التراجع الكبير

طباعة 2018-04-22
التراجع الكبير

تحرير:  هاينريش غايزلبرغر

سنة النشر: 2017

Die große Regression

Eine internationale Debatte über die geistige Situation der Zeit

Suhrkamp 2017

 

يضم كتاب التراجع الكبير، نقاش عالمي حول الوضعية الروحية للحاضر، والذي أصدره الألماني هاينريش غايزلبرغر، مساهمات لأسماء فكرية معروفة من مختلف المناطق والتخصصات، اتفقت جميعها على الخطر الذي تشكله النيوليبرالية على حاضر البشرية ومستقبلها، والخطر الذي يصدر أيضا عن البديل الذي تقدمه الشعبوية للسردية النيوليبرالية، كما أن مختلف هذه المساهمات يؤكد ضرورة بناء بديل نقدي، أو يساري. فالفيلسوف الهندي أريون أبادوراي الذي افتتح مساهمات هذا الكتاب، يرى أن الزعامات الشعبوية في العالم تدرك أنها اللحظة المناسبة للوصول إلى السلطة، بسبب أننا نعيش أزمة للسيادة الوطنية، وأكبر تعبير عن هذه الأزمة، يكمن في عجز الدولة/الأمة المعاصرة عن مراقبة اقتصادها، وأن مثل هذا العجز يدفع الشعبويين للمطالبة باستعادة السيادة الوطنية، ولكن عبر النفخ في جثة القومية/الإثنية، وقمع كل تناقض ثقافي. " إن خسارة السيادة الاقتصادية، تقود، في لغة أخرى، إلى مبالغة في تقدير أهمية السيادة الثقافية". ولا ريب أن العدو الأول لهذه السيادة الثقافية المزعومة، سيكون هو التعدد الثقافي، كما تمثله التجربة الأوروبية، وليس بالأمر المثير للدهشة، أن يصف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، التعدد الثقافي الأوروبي بأنه "مخصي وعقيم"، منافحا عن الرجولة الروسية كقوة سياسية.

إن الشعبوية أصبحت شبحا يؤرق مختلف دول العالم، لكنه تحول إلى واقع في دول بعينها، مثل الهند بزعامة نراندرا مودي، والذي سبق وتورط في حملة للتطهير العرقي ضد المسلمين، ويزاوج في سياسته بين قومية ثقافية متطرفة وأجندة سياسة مغرقة في النيوليبرالية، وتعيش الهند منذ ثلاث سنوات من حكمه تراجعا كبيرا للحريات السياسية والدينية والثقافية والفنية، ويرى أبادوراي بأن هذه السياسة تمثل تفكيكا للإرث العلماني والاشتراكي لجواهر آل نهرو والروح السلمية لغاندي. ويسجل سأما أو تعبا من الديمقراطية، يتمثل في تحول الانتخابات، كما حدث في الولايات المتحدة، ليس إلى وسيلة لتصحيح النظام السياسي وعثراته، ولكن إلى وسيلة برأيه للهروب من الديمقراطية.  إن "ترجمة السيادة الاقتصادية إلى سيادة ثقافية" كما يحاول ذلك الشعبويون، تغلق الأصل ولا تفتحه، إن لم تكن تعمد إلى تزييفه، وهو التزييف نفسه الذي تقوم به النيوليبرالية في ترجمتها للإسلام إلى إرهاب.

وكما أنه من الوهم الحديث عن إمكانية لاستعادة السيادة الاقتصادية، فإنه من الوهم الاعتقاد بأن سياسة الجدران الغربية، ستضع حدا للهجرات العابرة للقارات. إن هذا ما يؤكده عالم الاجتماع زيغمونت باومان، مستشهدا بما كتبه أمبرتو إيكو، والذي رأى " أن العالم الثالث يطرق باب أوروبا، وأنه سيدخل إليها، سواء قبل الأوروبيون بذلك أم رفضوه"، مؤكدا بأن " أوروبا ستكون قارة متعددة الأعراق في الألفية القادمة". لكن بدلا من التعامل مع الهجرات وفقا للقيم الأوروبية، تلجأ الحكومات الغربية إلى "سياسة أمنوية"، وهو ما دفع باومان للمطالبة بثورة ثقافية، تتجاوز "ديكتاتورية اللحظة" وكليشيهات الإعلام والشعبويين.

أما أستاذة العلوم السياسية، الإيطالية دوناتيلا دي لابورتا، فقد اختارت الحديث في مساهمتها عن السياسة التقدمية والسياسة الرجعية في النيوليبرالية المتأخرة. إنها تسجل بدءا بأن ظاهرة الشعبوية ليست بالجديدة، ضاربة المثل بالنجاح الذي حققه حزب يورغ هايدرغ في الانتخابات النمساوية عام 1999، والجبهة الوطنية في فرنسا عام 2002، ومن أجل تحليل التحدي الذي تمثله العولمة النيوليبرالية، تعود الباحثة إلى الكتاب الشهير للاقتصادي كارل بولانيي: "التحول الكبير"، الذي وإن اهتم برأيها بموجة اللبرلة الأولى في القرن التاسع عشر، إلا أن هناك شبها بالتحول النيوليبرالي في العقود الأخيرة للقرن العشرين. لقد حذر بولانيي من تحويل العمل والأرض والمال إلى سلعة، مؤكدا أن من شأن مثل هذا التطور أن يخرب المجتمع. وفي تحليله، سيركز بولانيي أيضا على الحركات المضادة والأشكال التي ستتخذها، مؤكدا بأنها في الأغلب الأهم تتخذ طابعا رجعيا ودفاعيا، ويتم تأسيسها في الغالب لمواجهة سيطرة السوق على الجوانب الأخرى للمجتمع. ويضرب مثلا في هذا السياق بثورات الفلاحين وثورات الجياع.  لكن يظل أهم نقطة ستتعرض لها دي لابورتا في مساهمتها هو تمييزها بين الشعبوية اليمينية والشعبوية اليسارية؛ فشعبوية اليسار يطبعها انفتاح على العالم في حين يطبع شعبوية اليمين العداء للأجانب. كما أن اليمين الشعبوي لا يهدف إلى تحقيق مشاركة سياسية أكبر للمواطنين، بل يتمحور حول القائد الكاريزماتي، وهو ما أوضحه كينيث روبرت، الذي لاحظ أن الاتجاهين معا يتفقان على مهاجمة النخب الحاكمة، لكنه يلاحظ أيضا وجود تعبئة من تحت إلى فوق لدى الحركات التقدمية، في حين تسير التعبئة في الاتجاه المعاكس لدى اليمين الشعبوي، الذي يهدف لبناء نخبة جديدة. فهو لا يهدف لدفع الشعب نحو مشاركة سياسية أكبر، بل يكتفي باستغلاله سياسيا.  

أما الفيلسوفة الأمريكية نانسي فريزر فاختارت الانطلاق من فوز دونالد ترامب بالانتخابات الأمريكية، والتي رأت أنه يعلن نهاية السيطرة النيوليبرالية. لقد جاء فوز ترامب، برأيها، تتويجا لزلازل سياسية، منها البريكسيت (خروج بريطانيا من الاتحاد الأوربي)، والحملة الانتخابية للديمقراطي بيرني ساندرز ورفض إصلاحات رينسي في إيطاليا والشعبية المتنامية للجبهة الوطنية في فرنسا. وترى فريزر أنه، وعلى الرغم من اختلاف الأيديولوجيات التي تقف خلف هذه الحركات، فإنها جميعها تعبر عن أمر واحد: رفض للعولمة التي تقودها الشركات الكبرى وللنيوليبرالية والنخب السياسية الحاكمة.  لكن انتصار ترامب، لا يمثل برأي فريزر، تمردا على رأسمالية الأسواق المالية فقط، بل تمردا بالخصوص على ما تصطلح عليه بـ "النيوليبرالية التقدمية"، وتعني بذلك التحالف القائم بين الحركات الاجتماعية الجديدة، كالنسوية والحركات المعادية للعنصرية وتلك المنافحة عن التعدد الثقافي من جهة، وأقطاب المجالات الاقتصادية من جهة ثانية. إنه تحالف يقوم في الولايات المتحدة الأمريكية منذ ما يقرب من ثلاثة عقود، لكنه سيعلن عن نفسه رسميا، مع انتخاب بيل كلينتون في العام 1992. فكلينتون، هو من سيقوم بتعويض التحالف القديم بين النقابات والأفروأمريكيين والطبقة المتوسطة المدينية، بتحالف جديد من أرباب الشركات، وأعضاء الحركات الاجتماعية الجديدة، التي تعبر عن تقدميتها عبر دفاعها عن التعدد الثقافي وحقوق المرأة. لقد ساهمت سياسة بيل كلينتون، ودعمه غير المشروط لوول ستريت، تلك السياسة التي سيواصلها خلفه باراك أوباما، في سوء الظروف المعيشية لكل العمال، وخصوصا للعاملين في القطاع الصناعي، وترى فريزر أنه في المرحلة التي كانت فيها الرأسمالية تخضع لرقابة الدولة، أمكن الموافقة بين مصالح الاقتصاد الخاص والتنمية المستدامة، في حين تربط الرأسمالية المنفلتة من عقالها الشعوب والدول بمصير المستثمرين الخواص.

وفي ردها على الاقتراح الذي يقول بضرورة التحالف مع النيوليبرالية لمواجهة الفاشية، ترى الفيلسوفة الأمريكية أنه من الإشكالي أولا وصف الشعبوية الرجعية بالفاشية. وعلاوة على ذلك، ترى فريزر أن الفاشية والليبرالية هما معا من وجهة نظر تحليلية ليسا بشيئين مختلفين مبدئيا البتة، أحدهما يمثل الخير والآخر الشر، بل هما وجهان لنظام عالمي واحد. وحتى إذا لم يكونا متساويين من وجهة نظر معيارية، فإن كلاهما نتاج لرأسمالية منفلتة من عقالها، تدمر استقرار عوالم ومجالات الحياة في كل مكان. وفي هذا السياق ترى فريزر ضرورة أن يعيد اليسار بناء نفسه، اعتمادا على الخزان المتنامي للصمود الاجتماعي ضد النظام القائم، بشكل يتجاوز البدائل المطروحة، من نيوليبرالية وشعبوية.

لن تذرف نانسي فريزر دمعة واحدة كما تقول على النيوليبرالية، رغم كل المخاوف من إدراة ترامب العنصرية والمعادية للأجانب وللبيئة. ورغم أنها تؤكد بأن إدارة ترامب لن تقدم حلولا للقضايا المطروحة. إن الولايات المتحدة تعيش برأيها فراغا سلطويا، لكنه فراغ بقدر ما يشكل خطرا، يمثل في حد ذاته فرصة برأيها، لتأسيس "يسار جديد". لكن من أجل فهم أفضل للترامبية، يتوجب إلقاء نظرة على مساهمة الفيلسوف الفرنسي برونو لاتور، وفيها يؤكد بأن الجديد الوحيد الذي جاء به ترامب، هو تمكنه من تأسيس حركة سياسية كاملة على أساس رفضه للتغير المناخي. ويرى لاتور أن "فرادة ترامب تتمثل في توفيقه بين ثلاث طرق للهروب: أولا، الهروب إلى الأمام، والذي عبره تتم مضاعفة الأرباح وترك بقية العالم لمصيره. ثانيا، الهروب إلى الخلف، عبر ربط الشعب بمقولات قومية وإثنية. وأخيرا، الإنكار الواضح للمعطيات الجيولوجية والمناخية".

من جهته، يقدم عالم الاجتماع الألماني فولفغانغ شتريك مساهمة، تلخص برأيي كل ما جاءت به المساهمات المختلفة في الكتاب، تحمل عنوانا معبرا: "عودة المكبوت كبداية نهاية للرأسمالية النيوليبرالية". يرى شتريك أن المنعطف الليبرالي، الذي جاء ليحرر الاقتصاد من تدخل الدولة ومطالب النقابات التي ما برحت تزداد قوة، يقوم على المبدأ القائل: لا يوجد بديل آخر  . ويرى أن عرّابي هذا الاتجاه يمتدون من مارغريت تاتشر، مرورا بتوني بلير وحتى أنغيلا ميركل.  ومن يريد أن يخدم هذا التوجه الجديد، فعليه النظر إلى حضور الرأسمال في كل العالم، كقانون طبيعي وضرورة مفيدة للجميع، والمساهمة في تعبيد الطريق أمامه، عبر القطع مع ممارسات الماضي، مثل مراقبة الدولة لتدفق الرساميل، أو تدخلها في الشأن الاقتصادي عبر تقديم مساعدات إلخ.. فالكلمة في النهاية يجب أن تكون لـ "المنافسة المعولمة"، ويتوجب على الدولة الاجتماعية أن تتحول إلى دولة منافسة. وهكذا ستتحول النيوليبرالية، وعلى الأقل منذ نهاية الثمانينات إلى الفكر الوحيد الممكن.وقد ترافق ذلك مع إلحاق الأحزاب السياسية كـ "أحزاب كارتيلات"، بجهاز الدولة، وتراجع كبير للعمل النقابي والاحتجاجات النقابية على مستوى العالم. "إن الثورة النيوليبرالية، كصيرورة للتراجع المؤسساتي والسياسي، تفتح حقبة جديدة للسياسة ما بعد الواقعية"، لكن وعود الليبرالية جاءت أقل بكثير مما قدمه المجتمع الصناعي الذي تمت التضحية به، وازداد عدد من لم يعد الاقتصاد بحاجة إليهم.

يصف شتريك "الحقبة ما بعد الواقعية" قائلا بأن الكذب كان دائما حاضرا في السياسة، ويضرب مثلا بالعرض الذي قدمه كولين باول في مجلس الأمن الدولي، والصور المزيفة عن أسلحة الدمار الشامل العراقية. لكن مع الثورة النيوليبرالية، وما ترافق معها من انتقال إلى "ما بعد الديمقراطية"، يمكننا أن نتحدث أيضا عن مجيء نوع جديد من الخداع إلى العالم، وهو ما يسميه شتريك بـ"كذب المتخصصين".  لقد ساعدت العولمة في تشكل صناعة لوعي كوسموبوليتي، ترى أن فرصة نموها تكمن في توسع الأسواق الرأسمالية وانتشار القيم الليبرتارية، وهو ما سمته نانسي فريزر في مساهمتها بالنيوليبرالية التقدمية. وكذب المتخصصين هذا هو لار يب من يضع كل الحركات المعارضة للعولمة في سلة واحدة، ويصمها، يمينية كانت أم يسارية، بالشعبوية. ويرى شتريك أن المفاجآت التي حملها عام 2016، مثل بريكسيت وترامب، لم تفاجئ الرأي العام الليبرالي فقط، ولكن علومه الاجتماعية أيضا، التي لم تضرب حسابا لعودة المكبوت القومي أو الشعبوي، واكتفت بتأكيد أوهام النخب حول وضع مجتمعاتهم بشكل مرَضي. يقترح شتريك، وهو في ذلك غير بعيد عن نانسي فريزر، مصطلح غرامشي عن الفراغ السلطوي، لوصف الأزمة الحالية للنيوليبرالية، والمتمثلة في انهيار نظام قديم، دون انبلاج معالم نظام جديد، فانهيار النظام القديم اكتمل على الأقل في العام 2016، مع الهجمة الشعبوية على العالم المهترئ للرأسمالية المعولمة، التي سعت جهدها إلى تحييد الديمقراطيات الوطنية، والانتقال بها إلى زمن "مابعد ديمقراطي"، حتى لا تفقد ارتباطها بالتوسع العالمي للرأسمال. لكن لا أحد يعرف الشكل الذي سيتخذه النظام الجديد برأي شتريك. وإلى أن يحدث ذلك، يتوجب علينا، وفقا لما كتبه غرامشي، أن نستعد لمواجهة "ظواهر مرضية متنوعة".

أما سلافو جيجيك فيدعو في مقال بعنوان: "الإغراء الشعبوي"، إلى الانفصال عن الجسد الميت للديمقراطية الليبرالية، ويعني بذلك الانتقال من سياسة كلينتون إلى تلك التي ينافح عنها ساندرز، باعتبارها السبيل الوحيد الممكن للانتصار على ترامب، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من الديمقراطية الليبرالية، وهو يشير أيضا إلى الأزمة البنيوية للرأسمالية المعولمة والمتمثلة في غياب نظام اجتماع-سياسي منسجم معه. فاقتصاد السوق العالمي في رأيه لا ينتظم بشكل مباشر كديمقراطية عالمية، وهو ما يدفعه للحديث بنفس لغة فولفغانغ شتريك، عن عودة مكبوت الاقتصاد العالمي في السياسة، ويعني بذلك الهويات الإثنية، والدينية والثقافية.

شارك :

التعليقات (0)

أضف تعليق