الأزمة الدستورية في الحضارة الإسلامية - من الفتنة الكبرى إلى الربيع العربي

الأزمة الدستورية في الحضارة الإسلامية - من الفتنة الكبرى إلى الربيع العربي

تأليف                      : محمد المختار الشنقيطي[1]

الناشر                     : منتدى العلاقات العربية والدولية

سنة النشر              : 2018، الطبعة الثانية، 2019

عدد الصفحات          : 607                        

 

هذه دراسة عن الأزمة الدستورية للحضارة الإسلامية تعتمد النصَّ الإسلاميَّ معياراً، والتجربةَ التاريخية الإسلامية موضوعاً، وخروجَ المسلمين من أزمتهم السياسية غايةً. والمقصود بالأزمة الدستورية في الحضارة الإسلامية تلك المفارقة بين المبدأ السياسي الإسلامي والواقع التاريخي الذي عاشه المسلمون سياسيا، ولا يزالون يعانون تبعاته حتى اليوم، ثم ما نتج عن تلك المفارقة من صراع على الشرعية السياسية في تاريخ الحضارة الإسلامية منذ منتصف القرن الأول الهجري إلى اليوم.

تتألف الدراسة -بعد المقدمة- من مدخل تمهيدي، وثلاثة أقسام يشتمل كل منها على فصلين، ثم خاتمة. وإذا أردنا وضع أقسام الدراسة الثلاثة في تقابُل، فيمكن القول -بتبسيط مُخِلٍّ- إن موضوع القسم الأول هو النص السياسي الإسلامي، وموضوع القسم الثاني هو التاريخ السياسي الإسلامي، وموضوع القسم الثالث هو تلمُّس سبيل للخروج من الأزمة السياسية الإسلامية. وقد جعلْنا القسم الأول بعنوان: «التأمُّر في الأمير» والثاني بعنوان: «التأمُّر عن غير إِمْرةٍ،» والثالث بعنوان: «الخروج من فقه الضرورات.» والتعبيران الأول والثاني مُستمَدَّان من نصوص السنة النبوية، والتعبير الثالث مستمَد من المعاناة الفقهية مع تاريخ المسلمين السياسي المضطرب. ولعل أدقَّ توصيف لتاريخ المسلمين وحاضرهم السياسي أنهما محكومان بالتزاحم الدائم ما بين «التأمُّر في الأمير» الذي هو المبدأ والأصل، و«التأمُّر عن غير إمْرة» الذي هو حكم الضرورة والاستثناء. وهذا التزاحم هو النموذج التفسيري المتحكم في الدراسة من البداية إلى النهاية.

بدأ المدخل بالحديث عن «سيف الإمامة المسلول» على رقاب أمة الإسلام في معظم تاريخها، وقدَّم التعاريف الضرورية للمفاهيم الأساسية المشار إليها في عنوان الدراسة، وشرَحَ طبيعة الدراسة ومداها وغايتها، والمنهج المتَّبَع فيها، وإسهامَها المرجوّ في فهم المسألة السياسية الإسلامية، وبياناً للنموذج التفسيري السائد فيها. وقد أسهب المدخل في شرح جملة مفاهيم استعارتها الدراسة من فلاسفة وباحثين سابقين، واتخذتها أدواتٍ تفسيرية مُساندة لنموذجها التفسيري الأساسي، أملاً في تحقيق ما تصبو إليه من شرح المفارقة القائمة بين النص السياسي الإسلامي والواقع السياسي الإسلامي.

ويؤكد المدخل أن المبدأ السياسي الإسلامي -مبدأ «التأمُّر في الأمير» أو تحكُّم الأمة في حكامها-ظل إمكاناً يأبى النسيان في مسار الحضارة الإسلامية. فالضمير المسلم –في شِقِّه الفقهي والحديثيِّ على الأقل-لم يستسلم للاستبداد استسلاما أخلاقيا، وإنما قَبِله على مضض قبولاً عمَليا اضطراريا، فرَضَه تزاحُم القيم في ظروف تاريخية غيرِ مواتية. ولذلك ظلت نوازع العودة إلى القيم السياسية الإسلامية التي نص عليها القرآن والسنة، وجسَّدتها دولة النبوة والخلافة الراشدة، حيَّةً في حنايا ذلك الضمير المسلم إلى اليوم.

ويُجمِل القسمُ الأول -بفصليْه الأول والثاني-القيم السياسية الإسلامية في صيغتها النصية المعيارية، ويسعى للكشف عن دلالاتها الأخلاقية والقانونية المباشرة، ومعانيها المجرَّدة من غواشي التاريخ، وذلك بتحرير معناها الأصلي في القرآن والسنة، ثم في إجماع الصحابة خلال الحقبة الراشدة، قبل التلبُّس بالمواريث الإمبراطورية السابقة على الإسلام. وقد صنَّفْنا القيم السياسية الإسلامية صنفين: «قيم البناء السياسي» وهي موضوع الفصل الأول، و«قيم الأداء السياسي» وهي موضوع الفصل الثاني.

تتسم قيم البناء السياسي بشيء من التعميم والتجريد، وهي تشمل المعنى الفلسفي والأخلاقي للاجتماع الإنساني من منظور إسلامي، ثم المبادئ والأحكام السياسية الكبرى السابقة على وجود السلطة أو المواكبة له. أما قيم الأداء السياسي فتركِّز على صناعة القرار وعلاقة الحاكم بالمحكوم بعد تأسيس السلطة السياسية.

ولعل ما ورد في هذين الفصلين يجعل هذه الدراسة من أوسع الدراسات استقراءً وتأصيلاً للقيم السياسية الإسلامية، خصوصا من السنة النبوية التي لم يمنح قدماء فقهاء السياسة المسلمون لمضامينها السياسية ما يكفي من التنقيب والاستيعاب. وأكثرُ ما كتبه المعاصرون منهم عن القيم السياسية الإسلامية في العصور الحديثة استمدُّوه من أقوال القدماء، فيما يشبه الاحتجاج للرأي بالرأي، ولم يؤصِّلوها تأصيلا نصِّيا مباشراً. بينما لم نورد أياًّ من القيم السياسية هنا إلا بسند نصيٍّ من القرآن الكريم، أو من السنَّة الصحيحة طبقاً للمعايير الإسنادية المعتمدة لدى جمهور المسلمين.

         أما القسم الثاني من هذه الدراسة -بفصليْه الثالث والرابع-فقد تناول حركة القيم السياسية الإسلامية في الزمان، وتفاعلها مع المكان، من خلال فحص السياق التاريخي الذي وُلد فيه الإسلام، وما كان لذلك السياق من أثر بالغ في انهيار النموذج السياسي الذي تأسس على قاعدةٍ من القيم السياسية الإسلامية، وعاش أربعين عاما فقط هي عمر الدولة النبوية والخلافة الراشدة، ثم تأثير ذلك السياق في فهم الناس لقيم الإسلام السياسية، والتشويش على نصاعتها الأخلاقية، وتعطيل إلزاميتها القانونية.

ففي هذا القسم الثاني من الدراسة بيانٌ للفراغ السياسي العربي الذي وُلدتْ فيه الدولة الإسلامية الأولى في المدينة المنورة، والبيئة الإمبراطورية التي كانت محيطة بتلك الدولة الوليدة. ويهدف الفصلان اللذان يتألف منهما هذا القسم إلى تحقيق فهمٍ أفضل لأثر السياق التاريخي في تلقِّي القيم السياسية الإسلامية وتنزيلها على الأرض، من خلال التأمل في ذلك السياق الذي تفاعلت معه تلك القيم وانفعلتْ به. فإذا كان القسم الأول من الدراسة أقرب إلى فلسفة السياسة، فإن القسم الثاني أقرب إلى فلسفة التاريخ؛ لأنه يتتبع حركة القيم السياسية الإسلامية في سياقات الزمان والمكان. فالقسم الأول منصبٌّ على تأصيل القيم السياسية الإسلامية من النصّ، والقسم الثاني منصبٌّ على تاريخ تلك القيم، ورحلتها في الزمان، وتجذُّرها في المكان.

وضمن هذا القسم الثاني تناول الفصل الثالث بالتحليل الواقع الاجتماعي والسياسي العربي قُبيْل الإسلام، فبدأ بمقدمات نظرية عن أهمية البيئة الصالحة لترجمة القيم السياسية إلى مؤسسات وإجراءات عملية، وعن العلاقة الوثيقة بين الفوضى الاجتماعية والطغيان السياسي، وكيف يتغذى كل منهما بالآخر، فيؤديان إلى انهيار الاجتماع السياسي. ثم أسهب الفصل في شرح مظاهر الفراغ السياسي في الجزيرة العربية آنذاك، وكيف أدى ذلك الفراغ إلى اندلاع عدد من الفتن السياسية المدمرة في قلب المجتمع الإسلامي الوليد، ابتداءً من الاحتجاج على سياسات الأثَرة في أواخر عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان، ثم حرب الجمل وصفين، فصفقة عام الجماعة عام 41 هـ التي أسست للتضحية بالشرعية السياسية لصالح وحدة الأمة، وهي المعادلة التي تحكمت في الفقه السياسي الإسلامي -بوجهيْه السني والشيعي- من بعد ذلك.

ويشرح هذا الفصل ما صحِب كل هذه التحولات العميقة من انقلاب في القيم السياسية، وانشطار في الذات الإسلامية، ومن صراع بين القدرة العملية والعظمة الأخلاقية، انتهى بانتصار القوة على الحق، والبغي على العدل، والمُلك على الخلافة. كما يشرح الفصل تطوُّرَ الموقف الإسلامي من المُلك، من قبوله على مضضٍ حلاًّ ظرفيا لوقف الحرب الأهلية كما حدث عام الجماعة بعد وقعة صفين، إلى القبول السلبي الدائم به كما حدث بعد مجازر الأمويين التالية على بيعة يزيد بن معاوية، إلى تحكُّم هواجس الخوف من الفتنة في العقل المسلم، وإضفاء الشرعية على الواقع السائد، ومنح الملوك غير الشرعيين حقوق الخلفاء الشرعيين، كما حدث في العصر العباسي وبعده.

أما الفصل الرابع فيتناول السياق التاريخي الذي احتك به الإسلام خارج الجزيرة العربية خلال اندفاعة الفتوح الأولى. وقد بينَّا في هذا الفصل أن الإسلام وُلد بين زمنيْن قديمٍ وحديثٍ، وعالَميْن شرقيٍّ وغربيٍّ، وأن قيم الإسلام السياسية تجعله أقربَ إلى العالم الغربي القديم بتراثه السياسي الحرِّ، منه إلى العالم الشرقي القديم بتراثه الجبري الاستبدادي. وبعد وقفة خفيفة مع ذبول الديمقراطية اليونانية-الرومانية قبل الإسلام، وضعْف التفاعل بين القيم السياسية الإسلامية والتراث الديمقراطي اليوناني-الروماني، يُسهب الفصل في تحليل وطأة الثقافة الساسانية على القيم السياسية الإسلامية.

وقد فصَّلْنا القول في هذا الفصل عن الإسهام الثقافي الفارسي في الحضارة الإسلامية، بوجهيْه المضيء والقاتم، وكشفْنا عن ظاهرة ثقافية عتيقة جداًّ، وهي ترويض بلاد فارس لفاتحيها خلال ألفيْ عام، من الإسكندر المقدوني إلى إسماعيل الصفوي، وكيف أن الفتح الإسلامي لم يكن استثناءً من هذا الترويض. وقد أدى الترويض الساساني للقيم السياسية الإسلامية إلى اندراج العالم الإسلامي -سياسيا على الأقل-في العالم الشرقي القديم، الذي خصص له هيجل كتابه العالم الشرقي ووصَف الثقافة الاستبدادية الضاربة الجذور في تربته.

وبعد توصيفٍ ضافٍ للسياق التاريخي، اتخذ الفصل من وثيقة «عهد أردشير» مثالا على الاختراق الثقافي الساساني للقيم السياسية الإسلامية، فقدَّم لمحة عن أردشير وعن عهده هذا، ثم عن مسار هذه الوثيقة السياسية المهمة في خضمِّ الثقافة الإسلامية، ولخَّص محاورها الكبرى التي تركت أثرا سلبيا في ثقافة المسلمين السياسية، وحملت إليها مساوئ عظيمة، منها: لوثة الوثنية السياسية، واستخدام الدين بدَل خدْمته، وتسويغ العسف السياسي، وترسيخ الطبقية الاجتماعية.

أما القسم الثالث من الدراسة -بفصليه الخامس والسادس-فقد سعى إلى تلمُّس الطريق لإخراج الحضارة الإسلامية من أزمتها الدستورية، فوجد أن هذا الإخراج لا يتم إلا بتوفر شرطين اثنين، أولهما: الانتقال «من الفتنة إلى الثورة،» بمعنى تحرُّر المسلمين من هواجس الخوف من الفتنة الذي تحكَّم في مزاجهم الثقافي والسياسي عبر القرون، وتبنِّي الفعل الثوري الذي يرفض التعايش مع الاستبداد والقهر السياسي. وقد كان ذلك موضوع الفصل الخامس. أما الشرط الثاني فهو الانتقال «من القيَم إلى الإجراءات،» بمعنى تفعيل النصوص السياسية الإسلامية في واقع الحياة المعاصرة، من خلال ترجمتها إلى مؤسسات سياسية وإجراءات عملية، وذاك موضوع الفصل السادس الأخير.

أوضح الفصل الخامس مركزية الفتنة الكبرى، وأثرها التأسيسي في التاريخ السياسي الإسلامي، ثم عرَّج على الثورات الحجازية والعراقية الموءودة في القرن الأول الهجري، مبيِّناً كيف أدَّى فشل تلك الثورات، وما صاحبَها أو أعْقبها من تقتيل وتنكيل، إلى زرع تشاؤم دفين في الضمير المسلم من أيِّ مسعىً سياسي إصلاحي مهما يكن واجبا، ومن أي ثورةٍ على الظلم السياسي مهما تكن متعينة. وأدرج الفصل هذا الموقف المتوجس ضمن معادلة «الواجب» و«الواقع» التي واجهها خيار أهل الإسلام، فجعلتهم يقبلون الملك القهري بعقولهم ضرورةً مصلحيةً، وإن لم يقبلوه بقلوبهم مبدأً شرعيا. وقد اشتمل الفصل على نقد الفقهاء الذين عبَّروا عن الرخصة بلغة العزيمة أحياناً، فوقعوا في شِراك تسويغ الخنوع للظلم السياسي، مع الحرص على إنصافهم بوضع أقوالهم في سياقها، وملاحظة أنهم كانوا أفضل حالاً في هذا المضمار من مؤلِّفي كتب الآداب السلطانية ذات النفَس الساساني، التي اتخذت من تسويغ الخنوع للظلم السياسي موقفا أخلاقيا مبدئيا، ولم تكتف بقبوله بمنطق الضرورة المصلحية.

         وقد توصل هذا الفصل إلى رصد ظاهرة جديدة في الثقافة السياسية الإسلامية، برزت أظهرَ ما تكون في ثورات الربيع العربي منذ بضعة أعوام، وهي تحرُّر الشعوب المسلمة -أخيرا-من مواريث الفتنة الكبرى وذيولِها، وتغلُّبها على هواجس الخوف من الفتنة الذي تحكَّم في الثقافة السياسية الإسلامية منذ صفقة عام الجماعة. فقد تلاشى هذا الخوف من النفوس، وحلَّت محلَّه ظاهرة نفسية-ثقافية جديدة، هي الوقوف في وجه الظلم السياسي، وخوض حرب وجودية ضده.

لقد وجدنا أن الشرط الأول من شرطيْ خروج الحضارة الإسلامية من أزمتها الدستورية قد بدأ يتحقق، حين تحررت الشعوب من الخضوع للمعادلات النفسية والفقهية العتيقة التي كانت تقيِّد حريتها، وأدركتْ أن محنتها تعود إلى أزمة الشرعية السياسية، وفهمتْ أن التضحية بالشرعية السياسية يهدم الاجتماع السياسي، أو يُفرغه من مغزاه الأخلاقي والإنساني. وهذا انقلابٌ في الوعي السياسي لم تعرفه الثقافة الإسلامية منذ نهاية القرن الأول الهجري. ويكفي ذلك دلالة على الأهمية التاريخية للتحول الذي يعيشه قلب العالم الإسلامي منذ اندلاع ثورات الربيع العربي في خواتيم عام 2010.

وقد سعى الفصل الخامس إلى تقديم عبرة الثورات الكبرى في التاريخ المعاصر، لتكون زادا لثورات الربيع العربي، وتوصل إلى أن هذه الثورات ماضية إلى سبيلها، رغم كل ما صاحبها من ارتباك واضطراب. فقد دلت عبرة تاريخ الثورات المعاصرة -الذي استعرض هذا الفصل طرفاً منه-على أن الثورات العربية ستسلك -على الراجح-ثلاث طرائق إلى غاياتها، هي: الإصلاح الوقائي الذي يلتقي فيه الحاكم والمحكوم في منتصف الطريق، والحرب المفتوحة الطويلة التي تنهك المستبدين وتنقل الشرر إلى مظاهريهم الخارجيين فيضطرون إلى النزول عند إرادة الشعوب، و«الانقلابات العسكرية الديمقراطية» التي قد تظهر في هذا البلد أو ذاك إنقاذاً للموقف من انهيار شامل. 

أما الفصل السادس والأخير، فهو يتناول الشرط الثاني لخروج الحضارة الإسلامية من أزمتها الدستورية، وهو الانتقال من القيم إلى الإجراءات، بمعنى ترجمة القيم السياسية الإسلامية المنصوصة التي عرضناها في القسم الأول من الدراسة إلى مؤسسات وإجراءات دستورية منسجمة مع منطق الدولة العقارية المعاصرة. وقد بدأ الفصل بالتأكيد على أن أي سعي لإخراج الحضارة الإسلامية من أزمتها الدستورية لن يفلح إلا إذا اتسم بسمتين، أولاهما: أن يكون مُقنعاً للضمير المسلم المتعلق بالقيَم السياسية الإسلامية وبتجربة الإسلام السياسية الأولى، وهذا يستلزم أن لا يكون الحل حلا عَلمانيا منبتا عن وجدان الشعوب ومزاجها الديني والأخلاقي. وثانيتهما: أن يكون مُنسجما مع منطق الدولة المعاصرة لا خارجاً عنها أو عليها، وهذا يستلزم أن لا يكون الحل حلا سَلَفيا مستأسراً للصورة التاريخية المستمدَّة من الإمبراطوريات الإسلامية الغابرة. وبناء على ذلك، أوضح الفصل استحالة الخيار العلماني إسلاميا، واستحالة الخيار السلفي إنسانيا، مبيِّنا المنهج الإسلامي التركيبي الذي يجمع بين الديني والمدني.

ثم قدم الفصل معايير لإسلامية الدولة المعاصرة في شكل جدول يترجم القيم السياسية الإسلامية المنصوصة في القرآن والسنة إلى أحكام دستورية عملية في دولة معاصرة، مبيناً أن الحد الأدنى لإسلامية الدولة يتضمن شرطيْ الشورية: بأن تكون الدولة ديمقراطية، والمرجعية: بأن تستند الدولة إلى النص الإسلامي أخلاقا وتشريعا، مع ضرورة التمييز بين الالتزام الأخلاقي والإلزام القانوني، وأهمية الانتقال من ثقافة الإكراه والقهر والزجر إلى ثقافة الإقناع والتراضي.

وقد أفاض الفصل في الحديث عن الديناميكية الثقافية التي ظهرت في صدر الإسلام، وضرورة استلهامها في الزمن الحاضر، من خلال استثمار المحفِّز الغربي، خصوصا في مجال المؤسسات والإجراءات السياسية الذي هو مجال تراكميٌّ متحرك، ويحتاج المسلمون الاستمداد فيه من الأمم التي سبقتهم على درب التطور السياسي. فلا يمكن حل الأزمة الدستورية في الحضارة الإسلامية إلا عبر استمدادٍ واسع من الكسب النظري والعملي الذي توصلت إليه الأمم الغربية الديمقراطية، وهذا الاستمداد سيُثري ثقافة المسلمين إذا تعاملوا معه بتواضع المتعلِّم، وثقة الراشد، بعيداً عن عُقد الدونية أو الاستعلاء، وسينبِّههم هذا الاستمداد على إمكانات معطَّلة في دينهم ما كانوا لينتبهوا إليها دون ذلك. وقد أكد الفصل ضرورة أن يَبْذُر المسلمون في تربتهم الثقافية الخاصة، وأن يتملَّكوا ما يستمدونه من حضارات وثقافات أخرى، فاستعارة الفكرة في ذاتها لا تكفي لجعلها زاداً صالحاً، بل يتعين تملُّك الفكرة، ونقْعُها في رحيق الثقافة المستعيرة، وإخضاعها لمنطقها الأخلاقي والعملي.

وأخيرا خلَص الفصل إلى ضرورة انتقال الثقافة الإسلامية من منطق الإمبراطورية القديمة إلى منطق الدولة العقارية المعاصرة، بما يعنيه ذلك من مساواة بين المواطنين -مسلمين وغير مسلمين- في الحقوق والواجبات، فمِن التناقض الأخلاقي والمنطقي أن يدعوَ المسلم إلى دولة العدل والحرية، وهو يَحْرم مخالفيه في المعتقد -ممن تجمعهم به أرحام الدم واللسان والتاريخ والجغرافيا- من التمتع بثمارها في هذا المضمار، فذلك تطفيفٌ مناقض لمنطوق القرآن، وهو يضع المسلم في مفارقة أخلاقية لا تليق به ولا برسالته؛ لأنها تجعله ضحيةً للظلم ومسوِّغاً له في الوقت ذاته!

 

[1] أستاذ الأخلاق السياسية وتاريخ الأديان، كلية الدراسات الإسلامية - جامعة حمَد بن خليفة - قطر.

 

أواصر - مجلة فكرية فصلية

www.awasr.com