري فإن المعتزلة كانوا يمضون قدمًا بدفع التفسير إلى المنهج النظري الخالص المناهض للتفسير بالمأثور.

اهتم المعتزلة بتفسير القرآن لقيام مذهبهم على تأويل متشابهه خلاف أهل السنة، "وذلك لا جرم فاتح (لهم) مسلكًا في تقليب أوجه دلالات القرآن، على ما يحتملونه له من المعاني غير مفتوح لغيرهم ممن لا يؤولون ممسكين ومفوضين، ومن هنا جاء الارتباط الظاهر بين نشأة التفسير النظري وبلوغه أشده وبين مذهب الاعتزال"[28].

ازدهر التفسير المعتزلي في القرنين الرابع والخامس الهجريين على يد رجال مثل أبي مسلم الأصفهاني وأبي علي الجبائي والشريف المرتضى، وأعانتهم الخبرة اللغوية ومعرفة العلوم الحكمة "على أن يبلغوا فيما قصدوا إليه في التأويل وتخريج أوجه المحامل مبلغًا عجيبًا"[29]. ويرى الفاضل أن المعتزلة بسبب تفردهم التفسيري أصيبوا بالغرور الذميم حتى توهموا أن لا أحد غيرهم يمكنه التطرق لمناهج النظر التفسيري، لكن أهل السنة هبوا من رقادهم فحرروا التفسير البلاغي وانتزعوه من المعتزلة انتزاعًا، وقهرهم عبد القاهر الجرجاني بدلائله الممهدة لظهور تفسيري الكشاف والمحرر الوجيز.

 

انتزاع البلاغة والإعجاز من قبضة المعتزلة

مع اهتمام أهل السنة المتزايد بالبحث والنظر ومداولة أعنة الكلام في أوائل القرن الرابع بدأ نفوذ المعتزلة التفسيري يتقلص، وسلطانهم يتضاءل، وزادا تقلصًا وتضاؤلًا بعد هيمنة أهل السنة على علم البلاغة من خلال العلّامة الأشعري الشافعي عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني (ت470هـ) صاحب دلائل الإعجاز.

تمرس الإمام عبد القاهر بالنحو على كتب أبي علي الفارسي، وشرح كتابه الأهم الإيضاح مرتين، وسمت همته "إلى ما وراء النحو من أسرار العربية المتجلية في تأليف الجمل على اعتبارات خصوصية، تتفاوت في الحسن والقبول بحسب ما تزيد أو تنقص من الوفاء بمتممات المعاني بعد اشتراكها في الوفاء بأصولها"[30].

يرصد محمد الفاضل تطورات البلاغة من لدن ابن المقفع والجاحظ وابن المعتز إلى أن استقرت عند المعتزلة في القرن الثالث الهجري "من آلات الكشف عن نظرية إعجاز القرآن"، ولما قام الفكر الأشعري الكلامي على سوقه عدّل نظرية إعجاز القرآن عند المعتزلة، وربط بينها وبين البلاغة، "ولكنه لم يتمكن من ضبط جوهر البلاغة ضبطًا يخرجها من المجال النقدي الذوقي إلى المجال العلمي المنهجي"[31].

وقد حاول الإمام الباقلاني أن يطور نظرية الأشعرية في إعجاز القرآن "ببلاغته فحدد الأقسام ووسع دائرة النظر ودار ولف بين فنون الكلام وأساليبه، وقارن الآيات بالفِقر والأبيات، ولكنه لم يستطع أن يفصح عن معنى البلاغة وحقائق أبوابها بما يوضح المنهج لإدراك إعجاز القرآن من جهتها"[32].

وبعد الباقلاني أخذ عبد القاهر الجرجاني الراية وقوى دلائل الإعجاز فـ"بيَّن فيه جهات الحس البلاغي وعلله، وضبطها في قوالب محكمة من التعبير فجاء عمله عملًا أساسيًّا منهجيًّا كشف به عن معنى الإعجاز البلاغي بصورة مبدئية نظرية تسمو على تتبع الجزئيات، وترديد المقارنات والموازنات".

أوضح الجرجاني منهجه في مقدمة دلائل الإعجاز، ويرى الفاضل أنه بذلك المنهج المطبق فتح بابًا "كان مغلقًا في أوجه متعاطي التفسير، وهو بيان الوجه البلاغي المعجز من كل تركيب قرآني، وجعل ذلك الوجه ملاك الوجه المستفاد من التركيب، بحيث إن احتمالات المعاني تتفاوت قوة وضعفًا على نسبة ما تتلاقى مع السر البلاغي المتمثل في التركيب أو تتجافى عنه"[33].

يهمنا في عمل الجرجاني البلاغي الباب الذي فتح في النصف الثاني من القرن الخامس وتزاحم عليه "جوادان سابقان من جياد حلبة التفسير العلمي أحدهما من شرق آسيا، والثاني من غربي أوروبا تعاصرا وسارا في ذلك الطريق فرسي رهان"[34]، يقصد الفاضل الزمخشري وابن عطية الأندلسي.

 

مقارنة بين تفسير آسيوي وآخر أوروبي

قارن محمد الفاضل بين الزمخشري وابن عطية تاريخيًّا من ناحية المولد والوفاة، وجغرافيًّا من ناحية المناطق التي عاشا فيها. ولا يفترض الفاضل أن أيًّا من المفسرين نقل عن الآخر، بل جزم فقط أنهما "اعتمدا على أصول مشتركة، واغترفا من منابع متحدة". وهذا يكفي عنده "لعقد المقارنة والموازنة بين أثرين مستقلين متحدين في الموضوع والمنهج والعصر"[35].

يربط الفاضل بين عشق جار الله الزمخشري للعربية وتفننه في مختلف علومها، وبين أثر ذلك في تفسيره الكشاف الذي جعل "مبناه تحليل التركيب، وبيان خصائصه واعتبار إعجازه على المنهج الذي مهده الشيخ عبد القاهر في دلائل الإعجاز". ويشير الفاضل في رصده العلاقة الفكرية بين الزمخشري والمعتزلة إلى أنهم لما رأوا تمكنه في العربية والبلاغة ألحوا عليه في وضع تفسير جامع "يعتمدون عليه في نصرة عقيدتهم بتخريج الآيات على مقتضى الطريقة البلاغية التي كانت أزمتها بأيديهم"[36].

ألح المعتزلة على الزمخشري في وضع التفسير، و"تشفعوا إليه بعظماء فرقته، وعلماء أهل نحلته"، ويرجع الفاضل ذلك الإلحاح إلى ما عرف في أول القرن السادس الهجري من "ابتداء تراجع أمر المعتزلة، وسلوك فرقتهم سبيل الانقراض". ولم يزل ذلك الإلحاح يلح على الزمخشري حتى وصل مكة ووجد رعاية من أميرها، فكتب الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل.

 اعتمد جار الله الزمخشري في كشافه "على ما يشعر به مكتملًا في نفسه من المعارف والملكات المعتمدة على التكون الأدبي اللغوي الصحيح"، ولهذه الميزة أضحى "عمدة الناس في اختلافهم بين مشايع له ومخالف، وعلى وفرة مخالفيه وانقطاع مشايعيه يرجعون إليه على أنه نسيج وحده في طريقته البلاغية الإعجازية وفي غوصه على دقائق المعاني، وحسن إبرازها على طريقة علمية سائغة بتحليل التركيب، وإبراز خصائصه واعتباراته"[37].

ويرصد الفاضل تلقي الأوساط السنية تفسير الزمخشري المعتزلي، والمشتهر بشدة الهجوم على مخالفيه بمن فيهم أهل السنة والجماعة، فيقول إنهم بفضل ما جبلوا عليه "من الإنصاف قد حملهم على الإغضاء عن تلك الهفوات المخجلة والعورات الفاضحة، فإنهم أقبلوا على دراسته وشرحه وبنوا عليه عامة بحوثهم في القرآن، لا يخلو تفسير أو تأليف في موضوع قرآني من رجوع إليه واعتماد عليه"[38].

كان اهتمام أهل السنة الأشاعرة بتفسير الكشاف على نحوين؛ الأول: الرد عليه وتبيين ما فيه "من دعاوى اعتقادية، وما سلك في سبيلها من تخريج الكلام تعسفًا أو التزامًا لما لا يلزم"، وكان فارس هذا الميدان الإمام المالكي ابن المنير الإسكندري الذي كتب الانتصاف، وكان النحو الثاني بعد دخول الزمخشري في صميم أصول الثقافة الإسلامية الأشعرية، وعلو نجمه في القرن الثامن الهجري بعد إقبال "أعلام المدرسة الأعجمية الأشعرية مثل شرف الدين الطيبي والقطب الشيرازي وسعد الدين التفتازاني، فأصبح يومئذ ركنًا ركينًا في هيكل التخرج الإسلامي"[39]. وبهذا الاحتفاء السني استطاع الكشاف أن يصمد في الثقافة الإسلامية بعد اختفاء المذهب المعتزلي.

في المقارنة بين تفسير ابن عطية والكشاف يرى الفاضل أنهما تشابها في المعاصرة والمنهج العلمي، وتأسُّس ثقافتهما على أساس الأدب واللغة، وأرجع أوجه الاختلاف بينهما إلى أن تفسير ابن عطية ينتمي لمرحلة شبابه، والزمخشري كُتب في زمن الشيخوخة، كما أن اختلاف الجغرافيا في كون أحدهما مشرقيًّا والآخر مغربيًّا، والأول مالكي أشعري، والثاني حنفي معتزلي عوامل تركت بصماتها فيما بين التفسيرين من اختلاف.

وبسبب مغربية ابن عطية اطلع على مصادر لم تتح لصاحب الكشاف، منها تفسير المهدوي المسمى التفصيل الجامع لعلوم التنزيل الذي ذكر ابن عطية اعتماده عليه، وهو كتاب لرجل تونسي هاجر إلى الأندلس ومات في دانية. أما الخلاف الفقهي المذهبي فلا يحتاج إلى تدليل لما عرف من الاختلاف بين المذهبين المدني والعراقي في أصول الفقه وقواعد الاستدلال، وتوقف الفاضل وقفة طويلة مع أثر اختلاف السنية والاعتزال في التفسيرين باعتبارها جهة الاختلاف الأهم.

رأى محمد الفاضل أن أثر الشباب والعروبة وانتصار الأشاعرة على المعتزلة كان باديًا في أسلوب ابن عطية، فكتب بـ"قريحة متقدة ونظرة حادة يتناول بهما موضوعه في قوة وسرعة ومتانة إلمام فيأتي بيانه محبوكًا منسجمًا، والعروبة أفادته طبعًا أصيلًا وسليقة صافية ففاض بيانه قويًّا هتافًا سائغًا سلسًا"، بينما أثرت العجمة والشيخوخة على الزمخشري فجاء أسلوبه في الكشاف "متثاقلًا مفككًا، ومواضعه متفاوتة، وتعبيره ثقيلًا كزًّا، ترهقه كلفة الصناعة مع نبوة الطبع". وأسلوب الرجلين تلخصه المقولة السائرة عنهما "ابن عطية أجمع وأخلص، والزمخشري ألخص وأغوص"[40]. خلاصة هذا الفصل احتضان الأشاعرة للكشاف على اعتزاليته، فماذا كان موقف الأشاعرة من حكمة اليونان وعلومهم؟ ذلك ما أرخ له الفاضل في حديثه عن تفسير الرازي.

 

الرازي: تمازج العلوم وأثره الثقافي

في رصد محمد الفاضل للأفكار المؤثرة في عصور التدوين الأولى لاحظ أن غلو المعتزلة في اعتماد الحكمة اليونانية، ومعاملتهم إياها معاملة المعارف اليقينية أثر تأثيرًا سيئًا في الثقافة الإسلامية في القرنين الثاني والثالث؛ لأن أهل السنة قابلوا غلو المعتزلة بازورار عن تلك الحكمة، وجعلوا همهم حماية القرآن والدين من تأثير تلك الحكمة، فابتعدت بذلك علوم الأوائل عن الثقافة الإسلامية وبالعكس.

 استمر الفصام بين الفلسفة اليونانية والثقافة الإسلامية حتى ضعفت سورة المعتزلة وتضعضع حضورهم العلمي، وقامت دولة الأشاعرة العلمية فهدأ روعهم وبدأوا حسن الظن بالحكمة وأهلها، واستمر التقارب حتى "تمازجت العلوم تمازجًا عضويًّا"، واتضح ذلك في كتابات أعلام القرن الرابع والخامس من المالكية والشافعية مثل: الباقلاني والغزالي والجويني والمازري.

مهد هذا التقارب وتلك التطورات لأعلام القرن السادس الهجري فوجدوا هيكل الثقافة الإسلامية "واضح المعالم راسخ القواعد، تتراص فيه المعارف الحكمية والمعارف الدينية وتشد فيه الفلسفة الشريعة على أنها خادمة لها كما هو مذهب الأشعري، لا أنها مسيطرة عليها كما هو مذهب المعتزلة". وبعد بلوغ هذه التطورات الثقافية التي استمرت ثلاثة قرون مداها طلع في الأفق الأعجمي رجل عربي استطاع أن يَبْلُغَ بـ"الحكمة القرآنية أوجها الأعلى في أفلاك الحكمة الإنسانية العامة"؛ إنه فخر الدين الرازي المتوفى 606هـ صاحب مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير[41].

ينتمي الرازي من ناحية النسب إلى بيت أبي بكر الصديق، ومن ناحية الثقافة إلى الأدبين العربي والفارسي. "كان تخرجه في أول أمره في علوم الحكمة اليونانية، ثم ضم إليها علم الكلام والأصول والفقه على مذهب الشافعي وعلوم العربية، فأصبح علمًا مفردًا في المزج بين الفنون وسهولة هضم بعضها ببعض، وبذلك علت سمعته وعظم صيته وتمكن من سلوك طريقة في التأليف والبحث والعرض انفرد بها وأفاد منها كل فن من خصائص الفن، فأصبحت طريقته المنهج الثقافي الذي عم أقطار العالم الإسلامي وسرى في لغات الثقافة الإسلامية كلها على توالي العصور"[42].

سخر الفخر الرازي ثقافته الواسعة واطلاعه العريض لخدمة القرآن الكريم وتفسيره، فكان همه أن يضعه "موضع الدراسة والبحث والتحليل على منهج يرى تفوق الحكمة القرآنية على سائر الطرائق الفلسفية، وانفرادها بهداية العقول البشرية إلى غايات الحكمة من طريق العصمة"[43]. آمن الرازي بتفوق الحكمة القرآنية على جميع ما سواها من الفلسفات والطرق الكلامية، ورأى أن الطريقة المثلى لإبراز تلك الحكمة إنما يكون على طريقته الكلامية المتبعة لمنهج الغزالي والجويني، وفتح فخر الدين بمنهجه هذا فتحًا عظيمًا في التفسير، فكيف كان أثره فيمن جاء بعده.

 

صبغة التفسير في القرن السابع

يرى محمد الفاضل أن الرازي وجد التفسير يخضع لهيمنة المحدثين وأدباء المعتزلة، فاستطاع أن يحرره منهم وأن ينتزعه "انتزاعًا وغلابًا فساد عليه وحازه متصرفًا فيه ثم استحقه وأورثه أخلافه من بعده رجال الأصلين: أصول الدين وأصول الفقه"[44]. وبتحرير الرازي للتفسير اصطبغ صبغة جديدة في مطلع القرن السابع، وصارت السيادة فيه لأهل الحكمة الدينية، وذلك تبرزه التفاسير التي ظهرت متتالية منذ منتصف القرن السابع.

كان تفسير البيضاوي أشهر تفسير تأثر بالرازي، وذلك لتقاربهما الثقافي، فقد نشأ البيضاوي نشأة علمية موسوعية كنشأة الرازي، فصهر أنواع الفنون في قالب واحد، وجاء تفسيره تعبيرًا عن تلك الموسوعية مع دقة في التعبير ووفاء للمنهج الذي جمع فيه بين تحاليل الكشاف، وفيوضات الرازي المعرفية، وبان فيه ما اشتهر يومئذ من ثقافة الاختصار فكان بعد ذلك مرجعًا لكل من جاء بعده من المفسرين.

ساهم تفسير البيضاوي في الترويج للكشاف لاعتماده عليه في التحليل البلاغية ورده على شبهه الاعتزالية، ولسنية البيضاوي انتشر صيت تفسيره في مختلف أقطار العالم الإسلامي، فكان مقررًا دراسيًّا في بلاد فارس والأفغان والأقطار الهندية وآسيا الوسطى، وعموم الممالك العثمانية، "واشتهر بمصر من قبل الفتح العثماني"، وكتب عليه أعلامها في نهاية القرن التاسع وبداية العاشر مثل زكريا الأنصاري والسيوطي، "وعظم شأنه في القرن العاشر بانتظام أهم معاهد العلم في البلاد العربية في تاج الخلافة العثمانية، خاصة الجامع الأزهر وجامع الزيتونة"[45].

من ناحية رصد تاريخ الأفكار استطاع تفسير البيضاوي بانتشاره الواسع عبر القارات أن يقارب بين مناهج التعليم في البلاد الإسلامية كلها من أقاصي الهند إلى المغرب الأقصى، وزاد شيوعًا بكتابة حاشيتين عليه إحداهما كتبها عالم من البنجاب هو عبد الحكيم السيالكوتي، والثانية كتبها عالم أزهري هو شهاب الدين الخفاجي وسماها عناية القاضي وكفاية الراضي، ووصل عدد الحواشي المكتوبة عليه في كشف الظنون نحو خمسين حاشية، وقد أخذ على البيضاوي، مثل الكشاف، التهاون في إيراد الأحاديث الضعيفة والموضوعة، وهو ما استدعى كتابة كتب تعنى بتخريج أحاديثه مثل كتاب المناوي الذي سماه الفتح السماوي في تخريج أحاديث البيضاوي، تلك هي معالم وآثار تفسير البيضاوي في البلاد الأعجمية منتصف القرن السابع، فماذا عن التفسير في القرن الثامن في بلاد العرب؟

 

ابن عرفة: إملاء التفسير الموضوعي

لئن كانت دروس التفسير اتبعت في الشرق الأعجمي طريقة البحث الشكلي والتحليل اللفظي، فإنها في بلاد المغرب العربي تمسكت بالبحث الموضوعي والتحليل، ولم تتجه نحو الاختصار والإشارات، وعلى هذا النهج سارت الدروس المقامة في طرابلس وتونس والقيروان ومالقة وسلا ومراكش وتلمسان وقسطنطينية في القرن الثامن الهجري، وكان فارس هذه الحلبة الإمام ابن عرفة الورغمي الذي انتصب لتدريس التفسير من منتصف القرن الثامن إلى نهايته، وكانت ترحل له جموع الطلاب من الأندلس والمغرب والجزائر وغيرها من طلاب الصحراء الكبرى.

وكان ابن عرفة يملي تفسيره الذي ختم فيه القرآن عدة مرات وتعاقبت عليه أجيال، وكان "يسلك مسلك الجمع والتحليل والإملاء، فتتلى عليه الآية أو الآيات ثم يأخذ معناها بتحليل التركيب وإيراد كلام أئمة اللغة والنحو على معاني المفردات ومفاد التراكيب، منشدًا على ذلك الشواهد، وموردًا الأمثال والأحاديث"[46].

 وأحيانًا يورد ابن عرفة كلام غيره ليرد عليه بعض التأويلات البعيدة جدًّا. ولم يتول ابن عرفة تحرير تفسيره بنفسه بل تولاه ثلاثة من طلابه أحدهم مغربي هو أبو القاسم السلاوي، والثاني جزائري هو الشيخ أحمد البسيلي، والتونسي هو الأبي أكبر تلامذة ابن عرفة وأقربهم إليه، وينقل الفاضل عن أحمدو بابا التمبكتي أن نسخة البسيلي من أوفى النسخ، وقد انتشرت في السودان بسبب سفر البسيلي هناك. إذن كانت السيادة في منطقة الشمال الإفريقي لمنهج ابن عرفة التحليلي، فماذا عن الشرق العجمي في القرن التاسع؟

 

عودة إلى عراق العجم

بالعودة إلى عراق العجم، يلاحظ محمد الفاضل أن التفسير في القرن الثامن والتاسع "كان راكبًا بحر التقرير والبحث والتفكيك مغرقًا فيه، سابحًا بين المباحث والأنظار تترامى على عبريه، وقد قام على أحدهما تفسير الكشاف، وقام على العبر الآخر تفسير البيضاوي، وكان ربان السفينة الذي أمسك بخيزرانتها ووضع قطب التحقيق والتمحيص نصب عينيه العلامة سعد الدين التفتازاني، ثم أخلافه على طريقته التحقيقية الذين ملكوا قيادة الفكر الإسلامي باسمه خمسة قرون"[47].

وكان لهذا الخضم الهائج موجة امتدت إلى أواسط آسيا وبلاد الروم منذ أواخر القرن التاسع بسبب قيام السلطنة العثمانية وما جبي لها من ثمار المعرفة المفرقة في أرجاء العالم الإسلامي ذلك الحين، ولما كان لتفسير الكشاف والبيضاوي من حضور صار تدارسهما هو المنهج المعتمد، ومن هنا كان تأليف أبي السعود لتفسيره الذي تعقب فيه التفسيرين "بتحرير محكم وبيان دقيق وسبك متين"[48]، وصار للكتاب حضور في كل البلدان التي هيمن عليها العثمانيون، وقريبًا من عراق العجم كانت تتشكل نواة حركة علمية في العراق، فماذا عن التفسير فيها؟

 

نكبة العراق الثقافية وظهور الآلوسي

يشير محمد الفاضل في معرض حديثه عن أسباب ظهور شهاب الدين الآلوسي (ت1270ه) إلى ما أصاب العراق من جدب معرفي بعد نكبة المغول، وأرجع الفاضل أسباب ظهور الآلوسي إلى وعي العثمانيين بقيمة العراق معرفيًّا وثقافيًّا، ولمنافستهم للصفويين الذين كان لهم حضور معرفي وشعائري كبير في بغداد والكاظمية والنجف.

وذكر الفاضل أن العثمانيين في منافستهم للصفويين عمدوا إلى أسر من البيت النبوي وأعلوا شأنهم وقربوهم للباب العالي، وكان من تلك الأسر آل الآلوسي، وأشار إلى أن الحالة الثقافية للعراق في ذلك العصر لن تستوعب من غير استحضار دور الطريقة النقشبندية ورائدها الشيخ خالد الكردي النقشبندي.

تميز تفسير الآلوسي برسالته التي أراد العثمانيون ترسيخها، وهي المزج بين التصوف والعلوم الشرعية مقاومة للنزعات الباطنية والرافضية. "لقد استطاع أن يقيم حدًّا فاصلًا بين معرفته العلمية والصوفية ومنهجيه الظاهري والباطني بعدوله عن طريقة الشيخ إسماعيل حقي، في حمل النصوص القرآنية على معاني التصوف حتى تنبو بذلك عن دلالتها اللغوية ومحاملها الشرعية"[49]. ولم يسلم الآلوسي من الوقوع في المحاذير الصوفية بسبب ما يختم به تفسير الآيات من مذهب الصوفية في الذوق التفسيري والإشارات الرمزية.

 ويرى الفاضل أن تفسير الآلوسي "لو جرد عن التفسير بالإشارة لكان أليق بمقامه العلمي السامي، ولكن من نظر إلى التيارات التي التقت في تكوينه وتكوين بيئاته العلمية التمس له عذرًا"[50]، وكان زمن الآلوسي أيام مجد العثمانيين، وقد حدثت بعد ذلك تحولات أنتجت تفسيرًا ختم به الفاضل كتابه عن التفسير ورجاله.

 

تفسير المنار ورجاله الثلاثة

في كلام محمد الفاضل عن العوامل المؤثرة في ظهور تفسير المنار تحدث عن نهضة الإسلام الحديثة، والصدمات الحضارية التي تعرض لها المسلمون بسبب التفوق الغربي. ولولع الفاضل بتاريخ الأفكار وتمظهراتها، حين تحدث عن ظهور جمال الدين الأفغاني، ربط نبوغه بما ذكر ابن خلدون في بداية القرن التاسع من نفاق سوق علوم الحكمة والمنطق في عراق العجم وما بعده، ثم ربط أطوار حياة الأفغاني وهمومه المقلقة بظهور تفسير المنار.

وكان الأفغاني هو الأول من رجال المنار، والثاني تلميذه محمد عبده الذي أيقظ فيه الأفغاني روح النهضة والإصلاح الديني فكانت مجالسه التفسيرية "منارًا" يهدي السالكين، وكان الرجل الثالث محمد رشيد رضا الذي تولى توثيق هذه المجالس ونشرها وتكميلها، وقد رصد الفاضل الأثر التكويني للرجال الثلاثة في تفسير المنار، فكان الأول موقظ الفكرة الإصلاحية، وهو ما جعل التفسير مهمومًا بقضايا النهضة والمسلمين، والثاني عقلانيًّا فلم يكن يولي اهتمامًا للآثار المروية، والثالث أثريًّا فكان مهتمًّا بالأحاديث والمرويات، ومع اختلاف هذه الخلفيات التكوينية فإن الانسجام غلب على التفسير في منهجه الأصلي، وبقيت غايته الإصلاحية "متحدة والروح بقيت متحدة كذلك"[51]، و"برزت من مجموع ذلك الوحدة التي جعلت من تفسير المنار مداد روح النهضة الإسلامية الحديثة وقوام التفكير الإسلامي المجدد في هذا القرن الرابع عشر"[52].

 

خاتمة

لم يكن هذا عرضًا لكتاب التفسير ورجاله، وإنما وضوح تاريخ الأفكار وربط بعضها ببعض عند محمد الفاضل بن عاشور أوضح من أن يشفع بتحليل بارد. وقد أوضح الأفكار الرئيسية للتفسير من لدن ابن عباس في القرن الأول إلى رواد النهضة الإصلاحية المعاصرين في القرن الرابع عشر، وهو رصد لم يكن اعتباطيًّا في التسلسل، وإنما كان صاحبه واعيًا بكل المؤثرات المحيطة بالتفسير ورجاله عبر القرون، ولعلنا نستكمل بقية تأريخه للأفكار في دراسة أشمل وأوفى.

 

 

[1]                  الدريدي، الحبيب، مقال "العبقرية التونسية" بمجلة الإتحاف عدد 77، 1 مارس 1997م.

 

[2]                  راجع ابن أحمد عمار المختار، الشيخ محمد الفاضل ابن عاشور: حياته وأثره الفكري، الدار التونسية للنشر، تونس، 1985؛ المناعي حسن، محمد الفاضل ابن عاشور وجهوده في بناء النهضة العلمية الإسلامية، دكتوراه دولة مرقونة، جامعة الزيتونة، 1990-1991.

 

[3]                  الوزير الأكبر محمد العزيز بوعتور.

 

[4]                  آل خوجه.

 

[5]                  محمد الفاضل ابن عاشور، التفسير ورجاله، القاهرة: مجمع البحوث الإسلامية، 1970،
ص 8.

 

[6]                  السابق، ص 10.

 

[7]                  السابق، ص 12.

 

[8]                  السابق، ص 14.

 

[9]                  نفسه.

 

[10]                السابق، ص 16.

 

[11]                نفسه.

 

[12]                السابق، ص 17.

 

[13]                نفسه.

 

[14]                نفسه.

 

[15]                السابق، ص 21.

 

[16]                السابق، ص 27.

 

[17]                نفسه.

 

[18]                السابق، ص 27-28.

 

[19]                السابق، ص29.

 

[20]                السابق، 29.

 

[21]                السابق، ص 33.

 

[22]                السابق، ص 31.

 

[23]                السابق، ص 36-37.

 

[24]                السابق، ص 36-37.

 

[25]                السابق، ص 37.

 

[26]                السابق، ص 41.

 

[27]                السابق، ص 42.

 

[28]                السابق، ص 43-44.

 

[29]                السابق، ص 44.

 

[30]                السابقـ ص 47.

 

[31]                السابق، ص 47-48.

 

[32]                السابق، ص 48.

 

[33]                السابق، ص 50.

 

[34]                السابق، ص 50.

 

[35]                السابق، ص 52.

 

[36]                السابق، ص 56.

 

[37]                السابق، ص 58.

 

[38]                السابق، ص 58-59.

 

[39]                السابق، ص 59.

 

[40]                السابق، ص 64.

 

[41]                السابق، ص 67-68.

 

[42]                السابق، 70.

 

[43]                نفسه، ص 71.

 

[44]                نفسه، ص 89.

 

[45]                السابق، ص 100.

 

[46]                السابق، ص 105.

 

[47]                السابق، ص 108.

 

[48]                السابق، ص 111.

 

[49]                السابق، ص 140.

 

[50]                السابق، ص 142.

 

[51]                السابق، ص 175-176.

 

[52]                السابق، ص 176.

 

شارك :

التعليقات (0)

أضف تعليق