المثقف والمسؤولية الحضارية

طباعة 2019-07-25
المثقف والمسؤولية الحضارية

قراءة في كتاب: مسؤولية المثقف للمفكر محمد الأحمري

الكتاب: مسؤولية المثقف

تأليف: محمد الأحمري

الناشر: منتدى العلاقات العربية والدولية

سنة النشر: 2018

عدد الصفحات: 256

مراجعة: سلمان بونعمان

 

نحن أمام كتاب غير تقليدي بأسلوب جديد، وأفكار مجددة، ورؤية منهجية ثاقبة، لصاحبه المفكر محمد الأحمري: مسؤولية المثقف الصادر عن منتدى العلاقات العربية والدولية في طبعة أولى لسنة 2018. ويندرج هذا الكتاب في سياق المشروع الفكري للدكتور الأحمري، الذي انشغل بقضايا الإصلاح والنهضة والديمقراطية في العالم العربي والإسلامي[1]، حيث يعدّ من رواد مدرسة التجديد الحضاري في الفكر الإسلامي المعاصر، وإعادة تشكيل العقل المسلم.

لسنا أمام نص بارد بتقاليد أكاديمية شكلية، وأسلوب يدّعي الحياد والموضوعية الجامدة، ولغة مقعّرة غريبة، إنما نحن أمام نص نستشف منه تحيّزًا واضحًا للمرجعية الإسلامية، وإنصافًا للآخر، وانفتاحًا على تجارب تاريخية وخبرات حضارية متنوعة. إنه مكابدة فكرية من التأمل العميق، والنقد الذاتي الأصيل، والإدراك المركب لظاهرة المثقف، ممّا أخرج لنا نصًّا ممتعًا بلغة عالِمة أنيقة، وأسلوب سهل اللفظ والعبارة، مع قدر من السلاسة والقصد إلى الفكرة والمعنى. فيكون بذلك بمثابة رحلة تحضر فيها أحداث من التاريخ العربي والغربي والتجارب الموازنة، فضلاً عن مواقف المفكرين والمثقفين كالكواكبي والأفغاني وعبده، مرورًا بالحديث عن ماركس وإنجلز وتروتسكي  وتشومسكي  وإدوارد سعيد.

يتحرر الأحمري من عقد التأصيل لظاهرة المثقف ودوره ومكانته الجديدة وموقعه الراهن[2]، ويؤكد أنه ظاهرة حديثة متميزة عن فئة الفقهاء والعلماء والأدباء والشعراء كما تبلورت في الحضارة الإسلامية، كما يختار التعالي عن النبش في هويته الدينية أو العلمانية، ويركز على دوره الأساس في تجديد الأفكار وتغيير المجتمعات، مجاوزًا لحظة الصراع الإيديولوجي أو التنازع المذهبي أو التناحر الطائفي إلى تحديد مسؤولية المثقف ورسالته وأدواره، مركزًا على أهمية النهوض بواجباته الأخلاقية والدينية والإنسانية في مجتمعه.

يتسم خطاب الأحمري بنقد مزدوج ومنصف للتراث والغرب، مع اعتزاز بالأصالة، ونقد شرس للجمود والمحافظة، فهو منشغل بقضايا الواقع وتحدياته بدل الانغماس في الماضي، كما يستدعي الموروث الديني والحضاري بصفته خادمًا لقضية معاصرة وراهنة عبر تفعيل الإمكانات الإيجابية داخل التراث، لا استيراد الثقافة الانحطاطية والأفكار الميتة التي تخترق مفاصله وإنتاجه.

يمكن أن نستجلي أسس أطروحة جديدة ينحتها الأحمري ضمن دائرة الخطاب الإسلامي من خلال تناوله لمسؤولية المثقف ودوره الراهن، مجاوزًا المتعارف عليه تاريخيًّا على مستوى المفهوم والوظائف والحدود والمجالات والأنماط التصنيفية، وهو في ذلك يختار ثلاث مقاربات منهجية نكتشفها من بنية الكتاب ومتنه، وهي كالآتي:

المقاربة المعيارية لصورة المثقف من خلال الحديث عن التعريف والخصائص، وتحليل لسؤال الهوية والماهيّة، ودراسة مصادر التكوين وطبيعة الموارد الفكرية للمثقف الحديث، وكذا تحديد الواجبات الأخلاقيّة والالتزامات الثقافيّة والإنسانية تجاه نفسه وتجاه أفكاره وجمهوره.

المقاربة الوظيفية للمثقف، ويتعلق الأمر بتفكيك الوظائف الاستراتيجية والأدوار التاريخية التي يضطلع بها في المجتمعات والأمم، الأمر الذي يجعله صاحب رسالة إنقاذية، ودور إصلاحي، وضمير حيّ، وموقف نقدي. وهنا تحضر جدلية الموقع والدور، وسؤال الفاعلية والأنساق الاجتماعية والسياسية، فضلاً عن تفاعلات النظرية والممارسة. وهكذا ينقلنا النص إلى أفق رحب من التفكير في رسالة المثقف ودوره المصيري في بناء الأمم وصناعة التغيير، والتأثير والتنوير في كل المجتمعات والحضارات.

المقاربة التصنيفية لأنماط المثقف، وهنا يوظف الأحمري النمط المثالي كما تبلور عند ماكس فيبر، فقد استبطنه الكاتب محاولاً تقديم تصنيفات سوسيولوجية لأنماط المثقف، ورصد سلوكه الاجتماعي والسياسي، وانتمائه النُّخْبِيّ واستقلالية رأيه وفكره، وأشكال تفاعله مع السلطة والطبقات الاجتماعية، وطبيعة حضور الشهرة والثروة والمصلحة في مجتمع المثقفين، وعلاقتها بالمعرفة والقيم في مواقفه وتبريراته واختياراته.

ويمكن رصد فئات المثقفين حسب الأحمري في الأنماط الآتية:

المثقف العام، والمثقف الشعبوي.

المثقف مُصغَّرًا ونُخْبِيًّا.

المثقف منبهًا ونقيًّا.

المثقف تابعًا وقاسيًا.

المثقف صحافيًّا وفاسقًا.

مجددًا وناقدًا.

سلعة وزينة وساخرًا.

حاكمًا ميتًا.

متغربًا وإسلاميًّا.

موظفًا ومغفلاً.

لقد عملنا في هذه المراجعة على تقديم كتاب مسؤولية المثقف من خلال ثلاث محاور رئيسة، يشمل المحور الأول إشكالية تعريف المثقف، والمعايير المعتمدة لإضفاء هذه الصفة عليه، والتعريف الذي يقترحه الكتاب، بينما ركزنا في المحور الثاني على الأدوار التاريخية والاستراتيجية التي يضطلع بها المثقف من خلال إعادة تركيب زاوية نظر الكتاب، وتقديم بناء جديد للأدوار، وتحليل مكوناتها وشروطها. أما المحور الأخير فركزنا فيه على المؤثرات والمحددات التي تشكل كوابح تحول دون إنجاز مهماته، والتوقف عند العوامل المساعدة لقيامه بدوره على أحسن وجه.

أولاً: في تعريف المثقف

يسعى الكتاب إلى إعادة بناء تعريف المثقف مناقشًا المعايير المركزية التي تمكننا من إطلاق هذه الصفة، ومجادلاً في مدى توفر شروط قيامه، ويمكن تصنيفها كالآتي:

معيار العالِمية، وهذا يتعلق بمدى اعتبار العلم بتخصص معين والإلمام الدقيق بجزئياته كافيًا ليصبح الفرد مثقفًا، حيث يرى الأحمري أن المرء قد يكون عالمًا ويقوم بدور المثقف، وقد لا يقوم بدور المثقف بل يظل عارفًا بتخصصه ملمًّا بتفصيلاته فقط. وإذا كان بعض علماء الإسلام قديمًا والأدباء والفلاسفة قد تعرضوا للمحن والسجن فإن ذلك راجع إلى مواقفهم من قضايا الدين والمجتمع والسلطة انتصارًا لما آمنوا به، وأزعجوا بذلك الاستبداد، لا بسبب براعة في تخصصاتهم[3].

معيار التدين: هنا لا يرى الكاتب اتخاذ الهوية الدينية والمذهبية والطائفية محددًا لدور المثقف، كما لا يهتم بعلمانية المثقف أو إلحاده؛ لأن جوهر الأمر عنده يتعلق بدور الرقابة والإصلاح، ونصرة العدل والوقوف في وجه الظلم، والانحياز لبناء الوعي ورقي المجتمع، كما يبقى شرط نجاح أي مثقف ناجح ومؤثر أن ينبت في أرضه، ويرتوي من ثقافته[4].

معيار التخصص الأكاديمي: في هذا الصدد يرى الكاتب أن الانغلاق على التخصصات العلمية والإبداع داخلها لا يعني بالضرورة اكتساب صفة المثقف ورسالته، فقد يكون الباحث الإنساني والاجتماعي مهنيًّا لا مثقفًا عندما تقلّ أو لا توجد له مشاركة في حركة الفكر والثقافة والمساهمة المجتمعية معرفة أو ترويجًا ومشاركة، مثل كثير من الأكاديميين الذين يبتغون بكتاباتهم الترقية المهنية[5].

معيار الثقافة: يتوقف الكاتب هنا محاولاً رصد الاختلاف القائم بين الثقافة الفرنسية والأنجلوسكسونية في نظرتها للمثقف، إذ يؤكد حضورًا تمجيديًّا واحتفاليًّا بألقاب المثقف وصفات المفكر والفيلسوف في المجتمع الفرنسي مفسرًا ذلك بالدور التاريخي له في بناء فكر الثورة وتحرير المجتمع من الاستبداد الديني والسياسي، بينما يُلاحظ "ازدراءً في العالم الأنجلوسكسوني للمثقفين، فهم موضع الاتهام وعدم الثقة، ربما لكون المثقف الأنجلوسكسوني لم ينجز ثورة عارمة على الكنيسة والدين والأوضاع الثقافية المرعية، مثل الذي حدث في فرنسا. كما أن المثقف الأنجلوسكسوني لم يصنع مرجعًا بديلاً عن الكنيسة، وبقيت الكنيسة توحي بعدم الثقة به، ولأن هناك شبح المثقف اليهودي، وكذا شبح المتمرد على الكنيسة والمنحلّ والشاذّ أو المنفصل عن المجتمع كلها تطارده في مجتمعه. ولذا فإن السياسي والصحافي والكنيسة لهم دور في مجتمع الأنجلوسكسون أكبر من دور المثقف العام"[6].

وعلى ضوء ذلك، يرى الأحمري أن المثقف صاحب موقف معلن مبنيّ على معرفة ورؤية، فلا بدّ من اشتماله على حصيلة علمية مقدرة في العلوم الدينية والإنسانية، وحد أدنى من المعارف العامة يمكنه من المشاركة والتأثير في المجال العام، والتعبير عن آراءه والترويج لمواقفه، أو الانحياز لخيار دون آخر، والقدرة على الدفاع عنه[7]. كما يستدعي التأثير الاجتماعي للمثقف "مزاجًا معرفيًّا"، وثقافة آنية مواكبة للأحداث وتفاعلاتها، وامتلاك حس اجتماعي وعلاقة موصولة بهموم الناس وشؤونهم، حتى يكون موقفه وخطابه نبضًا للمجتمع دفاعًا وتوجيهًا وترشيدًا ونقدًا[8].

يشترط الكتاب لاكتساب صفة المثقف ضرورة انخراطه في المجال العام وحمله هموم الناس، فهو إنسان تشكّل لديه وعي عمومي وديمقراطي بقضايا المجتمع والعالم من خلال اطلاعه على أحداث المجتمع، ومتابعته لشبكات التواصل الاجتماعي، واستهلاكه لوسائل الثقافة من كتب وجرائد ومواقع إلكترونية، يؤكد ذلك بقوله: "ولا نشترط في المثقف رسوخًا علميًّا في تخصصٍ ما (...)، فالمثقف هنا لا نشترط له شهادة أكاديمية -وإن كانت تعينه- ولا تخصصًا معرفيًّا، بل نشترط فيه الوعي والحرص عليه، والعين البصيرة المخلصة للمصلحة العامة"[9].

ولا يشترط الأحمري في المثقّف أن يكون منتجًا للأفكار بالضرورة، بل ناشرًا للأفكار الجيدة، ومبشرًا بالتصورات النافعة، وشارحًا للرؤى الفكرية والفلسفية والتحيزات الحضارية التي يؤمن بها، فصورة المثقف المنشود مرتبطة بحسه العملي، وفكره المشتبك بأسئلة الواقع، ومواقفه من قضايا مجتمعه وتحدياته، فهو ليس مجرد مثقف مستغرق في المتعة النظرية الذهنية، ومعالجة النصوص الفلسفية، وفكّ رموزها المغلقة، بل إنه ذلك الشخص الذي يجمع بين العمل والفكر، وتستمد أفكاره قيمتها وأثرها من جدلها المستمر بين النظرية والممارسة، وامتحانها اليومي في المجال العام.

يهدف الكتاب إلى فكّ عزلة المثقف التي فرضها عليه المفهوم بالمعنيين: المعنى التقليدي التاريخي، والمعنى العلماني المعادي للدين. إنه يحاول تحرير المثقّف من سجن التاريخ والتراث، ومِنْ حَصْرِهِ في نموذج الفقيه أو الشاعر أو الفيلسوف أو الباحث الأكاديمي، وكذا مِنْ قَصْرِ صفته على تبنيه للنموذج العلماني الحداثي.

لقد اعتبر الأحمري المثقف ظاهرة حديثة وكائنًا جديدًا في سياقنا المعاصر، آخذا بعين التقدير عمق التحولات التي أحدثها اختراع المطبعة وانتشار الصحافة، وحجم التأثير الذي خلفته هاتان الوسيلتان في المجتمعات والأمم، بل يؤكد على كون المثقف هو ثمرة تقنيات الطباعة الحديثة، التي جعلت لأفكاره انتشارًا واسعًا، وابن الصحافة التي جعلته يتفاعل مع الأحداث والقضايا الاجتماعية والسياسية والثقافية، ويترك أثرًا سريعًا في توجيه المجتمع، وصناعة توجهات الرأي العام.

وهكذا لعبت الصحافة والإعلام دورًا كبيرًا في بروز المثقف على مستوى المفهوم والوظائف والحدود والمجالات والأنماط التصنيفية، فكان نتاجًا لها يتطور مع تحولاتها ويتجدد معها، كما تغيرت في كل مرحلة طبيعة حضوره ونوعية تأثيره. لقد حقق للمثقفين «التطور التقني في الطباعة قفزة في التأثير العالمي لم يكونوا يتخيلونها، فكانت المطبعة هي السلاح الرهيب الذي وقع في أيديهم. ولعل الأقرب إلى الحق أن الوسيلة هي من صنعت الشخص؛ فالصحافة هي من صنعت المثقف الحديث، أو على الأقل ميزته عن غيره، ثم بقية الوسائل اللاحقة، فلما جاءت الصحافة طربوا بها وتخيلوها نعمة الدهر»[10].

وإذا قلنا إن المثقف كائن جديد خلقته الصحافة فإن الأحمري ينبري ليؤكد أنه كائن متحيز بطبيعته لأمته ولغته وثقافته، فهو ينطلق من موقف، والموقف أسسته ثقافة أو دين، وشاركت فيه لغة وجغرافيا، ولهذا فهو متحيز قبل البدء. ولا يبرر هذا حضور تحيزات مضرّة وظالمة تقتضي من المثقف التخفيف من حدتها، والانحياز إلى الحق ومصالح الإنسان، وجعل العدل في مواجهة التحيز[11].

ويضيف الكاتب خاصيّة جديدة في تعريف المثقف واصفًا إياه بأنه كائن متواصل بامتياز، وهنا يتحدث الأحمري عن نموذج "ما بعد المثقف"، فهو ذلك الشخص المؤثر في شبكات التواصل الاجتماعي، وهو الذي يستعمل وسائط التواصل الأحدث في التأثير العام، وهي وسائط تصنع نخبتها وإنسانها كما صنعت الصحافة المثقف والصحفي وأوجدته[12]. إنه شخصية فارقة في مجتمعه ومحيطه، ومهيّج ومنقذ ومؤذٍ؛ ذلك أن إمكانات التواصل التي أتاحتها شبكات التواصل الاجتماعية والمواقع الإلكترونية أكسبته قدرة على التفاعل مع المجتمع والعالم من حوله، وسرعة في إبداء الرأي وبناء الموقف[13].

ويظلّ من شروط المثقف كونه كائنًا مؤثرًا ومشاركًا في المجال العام عبر الصحافة والإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي، لما يمتلكه من مؤهلات المعرفة والوعي والرسالة واللغة والبيان حتى يؤثر ويتدافع مع العلمانيين والمتدينين والمستبدين والمحافظين[14].

ثانيًا: أدوار المثقف بين الواجبات والإمكانات

كيف يمكن أن ندرك دور المثقف تاريخيًّا وحضاريًّا؟ جوابًا عن هذا السؤال توقف الكاتب عند آراء ثلاثة مفكرين عملوا على تحديد دور المثقف: إدوارد سعيد الذي يرى أن وظيفة المثقف تنبني على الطعن في المعايير والأعراف السائدة -وكأنه في هذا السياق حالة متمردة على كل سلطة جاهزة- وتقديم سرديات بديلة ومنظورات للتاريخ مغايرة لما تطرحه السلطة، بينما يراه تشومسكي يقوم بدور إنتاج الأفكار وتحليلها، فيكون بذلك قادرًا على قول الحقيقة مهما كانت مؤلمة، وكشف الكذب والتضليل، ومواجهة جرائم السلطة، في حين يعتبر الفيلسوف وليام جيمس مسؤولية المثقف تتجلى في"حماية المجتمع والدفاع عنه ونقد السلطة"[15].

لا يرضى الأحمري بهذه التحديدات رغم قوتها وصلابتها، ويختار التمييز بين دور المثقف والراغب في القيادة، مؤكدًا أن دور المثقف أساسًا هو بناء الوعي ونشره في المجتمع، منبهًا إلى خطورة اختلاط رسالته الإنقاذية بالتطلع إلى القيادة وحبّ المناصب والمصالح الشخصية، وإذا وقع ذلك "يفقد المثقف دوره مهما علا شأنه؛ لأنه لا يصبح رقيبًا، بل ينخلع من دور الهداية والرقابة، ويصبح مجرد راغب في مكسب؛ لأن رغبات الزعامة تفرض ثقافة تختلف عن مسؤولية المصلح"[16].

يدقق الأحمري في صعوبة الفصل التام بين نموذج المثقف القيادي (أو الزعيم) والمثقف المنصرف لمسؤولية التوعية، فإذا جمع المثقف القيادي بين الأمرين فيقتضي الأمر دوام الرقابة من لدن المجتمع الحيّ ومثقفيه، والاستماتة في ذلك مخافة الانحراف والزيغ عن خدمة قضايا المجتمع، ولذلك لا بدّ من جعل الوعي والتوعية حسًّا عامًّا وثقافة جماعية "تجبر الجميع على العودة إلى المصلحة العامة"[17].

ثم ينحاز الكتاب إلى نمط المثقف العملي المستوعب لقضايا المجتمع وثقافته، والفاعل المؤثر في محيطه، فـ"هو المروّج والمبدع والمدرك والمؤثّر، فلا يرضى بحكمة فيلسوف غير عملي، ولا بغرفة مظلمة لأستاذ فلسفة يصرف فيها زمانه يقرأ عن حركات العالم وأفكاره من حوله"[18]، وإنما هو منخرط في "ضجيج اللحظة وتضارب الأهواء"[19]، ويقدم أمثلة لمثقفين منذ أكثر من مئة عام ساهموا بفاعلية في رفض الظلم ونصرة مجتمعاتهم ضد الغزاة والطغاة والغلاة، يذكر من بينهم الأفغاني وعبد الرحمن الكواكبي ومحمد عبده، ومحمد الطاهر بن عاشور وعبد العزيز الثعالبي، وعلي شريعتي وسيد قطب، وابن باديس وعبد الكريم الخطابي، وعلال الفاسي ومحمد كرد علي[20].

مهمة المثقف عند الأحمري تركيب خلاق بين المسؤولية والأمانة والواجب من جهة، ومكونات الرؤية والمعرفة والرسالة والمشاركة من جهة أخرى، فقبل أن ينخرط في أداء أدواره التاريخية والاجتماعية والحضارية عليه التزامات تجاه نفسه من خلال الحرص المستمر على تطوير معارفه، وتنمية مهاراته، والاتساق مع مبادئه وقيمه، والجدّ في تهذيب ذاته حتى لا يصاب بالغرور والاستعلاء، كما أن هناك التزامات تجاه أفكاره تقتضي منه امتلاك:

القدرة المعرفية: ويقصد بها حجم الموارد الفكرية التي يستوعبها المثقف، وانفتاحه على المعارف الحديثة والعلوم الإنسانية، ومدى قدرته على تكوين رؤية من خلالها.

القدرة البيانية: ويعني بها ملكة الكتابة وحسن التبليغ التي يحتاج إليها المثقف لتكون أفكاره ومواقفه واضحة؛ فالمقدرة على التعبير والتحرير لما عنده من تصورات مسألة مهمة في وظيفة النشر والتأثير.

القدرة التواصلية: أي تمكُّن المثقف من استخدام الوسائل الحديثة لإيصال الأفكار والمواقف، ومواكبة أساليب التأثير الصحافي والإلكتروني والإعلامي الحديثة للوصول إلى أكبر عدد من الناس.

القدرة النقدية: إنها تلك القابلية لدى المثقف على المراجعة والتصحيح والنقد الذاتي لأفكاره ومقولاته قبل غيره، مع التواضع في تنسيبها وتطويرها وتقويتها.

وعلى ذلك يبسط الكتاب الأدوار المتعددة للمثقف، وهي بالنظر إليه مسؤوليات ملقاة على عاتقه، وواجبات أخلاقية وإنسانية ودينية، وقد قمنا بإعادة تركيبها وتصنيفها في الأدوار الآتية:

الدور النقدي:

نحن أمام دور أساس للمثقف يتمثل في كونه ضميرًا للمجتمع، ومنبهًا إلى الاختلالات القائمة ورفض الظلم من خلال بناء فكر نقدي تجاه المقولات السائدة أو الأفكار الجاهزة، وهو في ذلك يتصارع ويجادل ويعترض. وهو في خياره النقدي ليس متوجهًا إلى السلطة القائمة فقط، بل دوره كسر الهيمنة التي يمكن أن يمارسها أفراد أو نخب أو مؤسسات على المجتمع أيضًا، ومن ثم يمارس نقدًا متعدد الأبعاد لأي سلطة سواء أكانت اجتماعية أم علمية أم دينية أم سياسية أم ثقافية.

ولا يكتفي المثقف بنقد السُّلْطِيّة، وإنما يُعمِل انتقاده لسلطة المجتمع الضاغطة، وتقاليده وتواطئه على الظلم والجهل والتعصب والعنصرية، بل يتحول إلى مخادع ومزيف للحقائق «حين يسكت عن المجتمع خوفًا منه أو مجاملة له، أو لأنه يوفر له دعاية أو مالاً أو حماية معنوية»[21]، وهو آنذاك يخون رسالته ومجتمعه.

إن وظيفة نقد المجتمعات الخاضعة للانحطاط والاستبداد والاستهلاك أمر ملحٌّ على أي مثقف غيور على بني قومه وطامح لنهضة أمته، فهذه السلطة الاجتماعية قد تتحول إلى عائق في وجه حركة التغيير، وقد توظف ضدها، ولذلك ينتصب الأحمري مطالبًا بمواجهة هذه السلطة الخفية والقاهرة التي يجاملها وينافقها الجميع، ففي اعتقاده يعدّ ذلك ركنًا أساسًا لتحرر الفرد من ضغط المجتمع وسلطته ومن طاعته العمياء له[22].

ويمضي في ذلك الأحمري بوضوح بقوله: "المثقف ليس حمّال طبل للسلطة، ولا مُنومًا للمجتمع يبشره دائمًا بأنه إن سكت وتبع قادته فهو على الصراط المستقيم، ولكنه يراقب الانحرافات ويمتدح الحسنات، فتصيبه عاقبة النقد للناس وللسلطة وللمتنفذين، وهنا يكون أمينًا وموثوقًا حين يكون بصيرًا ومنتقدًا، ومؤيدًا لما يؤمن بأنه حق، حيّ الضمير في الاعتراض على المظالم، ويذكّر الناس أفرادًا وجماعات بمسؤوليتهم تجاه حياتهم، أما إذا حمل طبل الوزارات والمتنفذين فلا شكّ أنه سيصبح وسيلة دعائية مضرّة بالمجتمع"[23].

وعليه، يرى الكتاب بأن من واجب المثقف تشريح أمراض المجتمع وعيوبه والتعريف بها، مع التنبيه إلى مخاطرها، ونقلها من قضيته الخاصة لتصبح همًّا عامًّا، وهو في ذلك بمثابة الطبيب الذي يهدف إلى التشخيص الدقيق للمرض، والتمييز بين أعراضه الظاهرة وأصوله الكامنة بقصد العلاج الجذري بدل خيار الإهمال أو التغافل[24].

الدور التحريري التنويري:

إذا كان من مسؤولية المثقف تخليص مجتمعه ممّا هو فيه من أوهام المعرفة وحشو الثقافة وأثقال التقاليد بوصفها عوائق كابحة لمسيرة التقدم فإن المثقف الحرّ يظل حريصًا على تحرير نفسه وأخلاقه وضميره، ومتطلعًا لحراسة فضائل الإنسان في مجتمعه أصالة وفطرة لا تصنُّعًا[25].

ومن ثمّ فدور تحرير المجتمع من الخوف وتنويره بالعقل المسدد بالوحي، وتفكيك نفسية القهر والقابلية للاستبداد والاستعباد يعد جوهر مهمة المثقف وهو ينشر فكرته وموقفه ويبشر بأفق جديد، ولعل جزءًا أصيلاً من وظيفة التحرير التنويرية مواجهة منتجي خطاب الخوف من التغيير والتخويف من المستقبل والاكتفاء بالمنجز وحماية الذات الطائفية.

الدور الإصلاحي والتجديدي:

إن المثقف المجدد يقوم بدور أشبه بدور النبيّ في الإصلاح ومعالجة الخلل والتبشير بالنموذج البديل، ذلك أن غياب آليات المراجعة والتصحيح، وفقدان القدرة على التفاعل مع تحولات العصر، والعجز عن إدراك المتغيرات وصياغة الأجوبة وإبداع الآليات، ووعي أسئلة المرحلة ومتطلباتها يقتضي إحياء وظيفة التجديد على ضوء إدراك تحوّلات فهم الدين ومعايشته للتحولات الراهنة. فكيف يُجدد من هو غائب عن العصر؟

يشير الأحمري إلى أن المثقف له "دور عظيم في إحياء الأمم، وإذا قامت الأمم ونهضت أسند إلى المثقف الدور الرئيس، وإذا انهارت أسند له أيضًا دور خيانة الأمانة، حتى حين تُعرض الحكومة عنه وتهدده وتضايقه فإنه لا يعذره أحد، فليس الدور المنوط به هو الرقابة والنقد فقط، بل إن دور التذكير بالغايات أيضًا منوط به وهو عمل مستمر؛ فالنيات الحسنة متوفرة في المجتمعات، ولكنها تحتاج دائمًا إلى تجديد وإحياء، ومَن غير المثقف يشحذها؟"[26].

وهنا نتساءل: أليست حصيلة الأفكار التجديدية الحيّة في الأمم بمثابة مسار معقد ومركب من المراجعات النقدية الواعية للمواقف والاختيارات والخلفيات والتصورات؟ أو ليست الأفكار الملهمة والمؤثرة ناجمة عن حالة من التجديد الفكري والنقد الذاتي، والتأمل الواعي في التجارب والمسارات، والسنن الشرعية والقوانين الاجتماعية والكونية؟

وإذا كان من الضروري أن تكون الممارسة التجديدية للمثقف بأفق إصلاحي نهضوي فلا بدّ لها من تجنب الخلط بين خياري المرونة والسيولة، فالتكيّف الإيجابي والتقدير المصلحي والاجتهاد المقصدي وفقه المآلات لا يعني السقوط في السيولة التبريرية، والشيخوخة النضالية، والخوف المرضي من كلفة التجديد. ومن ثم ينظر الأحمري إلى مرونة المثقف بكونها دليل وعي متقد وتقدير للاختلاف، وأنها تعدّ من أهم وسائل النجاح والبقاء على روح الرسالة ومقصدها الأصلي[27].

كما تسهم المرونة في التخلص من عُقد الخصوصيات الصغيرة الشخصية والمذهبية، فمن المهم في نظر الكاتب أن يتجنب المثقفون في المجتمع تقسيم أنفسهم إلى متدينين وغير متدينين، داعيًا إلى مجاوزة آفة الاستقطاب والانقسام المرضي على أساس الهوية والمذهب والدين، بالنظر لما ينتظر المثقفين من واجبات جسيمة تجاه مجتمعاتهم، فهذه الواجبات هي مصالح عامة مشتركة التحصيل رغم تفاوت العمل بها ولها. ويبقى هدف تحقيق التغييرات الكبيرة دائمًا منوطًا بأقليّة تقوم له وتفكر فيه وتحترق من أجل حصوله.

بينما يتميز الموقف السائل عند المثقف بالذوبان الأيديولوجي، والسيولة القيمية، والترهل الإصلاحي، وفقدان الهوية الفكرية والبوصلة السياسية، وطغيان المصلحية، فتكون النتيجة إفراغًا للدور الإصلاحي من مضمونه وروحه. كما أن المحافظة والجمود وأشكال التكيف السلبي لا تولد نمطًا مبدعًا في اجتراح التنمية المستقلة والشاملة والمتوازنة، ولا تخدم العلاقة المصيرية بين الديمقراطية والتنمية، فقد تمددت السلطِيّة من جديد نتيجة الجمود الفكري والتردد السياسي، والفقر الفلسفي وتأزم الاجتماع السياسي، وتعثر نموذج الدولة الوطنية، ومأزق مشروعها التنموي والإصلاحي[28].

الدور الرسالي:

ينبه الأحمري إلى خطورة التحول الكبير عند المثقف من الإيمان بقضية ورسالة له في المجتمع إلى مجرد حرفة تدر عليه المكاسب والامتيازات وتصبح مصدر دخله وعيشه، ولعله هنا يحيل إلى التمييز بين أن يعيش المرء لأجل الثقافة أو أن يعيش من الثقافة، ففي الأولى نكون أمام «رسالة ذات قيمة محببة ورافعة للمجتمع، ويكون هو أمينًا على سيادة الخير في المجتمع، أي عندما يكون المثقف حريصًا على إحقاق الحقوق، صادقًا فيما يؤمن به، محاولاً الخلاص من عيوبه وتحيزاته ومن جماعات الضغط عليه»[29]. أمّا في الحالة الثانية (العيش من الثقافة والاكتساب منها) فيفقد المثقف موقفه واستقلاله في بنائه، كما يتحول إلى مجرد مرتزق يقوم بوظيفة التبرير والدفاع والتلميع لمشاريع المانحين وأفكارهم.

يفضح الكتاب مواقف الغرب المتهمة لأبنائه من المثقفين الغربيين المنصفين بالخيانة، وتهميشهم لأنهم تعاملوا بمسؤولية ونزاهة دون تحيّز مسبق وجاهز في دراسة قضايا الإسلام والمسلمين تاريخيًّا وفكريًّا وحضاريًّا، حيث أدركوا أن الثقافة مسؤولية وضمير وموقف، فحوّلوها من مهنة إلى رسالة بروح إنسانية عالية، ممّا جعل بعض الشخصيات الثقافية اللامعة في الحضارة الغربية مكروهة من حكوماتها بعد التحوّل مثل روجي جارودي مثلاً، بل انتقل بعضهم "من كونهم شخصيات استعمارية أو جاسوسية غربية إلى أصحاب رسالة تجاه الإنسان المضطهد، او تجاه قناعاتهم أيًّا كانت، مثل عبد الله فيلبي، أو محمد أسد، أو مرمدوك بكثال، وحشود من المستشرقين، وموظفين استعماريين ومنخرطين في حقوق الإنسان ورعاية المستضعفين، ممّن كانوا ذوي مواقف شديدة الوضوح في شرح مآسي الضحايا، ففارقوا الخمول المهني أو ممارسة الحرفة المطلوبة، واتجهوا إلى الرسالة الحضارية والإنسانية عندما استيقظت ضمائرهم رعاية لإنسانية الإنسان، فكانت الثقافة رسالة آمنوا بها ومارسوها"[30].

وتحضر فكرة رسالية المثقف في نسيج الكتاب من خلال الأبعاد الآتية:

الاعتراف: بما يعنيه من القدرة على الانفتاح على جهود الآخر والإيمان بإمكانية صوابيته، فضلاً عن فضيلة التلاقح الفكري والتسامح مع دوام التحاور والتعارف. وهنا يجاوز المثقف عباءة الطائفة والمذهب ويتحرر من التعصب، أو اللجوء إلى خيار القضاء على الحقيقة أو كبتها "إن جاءت على لسان غيره، إذ يعلم أن نموّه معرفيًّا وثقافيًّا ورقي مجتمعه -إن كان مهتمًّا به- يكون من خلال جوّ منفتح ومتسامح"[31]، فالمثقف المبدع والمؤثر لا بدّ أن يشمل نشاطه اكتشاف جهود الآخرين، والتعريف بأعمالهم وإنصافها، والتحاور معها ونقدها في أفق التراكم والتطوير.

ويوضح الأحمري الفرق بين من يسعى إلى الانفتاح على ثقافات العالم وتجاربه المتنوعة -بغرض التجديد وإصلاح ثقافته وتوطين كل ما هو خير ونافع فيها، مؤكدًا أن ثقافة أي بلد تتأثر بغيرها وتؤثر فيه وتتفاعل معه- ومن يدّعي الصفاء والنقاء التامّ لثقافته فيختار الانغلاق في سلفية متطرفة[32].

العدل والإنصاف: إن هذا الدور النبيل للمثقف جزء من رسالته الأساس، فهو طالب للعدل والإنصاف لأمته وتراثه وكذا لأعمال الآخرين وتراثهم، فوظيفته إحياء هذا الدور وقول الحقيقة ولو على نفسه وأمته، وبذلك يرتقي إلى أفق إنساني رحب[33]، يتحلى فيه بنمط من العدالة الأخلاقية في الحجاج والحوار وإبداء الرأي، وتقديس الحرية في التفكير والاختيار والانحياز، مع الاتصاف بالنسبية في تقدير وجهات النظر والاجتهادات الفكرية والسياسية.

ومن الأمور المهمة التي يلفت الكاتب لها النظر إذا ما تحلى المثقف بخلق العدل والإنصاف أن يجامل بعض التقاليد والأعراف في الثقافة المحلية غير الضارّة بالفرد والمجتمع، ولعلها في بعض المجتمعات المحافظة قيمٌ تراحمية إنسانية أنيقة، ليس من دور المثقف اختلاق الصراع معها ودوام الصدام في مواقف فرعية وجزئية. فالمطلوب من المثقف التركيز على القضايا الكليّة الفاصلة والفارقة في تطور المجتمعات، وفي ذلك يقول الأحمري: "وهناك فرق بين التنوير بما يحسن فعله ويعرف المثقف به، وحالة المصادمة المستمرة في صغائر الأمور"[34].

الوساطة الإيجابية: ليس بالضرورة أن يكون المثقف منتجًا للأفكار أو مبتكرًا لنظريات جديدة، فقد يقوم بدور الشرح لنظرية مرجعية أو الترويج لها في أوساط العموم بأسلوب جذاب ولغة وسيطة، وخطاب مؤثر وأكثر إقناعًا، وهو في هذا الأمر يخلص نفسه من عقدة الاستعلاء، وينحاز إلى التبشير بما ينفع مجتمعه دون أن يسأل "هل هذه الفكرة له أم لصديقه أم لعدوه؟"[35].

ويرى الكتاب أن المثقف المعاصر في العالم المتقدم يتمحور أغلب دوره في الترويج والشرح لموقف شخص أو فكرة أو مدرسة أو حزب أو توجّه اجتماعي ينتسب له ويدافع عن اختياراته ويطور حجاجه ويقوي منطقه" وهو في شرحه مبدع غالبًا، يحشد الأدلة والقناعات، ويجمع الملاحظات ويتعب في تحصيل المعلومات، حتى يصبح بحق مبدعًا فيما يروّج له"[36].

ثالثًا: في المؤثرات الدافعة والكابحة

مهما كانت للمثقف من أدوار عظيمة في نهضة المجتمع وتنويره، ومهما قدّمنا من أفكار ومقاربات في محاولة فهم وظيفته التاريخية وقيمتها النوعية داخل المجتمعات فإنها تبقى دونَ فائدة إذا لم ندرك المؤثرات الدافعة والكابحة التي تحدد طبيعة دوره وحجمه ومداه، فإمّا أن يتوسع مجال تأثيره أو يتراجع أو يأفل. وقد انشغل الأحمري بتحديد المؤثرات السالبة لدور المثقف، وهي مؤثرات ثقافية واجتماعية وسياسية وجغرافية، بل هناك شروطٌ ضرورية لوجود المثقف نفسه، ويمكننا رصدها في المستويات الآتية:

البيئة الحاضنة

عندما يتواجد المثقف في بيئة لا تساعده على إنتاج أفكاره بكل حرية واستقلالية، ولا تسمح له بالنقاش الحرّ فسنكون أمام نمطية فكرية وثقافية أحاديّة؛ فللمناخ الثقافي والاجتماعي والسياسي دور كبير في إحياء وظيفة المثقف وتنشيط الأفكار وتداولها، يؤكد في هذا الصدد ذلك بقوله: "المجتمع الديمقراطي الحرّ يسمح للمثقف بممارسة دور كبير في مصير مجتمعه، بعكس المجتمع المغلق الذي يهمين عليه الاستبداد؛ فالمجتمع المستبد يجبر المثقف على التطرف باتجاه الخروج الحادِّ على السلطة أو العبودية لها، ويجعل هذا المجتمع يضيع بين تطرفين ومجتمعين وصورتين متضادتين"[37].

إن قيمة الثقافة في نظر الأحمري تكمن في تداولها وتنميتها والجدل حولها قبولاً ورفضًا، كما يشترط لنموها مشاركة واسعة وشبكة تستقبلها فتفرح بها، أو تسخط عليها، وتقوّمها وتنتقدها[38]، أي أن للبيئة المحيطة بالمثقف ودرجة الانفتاح السياسي أثرًا كبيرًا في تنمية دوره وتوطين رسالته، فالمجتمع الراكد لا تتطور أفكاره، ولا يمنحها الحياة، ولا يسمح بنمو الثقافة داخله، حيث لا يشتمل على آليات استقبال مناسبة تقوّمها وتنتقدها أو تتبناها، عكس المجتمع الحيّ والنشيط الذي تتنوع فيه الآراء، وتتدافع فيه الأفكار والتوجهات. كما تشكل الجامعة في هذا السياق بيئة للحوار والنضوج وشحذ الأذهان وتبادل الأفكار ونقدها، فهي بذلك تعتبر بيئة حرّة ومتنوعة التخصصات والاتجاهات[39].

يشير الأحمري إلى أن أحد أسباب نجاح بعض المثقفين الكبار وتأثيرهم راجع إلى محيطهم النوعي، ومن أحاط بهم من متجاوبين وناشرين وشارحين ومؤيدين ومعترضين، ويقدم مثالاً لأعمال هيجل التي كانت عبارة عن محاضرات متقطعة ومبتسرة، ولكن تلاميذه والمتجاوبين معه بعثوا الحياة في فكره وثقافته ونصوصه، ويؤكد ذلك بكون الجهد والنشر الكبير لكتّاب كبار -مثل ميشيل فوكو، وليفي شتراوس وبعض معاصريهما - يعود إلى طلابهم في الجامعة وإلى مريديهم، فقد صنعوا من مقالاتهم كتبًا ومواقف[40].

أما في مجتمع الخوف والأنساق السياسية المغلقة فلا وجود إلاّ للرأي الواحد، ومناخ الإقصاء والقمع، ممّا يبرز معه نمط المثقف المتملّق والخائف. وعندما يصاب المثقف بمرض «الخوف» يُنتج حالة من التردد والشلل والعقم في الرؤية والخطاب والتدافع، ويؤدي ذلك إلى ضمور حادٍّ في تجديد المضمون الفكري والسياسي للأفكار، وغياب مساءلة الخيارات وتقويم المسارات. كما تسهم متلازمة الخوف والتخوف والتخويف في انعزال المثقف الإصلاحي والديمقراطي عن عمقه الاجتماعي ورسالته الأصلية، فيتحول الخوف مع الزمن إلى استبطان رقابة ذاتيّة مرضيّة ورُهاب نفسيّ وتآكل ذاتيّ.

سجن التخصص ولعنة الشكليات

إن المعرفة لا تعني الابتعاد عن هموم المجتمع وقضاياه وأسئلته الحارقة، ومن ثم لا بدّ أن ينتبه المثقف إلى مخاطر الغرق في التخصص والانغلاق الأكاديمي عليه، وما قد ينتج منه من عزله عن حيوية المجتمع وحاجاته، واعتزال الأكاديمي للمجال العام.

وليس الغرض هنا تحقير فكرة التمييز بين التخصصات ووظيفتها الإجرائية والعلمية، وإنما نقد حالة تطرف الكتابة الأكاديمية في الشكليات، والتقليد الجامد باسم الموضوعية والحياد مع إغفال القيمة المضافة للنص وقضيته ومضمونه المعرفي، وقد آل الأمر إلى اعتبار من يتحوّل من هذا النمط الشكلي البارد والاختيار المنهجي السطحي إلى توظيف رصانته الأكاديمية وبراعته وطبيعة تكوينه لبناء رؤية ورسالة وإنتاج فكري عابر للتخصصات وخادم للمجتمع، اعتباره خارج دائرة العلميّة، وبعيدًا عن الأكاديميّة، ومتهمًا في أفكاره ومطعونًا في مصداقيته.

وهنا يصبح الانغلاق على التخصص والاكتفاء به انسحابًا من حركة الفعل، وعائقًا في وجه الإبداع والتأثير والمساهمة في ترقية المجتمع، كما نفتقد الحسّ النقدي والمساءلة العلمية وبناء الموقف المطلوب من قضايا الإنسان والمجتمع والحضارة.

الغربة والاغتراب

هل يمكن للمكان والمنفى أن يؤثّر في رؤية المثقف وزاوية نظره للأمور؟ يحمل المثقف المغترب في داخله أشواقًا ومشاعرَ وثقافة وذاكرة للمكان والوطن والتقاليد، لكن كلما تنوعت تجاربه وخبراته وأسفاره تغيرت علاقته بالأرض والمجتمع، وتجدّد مفهوم الانتماء عنده، وقلّ تأثير الأعراف والتقاليد والثقافة الأصليّة على تصوراته للإنسان والمجتمع والعالم.

إن الهجرة الطوعية أو القسرية تشكل فضاءً جديدًا للتفكير وأفقًا للمراجعة والإنصات عند المثقف، وهي بذلك تمنحه معنى متجددًا وزاويةً في النظر مغايرةً لما قد يراه المثقف المقيم، كما تمكنه من التمرد على العادات والمألوف؛ فتتكون لديه مقدرة ثورية على بناء خطاب مختلف تتفاعل فيه الأفكار والأشخاص والأشياء والأحداث من منظور متقدم ومغامر وقلق[41].

خاتمة  

وفي الختام لا يمكن القول إن المثقفين يشكلون طبقة متجانسة وموحّدة المقاصد والتوجهات، بل هم نمط متعدد الخيارات والمرجعيات والأولويات، ويتحدد دورهم بالانخراط في قضايا المجتمع وبناء وعيه الحضاري بدل إنتاج أحكام قيمة تتسم بالاستعلائية والتعصب، وبعيدة عن النسبية والإنصاف. أما المثقف المزيف فهو بطبيعته محرّف للمعارك ومزوّر للوعي، وحارس لمصالح السلطة، وحريص على امتيازاته ومصالحه، ومهووس بفرض مذهبه وذوقه واعتقاداته على المجتمع.

تبرز الحاجة ملحةً في لحظات المحن والأزمات إلى دور إنقاذي واستنهاضي للمثقف، وكناقد للأفكار الميتة والقاتلة يتسم موقفه بالأصالة والمصداقية؛ لأن وظيفته النقدية تستبطن وظيفة التحرير والتنوير والتثوير والتجديد، فهو في الأصل حارس لأحلام الشعوب، ومدافع عن حقها في الحرية والعدالة والكرامة والسيادة؛ فيستحق بذلك أن يكون نبيًّا لا يُوحى إليه.

وإذا كان المثقف هو الحامل لهموم المجتمع والفاعل النوعي في عملية الإصلاح، والمشارك في المجال العام، والناقد لسلطة المجتمع وطقوس الاستبداد ومنظومته، والمؤثر في الرأي العام فإن سؤال حدود العلاقة بينه وبين السياسة سيظل مطروحًا يعكس العلاقة المرتبكة بين الثقافي والسياسي في مجتمعاتنا، وحجم تأثير الأيديولوجيا على تفكيره، ومدى قدرته على التحرر من أسرها، فضلاً عن سؤال الأولويات التي يعمل عليها المثقف في العالم العربي والغربي نستحضر هنا جدلية الإصلاح والديمقراطية وعلاقتها بالاستقرار السياسي والاندماج الاجتماعي، ومدى إسهامه في بناء مصالحات ثقافية وفكرية لمجاوزة حالة الانقسام والاستقطاب السائدة في المنطقة.

 

[1] انظر في هذا الصدد مؤلفات محمد الأحمري الآتية: "الديمقراطية: الجذور وإشكالية التطبيق"؛ "مطارحات في الفكر والدين والسياسة"؛ "ملامح المستقبل"؛ "نبت الأرض وابن السماء: الحرية والفن عند علي عزت بيجوفيتش"؛ "مذكرات قارئ."

[2] وليس القصد من هذا التحرر نوع من التنكر للتراث الديني والتجربة الحضارية الإسلامية، بل هو شكل من التمييز بين فئة العلماء والفقهاء والمتكلمين والفلاسفة في التاريخ الإسلامي، والمثقفين بوصفهم ظاهرة مرتبطة بالعصر الحديث وبوسائله الجديدة، وآلياته التواصلية والشبكية المؤثرة والسريعة. وللمؤلف مشروع كتاب مستقل عن دور العلماء في التراث والتاريخ الإسلامي.

[3] انظر: محمد حامد الأحمري، مسؤولية المثقف، ط1، (الدوحة: منتدى العلاقات العربية والدولية، 2018)، ص39 و52.

[4] المرجع نفسه، ص40 و171.

[5] نفسه، ص107.

[6] نفسه، ص46-47.

  [7]نفسه، ص53 و106، بتصرف.

  [8] نفسه، ص51.

[9] نفسه، ص42.

[10] نفسه، ص18.

[11] نفسه، ص201.

[12] نفسه، ص233.

[13] نفسه، ص234.

[14] نفسه، ص166.

[15] نفسه، ص91.

[16] نفسه، ص94.

[17] نفسه، ص95.

[18] نفسه، ص51.

[19] نفسه، ص51.

[20] نفسه، ص92 و93.

[21] نفسه، ص17 و114.

[22] نفسه، ص95.

[23] نفسه، يمكن الرجوع إلى ص145 و146.

[24] نفسه، يمكن الرجوع إلى ص142-145، و210-212.

[25] نفسه، ص102.

[26]  نفسه، ص96.

[27]  نفسه، يمكن الرجوع إلى ص145 و146.

[28]  نفسه، يمكن الرجوع إلى ص142-145، و210-212.

[29]  نفسه، ص102.

[30]  نفسه، ص195-196.

[31]  نفسه، ص98.

[32]  نفسه، راجع: ص171.

[33]  نفسه، راجع: ص99.

[34]  نفسه، ص106.

[35]  نفسه، ص108.

[36]  نفسه، ص109.

[37]  نفسه، ص113.

[38]  نفسه، ص62 و63.

[39]  نفسه، ص71.

[40]  نفسه، ص63.

[41]  نفسه، راجع: ص80-87.

شارك :

التعليقات (0)

أضف تعليق