التجديد الديني والدولة المدنية بين محمد عبده ومجادليه

طباعة 2024-04-05
التجديد الديني والدولة المدنية بين محمد عبده ومجادليه

تمهيد

يعد الشيخ محمد عبده من أعلام الفكر الإصلاحي الحديث في العالم العربي والإسلامي، فقد ترك أثرًا بارزًا في الفضاء الإسلامي منذ أواخر القرن التاسع عشر، قدم فيه خطابًا يحاول استعادة دور الإسلام في الحياة العامة وتعزيز دوره وقيمه في الحضارة المعاصرة.

أيد الإمام محمد عبده الثورة العرابية في بداية انطلاقتها، وشارك فيها ضد الاستعمار البريطاني للتخلص من نيره وقمعه ومحاولته اختراق المؤسسات الفكرية والثقافية والتعليمية، مع أن الإمام اختلف مع طريقة تعاطي قيادات الثورة في بعض الوسائل، والتي ساهمت في إخفاقها بعد ذلك. فسُجِن عدة سنوات ونُفِي خارج مصر، فاستقر في لبنان لسنوات عمل فيها مدرسًا لفترة في بيروت، بعد ذلك تلقى دعوة من صديقه وأستاذه السيد جمال الدين الأفغاني إلى لقائه في باريس في عام 1884، وفي عام 1885 أسسا معًا مجلة العروة الوثقى، التي كانت مجلة فكرية إصلاحية، وكان لها منحى ثوري ضد الاستعمار في الجانب الأهم من مقالاتها، وداعمة للنهضة والتقدم في الأمة الإسلامية، ولم تستمر هذه المجلة، وتوقفت بعد 18 عددًا منها، بعدما واجهت العديد من الصعوبات والعراقيل، بسبب كتاباتها ونقدها للكثير من السياسات العربية والأجنبية. وبعد عودته الثانية للبنان، كتب بعض الآراء عن علم الكلام، التي جمعها بعدة عودته إلى مصر وسماها رسالة التوحيد[1].

كانت مرحلة النفي من مصر مرحلة حراك مهم للإمام محمد عبده، حيث زار العديد من دول العالم، وتواصل مع الثورة المهدية في السودان سرًّا. اتفق الإمام محمد عبده مع أستاذه جمال الدين في غاية إجلاء المحتل بصورة أساسية، لكن موقفه انعطف نحو الاهتمام بمسألة الإصلاح الذاتي من خلال بناء الوعي الفكري والتعليمي، ومقاومة الجمود والتقليد، معتبرًا أنه القضية الأهم والأولى من الاشتغال بالإصلاحات السياسية الجذرية والمقاومة المباشرة للاحتلال في غياب الشروط الضرورية لذلك، ومن ثم تبلورت لديه فكرة الإصلاح المدني، وازدادت قناعته بها بعد هزيمة الثورة العرابية، ولذلك عزم على السير: "في طريق الإصلاح الديني والفكري والتربوي واللغوي، وأن يتعهد هذا الغراس حتى يثمر تلقائيًّا صلاح حال السياسة العليا، وتبديل المظالم التي تكتنف علاقة الحاكم بالمحكوم"[2].

 لم يتغير تقدير الشيخ عبده للسيد جمال الدين الأفغاني، رغم التباين في طرق ووسائل الإصلاح، يقول الإمام محمد عبده: "إن السيد جمال الدين الأفغاني كان صاحب اقتدار عجيب لو صرفه ووجهه للتعليم والتربية لأفاد الإسلام أكبر فائدة. وقد عرضت عليه حين كنا في "باريس" أن نترك السياسة ونذهب إلى مكان بعيد عن مراقبة الحكومات ونعلّم ونربي من نختار من التلاميذ على مشربنا.. فلا نمضي عشر سنين إلا ويكون عندنا كذا وكذا من التلاميذ الذين يتبعوننا (...) فالسيد جمال الدين رجل عالم، وأعرف الناس بالإسلام وحالة المسلمين، وكان قادرًا على النفع العظيم بالإفادة والتعليم.. لكنه رأى أن طريق التعليم والتربية بعيدًا"[3]. عاد الإمام محمد عبده إلى مصر عام 1889، بعد مساعي العديد من الأصدقاء والتلاميذ الذين عرفوا برؤيته الإصلاحية الثاقبة، ووسطية تفكيره، وحاجة مصر لهذا العالم الجليل، بعد نفيه ما يقارب ست سنوات قضاها في الخارج، لكن الاستعمار البريطاني منعه من الاشتغال بالسياسة أو دخول المؤسسات السياسية، كالأحزاب وغيرها من المؤسسات الفكرية والثقافية، وقد لاقى الإمام حملات، عند العودة إلى مصر، وواجه انتقادات من بعض العلماء التقليديين، بسبب مطلب التجديد والإصلاح للأزهر وأسلوب النظام التعليمي القديم، ولذلك تم عزله من وظيفة التدريس بدار العلوم، مع أنه من خريجي مؤسسة الأزهر، وكان السبب آراؤه الإصلاحية التي عُدَّت مزعجة للنخب التقليدية وخطرًا يتهدد النظام الذي كان تحت الاستعمار وسطوته وقمعه[4].

لقد ركز الإمام على الإصلاح الفكري والديني، وعدَّه من الأولويات للإصلاح ومواجهة الجمود الذي استشرى في العديد من الهيئات والمؤسسات الفكرية والتعليمية، ولخص رؤيته الإصلاحية كما أرادها فقال: "ارتفع صوتي بالدعوة إلى أمرين عظيمين: الأول تحرير الفكر من قيد التقليد، وفهم الدين على طريقة سلف الأمة قبل ظهور الخلاف، والرجوع في كسب معارفه إلى ينابيعها الأولى، واعتباره من ضمن موازين العقل البشري التي وضعها الله لترد من شططه، وتقلل من خلطه وخبطه.. وأنه على هذا الوجه يٌعد صديقًا للعلم، باحثًا في أسرار الكون، داعيًا إلى احترام الحقائق الثابتة، مطالبًا بالتعويل عليها في أدب النفس وإصلاح العمل. والأمر الثاني: إصلاح أساليب اللغة العربية في التحرير سواء أكان في المخاطبات الرسمية أم في المراسلات بين الناس"[5].

أولًا: التجديد الديني ومناهضة التقليد

لا شك أن الإمام محمد عبده بفطنته الذكية، ورؤيته للأوضاع السياسية القائمة في مصر، وبعض البلاد العربية، في ظل هيمنة الاستعمار آنذاك، أدرك أن مواجهة التخلف والجمود، وتحرك المستعمر لمحو القيم الإسلامية، وفرض التغريب، تتطلب أن يتقدم تجديد الفكر وإصلاح التعليم، وإيقاظ الوعي المجتمعي، والتحذير من التقليد والجمود، والتغريب من جانب آخر، وإبقاء الوضع على ما كان عليه؛ لأن التعلق بالثورة دون وجود الظروف الملائمة لنجاحها يسهم في مصلحة الاستعمار وسياساته في تقويض هوية الأمة ومحو قيمها، مستعينًا ببعض المتغربين من أبناء جلدتنا، فالأزهر "وصل الحال به إلى جمود جعله لا يرى في الإسلام إلا تصورات العصور المظلمة، التي استقرت في "الحواشي" و"المتون" والحكايات اللفظية... فهو يعادي علوم العصر ويرفض إدخالها في مناهجه، ومنها "المنطق" و"الحساب" و"الجغرافيا" و"التاريخ"؟! وهو لا يدخل في اهتماماته علوم الإسلام على عهد ازدهار الحضارة العربية الإسلامية، ومنها الفلسفة وفكر التيارات العقلانية الإسلامية، والفلك والبصريات والمعادن والطب"[6].

لقد زرع الغرب قبل رحيله ما أسماهم أنور عبد الملك: "العملاء الحضاريين"، وهو ما أكده عابد الجابري بقوله: "فحال هؤلاء معروفة إذ جلهم يتخذ من الجهل ثقافة ومن الاغتراب حداثة، والانشغال بهم، (...) مضيعة للوقت وإشغال الناس بما لا يجدي". بهدف إبقائها على الجمود والتقليد الذي يحد من انطلاقتها الحضارية في النهوض، ويقع بها في شراك التغريب الفكري والحضاري.

ومن هذه المنطلقات التي شكلت خطرًا على واقع الأمة في تلك الظروف الصعبة، في ظل الاحتلال وفي ظل التخلف، أدرك الإمام محمد عبده، كما يقول محمد عمارة، إن: "التقليد" و"الانقياد" هما أخطر القلاع وأمنع الحصون التي يحبس فيهما أنصار هذين التيارين عامة وجمهور الناس! فأهل الجمود، من "طلاب علوم الدين ومن على شاكلتهم" قد أضفوا "قداسة" على "فكر" العصور المظلمة، فمنعوا التفكير فيه والاجتهاد في قضاياه، ومن ثم أصبح "التقليد" و"الانقياد" حائلًا دون مجرد التفكير في التجديد! وكذلك ـ مع بعض الفروق ـ صنع أنصار "التغريب"، عندما اندهشوا وانبهروا "بمظاهر" الحضارة الأوروبية فوقفوا منها موقف "المقلد" و"المنقاد"". لذلك واجه الإمام محمد عبده طرفين تصديًّا لمهمته في الإصلاح الديني، وهما: أنصار التقليد والجمود، والمنقادون لفكر الغرب.

ولا شك أنه احتاج لشجاعة وقوة لمناكفتهم. فطرح مهمة التجديد في مواجهة الجمود، والتحذير من التغريب الذي يريد إخراج الأمة من أهم مقوماتها، وهي القيم الراسخة المستقرة، وتبديد الهوية وأثرها في حياة المجتمع وحيويته، وهذا ما عبر عنه محمد عبده عندما قال: "جاء الإسلام ليعتق الأفكار من رقها، ويحلها من عقالها، ويخرجها من ذل الأسر والعبودية ، فنرى القرآن ناعيًا على المقلدين، ذاكرًا لهم بأسوأ ما يذكر به المجرم (...) والشجاعة هي التي تعتق الأفكار من رقها، وتنزع عنها السلاسل والأغلال لتكون حرة طليقة (...) والشجاع هو الذي لا يخاف في الحق لومة لائم، فمتى لاح له يصرح به ويجاهر بنصرته، وإن خالف في ذلك الأولين والآخرين! (...) إن استعمال الفكر والبصيرة في الدين يحتاج إلى شجاعة وقوة جنان، وأن يكون صاحب الحق صابرًا ثابتًا لا تزعزعه المخاوف"[7].

ولا شك أن من مهام التجديد في النظرة الإسلامية، التجديد في العقول وفي أفهام المسلمين للدين، وليس التغيير في نصوص الدين، وهذا ما سار عليه الإمام محمد عبده، وهو "تحرير الفكر من قيد التقليد، وفهم الدين على طريقة سلف هذه الأمة قبل ظهور الخلاف". فالتجديد سنة من سنن الله عز وجل في خلقه، تبعًا لسنة الحياة في التغيير بما يحقق مصالح الخلق، كما أن التجديد يحمل سمات الرسالة الإسلامية الخالدة، وهو كذلك سر تجدد عطائها الحضاري وتميزها الفكري في كل الحقب التاريخية.

 والسؤال الذي يطرح نفسه في مسألة التجديد: "هل التجديد ينصب على أصول الدين؟ أم على طرائق فهمه وكيفيات ربطه بواقع المسلمين؟ إن ختم النبوة ينفي إمكانية القيام بعملية التجديد في أصول الدين؟ فهي أصول ثابتة لا تقبل أي تغيير على الإطلاق، وهذا مقصور على القرآن الكريم والسنة الشريفة الصحيحة، باعتبارهما خارج دائرة التجديد الذاتي، ومن ثم فإن التجديد يتحقق من خلال أساليب ومناهج يتم فهمها والتعامل معها بحكمة وحيوية"[8]. ولذلك من حكمة الله -سبحانه وتعالى- على أمة هذا الدين، أن جعل الكثير من آيات القرآن الكريم عامة أو مجملة، أو كما يسميها بعض الفقهاء بـ (منطقة الفراغ التشريعي)، كسعة ورحمة بالأمة، عدا بعض الأحكام فيها بعض التفاصيل: "كأحكام المواريث وأحكام الأسرة وتحديد عقوبات لبعض الجرائم وهي التي يطلق عليها "جرائم الحدود" كحد السرقة وحد الزنا، وذلك لأن الشرعية الخاصة بتلك الجزئيات تتغير بتغير ظروف البيئة والمكان وتتطور بتطور الزمان، فاقتصر القرآن فيها على المبادئ أو القواعد العامة التي تقتضيها العدالة"[9].

لكن المقصد الأساسي للتجديد، وإصلاح واقع الجمود الذي عاشه الإمام محمد عبده لم ينحصر في قضية واحدة فقط، بل كان يهدف إلى تراكمات تحتاج إلى هزة فكرية ونفسية في عقول بعض الأزهريين فـ:"لم يكن يقف فقط عند تنقية الدين من البدع والخرافات والإضافات، وإنما كان تجديدًا شاملًا متكاملًا، يستلهم بالعقل الحديث، عقلانية التراث الإسلامي، ويضيف لمعطيات هذا التراث ما يلائمها وينميها من علوم العصر وثمرات الحضارات الأخرى، وذلك حتى يكون هذا التجديد وأنصاره أولياء العلم وأحباء للمدنية، ويقدمون للأمة البديل عن "الجمود" وعن "التغريب" في ذات الوقت!"[10]. والحاجة إلى التجديد لا تتوقف "فنحن مطالبون بالتجديد لأن التجديد شرط للبقاء ولاستمرار الوجود، ويتعين ألا يسمى تجديدًا ما يذهب بالوجود ويقضي عليه. والتجديد أيضًا ينبغي أن يكون متوجهًا في الأساس إلى جوهر ما هو مطلوب استكمال الفاعلية فيه، مقاومة لخطر محدق، أو تحقيقًا لصالح حيوي، أو استدامة للأمن والاستقرار، أو كفالة للنهوض والارتقاء، ولا نكتفي بالتصور الغربي (...) بل يستجيب للمستجدات الطارئة، عن الأطر المرجعية المعبرة عن أوضاع الحضارة السائدة عن الجماعة"[11].

ومن الإشكالات والتصورات الخاطئة، في مسألة التجديد، عند بعض من العلمانيين العرب، أنهم يطلبون تجديدًا يقطع الصلة بمضامين التشريعات الإسلامية، بحجج واهية، ومنها تاريخانية التطبيقات؛ أي أنها طبقت لعصرها، وهذا قول مردود عليه، خاصة في قطعيات الدين، أما ما تمكن مراجعته، أو إعادة النظر فيه، من الاجتهادات التي لا نص فيها، ربما يعاد النظر فيها وفق مقاصد الشريعة، أما غير ذلك، فهذا تجاوز لمضامين التجديد. وهذا ما حذر منه الإمام محمد عبده، ورآه يشكل خطرًا على الأمة في فكرها وفي رؤيتها، وسبل عيشها وفق هويتها الذاتية، فقد كشفت التجارب "أن المقلدين من كل أمة المنتحلين أطوار غيرها يكونون فيها منافذ وكوى لتطرق الأعداء إليها (...) وطلائع الجيوش الغالبين وأرباب الغارات يمهدون لهم السبيل، ويفتحون لهم الأبواب (...) ولهذا لو طرق الأجانب أرضًا لأية أمة نرى هؤلاء المتعلمين فيها ـ ويقصد دعاة التغريب ـ يقبلون عليهم ويعرضون أنفسهم لخدمتهم بعد الاستبشار بقدومهم، ويكونون بطانة لهم ومواضع لثقتهم، كأنما هم منهم! ويعدون الغلبة في بلادهم مباركة عليهم وعلى أعقابهم"[12].

ثانيًا: جدال محمد عبده مع أرنست رينان

عُرفت عن "أرنست رينان" تقلبات في حياته الفكرية والدينية، فقد كان متدينًا في بدايات حياته، لكن نتيجة لاقترابه من فلسفة هيغل وغيره من الفلاسفة الغربيين، الذين كان لهم نقد للكنيسة الغربية تغّير فكره، وطبّق المنهج التاريخي على الديانة المسيحية، وشكك في ألوهية السيد المسيح كما هي في اعتقادات الديانة المسيحية، كما شن حملة كبيرة على الإسلام والمسلمين، وهي لا تمت للمنهج العلمي، وكانت مجرد ترديد لما قاله بعض المستشرقين عن الإسلام[13].

وعندما ألقى محاضرته الشهيرة في باريس عام 1883، بعنوان (الإسلام والعلم)، اتسمت بالهجوم العنيف على الديانة الإسلامية، إذ عَدَّ الإسلام كارهًا للعلم، ومخالفًا للتمدن، ولم يكن متسامحًا مع الأديان الأخرى إلا عندما كان ضعيفًا، وغيرها من الشبهات التي أثارها. ومما قاله في هذه المحاضرة: "إن أي شخص مطلع ولو قليلًا على أحوال عصرنا يعرف مدى تدني مستوى البلدان الإسلامية بالقياس إلى أوروبا ومدى الانحطاط الذي أصاب الدول المحكومة من قبل الإسلام، ومدى الخواء الفكري للشعوب التي تستمد من هذا الدين فقط ثقافتها وتربيتها. كل أولئك الذين زاروا بلاد الشرق أو أفريقيا الشمالية صدموا بمدى محدودية عقل المؤمن الحقيقي هناك. لقد صدموا بذلك النوع من القفص الحديدي الذي يحيط برأسه من كل الجهات ويجعله مغلقًا كليًّا على العلم وعاجزًا عن استيعاب أي شيء مختلف أو الانفتاح على أي فكرة جديدة"[14].

وجاء رد الإمام محمد عبده على رينان أكثر عقلانية وهدوء، ووضح المقاصد في رده على تلك الشبهات التي أثارها رينان، ومما قال الإمام: "لا يصح أن ينسب [هذا] إلى الإسلام، وقد رأيت صورة الإسلام في صفائها ونصوع بياضها ليس فيها ما يصح أن يكون أصلًا يرجع إليه شيء مما ذكرت ولا مما تنبأ بسوء عاقبته "رينان" وغيره، وإنما هي علة عرضت على المسلمين عندما دخل على قلوبهم عقائد أخرى سكنت عقيدة الإسلام في أفئدتهم، وكان السبب في تمكنها من نفوسهم وإطفائها لنور الإسلام من عقولهم"[15]. ويضيف الإمام: "كان الدين هو الذي ينطلق بالعقل في سعة العلم، يسيح به في الأرض ويصعد به إلى أطباق السماء، ليقف به على أثر من آثار الله، أو يكشف به سرًّا من أسراره في خليقته، أو يستنبط حكمًا من أحكام شريعته، فكانت جميع الفنون مسارح للعلوم تقطف من ثمارها ما تشاء، وتبلغ من التمتع بها ما تريد، ولما وقف الدين، وقعد طلاب اليقين، وقف العلم وسكنت ريحه، ولم يكن ذلك دفعة واحدة، ولكنه سار سير التدريج"[16].

أما بخصوص المقولة الشهيرة التي تبرأ فيها محمد عبده من السياسة، قائلًا: "أعوذ بالله من السياسة، ومن لفظ السياسة، ومن معنى السياسة، ومن كل أرض تذكر فيها السياسة، ومن كل شخص يتكلم أو يتعلم أو يجن أو يعقل في السياسة، ومن ساس ويسوس وسائس ومسّوس"[17]. فهذه العبارة منه لم يفهم مقصدها عند البعض من الباحثين والأكاديميين، وربما لم يفطنوا إلى ما أراده منها، خلال رده على "رينان" فتم تفسير ما قاله تفسيرًا سلبيًا، لكن الإمام -رحمه الله- أراد من هذه الإجابة، أنه لو عاد إلى مصر فإنه لن يمارس التأثير السياسي ضد الاحتلال، وأنه سيتجه للإصلاح الديني ومقاومة الجمود، فـرأى أن (الحكمة ضالة المؤمن، أنى وجدها فهو أحق الناس بها)، ولذلك استعاذ من السياسة. وإذا كان لفظ السياسة يعني حسن التدبير والإصلاح والسلوك الحصيف، كما أنها لا تنفصل عن القيم والفضائل الأخرى في حياة الناس، فإن الوضع تغير بعد الاحتكاك بـالحضارة الغربية المعاصرة، حيث أخذت كلمة السياسة تنحو منحى آخر، لها من المدلولات ما ينفّر البعض من كلمة السياسة، خاصة مع الاحتلال الغربي لمعظم البلاد العربية والإسلامية، ومحاولاته الشديدة لفرض مفاهيمه الفكرية والثقافية والسياسية، فصارت كلمة السياسة تُعرف بأنها فن الالتفاف على الحقائق. لذلك ترسخ عند البعض موقف سلبي في التعاطي مع السياسة[18].

مع أن الشيخ محمد عبده، قبل نفيه، وفترة عضويته في مجلس شورى المملكة المصرية، لم يتوقف عن قضايا الأمة الفكرية والسياسية، ولا شك أن تلك الظروف التي عاشها الإمام محمد عبده، في ظل وجود الاستعمار، كانت صعبة بالنسبة إليه، وكان يقيس الأمور بمنظار الواقع وتداعياته آنذاك، لكن في الوقت نفسه، لا يتهّرب من الكلمة التي تصدح بالحق، وزميله في مجلس الشورى حسن عاصم، يقول: "عيّن الشيخ محمد عبده سنة 1899، وكان بين أهل الحل والعقد في الحكومة وبين رجال مجلس الشورى -إذا نشب- شيء خلاف في الرأي.. فلما جاء الأستاذ إلى المجلس ونظر في الأمر نظرة الحكيم البصير، وعرف أن ليس هناك ما يدعو إلى هذا الانفراج -في الخلاف- وإنما هو سوء تفاهم باعد بين المشارب على تقاربها، سعى رحمه إلى أن يزيل أسباب الخلاف، فكان له ما أراد"[19].

استمر الإمام يمارس جهوده الإصلاحية في السياسة التي تنبه إلى آثار الاستبداد وعيوبه، ولذلك يرى أهمية توجيه النقد للحاكم الذي يكشف مساوئه، فيقول إن الخطأ لا تبيحه الشريعة: "وأنها توجب تقييد الحاكم بالسنة والقانون، ومن البديهي الواضح أن نصوص الشريعة لا تقيد الحاكم بنفسها، فإنها ليست إلا عبارة عن معاني أحكام مرسومة في أذهان أرباب الشريعة وعلمائها، أو مدلول عليها بنقوش مرقومة في الكتب، ولا يكفي في تقيد الحاكم بها مجرد علمه بأصولها، بل لا بد في ذلك من وجود أناس يتحققون بمعانيها، ويظهرون بمظاهرها، فيقومونه عند انحرافه عنها ويحضونه على ملازمتها، ويحثّونه على السير في طريقها، ومن أجل ذلك دعا سيدنا عمر رضي الله عنه الناس في خطبته إلى تقويم ما عساه يكون منه من الاعوجاج في تنفيذ أحكام الشريعة، فقال: ((أيها الناس، من رأى منكم فيَّ اعوجاجًا فليقومه)) إلخ: وقال تعالى: ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾"[20].

ومن هنا يؤكد الإمام محمد عبده في كتاباته عن الشورى في الرؤية الإسلامية، والحاجة إليها كغاية من غايات الأمة في حياتها وحركتها في السياسة والاجتماع، فيقول: "إن الشورى واجبة، وأن طريقها منوط بما يكون أقرب إلى غايات الصواب، وأدنى إلى مظان المنافع ومجالبها، على أنها إن كانت في أصل الشرع مندوبة فقاعدة تغير الأحكام بتغير الزمان تجعلها عند مسيّس الحاجة إليها واجبة وجوبًا شرعيًا، ومن هنا تعلم أن نزوع بعض الناس إلى طلب الشورى ونفورهم من الاستبداد، ليس واردًا عليهم من طريق التقليد للأجانب، ولا آتيًا لهم من ذم بعض الجرائد فيها هكذا جزافًا ورجمًا بالغيب"[21]. ولا شك أن هذه الكتابات التي تتحدث عن السياسة وطرح قضايا الأمة في بمجلس النواب، والدعوة لمدنية الدولة تتناقض مع الدولة الثيوقراطية، وضرورة إيجاد الطرق التي تفتح الباب للتداول السلمي للسلطة، تعدُّ من أهم جهود الإمام محمد عبده، قبل نفيه.

لكن رؤية الشيخ الإمام تختلف عما فهمه الأنصاري وغيره، كما جاء في رده على المؤرخ والمستشرق الفرنسي إرنست رينان، وقد أشرنا آنفًا إلى مقصد الإمام في هذا الرد الذكي، فقد أرجع الإمام محمد عبده أسباب ذلك إلى قضايا ومشكلات عميقة في الواقع القائم منها هيمنة الاحتلال، وكذلك في إرجاعه: "فساد الأوضاع السياسة، إلى سبب رئيسي هو فساد تربية الحاكم والمحكوم معًا، حتى جهل الأول مسؤولياته تجاه الأمة، وغابت عن الثاني حقوقه على الحاكم، ولذلك اعتبر إصلاح التربية الإسلامية هو الطريق إلى إصلاح الأوضاع السياسية. وقد قام على هذه الرؤية نظريته التي تجعل من الرأي العام وتقدم تربيته حجر الزاوية في العمل السياسي من أجل التغيير"[22].

كان الإمام محمد عبده مدركًا للأهداف الاستعمارية، وطبيعة تحركها في الأوساط الفكرية والسياسية، وفي الأندية الثقافية، ومحاولة بث الأفكار التي تدعي أنها طريق التقدم والنهضة لمصر والبلاد العربية، وهي في الحقيقة ليست سوى آراء بعض المستشرقين والباحثين الغربيين، الذين جاءوا قبل الحملات الاستعمارية وبعدها، لغرس بذور الاختراق وتشجيع النظم الغربية، وإحلالها محل الثقافة والفكر العربي/الإسلامي، ومنها القوانين في المحاكم والمؤسسات الثقافية. وهذا ما وقف في وجهه الأستاذ الإمام فقال: "إن الإسلام هو طريق التقدم والنهوض، لأنه كافل لتحقيق السعادة من أبوابها الطبيعية، ولأنه المناسب لاعتقاد الأمة، فدعوتها إليه، وانتماؤها لمشروعه في النهضة أيسر من دعوتها إلى مشروع وضعي لا علاقة له بمعتقدها، وغريب عن هويتها"[23].

وهكذا يمكن القول بأن هذا النقاش بين الإمام محمد عبده وأرنست رينان يعد أول مناظرة تجري بين الإسلام والغرب في القرن التاسع عشر عام 1883، كشف فيها الإمام الشبهات التي طرحها الفيلسوف الفرنسي، عن قضية ربط الإسلام بالجمود الذي ساد في فترة من الزمن، وعدَّه طارئًا عليه، وليس من أصوله الفكرية.

ثالثًا: الجدال مع جابرييل هانوتو

جرت بين الإمام محمد عبده والدبلوماسي الفرنسي "ألبرت أوغست هانوتو" سجالات، رد فيها الإمام محمد عبده على الانتقادات من هانوتو للإسلام، والنظرة السلبية لقيمه الفكرية والسياسية، والخطر الذي يمثله الإسلام على أوروبا، وعدم قبوله الفصل بين الدين والسياسة وغيرها من التهم، وفي مقاله الأول في مجلة بباريس الذي تمت ترجمته ونُشر في جريدة المؤيد المصرية، تحدث هانوتو عما كانت عليه بعض المناطق الإسلامية تحت السيطرة الفرنسية، ويقصد المغرب وتونس والجزائر، وأشار هانوتو في الجزء الثاني من المقال الأول إلى بعض السياسيين والنخب الفكرية الغربية، التي تريد أن يكون المسلم لا ينازع نظرتهم تجاه الدين والفكر وسبل العيش، ومربط الفرس لديهم قضية فصل الدين عن الدولة، أو الدين عن السياسة، فيقول في قضية التمايز وتمسكهم بعقيدتهم فـ: "لا يجوز أن يتولاها إلا من كان من عقيدتهم. ولم تدخل رءوسهم حتى الآن فكرة سوى هذه التي تمكنت من أفئدتهم، وأخذت من قلوبهم أمتن مأخذ، فكان ذلك سببا في حدوث سوء التفاهم بين الحاكمين والمحكومين في البلاد الإسلامية الخاضعة لحكومات مسيحية (...)، بالرغم من ذلك قد حصل انقلاب عظيم في بلد من هذه البلاد فصلت فيه السلطة الدينية عن السلطة السياسية بدون جلبة ولا ضوضاء"[24].

يرى هانوتو أن الإسلام يشكل خطرًا على أوروبا، فهو: "قريب منا في (مراكش) تلك البلاد الخفية الأسرار التي يشبه وجودها الحاضر مقدور الأبد في الغموض والاشتباه ـ قريب منا في طرابلس التي تتم بها المواصلات الأخيرة بين مركز الإسلام في البحر المتوسط، وبين الطوائف الإسلامية في باطن القارة الإفريقية (...) لا يوجد مكان على سطح المعمورة إلا واجتاز الإسلام فيه حدوده منتشرًا في الآفاق، فهو الدين الوحيد الذي تفوق شدة الميل إلى التدين به كل ميل إلى اعتناق دين سواه"[25]. ولا شك أن هذا السياسي الفرنسي، على قدر من المعرفة بالإسلام والمسلمين، فهو عرف عن قرب الكثير من البلدان العربية، خاصة شمال أفريقيا وغيرها، لكن الإشكال في نظرة التفوق لدى الأوروبيين تجاه الآخر المسلم، ولماذا لا يقبل الاندماج والانصهار في الفكر الغربي؟

رد الأمام محمد عبده على ما كتبه هانوتو، كعادة ردوده الهادئة والمنطقية، تجاه ما طرحه من مفاهيم ووقائع مغلوطة كان لا بد من تفنيدها، ومما قاله في الرد الأول عليه: "ما كنت أنوي الرد لو لم يتعرض مسيو هانوتو إلى الطعن في أصل من أصول الدين ما حركت قلمي لذكر اسمه. (...) وهذا يبرز أنه لا يأت بشيء من معرفة صحيحة واطلاع حصيف على حقائق التاريخ بنزاهة"، ولذلك هو: "مقلد في التاريخ كما هو مقلد أيضًا العقائد". وهذه أزمة فكرية حدية لا تقبل أن ترى الحقائق جلية واضحة من مصادرها دون تحريف، ليتاح له أن يحرك قلمه "ليدهش من لا يعرف الإسلام من الفرنسيين وهو جمهورهم"[26]. كما أن الإسلام: "اتسم بالوسطية الجامعة التي لا تقبل التجزئة، وتتسم بالعدل أو التوسط بين طرفين متناقضين، فلا هو "روح مجردة، ولا جسد جامد". وهذه سمة من سماته في الاعتدال، كما جاء في القرآن الكريم، ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾. [البقرة143]. كما أنه جازم في مسألة الحقوق والواجبات، فـ"لم يكن من أصوله: أن يدع ما لقيصر لقيصر، بل يحاسب قيصر على ماله ويأخذ على يده في عمله"[27].

حاول هانوتو في مساجلته مع الإمام محمد عبده أن ينكر قدرة المسلمين على التمدن والنهوض، وهذا خلاف الواقع منذ العصور الأولى للإسلام، فحيث "لم يكد القرن الثاني من ظهوره ينتهي، حتى جال المسلمون في علوم السماوات والأرض، وصححوا الأغاليط، ونقحوا القواعد، وحرروا الأصول، وفي مفتتح القرن الثالث، أقاموا المراصد ومسحوا الأرض وأتوا في ذلك بما هو معهود لأهل العلم في ديارنا وفي ديار مسيو هانوتو"[28]. ومن ضمن ما أشار إليه الدبلوماسي الفرنسي في نقده للإسلام والمسلمين، طرح القضية الجدلية الشهيرة التي لم تتوقف وربما لن تتوقف، وهي قضية فصل الدين عن الدولة، أو فصل السلطة المدنية عن السلطة الدينية، وهي قضية غربية، ويراد لها أن تكون في الإسلام أيضًا، كما كانت في المسيحية! ومما قاله هانوتو في سجاله مع الإمام محمد عبده، أن أوروبا لم تتقدم إلا عندما فصلت "السلطة الدينية عن السلطة المدنية".

وهذا الأقيسة التي وضعها هانوتو لمعيار التقدم في الغرب من خلال إقصاء الكنيسة عن تدخلاتها في العلم والاختراع، هدفها تحقيق غرضه في أن يجعل المسلمين يفعلون بدينهم ما فعلته أوروبا بالكنيسة الكاثوليكية، ولذلك جاء الرد من الإمام محمد عبده على هذه الادعاءات حاسمًا وواضحًا، وهو أن هذه المقاربة غير دقيقة في مسألة السلطة الدينية، فـ: "لم يعرف المسلمون في عصر من الأعصر تلك السلطة الدينية التي كانت للبابا عند الأمم المسيحية عندما كان يعزل الملوك ويحرم الأمراء، ويقرر الضرائب على الممالك، ويضع لها القوانين الإلهية"[29]. لذلك فإن مماثلة الإسلام مع النصرانية، في قضية السلطة الدينية، لم تؤسس فيه منذ العصر الأول الإسلامي، كما وجدت في الكنيسة الغربية، قبل إزاحتها وتحجيم دورها.

رابعًا: الجدال مع فرح أنطون

يعدُّ الجدال بين الإمام محمد عبده وفرح أنطون، حول فصل الدين عن الدولة، أو مدنية الدولة، والأخذ بالعلمانية الغربية، وقضية التسامح بين الإسلام والنصرانية، من أهم السجالات التي خاضها محمد عبده، بالقياس إلى الجدال حتى مع أرنست رينان، وجابرييل هانوتو. إذ يرى فرح أنطون أن الفصل بين السلطة السياسية والسلطة الدينية هو الذي أسهم في تحقيق النهضة في الغرب وتقدم العلم، ففي عام 1902، نشر فرح أنطون عدة مقالات في مجلته (الجامعة) في مصر، تلخصت في أن الدين المسيحي أكثر انفتاحًا على العلم والمدنية، وتقبل الفلسفة، وأشار إلى المقولة الشهيرة عن الديانة المسيحية "دع ما لله وما لقيصر لقيصر"، بينما الإسلام يختلف عن ذلك في عدم الفصل بين السلطة السياسية والدين، وهذا يعني أن على المسلمين أن يفعلوا ما فعله الغربيون، في مسألة إبعاد الدين عن السياسة والحكم والفصل بينهما. فأنطون يريد تقليد الغرب وتطبيق ما جرى مع الكنيسة الغربية على الإسلام، ومما قاله فرح أنطون في بعض مقالاته: "إن تمكن العلم والفلسفة من التغلب على الاضطهاد المسيحي في أوروبا وعدم تمكنهما من التغلب على الاضطهاد الإسلامي دليل واقعي على أن النصرانية كانت أكثر تسامحًا مع الفلسفة"[30].

وهذا القول من فرح أنطون لا شك، يستغرب من أمثاله أن يقولوه، وهو الذي تعايش مع الحكم الإسلامي، بصفته مواطنًا عربيًّا ومثقفًا مطلعًا على النظم الإسلامية في تطبيقاتها التشريعية، وليس كبعض من الغربيين الذين كتبوا أو نشروا بحوثهم، وكانت لديهم بعض الأحكام المسبقة والمعلومات المضللة عن الإسلام. فرد الإمام محمد عبده على طرح فرح أنطون، ومستغربًا ما قاله، ومما جاء في هذا الرد الذي هو أقرب للعتاب والنقد المنطقي فيقول: "ليس من السهل علي أن أعتقد أن أديبًا كصاحب الجامعة يقول هذا القول، وهو ناظر إلى الحقيقة بكلتا عينيه مع معرفته بلسان الغربيين واطلاعه على ما كتبوا في هذه المسألة وهي من أهم المسائل التاريخية، وإنما هي عين الرضا تناولت من حاضر الحال ومما انتهى إليه سير التاريخ ما تناولت، ثم أملت على قلبه ما جرى به قلمه"[31].

فقال في رده: "الإسلام لم يدع ما لقيصر لقيصر، بل كان من شأنه أن يحاسب قيصر على ماله، ويأخذ على يده في عمله.. فكان الإسلام: كمالًا للشخص، وألفة في البيت، ونظامًا للملك امتازت به الأمم التي دخلت فيه عن سواها ممن لم يدخل فيه (...) فليس في الإسلام كهانة أصلًا.. ولا وساطة دينية فضلًا عن سلطة دينيةـ تقف بين الإنسان وخالقه"[32]. كما أن السلطة في الإسلام، بعيدة كل البعد عن النظرة التي تجعل للقائمين عليها يُنظر لهم نظرة التقديس، أو أن لهم استمدادا من السماء بموجب ممارساتهم العملية في الحكم، فيقول: "إن الإسلام لم يعرف تلك السلطة الدينية التي عرفتها أوروبا، فليس في الإسلام سلطة دينية سوى سلطة الموعظة الحسنة، والدعوة إلى الخير والتنفير من الشر. وهي سلطة خولها الله لكل المسلمين، أدناهم وأعلاهم، والأمة هي التي تولي الحاكم، وهي صاحبة الحق في السيطرة عليه، وهي تخلعه متى رأت ذلك من مصلحتها، وهو حاكم مدني من كل الوجوه"[33].

هذه الردود من الشيخ عبده، حول الدين والدولة والمدنية، هدفها التبصير الفكري لحقائق الإسلام، حتى لا يقع بعضهم في حبائل الاختراق الفكري والثقافي الاستعماري، وقد وقع البعض فيه، كما أوضحت فكرة الإمام محمد عبده في قضية الإصلاح، وعكست في المقابل "رؤيته للدين وعلاقته بالحياة والعصر والعالم، الرؤية التي ظلت تتطور عنده وتتبلور وتزداد نضوجًا ووضوحًا. كما تقدمت معارفه وتراكمت تجاربه وتواصلت انفتاحاته، ولم تتغير هذه الرؤية عنده أو تتراجع حتى عندما كان الأستاذ الإمام، بل ظل يدافع عنها ويحاجج بها ويؤكد عليها، كما ظهر ذلك واضحًا في كتابه "الإسلام والمدنية"[34].

خامسًا: دولة مدنية بمرجعية إسلامية

في السجال بين الإمام محمد عبده وفرح أنطون، ظهر الخلاف حول قضية المرجعية، فالعلمانيون يريدونها لا دينية وفق النموذج الغربي، كما جرى في الغرب، بينما الإسلاميون، يرون أن لا بديل عن مرجعية الإسلام، وهذه قضية خلافية منذ السجال الذي نتحدث عنه، كما جرى في القرن التاسع عشر، وما يزال يطرح بين الفينة والأخرى، لكن الإمام محمد عبده عندما تحدث عن المدنية في الإسلام، لم يخطئ، فهو تحدث عن الفارق بين الإسلام والمسيحية في مسألة الحاكم وحدود صلاحيته، فـهو حاكم مدني من كل الوجوه، وهذا ما يخالفه فرح أنطون وبعض ممن انبهر بالغرب ونهضته، فالمدنية تعدُّ نقيض الحكم الإلهي، أو ما تسمى في الغرب السلطة الدينية للقساوسة أو النظام السياسي الإلهي، ولكن كما يذكر محمد الأحمري: "يقطع محمد عبده بأن نظام الحكم الإسلامي حكم مدني، أي عملٌ من اختيار الناس، من فعلهم، بعقولهم يختارون مصيرهم، ليس لديهم نص من أحد ولا على أحد، وهذا مفهوم جمهور علماء الإسلام"[35].

وهذه المدنية تمارس بعيدًا عن قدسية التصرفات الطبيعية، فالرسول صلى الله عليه وسلم، تمت بيعته مبايعة مدنية بمقاييس ذلك العصر، وبظروف ذلك الزمان وبدايات التأسيس، وهذه البيعة تعدُّ عقدًا سياسيًّا واجتماعيًّا على أسس مدنية. وقد سبقت هذه البيعة الكثير من النظم السياسية، قبل ذلك وبعده، ومن ذلك وثيقة المدينة التي وقعها الرسول صلى الله عليه وسلم، بعد قيام الدولة في العصر الأول، مع يهود يثرب، وبعض القبائل العربية غير المسلمة، فالأمة تحققت بشكل كامل مع اتساع رقعة الإسلام، وإقامة الدولة المدنية[36].

لم تفصل المرجعية إسلامية بالنصوص إلا في المجالات التي تتعلق بالعبادات والمعاملات. أما المجال الذي لا نص فيه فهو المجال الأوسع في القرآن الكريم، ذلك أن أغلب آيات القرآن الكريم مجملة أو كلية، وليست مفصلة، وهذه حكمة إلهية، لتغير الزمان والمكان والأحوال، فاقتصر القرآن فيها على المبادئ، أو القواعد العامة التي تتضمنها العدالة ولا تختلف باختلاف البيئات، ولم تتعرض للتفصيلات "ليكون ولاة الأمر في كل عصر في سعة من أن يفصلوا قوانينهم فيها حسب مصالحهم في حدود أسس القرآن من غير اصطدام بنص جزئي"[37]. إذن أعطت التشريعات الإسلامية مساحة للاجتهاد والتجديد، وبقيت القطعيات في الحدود الدنيا، وهذه حكمة إلهية، في أنه -سبحانه وتعالى- وضع القواعد العامة للأمة، وجعل التفصيلات لتناسب كل عصر، أو كما تسمى عند بعض الفقهاء بمنطقة "المسكوت عنه" التي تعدُّ سعة ورحمة للمسلم.

تعدُّ صحيفة المدينة التي أبرمها الرسول صلى الله عليه وسلم مع سكان يثرب أول دستور مكتوب في العالم الذي يؤسس لحقوق المواطنة الكاملة بمقاييس عصرنا، ويحدد الحقوق والواجبات لهذا المجتمع المدني الإسلامي الوليد في ذلك العصر، وهي "تقدم صورة مناسبة لمفهوم المدنية في الواقع المعاصر، إذ إن تلك الصحيفة كانت تمثل صيغة من صيغ التراضي السياسي الذي يرتكز على قائمة الحريات والحقوق السياسية: حرية الاعتقاد والعبادة، وحقوق المواطنة، والمساواة أمام القانون، وواجب الدفاع عن النفس والوطن، وحق التعبير والتنظيم"[38].

فالدولة في الإسلام -بغض النظر عن المصطلحات والمسميات- تقوم على الاختيار والانتخاب بمقاييس ذلك العصر وليس بمقاييس عصرنا، فاجتماع السقيفة يعدُّ أول اجتماع سياسي، كما يقول إمام عبد الفتاح إمام، في تاريخ الإسلام كله. وما أشبهه "بجمعية وطنية" أو تأسيسية تبحث مصير أمة لأجيال عديدة لاحقة، وتضع دستورًا يكون أساسًا لحياتها في المستقبل إلى أن حسم عمر بن الخطاب النقاش بحجج قوية[39].

إن الدولة في العصر الإسلامي الأول مارست كل مجالات الاجتماع السياسي سواء من استمداد الوحي أو ما فعله الرسول (ص)، وفي هذه التجربة التأسيسية لدولة المدينة "لم تترك شيئًا مما تمارسه الدولة اليوم، أو كانت تمارسه الدول في القديم إلا مارسته، فالدولة في الإسلام دولة مدنية وليست دينية، لأنها اصطبغت بهذا التطبيق المدني في القضايا العامة، فهي تقوم على الاختيارـ كما أشار إلى ذلك الإمام محمد عبده في ردوده المشار إليها آنفًا، وهو الذي أدخل مصطلح مدنية الدولة في الإسلام؛ فهذه الدولة كما يقول العلامة الشيخ يوسف القرضاوي: "تقوم على البيعة والشورى، ويختار رجالها من كل قوي أمين، حفيظ عليم، فمن فقد شرط القوة والعلم، أو شرط الأمانة والحفظ، فلا يصلح أن يكون من أهلها، إلا من باب الضرورات، التي تبيح المحظورات. على أن الإسلام في مفهومه الصحيح، وتطبيقه السليم، لا يعرف مصطلح (رجال الدين) الذي عرف في مجتمعات دينية أخرى، فكل مسلم رجل لدينه، وإنما يوجد علماء متخصصون في علوم الإسلام، وهم أشبه بعلماء الأخلاق والفلسفة والقانون في المجتمعات الأخرى"[40].

خاتمة

 لا شك أن اختيار الإمام محمد عبده رهان الإصلاح المدني وابتعاده عن الجانب الثوري، كما شدد عليه أستاذه السيد جمال الدين الأفغاني، يعدُّ عملًا جليلًا ومهمًّا في مسار الإصلاح، وإيقاظ الأمة من أمرين خطيرين، هما: الجمود والتقليد المتراكم على واقعها.

بعد تقييم الشيخ للمسار العام لكل التحولات القائمة من دخول الاستعمار وفشل الثورة العرابية، وغير ذلك من الأحداث وتقديره للأولويات، وأيهما أجدى بالحراك والفاعلية في تلك الظروف، وجد أن الإصلاح الفكري والتربوي والتعليمي واللغوي، وبث روح التجديد والوعي، هو الذي سيكون له الأثر الإيجابي، ولو تأخر قليلًا بسبب وجود الاستعمار.

وما قاله البعض عن فشل الإصلاح أو تعثره أو إعاقته، يتجاهلون الإيجابيات الكثيرة والأثر الكبير الذي تركه للأمة، من خلال من حملوا رسالته من التلاميذ والنخب الواعية، خاصة في مؤسسة الأزهر، والتي حملت فكره، واستطاعت أن تقوم بتجديد الأفكار والمؤسسات التي عشش فيها الجمود والتقليد، الذي أعاق الأمة وجعلها تتوقف عن التجديد والنهوض، مما ساهم في دخول الاستعمار وتكريس الاحتلال.

 وبفضل هذا المنهاج الإصلاحي استطاعت مؤسسات وهيئات وجمعيات في العالم الإسلامي أن تحرك السكون القائم، ووقفت في وجه من حاولوا حرف مسار الإصلاح إلى تبني النظم والمفاهيم الغربية، التي طالما سعى الاستعمار لترسيخها.

 ولا أظن أن تواصله مع اللورد كرومر كان لحظة ضعف منه، بل نتيجة لظروف قائمة فرضت نفسها عليه، فالإمام وجد نفسه بين خيارات صعبة، فإما أن يبقى مهاجرًا وتبقى البلاد في حالها من الجمود والترهل، وإما أن يعود ويقدم ضرورة الإصلاح ودوره ومقاومة الجمود، مع التصالح مع ظروف ذلك الواقع، وقبول شرط عدم قيامه بأي نشاط سياسي، فاختار الشيخ التحرك المتوازن واليقظ، وخلق الوعي وطرح الأفكار التي تجسد تطلعاته في إصلاح الواقع، وهذا ما حصل فعلًا، وفي صلح الحديبية ما يبرر فعل عبده.

وأرى أن الإمام محمد عبده، بذكائه وفطنته واستقرائه للأوضاع في تلك الظروف رأى أن إيجابياتها أكبر من سلبياتها، ولذلك لا أتفق مع بعض الآراء التي انتقدت الإمام في بعض ما وافق عليه من شروط عودته إلى مصر، فالأهم انطلاقة فكرة الإصلاح وطرحها وانتشارها، وأثرها على المؤسسات الدينية والتعليمية والثقافية، وأهميتها في خلق وعي جديد للأمة لمواجهة محو الهوية، ومخاطر التغريب وتبعاته الفكرية والسياسية والحضارية.

 

 

[1]- محمد عمارة، رسالة التوحيد للإمام الشيخ محمد عبده، ط 1 (بيروت-القاهرة، دار الشروق، 1994).

[2] -  محمد عمارة، الإمام محمد عبده: مجدد الدنيا بتجديد الدين، ط1(دار الوحدة للطباعة والنشر، 1985)، ص 199. لذلك اختلف مع أستاذه جمال الدين الأفغاني، الذي يتقدم لديه العمل الثوري ومقاومة المحتل بالقوة، فهما يتفقان في الأهداف، لكنهما يختلفان في الوسائل الموصلة لهدف الإصلاح وجلاء المحتل.

[3] - محمد عبده، الكتابات السياسية، تقديم محمد عمارة، كتاب مجلة الدوحة، ط1(الدوحة: وزارة الثقافة والفنون والتراث، 2012)، ص18.

[4] - رحاب عكاوي، الأمام الشيخ محمد عبده في أخباره وآثاره، ط1(بيروت، دار الفكر العربي، 2001)، ص60. انظر أيضاً: عبد الله العليان، الإصلاح الفكري والسياسي مستمر، جريدة عُمان،2021، على الرابط:

https://2u.pw/B2bKZ3V

[5] - رحاب عكاوي، الإمام الشيخ محمد عبده في أخباره وآثاره، مرجع سابق.

[6] - محمد عابد الجابري، المسألة الثقافية، ط1 (بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 1994)، ص210.

[7] - محمد الفّران، مظاهر التجديد في الخطاب الديني الإسلامي، ط1(الرباط، منشورات وزارة الأوقاف الإسلامية، 2007)، ص 83.

[8] - عبد الحميد متولي، الشريعة الإسلامية كمصدر للدستور، تقديم: عبد الحليم محمود، ط 1، (الإسكندرية، الناشر منشأة المعارف، 1975).

[9] - محمد عمارة، محمد عبده: مجدد الدنيا بتجديد الدين، مرجع سابق، ص59.

[10] - طارق البشري، التجدد الحضاري، تقديم نادية مصطفى، ط 1، (بيروت: الشبكة العربية للأبحاث، 2015)، ص 91ـ90.

[11] - محمد عبده، الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده، مرجع سابق، جزء 3، ص 522.

[12] جمال الدين الأفغاني، العروة الوثقى لا انفصام لها [الأعداد الكاملة]، تحقيق ومراجعة وتعليق: عبد الرحمن أبوذكري، ط1 (القاهرة: دار تنوير للإعلام والنشر، 2020)، ص160-161.بتصرف.

[13] - هاشم صالح، مناظرة الأفغاني- رينان: ما أشبه الليلة بالبارحة! بتاريخ 02 أبريل 2007، على الرابط:https://2u.pw/38Ub1DB

[14] - محمد عبده، الإسلام بين العلم والمدنية، تقديم محمد الرميحي، ط1(الدوحة: وزارة الثقافة والفنون والتراث، 2012)، ص 164.

[15] - المرجع نفسه، ص 168.

[16] - محمد عبده، الإسلام دين العلم والمدنية، تحقيق ودراسة عاطف العراقي، (القاهرة، دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع، 1998)، ص 164

[17] - عبد الله العليان وآخرون، الأنصاري وسوسيولوجيا الأزمة: ثلاث وجهات نظر دراسات عربية متباينة الرؤية، ط1(بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2000)، ص157.

[18] - رحاب عكاوي، الإمام الشيخ محمد عبده، أخباره وآثاره، مرجع سابق، ص 118-119.

[20] - المرجع نفسه، ص 108.

[21] - محمد جابر الأنصاري، العرب والسياسة أين الخلل، ط1(بيروت: دار الساقي، 1998)، ص61-62.

[22] -  برهان غليون، الوعي الذاتي، ط 2، (بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1992)، ص 67.

[23] - محمد عمارة، الإسلام والسياسة: الرد على العلمانيين، ط1(مصر، دار التوزيع، 1993)، ص 65.

[24] - محمد عبده، الإسلام بين العلم والمدنية، تقديم محمد الرميحي، مرجع سابق، ص 41.

[25] - المرجع نفسه، ص 28-29.

[26] - محمد عبده، الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده، مرجع سابق، جزء 3، ص 318.

[27] - المرجع نفسه، ج 3، ص 240.

[28] - محمد عبده، الإسلام دين العلم والمدنية، تحقيق ودراسة عاطف العراقي، مرجع سابق، ص 103.

[29] - محمد عبده، الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده، مرجع سابق، ج 3، ص249.

[30] - محمد عبده، الإسلام بين العلم والمدنية، تقديم: محمد الرميحي، مرجع سابق، ص 189.

[31] - محمد عبده، الإسلام دين العلم والمدنية، تحقيق ودراسة، عاطف العراقي، مرجع سابق، ص 185.

[32] - محمد عبده، الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده، مرجع سابق، ج3، ص 225، 226.

[33] - المرجع نفسه، ص 285- 286.

[34] - زكي الميلاد، من التراث إلى الاجتهاد: الفكر الإسلامي قضايا الإصلاح والتجديد، ط 4، (الدار البيضاء ـ بيروت، المركز الثقافي العربي، 2004)، ص87.

[35] - محمد الأحمري، الديمقراطية: الجذور وإشكالية التطبيق، ط 1، (بيروت، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2012)، ص 99. 

[36] - عبد الله العليان، الأمة والدولة والمواطنة في الفكر الإسلامي، ط1،(بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2014)، ص 24- 23.

[37] - عبد الله العليان، الأمة والدولة والمواطنة في الفكر الإسلامي، ط1،(بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2014)، ص 24- 23.

[38] - التجاني عبد القادر، أصول الفكر السياسي في القرآن المكي، ط1(الدوحة، منتدى العلاقات العربية والدولية، 2017)، ص 368.

[39] - محمد سليم العوا، الدولة الإسلامية والدولة العصرية، (الدوحة، جامعة قطر، 1984)، ص 145.

[40] - يوسف القرضاوي، من فقه الدولة في الإسلام، ط1(القاهرة، دار الشروق، 1997)، ص 30. 

شارك :

التعليقات (0)

أضف تعليق