التعاون والصراع بين دول الحوض الشرقي لنهر النيل

أحمد علي سالم

محاولات نظرية للتفسير

  • التصنيفات: دراسات عربية -
التعاون والصراع بين دول الحوض الشرقي لنهر النيل

محاولات نظرية للتفسير

 

تختلف مصر وإثيوبيا في تعريف مصالحهما فيما يتعلق بالقضية الأساسية في العلاقات بينهما، ألا وهي توزيع مياه النيل. إذ تتمسك مصر بأن لها حقوقاً تاريخية مكتسبة في مياه النيل، وترى أن هذه الحقوق قديمة وطبيعية وتقرها جميع الاتفاقات الدولية التي تنظم توزيع مياه النيل. وتؤكد مصر على أن مبدأ التوزيع العادل لمياه النيل لا يعني أن تحصل دول الحوض على أنصبة متماثلة من المياه، وإنما يتوقف النصيب العادل لكل دولة على عدة أمور، منها العوامل الجغرافية والمائية والمناخية والبيئية، والحاجات الاجتماعية والاقتصادية للسكان المعتمدين على مياه النهر، وأثر استخدام النهر في إحدى الدول على الدول الأخرى، والاستخدام الحالي والمتوقع لمياه النهر وبدائله. ووفق جميع هذه المعايير، فإن لمصر الحق في أن تستمر في الحصول على نصيب الأسد من الموارد المائية للنهر[1].

أما إثيوبيا فترى نفسها نافورة المياه في حوض النيل، لكنها محرومة من استخدام مواردها المائية منه؛ لأن مصر ظلت تهيمن على سياسات توزيع تلك الموارد[2]. وتعتبر إثيوبيا نفسها غير ملزمة بأية اتفاقات لتقاسم مياه النيل، لاسيما اتفاقية عام 1959 بين مصر والسودان التي تقسم مياه النيل بين هاتين الدولتين[3]. وتدعو إلى إعادة توزيع مياه النهر لتتساوى حصص دوله[4]، بل تدعو أحياناً لاعتبار المياه سلعة تجارية وتطالب مصر والسودان بدفع مقابل للمياه التي تصلهما من إثيوبيا[5].

ولا تختلف دول حوض النيل الشرقي عن بقية دول العالم في تفاعلها تعاوناً وصراعاً لتحقيق مصالحها، لكن تفسير ما بينها من تعاون وصراع محل خلاف بين مدارس العلاقات الدولية ومنها المدرستان الواقعية والبنائية. فالمدرسة الواقعية ترى أن اختلاف مستويات القوة بين الدول هو المفسر الأساسي لما بينها من صراع وتعاون. فأنصار هذه المدرسة يصنفون دول العالم إلى دول قوية أو كبرى، ودول ضعيفة أو صغرى، ويرون أن الدول الضعيفة تحدد علاقاتها الدولية على نحو يقبله حلفاؤها من الدول الكبرى. وتصنف جميع دول حوض النيل كدول ضعيفة أو صغرى في النظام الدولي. لذلك فإن علاقاتها الدولية، بما فيها علاقاتها البينية، تحكمها ارتباطاتها بالقوى الكبرى.

أما المدرسة البنائية فترى أن مصالح الدولة لا تتحدد بقوتها المادية فقط، وإنما أيضاً بعوامل غير مادية مثل الهوية. لكن أنصار هذه المدرسة يختلفون حول أهم عناصر هوية الدولة؛ فبعضهم يعلي من أهمية الأيديولوجيا في صناعة السياسة الخارجية للدولة وسلوكها الدولي، بينما يعلي آخرون من أهمية الثقافة. فالذين يعلون من أهمية الأيديولوجيا يتوقعون أن تتصارع الدول ذات الأيديولوجيات المتعارضة، وأن تتعاون الدول ذات الأيديولوجيات المتماثلة أو المتقاربة. أما الذين يعلون من أهمية الثقافة فيتوقعون أن تتقارب الدول ذات الثقافات المشتركة، مقارنة بالدول ذات الثقافات المتباينة[6].

وأحاول في هذه الدراسة اختبار قدرة هاتين المدرستين على تفسير التعاون والصراع بين دول الحوض الشرقي لنهر النيل فيما يتعلق بالقضية الأساسية في العلاقات بينها، ألا وهي توزيع مياه النيل، مقارنة بالمدراس التي تفسر التعاون والصراع بين هذه الدول بثوابت الجغرافيا والثقافة التي أبدأ بها أولاً[7].

أولاً: التفسير بالثوابت – الجغرافيا والثقافة

يشيع في دراسات حوض النيل تقسيم مواقف دوله من قضية توزيع مياهه إلى مجموعتين على أساس جغرافي، هما مجموعة دول المنبع، ومجموعة دول المصب[8]. ورغم وضوح هذا التقسيم بالنسبة لدولة المنبع الأول (إثيوبيا) ودولة المصب النهائي (مصر) في الحوض الشرقي للنهر، فإن هذا التقسيم لا يصلح مع السودان الذي يمكن تصنيفه ضمن المجموعتين معاً. فالسودان دولة منبع بالنسبة لمصر، لكنها دولة مصب بالنسبة لإثيوبيا.

ولا تتوقف مشكلة هذا التقسيم على اضطرابه فقط، بل الأهم من منظور هذه الدراسة هو عدم صلاحيته لتفسير التحول في علاقات دول الحوض بين التعاون والصراع. فإذا كان اختلاف مواقف مصر وإثيوبيا حول التوزيع الأمثل لمياه النيل ناتجاً عن موقعيهما الجغرافي في حوضه، فلماذا لم يدفعهما دائماً إلى الصراع؟ إذ شهدت علاقاتهما تعاوناً في هذه المسألة، خاصة خلال تسعينيات القرن الماضي. فشاركت مصر وإثيوبيا في تأسيس اللجنة الفنية للتعاون لتعزيز التنمية والحماية البيئية لحوض النيل (1993-1998)، ثم مبادرة حوض النيل التي تأسست عام 1999[9]. كما وقعت مصر وإثيوبيا عام 1993 اتفاق إطار للتعاون العام وصف بالتاريخي، رغم تعثر جهود البلدين في إطاره للتوصل لاتفاقية نهائية بشأن توزيع مياه النهر[10]. أي إن موقع مصر الجغرافي حساس في حوض النيل باعتبارها دولة المصب النهائي، ولاعتمادها التام على مياه النيل، لاسيما النيل الأزرق الذي يتدفق من الأراضي الإثيوبية، ومن ثم تدرك خطورة مطالب إثيوبيا، لكن ذلك كله لم يدفع الدولتين دائماً إلى الصراع.

كما أن هذا العامل الجغرافي لا يعيننا على فهم سلوك السودان. فهو لا يفسر متى يتصرف السودان كدولة منبع، ومتى يتصرف كدولة مصب، ولماذا يغلب التعاون على العلاقات بين مصر والسودان بينما يغلب الصراع على العلاقات بين مصر وإثيوبيا، رغم أن كلاً من السودان وإثيوبيا دولتا منبع بالنسبة لمصر. وهنا تطرح العوامل الثقافية كتفسير للعلاقات بين دول حوض النيل. ويدور هذا الطرح حول غلبة الانتماء العربي لمصر والسودان على انتمائهما الإفريقي، في مقابل غياب الانتماء العربي لإثيوبيا. وينبني هذا الرأي على قبول الأطروحة الاستعمارية بانقسام إفريقيا إلى إقليمين منفصلين، هما شمال إفريقيا وإفريقيا جنوب الصحراء، وأن الصراع يغلب على العلاقات بين الإقليمين، بينما يغلب التعاون على العلاقات داخل كل واحد منهما.

لكن هذه الافتراضات تحتاج إلى مراجعات جادة. فدارس العلاقات الدولية في إفريقيا يعلم أن دول كل من الإقليمين لا تتصرف ككتلة واحدة، بل إن ما بينها من خلافات يزيد أحياناً على الخلافات بينها وبين دول الإقليم الآخر. ويمكن التدليل على ذلك بعدد كبير من الأمثلة، بما فيها مسألة توزيع مياه النيل بين دول حوضه الكبير عموماً والشرقي خصوصاً. فخلال تسعينيات القرن الماضي، ساد التعاون العلاقات بين مصر وإثيوبيا فيما يتعلق بمياه النيل كما تبين، بينما ساد الصراع العلاقات بين مصر والسودان حول نفس القضية. إذ تدهورت العلاقات بين حكومتي مصر والسودان تدهوراً شديداً حتى إن حكومة السودان هددت بتخفيض كمية المياه التي تصل مصر بموجب اتفاقية عام 1959، فهددت مصر بأن السودان سيواجه برد حاسم إذا أعاق التدفق الطبيعي لمياه النهر[11].

والخلاصة أن تفسير العلاقات بين دول حوض النيل الشرقي حول مسألة توزيع مياهه بعوامل ثابتة، كالجغرافيا والثقافة، لا يساعد على فهم تحولات تلك العلاقة بين التعاون والصراع. فلا بد من البحث عن تفسيرات أخرى بالرجوع إلى المتغيرات التي تحكم تلك العلاقات، كالتحالفات الدولية والأيديولوجية، وهو ما تطرحه المدرستان الواقعية والبنائية في العلاقات الدولية على التوالي.

ثانياً: التفسير بمتغيري التحالفات الدولية والأيديولوجية خلال الحرب الباردة

خلال معظم فترات الحرب الباردة، كانت مصر وإثيوبيا على طرفي نقيض في تحالفاتهما مع القوى الكبرى في النظام الدولي، وانتماءاتهما الأيديولوجية. فبين منتصف خمسينيات القرن الماضي ومنتصف سبعينياته كانت مصر عضواً بارزاً في حركة عدم الانحياز التي رحب بها الاتحاد السوفيتي، بينما اعتبرتها الولايات المتحدة ظهيراً للاتحاد السوفيتي. وكانت أيديولوجيا النظام الحاكم في مصر أيديولوجيا ثورية جمهورية اشتراكية، فكان سلوكه الدولي يعكس رغبته القوية في تغيير الأوضاع القائمة في معظم القضايا، لكن قضية توزيع مياه النيل كانت من القضايا القليلة التي سعت مصر فيها للحفاظ على الوضع القائم. وفي نفس الفترة، كانت إثيوبيا حليفاً مهماً للولايات المتحدة في شرق إفريقيا، رغم كونها عضواً في حركة عدم الانحياز. وكانت أيديولوجية النظام الحاكم في إثيوبيا أيديولوجية تقليدية ملكية أقرب إلى الإقطاعية. فكان سلوكه الدولي يعكس رغبته القوية في الحفاظ على الأوضاع القائمة في معظم القضايا، لكن قضية توزيع مياه النيل كانت من القضايا القليلة التي سعت إثيوبيا فيها إلى تغيير الوضع القائم.

وفي منتصف السبعينيات حدثت تحولات كبرى في أيديولوجيتي نظامي الحكم في مصر وإثيوبيا وفي تحالفاتهما الدولية؛ فتحولت أيديولوجيا النظام الحاكم في مصر نحو الوطنية المصرية، والليبرالية المقيدة، والرأسمالية الموجهة للخارج. وانعكست هذه التحولات في علاقات مصر الخارجية، فأصبحت حليفاً للولايات المتحدة، رغم استمرارها في عضوية حركة عدم الانحياز، وعكس سلوكها الدولي رغبتها القوية في الحفاظ على الأوضاع القائمة في معظم القضايا ومنها توزيع مياه النيل. وفي نفس الفترة أطيح بالملكية في إثيوبيا وجاء نظام الحكم الجديد بأيديولوجيا ثورية جمهورية اشتراكية. وانعكست هذه التحولات في علاقات إثيوبيا الخارجية، فأصبحت حليفاً للاتحاد السوفيتي، رغم استمرار عضويتها في حركة عدم الانحياز. وعكس سلوكها الدولي رغبتها القوية في تغيير الأوضاع القائمة في معظم القضايا، ومنها توزيع مياه النيل.

وهكذا يرى أنصار المدرسة الواقعية أن التحالفات الدولية المتعارضة لمصر وإثيوبيا خلال فترة الحرب الباردة تفسر صراعهما، بينما يرى بعض أنصار المدرسة البنائية أن الأيديولوجيات المتعارضة لنظامي الحكم في الدولتين خلال نفس الفترة هي التي تفسر صراعهما. وقد تجلى هذا الصراع في أواخر سبعينيات القرن الماضي، حين هددت إثيوبيا بوقف التدفق الطبيعي لمياه النهر، فهددتها مصر بخوض حرب ضدها إن هي فعلت ذلك[12]. كما تجلى الصراع في رفض إثيوبيا الانضمام لمنظمة أوندوجو – أي الإخاء باللغة السواحلية – التي أسستها مصر عام 1983، رغم استضافة إثيوبيا لآخر اجتماعين وزاريين لها عامي 1990 و1991. بل إن سفير مصر في إثيوبيا اتهمها بمحاولة إثارة دول المنبع الأخرى ضد مصر، والقيام بدور رئيسي في تأسيس منظمة بديلة تضم معظم دول حوض النيل وتستبعد مصر، وهي الهيئة الحكومية للتنمية[13].

لكن النظريتين لا تفسران الاتجاه التعاوني في العلاقة بين الدولتين خلال الحرب الباردة، إذ غضت كل منهما الطرف عن خلافاتهما حول توزيع مياه النيل في الستينيات، حين اشتركتا في زعامة حركة الوحدة الإفريقية ثم تأسيس منظمة الوحدة الإفريقية، رغم أن مصر كانت تقود الاتجاه الثوري في المنظمة بينما كانت إثيوبيا تقود الاتجاه المحافظ فيها. كما حاولت مصر التعاون مع إثيوبيا في الثمانينيات، حيث خففت مصر من لهجتها، وأكدت على فوائد التعاون المشترك بين دول الحوض في المجالات الاقتصادية كافة وليس توزيع المياه فقط، وأسست لهذا الغرض منظمة أوندوجو سالفة الذكر[14].

كما تفشل النظريتان في تفسير مواقف السودان من قضية مياه النيل منذ استقلاله عام 1956 وحتى نهاية الحرب الباردة. فبعد استقلاله، رفض السودان الالتزام باتفاقية عام 1929 بين مصر وبريطانيا، وتفاوض مع مصر حول نصيبيهما من مياه النيل حتى توصلا لاتفاقية عام 1959، التي أصبحت حجر الزاوية في مواقفهما المشتركة تجاه بقية دول الحوض[15]. فعلى مدى ثلاثين عاماً بعد توقيع الاتفاقية، ظل السودان أقرب إلى مصر وأبعد عن إثيوبيا بغض النظر عن التحالفات الدولية وأيديولوجيات نظم الحكم. ولم يتغير موقف السودان من التعاون مع مصر في هذه القضية طوال فترة الحرب الباردة إلا خلال فترات التوتر الوجيزة بين حكومتي البلدين، حين كان بعض ساسة السودان ينادون بإعادة التفاوض حول هذه الاتفاقية أو اتخاذ إجراءات منفردة لزيادة نصيب السودان من مياه النيل[16]. أي إن موقف السودان خلال تلك الفترة لم يتأثر باختلاف تحالفاته الدولية وأيديولوجيا نظام الحكم فيه مع تحالفات مصر الدولية وأيديولوجية نظام الحكم فيها.

ثالثاً: التفسير بمتغيري التحالفات الدولية والأيديولوجية بعد الحرب الباردة

شهدت إثيوبيا تحولاً كبيراً عام 1991 حين أطاح بالنظام الحاكم تحالف من جبهات مسلحة تمثل جماعات عرقية مضطهدة. فتقاربت أيديولوجيتا نظامي الحكم في مصر وإثيوبيا، إذ مزجت أيديولوجية نظام الحكم الجديد في إثيوبيا بين التعددية الثقافية والليبرالية والرأسمالية الموجهة للخارج، وعكس سلوكه الدولي رغبة في الحفاظ على الأوضاع القائمة في معظم القضايا، لكن قضية توزيع مياه النيل ظلت من القضايا القليلة التي سعت إثيوبيا فيها لتغيير الوضع القائم. كما تحالف نظام الحكم الجديد مع الولايات المتحدة، إذ كانت القوة الكبرى الوحيدة في النظام الدولي آنذاك. فاتفقت مصر وإثيوبيا على حليفهما الدولي لأول مرة منذ منتصف الخمسينيات.

وانعكس هذا التقارب فيما سبق ذكره من تعاون الدولتين في التسعينيات، وكذلك في عدم اعتراض مصر على سلسلة مشروعات الري التي بدأت إثيوبيا في تنفيذها على بحيرة تانا والنيل الأزرق عام 1996، بدعوى الضغوط المتزايدة للنمو السكاني ومتطلبات التنمية[17]، رغم رفض إثيوبيا الالتزام بشرط الإخطار المسبق الذي تقره معاهدة الأمم المتحدة لقانون الاستخدامات غير الملاحية لمجاري المياه الدولية، بدعوى أن لها السيادة المطلقة على الأنهار الجارية في أراضيها[18]. واتفقت مصر والسودان على توزيع الخسارة المائية بالتساوي بينهما. ولم تسع مصر لإعاقة طلب إثيوبيا الحصول على تمويل من بنك التنمية الإفريقي لبناء سدود جديدة على النيل عام 2001[19]. بل أكد وزير الري والموارد المائية في مصر على الرؤية المشتركة لمبادرة حوض النيل، وهي تحقيق التنمية الاجتماعية-الاقتصادية المستدامة بالاستفادة المشتركة من موارده المائية واستغلالها استغلالاً متكافئاً[20].

وهكذا يرى بعض أنصار المدرسة البنائية أن أيديولوجيتي نظامي الحكم المتقاربتين في الدولتين هي التي تفسر تعاونهما بعد الحرب الباردة، بينما يرى أنصار المدرسة الواقعية أن تحالفهما المشترك مع الولايات المتحدة هو الذي يفسر ذلك التعاون. فيرون مثلاً أن الولايات المتحدة هي التي ضغطت عليهما معاً، من خلال البنك الدولي، لتنسيق مواقفهما من قضية توزيع مياه النيل[21].

لكن النظريتين لا تفسران اتجاه الصراع في العلاقة بين الدولتين بعد الحرب الباردة، حيث تصاعدت الخلافات بين مصر وإثيوبيا حول قضية توزيع مياه النيل تدريجياً منذ منتصف التسعينيات، إلى أن تفجرت خلال أزمة التوقيع على اتفاقية الإطار التعاوني عام 2010. فمنذ عام 2009 تكثفت المفاوضات بين دول حوض النيل للتوصل إلى معاهدة لتوزيع مياه النيل قبل انتهاء أجل مبادرة حوض النيل عام 2012[22]. إلا أن إثيوبيا اتهمت مصر في اجتماع شرم الشيخ في أبريل 2010 بعرقلة التوصل لمعاهدة لتوزيع مياه النيل على نحو أكثر تكافؤًا من الاتفاقات الاستعمارية[23]. وفي 14 مايو 2010 قامت مع أربع دول فقط بالتوقيع على اتفاقية الإطار التعاوني؛ بهدف إنشاء مفوضية دائمة لحوض نهر النيل ستتولى وضع إجراءات تقاسم المياه التي ستحل محل الاتفاقات المتنازع عليها والتي تعود للفترة الاستعمارية[24]. وفي يوم التوقيع على اتفاقية الإطار التعاوني، افتتح رئيس الوزراء الإثيوبي سداً مائياً عملاقاً على نهر النيل، مشيداً بنجاح بلاده في استخدام مياه النيل بعد عقود من القوانين المتحيزة[25]. وحين اجتمع وزراء دول حوض النيل في أديس أبابا في يونيو، أكد وزير الموارد المائية الإثيوبي أن اتفاقية الإطار التعاوني نهائية ولا رجعة عنها[26].

ولم يكن مستغرباً أن ترفض مصر التوقيع على الاتفاقية، وتعتبرها غير ملزمة، وتطالب بإعادة صياغة بند من بنودها كي ينص على حماية الاستخدامات والحقوق الحالية لدول الحوض في مياه النهر[27]. وأكد وزير الري والموارد المائية المصري أمام البرلمان أن مياه النيل مسألة أمن قومي بالنسبة لمصر، وأن مصر لن تسمح تحت أي ظرف من الظروف بتعريض حقوقها المائية للخطر[28]. وعشية توقيع الاتفاقية، حذر وزير الخارجية المصري من أن حقوق مصر المائية خط أحمر، وهدد باتخاذ إجراء قانوني إذا تم التوقيع على الاتفاقية، مؤكداً أن اتفاق دول المنبع غير ملزم لدول المصب، ويفتقد الشرعية[29]. وبعد توقيع الاتفاقية، سعت مصر لحشد المجتمع الدولي لإبطالها[30]. ورغم نجاح هذا النهج التصعيدي، حيث بدأ بعض المانحين الرئيسيين في الضغط على دول حوض النيل من أجل حوار بناء وحل أزمة الاتفاقية[31]، تحركت مصر في خط دبلوماسي مواز، كان من بين محطاته زيارة وزير الخارجية المصري لإثيوبيا في يوليو واتفاقه مع رئيس وزرائها على إعادة التفاوض حول البند المثير للجدل في الاتفاقية[32].

واتفق موقف السودان مع موقف مصر، بل ذهب السودان إلى مدىً أبعد. ففي اجتماع دول مبادرة حوض النيل في أديس أبابا بعد نحو شهر من توقيع الاتفاقية، أعلن وزير الري السوداني أن اتفاقية الإطار التعاوني لها تبعات قانونية خطيرة يجب تسويتها، وأن حكومة بلاده جمدت تعاونها في جميع أنشطة المبادرة طالما تمسكت دول المنبع بالاتفاقية[33].

والخلاصة أن اشتراك مصر وإثيوبيا في التحالف مع الولايات المتحدة وتشابه أيديولوجيتي نظامي حكمهما بعد الحرب الباردة لم يمنعا تفاقم تلك الأزمة بينهما. كما أن الاختلاف الشديد بين أيديولوجيا نظام الحكم في السودان وعدائه للولايات المتحدة من جهة، وأيديولوجيا نظام الحكم في مصر وإثيوبيا وتحالفه مع الولايات المتحدة من جهة أخرى لم يمنعا مصر والسودان من التعاون في أزمة اتفاقية عام 2010.

رابعاً: النتائج والتوصيات: نحو نظرية إفريقية في التعاون والصراع الدوليين

يتضح من هذه الدراسة أن نظريات العلاقات الدولية المصنعة في الدوائر الأكاديمية الغربية، والتي تقدم كنظريات صالحة لتفسير ظواهر العلاقات الدولية كافة، لا تصلح دائماً لتفسير ظواهر العلاقات الدولية في إفريقيا. فهذه النظريات مبنية أساساً على خبرة العلاقات الدولية سواء بين الدول الكبرى أو بين القوى الغربية، ولا تأخذ في الحسبان خبرة العلاقات الدولية بين الدول الصغرى أو بين القوى غير الغربية[34]، ولكلا المجموعتين تنتمي الدول الإفريقية. ويكتفي كثير من دارسي العلاقات الدولية في إفريقيا بمحاولات تطبيق هذه النظريات في القارة الإفريقية، دون محاولات جدية لبناء نظريات إفريقية في العلاقات الدولية، أي نظرية مبنية من خبرة الدول الإفريقية[35]. وهذه دعوة في هذا الاتجاه؛ فدراسة العلاقات الدولية في إفريقيا يجب أن تتجاوز مجرد تطبيق النظريات السائدة في الدوائر الأكاديمية الغربية، إلى قراءة الواقع الإفريقي برؤى إفريقية.

 

المراجع

أولاً: المراجع العربية

”الانتهاء من قضية مياه النيل يحتاج إلى عقود“، موقع قناة الجزيرة الفضائية، 13 يوليو 2010.

”السودان يجمد عضويته في مبادرة حوض النيل“، موقع قناة الجزيرة الفضائية، 28 يونيو 2010.

أشرف محمد كشك، 2006، سياسة مصر المائية تجاه دول حوض النيل، القاهرة: برنامج العلاقات المصرية الإفريقية بجامعة القاهرة.

بول زيليزا، 2003، تجليات حول حالة الدراسات الإفريقية في الولايات المتحدة الأمريكية: الماضي والحاضر والمستقبل، ترجمة: أحمد علي سالم وريهام خفاجي، القاهرة: برنامج العلاقات المصرية الإفريقية بجامعة القاهرة.

محمد سالمان طايع، 2007، الصراع الدولي على المياه: بيئة حوض النيل، القاهرة: مركز البحوث والدراسات السياسية بجامعة القاهرة.

محمد شوقي عبد العال، 2004، الاستغلال المنصف لمياه الأنهار الدولية مع إشارة خاصة لحالة نهر النيل، القاهرة: برنامج العلاقات المصرية الإفريقية بجامعة القاهرة.

محمد عاشور وأحمد علي سالم (محرران)، 2006، دليل المنظمات الدولية الإفريقية، القاهرة: برنامج دعم التكامل الإقليمي الإفريقي بجامعة القاهرة.

مروان بدر، 2002، الأبعاد السياسية لمشروعات التعاون المائي في دول حوض النيل، القاهرة: برنامج العلاقات المصرية الإفريقية بجامعة القاهرة.

ثانياً: المراجع الإنجليزية

“Committee Proposes Nile Basin Initiative Budget Cut,” Addis Fortune (Addis Ababa), June 2010. Available at Zayed University’s secured accessed to EBSCO.

“Countries in a Stormy Meeting Over Rights to the Nile Waters,” New Vision (Kampala), 18 April 2010. Available at Zayed University’s secured accessed to EBSCO.

“Egypt Warns Nile Basin Countries,” The New Times (Kigali), 24 April 2010. Available at Zayed University’s secured accessed to EBSCO.

“Egypt, Sudan, Not Pulling Out of Nile Pact,” The New Times (Kigali), 30 June 2010. Available at Zayed University’s secured accessed to EBSCO.

“Govt. to Explain New Nile Treaty,” The Citizen (Dar es Salaam), 15 May 2010. Available at Zayed University’s secured accessed to EBSCO.

“Nile Agreement to Be Signed Today,” New Vision (Kampala), 14 May 2010. Available at Zayed University’s secured accessed to EBSCO.

“River Nile Talks Continue,” New Vision (Kampala), 16 May 2010. Available at Zayed University’s secured accessed to EBSCO.

“Will Egypt Go to War Over the New River Nile Deal?” New Vision, 11 June 2010. Available at Zayed University’s secured accessed to EBSCO.

Abu-Zeid, Mahmood, 2001 (September-November), “River of Hope and Promise,” UN Chronicle, vol. 38, no. 3.

Salem, Ahmed Ali, 2008, International Relations Theories and Organizations: Realism, Constructivism and Collective Security in the League of Arab States, Saarbruecken, Germany: Verlag Dr. Muller.

Salem, Ahmed Ali, 2009, “Problems of Regionalizing Universal International Relations Theories: A Study on Rivalry Approach to War and Peace in African and Arab Civil Wars,” Global Studies, vol. 2, no. 1, pp.127-140

Salem, Ahmed Ali, 2011, “The Myth and Reality of the North-Sub Saharan Split in the Nile Basin: Empirical Evidence and Theoretical Explanations,” in Hamdy Hassan (ed.), North Africa in Africa: Issues, Problematiques and the Way Forward, Pretoria: Africa Institute of South Africa, pp.1-15 [English Section].

Swain, Ashok, 2002 (Summer-Fall), “The Nile River Basin Initiative: Too Many Cooks, Too Little Broth,” SAIS Review, vol. 22, no. 2, pp.293-308.

The East African (Nairobi), May 2010. Egypt Furious Over New Nile Water Deal, Threatens Legal, ‘Other’ Action. Available at Zayed University’s secured accessed to EBSCO.

The East African (Nairobi), May 2010. Govt Signs Nile Basin Agreement. Available at Zayed University’s secured accessed to EBSCO.

The East African (Nairobi), May 2010. More Talks on New Pact and Water Use Needed, Donors Say. Available at Zayed University’s secured accessed to EBSCO.

The East African (Nairobi), May 2010. Tales of Political Intrigue Leading to the New Treaty. Available at Zayed University’s secured accessed to EBSCO.

The East African (Nairobi), May 2010. Unilateral Treaties to Blame for Current Agitation among States. Available at Zayed University’s secured accessed to EBSCO.

The East African (Nairobi), May 2010. Tales of Political Intrigue Leading to the New Treaty. Available at Zayed University’s secured accessed to EBSCO.

 

[1]أشرف محمد كشك، 2006، سياسة مصر المائية تجاه دول حوض النيل، القاهرة: برنامج العلاقات المصرية الإفريقية بجامعة القاهرة، ص 158-167.

[2] Swain, Ashok, 2002 (Summer-Fall), “The Nile River Basin Initiative: Too Many Cooks, Too Little Broth,” SAIS Review, vol. 22, no. 2, p.293.

[3]أشرف محمد كشك، مرجع سابق، ص 174-175.

[4]محمد سالمان طايع، 2007، الصراع الدولي على المياه: بيئة حوض النيل، القاهرة: مركز البحوث والدراسات السياسية بجامعة القاهرة، ص 244-246.

[5]مروان بدر، 2002، ”الأبعاد السياسية لمشروعات التعاون المائي في دول حوض النيل“، في: مشروعات التعاون المائي في دول حوض النيل، القاهرة: برنامج العلاقات المصرية الإفريقية بجامعة القاهرة، ص 20.

[6] لمزيد من التفاصيل حول أطروحات المدرستين الواقعية والبنائية انظر:

Salem, Ahmed Ali, 2008,International Relations Theories and Organizations: Realism, Constructivism and Collective Security in the League of Arab States, Saarbruecken, Germany: Verlag Dr. Muller, pp. 24-27, 42-46.

[7]انظر اختباراً مماثلاً لكن في إطار العلاقات بين دول حوض النيل الكبير، وليس الشرقي فقط، في:

Salem, Ahmed Ali, 2011, “The Myth and Reality of the North-Sub Saharan Split in the Nile Basin: Empirical Evidence and Theoretical Explanations,” in Hamdy Hassan (ed.), North Africa in Africa: Issues, Problematiques and the Way Forward, Pretoria: Africa Institute of South Africa, pp.1-15 [English Section].

[8]انظر على سبيل المثال: محمد سالمان طايع، مرجع سابق، ص 129-228.

[9]محمد عاشور وأحمد علي سالم (محرران)، 2006، دليل المنظمات الدولية الإفريقية، القاهرة: برنامج دعم التكامل الإقليمي الإفريقي بجامعة القاهرة، ص 201-208؛ محمد سالمان طايع، مرجع سابق، ص 465-473.

[10]مروان بدر، مرجع سابق، ص 20-21.

[11]أشرف محمد كشك، مرجع سابق، ص 178.

[12]أشرف محمد كشك، مرجع سابق، ص 36-39.

[13]مروان بدر، مرجع سابق، ص 22.

[14]أشرف محمد كشك، مرجع سابق، ص 36-39.

[15]محمد شوقي عبد العال، 2004، الاستغلال المنصف لمياه الأنهار الدولية مع إشارة خاصة لحالة نهر النيل، القاهرة: برنامج العلاقات المصرية الإفريقية بجامعة القاهرة، ص 32.

[16]مروان بدر، مرجع سابق، ص 19؛ أشرف محمد كشك، مرجع سابق، ص 169.

[17] Swain, Ashok, op. cit., pp.296-298.

[18]محمد سالمان طايع، مرجع سابق، ص 278-285، 289-293، 302.

[19]مروان بدر، مرجع سابق، ص 20-21.

[20] Abu-Zeid, Mahmood, 2001 (September-November), “River of Hope and Promise,” UN Chronicle, vol. 38, no. 3.

[21] Swain, Ashok, op. cit., p.303;

مروان بدر، مرجع سابق، ص 23.

[22] “Countries in a Stormy Meeting Over Rights to the Nile Waters,” New Vision (Kampala), 18 April 2010.

[23] “Egypt Warns Nile Basin Countries,” The New Times (Kigali), 24 April 2010.

[24] “Nile Agreement to Be Signed Today,” New Vision (Kampala), 14 May 2010.

[25]The East African, May 2010.

[26] “Committee Proposes Nile Basin Initiative Budget Cut,” Addis Fortune (Addis Ababa(, June 2010.

[27] “River Nile Talks Continue,” New Vision (Kampala), 16 May 2010; The East African (Nairobi), May 2010.

[28] “Egypt Warns Nile Basin Countries,” The New Times (Kigali), 24 April 2010.

[29] “Govt. to Explain New Nile Treaty,” The Citizen (Dar es Salaam), 15 May 2010.

[30]The East African, May 2010; “Will Egypt Go to War Over the New River Nile Deal?” New Vision, 11 June 2010.

[31]The East African, May 2010.

[32]”الانتهاء من قضية مياه النيل يحتاج إلى عقود“، موقع قناة الجزيرة الفضائية، 13 يوليو 2010.

[33] “Egypt, Sudan, Not Pulling Out of Nile Pact,” The New Times (Kigali), 30 June 2010;

”السودان يجمد عضويته في مبادرة حوض النيل“، موقع قناة الجزيرة الفضائية، 28 يونيو 2010.

[34] Salem, Ahmed Ali,2009, “Problems of Regionalizing Universal International Relations Theories: A Study on Rivalry Approach to War and Peace in African and Arab Civil Wars,” Global Studies, vol. 2, no. 1, pp. 128-129.

[35]بول زيليزا، 2003، تجليات حول حالة الدراسات الإفريقية في الولايات المتحدة الأمريكية: الماضي والحاضر والمستقبل، ترجمة: أحمد علي سالم وريهام خفاجي، القاهرة: برنامج العلاقات المصرية الإفريقية بجامعة القاهرة.

أواصر - مجلة فكرية فصلية

www.awasr.com