سادة البشر - المواقف الأوروبية من الثقافات الأخرى في العصر الإمبريالي

عبد القدوس الهاشمي

سادة البشر - المواقف الأوروبية من الثقافات الأخرى في العصر الإمبريالي

تأليف                  : فيكتور كيرنان

ترجمة                 : معين الإمام

الناشر                 : منتدى العلاقات العربية والدولية

سنة النشر           : 2017

عدد الصفحات        : 432

 

في مطلع عام 2016 استضافت أوكسفورد مناظرة كان موضوعها جدوى تدخُّل القوات الإنجليزية لحرب داعش في العراق وسوريا، كان جورج جالاوي كعادته- معارضًا لموقف الحكومة. تحتدم المناظرة وتطلب أستاذة أكاديمية المشاركة، تقف وتقول: «لا بد لنا من القيام بدورنا في تعليم وتوعية الشعب العراقي على الأقل!»، تجلس، وتصل الكلمة إلى جورج جالاوي: «أريد أن أعقّب على مداخلة السيدة التي تريد تعليم العراقيين: هل أنت جادة؟! تُعلّمين العراقيين؟! لقد كان العراقيون يدرّسون علم الجبر ونحن ما زلنا نصبغ وجوهنا باللون الأزرق ونعيش في الأدغال؟! تريدين تعليمهم؟! يا للسخرية!».

 نبرة الأستاذية المتعالية والتفوق من تلك الأكاديمية تكاد تكون أحيانًا تيارًا كاملًا في أوساط بعض المثقفين الغربيين، ولمعرفة جذور هذا الدّاء الذي استشرى في الغرب، تأتي أهمية كتاب المؤرخ البريطاني فيكتور كيرنان سادة البشر: المواقف الأوروبيّة من الثقافات الأخرى في العصر الإمبريالي، الذي صدرت ترجمته عن منتدى العلاقات العربية والدولية بالدوحة. وقبل الحديث عن الكتاب، تجدر الإشارة إلى أن ثمة سلفًا لصديقتنا الأكاديمية التي ترغب في تعليم العراقيين؛ فهذا آدم سميث أبو الرأسمالية لا يتحرج من أن يشير إلى أن أمته الأوروبية هي أم البشرية بإطلاق. وهذا أبو اليسار كارل ماركس، وهو محامي الطبقات المسحوقة، يصف المقاومة الجزائرية للاستعمار بأنهم «ثلة من قطّاع الطرق!» إنها الشوفينية الأوروبية، وعقدة الرجل الأبيض.

يلتقي كتاب كيرنان مع المدونات الغربية التي اهتمت بذكر طرف من وحشية الاستعمار وفتكه بالشعوب، ولكنه ينفرد دونهم بتركيزه على أسِّ الداء الذي تدور عليه رحا البطش وهو ازدراء الشعوب الأخرى وانتقاص إنسانيتهم؛ فمتى نزلوا بخصمهم عن درجة الإنسانية الخالصة لهم والمقصورة عليهم أصبح ما يفعلونه مبررًا بل ومحمودًا؛ إذ هو داخلٌ في معنى تسخير الطبيعة وتطويعها لـ «الإنسان»، ويدخل في الطبيعة ما عداهم من «البرابرة» الذي صار وصفًا لكل خصم للرجل الأبيض.

أدار كيرنان كتابه على ثمانية فصول تاسعها الخاتمة، ابتدأ الفصل الأول بالحديث عن أوروبا القديمة وتصوُّرها عن الأجانب، ثم تطوُّر النظرة الاستعلائية لديها مع بدايات الحملات الاستعمارية؛ مشيرًا إلى أن نظرة الاستعلاء بدأت داخليًّا بين أمم القارة العجوز ثم انتشرت مع انفتاحهم على العالم. ويمضي في الفصول السبعة التالية ليدرس مواقف الأوروبيين من ثقافات المستعمرات، فابتدأ بالهند، ثم مستعمرات آسيا، فالعالم الإسلامي والصين، ثم جنوبًا نحو إفريقيا، فأستراليا وما حولها من الجزر، وانتهاءً بأمريكا اللاتينية. وهذه فصول تحصل الاستفادة من قراءتها استقلالًا لكثافة المعلومات فيها وتوفرها عن مواقف الاستعلاء التي تتكرر في كل فصلٍ وفي كل تجربة للاستعمار الغربي. ثم يختم المؤلف كتابه بالتساؤل عن أسباب هذه العدائية للأمم الأخرى ولمَ كان الاحتلال بهذه الوحشية، ويجتهد في تلفيق جواب يشفي حيرته. ماذا لو «سافر الإنجليزي المولع بالأسفار بروحه كما يسافر بجسده»، كما يقول رسكين، هل كانت ستتغير ممارساته حين تمتزج روحه بروح من يصل إليهم وينزل عليهم من أمم أخرى؟!

إن حسَّ التفوق وازدراء الثقافات الأخرى لم يكن مجرد ممارسة عسكرية واحتلال فحسب؛ وإنما تجاوز هذا إلى طمس تاريخ العلوم والعبث بمسار التاريخ، وحسبك أن تتأمل في الفكر الأوروبي الذي يبني قصة عقلانيته على معجزتين: «معجزة العقل اليوناني» ليقفز بهذه المعجزة ويلغي أثر حضارة المشرق وإفريقيا في تكوين العقل اليوناني، ثم معجزة «عصر التنوير» ليتجاوز جهود المسلمين في نقل علوم اليونان وتطويرها. ويكفيك من تهافُت هذه الدعوى، إقامتها لعقلانيتين على معجزتين! نعم قد ينبغ في الغرب مَن يعيد نقد هذه الرواية والدعوى كمارتن برنال في كتابه أثينا السوداء، وول ديورانت في قصة الحضارة، ولكنّ أغلبية مؤرخي الفلسفة الغربية على خلافهما.

لقد نضج الكتاب في ذهن مؤلفه قبل أن تتلقفه الأوراق، فجاء الكتاب سليمًا من برودة الأكاديمية البحثية؛ إذ كان نتيجة «قراءة منوعة وليست موجهة نحو الموضوع» كما يقول المؤلف. والرجلُ طُلَعَة يدين له مؤرخو اليسار بتفوقه وبسعة دائرته ومعارفه، وهذا بيّنٌ في كتابه لتنوع مصادره فيه. ولا ينبغي أن يصدّك عن الكتاب وصفهم لكيرنان بأنه «شيخ مؤرخي اليسار» وابن مدرستهم التاريخية، فالرجل إنما يكتب بقلم إنسان وينطلق من مسلَّمة تغيب عن كثيرٍ؛ وهي أن البشر متساوون في استحقاق الحرية والكرامة. وهذا أول ما تطلبه في المؤرخ.

« لم تهتم أوروبا كثيرًا بالفنون والأفكار الإسلامية الحقيقية، ربما جذب علم التنجيم والخيمياء معظم انتباهها. ولو كانت البلدان والحضارات على استعداد لقبول أفضل ما لدى غيرها؛ لتقدّمَ الجنس البشري بسرعة أكبر» (ص57).

لقد نفذ كيرنان إلى الأمم الأخرى حيث قرأ آدابها، فهو ينقل ويترجم عن الأوردية والفارسية، ومن قرأ أدب أمةٍ فقد لامسَ روحها، وفي هذا داعٍ لانحيازه إلى الشرق الذي عايشه وأحاط بتاريخه وثقافته. زِدْ على ذلك أنه جعل الأعمال الأدبية الغربية نافذته التي يُطل منها على المخيال الغربي المترسخ عن الشرق، فدراسته لا تقوم على قراءة الوثائق والرسائل الواردة من المستعمرات فحسب، وإنما على ما بقي في وجدان الغربي تجاه ذلك «العالم السحري». لهذا كله سيكون من سوء التقدير أن نقرأ عبارة رفيقه إريك هوبزباوم في وصفه لعمله هذا «بأنه كتاب لا يقدر على كتابته سوى كيرنان» على أنه مما يقوله المرء عن عمل صديقه ووديده.

وقد تدرك كيرنان غفلةُ أهل اليسار في تعامُلهم مع الأديان وجهلهم بتاريخها، فتراه يقول: «لم يوجد بين الديانات الأخرى كالإسلام والمسيحية في درجة التعصب والتزمّت، كلٌّ بطريقته المختلفة، ولا مجتمعات كبرى على هذا القدر من الولع بالحرب» (ص57)،  وهذا كلامٌ فيه اعتداء وطغيان على الحقيقة، وتنكُّر للتاريخ؛ فللبوذية والهندوسية رصيد تاريخي رهيب في هذا السياق، وكذا للوثنيين وأهل الإلحاد على مدار التاريخ؛ مما يرجّح أن العصبية والفتك طبيعة بشرية لا دينية، ولكنّ أهل اليسار يضيقون بالأديان التي يعايشونها.

وكيرنان مع هذا يشير إشارات موفقة إلى الديانة الإسلامية، فهو يذكر من مشاهداته أنه «من المسلَّمات استحالة دفع المسلمين إلى الارتداد عن دينهم» (ص 118). ويشير في موضع آخر في سياق الحديث عن الانتفاضات القومية في البلقان على دولة بني عثمان «ذهل الباب العالي إذ لم يعرف شيئًا عن القومية، فقد بقي دائمًا متسامحًا مع الأديان والعقائد الأخرى».

يدفعنا الكتاب إلى تأمُّل الدعاية الغربية المتجددة عن تحرير الإنسانية وتحضيرها ونشر الديمقراطية وحقوق الإنسان، وهي دعاية لم تفارق المستعمر منذ كان، ويضع لنا المؤلف الحقيقة الناجزة حول هذه الدعوى بقوله: «نحن نحبط ونبيد، لكننا لم نحضّر قط». وهذه العبارة ترى مصداقها في أوضاع البلدان المتحررة من الاحتلال في الشرق الأوسط؛ فما الذي تركه لنا الاستعمار بعد مئات السنين من دعوى التحضير سوى نظم تسلطية موالية وشعوب فقيرة ومسحوقة؟!

بالإضافة إلى أن كيرنان لا يتوقف عند تحطيم دعوى تحضير الأوروبيين للشعوب فحسب، وإنما يشير إلى فكرة مستحقة للدراسة والبحث، وهي: ما حقيقة هذه الحضارة الأوروبية؟ وهل كانت ستقوم على هذه الصورة من دون ما ارتكبته في حق الشعوب الأخرى؟ فـ «اليونانيون مُنظرّو الديمقراطية كانوا تجّار عبيد»، «والهولنديون لم يحققوا حريتهم إلا على حساب حريات أخرى»، والقارة العجوز لا تجوع ولكنها تتسبب في مجاعات جاراتها. هذه مسألة يصعب أن نجعل من إشارات المؤلف بخصوصها بحثًا تامًا ونتيجة ناجزة، وإنما هي دعوة للتأمل.

كتب كيرنان كتابه ببيانٍ عالٍ وأسلوبٍ رشيقٍ، وطعّمه بسخريات لاذعة في غاية الذكاء؛ فيشير إلى تعامُل المستعمرين مع الإندونيسيين بعبارة واصفة لفكرة التعالي والازدراء التي يدور عليها الكتاب: «عملت السلطتان، المحلية والأجنبية، يدًا بيد، أو يدًا بقفاز». ويحيّره تاريخ الأفغان الدموي فيكتب: «يتقاتل الأفغان فيما بينهم حين لا يقاتلون الغزاة». ويُفسِّر براعة المشارقة في بعض الصناعات ويشرح حالتهم في نفس الوقت: «طوّرَ الشرق صناعة السجاد وأحسنَها؛ لأنه جلس عليها». وهذا أسلوبه في سائر الكتاب.

لقد جاء الكتاب كمسردٍ لتاريخٍ أسودَ لسنوات الإمبريالية الغربية وممارساتها العنصرية والتدميرية، الممتدّة على امتداد الخريطة العالمية من مشرق الشمس وحتى الجُزر التي تلوّح للشمس ساعة غروبها. والقارئ للكتاب المتابع للواقع يجدُ الممارسات تتجدَّد والشعارات تتغيَّر، وكما يقول تشومسكي: «فالغزو مستمر».

أواصر - مجلة فكرية فصلية

www.awasr.com