الصراع حول القضاء يكشف عُمق الانقسام في الكيان

طباعة 2023-09-18
الصراع حول القضاء يكشف عُمق الانقسام في الكيان

عماد أبو عوّاد[1]

تهدف هذه الورقة إلى تقديم رؤية معمّقة حول طبيعة الصراع العلني والخفي في الكيان الصهيوني، في ظل تصاعد الأزمات الداخلية ووصولها إلى حافة الصدام المباشر، وما يرافقه من تغيّرات كبيرة آخذة في التوسع والازدياد داخله، حيث لم يستطع ساسته بناء حكومة مستقرة منذ ما يزيد عن أربع سنوات.

ينطلق المشروع الصهيوني من فكرة تجميع يهود العالم في الأرض الفلسطينية، وخلق مجتمع متماسك ومنسجم، ينصهر في بوتقة الهوية الصهيونية الليبرالية الغربية، التي يجب أن تكون دولة ذات وجه غربي في الشرق، تستمد فكرها من ما وراء البحار، وتعيش على دعمٍ لا متناهٍ من هناك، فبالرغم من نفي اليهود من الغرب واضطهادهم داخله، فقد لبس الكيان عباءة الغرب وسلوكه، فنفى الفلسطيني واضطهده رغم أنّه صاحب الأرض.

تصارعت مع مرور الوقت أفكار التيارات الصهيونية المختلفة، اقتربت وتنافرت، حيث شكلت الأزمات مع بداية تأسيس الكيان دافعاً مهمّا نحو تجاوز الخلافات، لكنّ تغييرات مهمّة أخذت في الازدياد مع مرور الوقت، دفعت عجلة الصراع لتكشف عُقم فكرة صهر اليهود باتجاه قالب واحد وأوحد، فالخلفيات الكثيرة المختلفة وضعت الاحتلال في محطات متنوعة من الأزمات، تجاوزها في أحيان دون القدرة على حلّها جذريا.

وقد كشفت الانتخابات الأخيرة في دولة الاحتلال التي جرت في تشرين ثاني 2022، على أنّ الكيان يتجه نحو المزيد من تفاقم الأزمات وعدم الاستقرار، رغم أنّ اليمين القومي والديني حقق أغلبية. حيث بعد أسابيع قليلة ما بعد الإعلان عن تشكيل الحكومة، بدأت المظاهرات ضدها بعد الإعلان عن نواياها بإجراء تعديلات قضائية وقد غطت المظاهرات ساحات المدن الرئيسية، وتحديداً مدينة تل أبيب ذات الأغلبية العلمانية الليبرالية.

تسرب الحراك العام في الشارع ما بعد سلسلة المظاهرات والمظاهرات المضادة، وما تبعه من عصيان إلى مؤسسات مختلفة في الدولة، سواءً تلك الرسمية كمؤسسة الجيش، أو مجمع النقابات، وأظهر ذلك أنّ الصدام الحاصل تُغذيه انقسامات بدأت منذ نشأة الكيان، وما زالت تنمو وتزداد مع مرور الزمن، متخذة صبغةً سياسيةً طائفية، تمخضت عنها أزمة بنيوية مرتبطة بالهوية وشكل الدولة من جانب، وصراع عميق وخفي بين الغربيين وبقية المكونات، تحت عنوان من هو صاحب النفوذ الفعلي في الدولة.

أولاً: دولة الاحتلال والأزمات وطبيعة الانقسامات.

يعيش اليهود في الكيان والخوف من المستقبل رفيقهم، ولم يُخفِ رئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو مخاوفه هذه حينما استعرض في حديثه بأنّ دولة الخشمونائيم[2] صمدت ثمانين عاماً وأنّه علينا العمل لضمان استمرار وجود الكيان لمئة عام[3]، كلماتٌ كان لها الكثير من الصدى، لكنها ليست فريدة من نوعها أو الوحيدة، بل سبقه إليها ثلّة من السياسيين، كرئيس الوزراء الأسبق نفتالي بنت.

"تجمّع القبائل" الوصف الذي أطلقه ديفيد بن جوريون[4] على المجتمع الصهيوني، و"الطوائف الأربع" كما وصف الرئيس الصهيوني السابق رؤوبن ريفلين نفس المجتمع[5]. توصيفاتٌ بينها مسافة زمنية امتدت ل65 عاماً، لم يُفلح الكيان خلالها من تحقيق حلمه بصهر كلّ المكونات المختلفة لتُخرّج الصهيوني الجديد، الذي يؤمن بهويته ويذوب في ثقافتها الجديدة. ولكونها دولة كثيرة المجموعات فإنّ ذلك خلق وراكم من حجم الانقسامات في المجتمع، وليس المقصود بالمجموعات الاختلافات الطبيعية داخل أي مجتمع، أو وجود مجموعات دخيلة قليلة على مجموعة أم كبيرة، تقوم الأخيرة باحتوائهم، أو تقبلهم. إنّ الحالة في الكيان مختلفة، فقد تحولت إلى ملتقى لمجموعات متنوعة، تنكفئ وتتقارب فيما بينها وتتنافر مع الآخر.

قدمت الدكتورة دانا بلاندر[6] وصفاً دقيقا لهذا الواقع، حيث تقول أنّه منذ لحظة وصوله إلى البلاد يتحول اليهودي في الكيان إلى يهودي يتبع بلده التي جاء منها[7] لذلك تدرج في دولة الاحتلال تسميات يهودي عراقي، يهودي يمني، يهودي امريكي وغيرها، الأمر الذي يُشعرهم الفرق بينهم، ويبقي مساحة كبيرة بسبب الاختلافات والفروقات، ويُحول المكان إلى ساحة لقاء وليس التقاء، فيها يُحاول الكل الحفاظ على هويته، أعرافه وتقاليده، ما يخلق فجوات داخلية عابرة لكل المجموعات.

في العقود الأولى لتأسيس الدولة العبرية، كان هناك نوعان من الانقسامات، الأول تحت عنوان قادمين جدد ومؤسسين، والآخر أغنياء وفقراء، لتتطور تلك الانقسامات وتأخذ أربع اتجاهات، الأول على أساس قومي ما بين اليهود والفلسطينيين، الثاني على أساس ديني ما بين متدين وعلماني، الثالث على أساس طائفي ما بين شرقي وغربي، والرابع والأخير على أساس أيديولوجي يمين ويسار[8]، تتداخل هذه الانقسامات لتُنتج تمثيلاً لمجموعة معينة داخل أخرى، ما ولّد المزيد من الانقسامات.

ووفق الدراسات الصهيونية فإنّ التوترات في ازدياد ملحوظ، والعلاقات الداخلية الصهيونية تزداد تأزماً مع مرور الوقت، حيث وفق الأرقام[9] فقد رأى 79% من الجمهور أنّ العلاقة بين الأغنياء والفقراء غير جيدة بالمطلق، و55% رأوا أنّ العلاقة بين الشرقيين والغربيين غير جيدة بالمطلق عام 2007، مقارنة ب25% عام 1993، فيما تقييم العلاقة على أنّها سيئة بين المهاجرين والقديمين ارتفع من 52% عام 1993 إلى 62% عام 2007، وبين اليهود والعرب قفزت من 74% إلى 87%، وبين المتدينين وغير المتدينين قفزت من 64% إلى 66%.

هذه الانقسامات استمرت في التمركز وازدياد الوضوح، خاصة مع الإقرار بفشل استراتيجية بن جوريون "فرن الصهر" والتي أراد منها تخريج الصهيوني الجديد، حيث شهد الكيان في أوائل سبعينيات القرن الماضي موجة احتجاجات قادها اليهود الشرقيون تحت اسم "الفهود السود"، وهدفها الأبرز كان القضاء على العنصرية ضدهم، خاصة بعد وصول نسبتهم في المجتمع اليهودي إلى النصف.

صحيح أنّ حراك الفهود السود سرعان ما انتهى دون تحقيق نتائج تُذكر، لكنّه كشف وبعد أقل من ثلاثة عقود على تأسيس كيان الاحتلال، عُمق الأزمة التي تعيشها وطبيعة الانقسام الذي يقض مضجعها، وعلى أثره بدأ الشرقيون بالتفكير بتأسيس أحزاب خاصة بهم، فساهموا من خلال دعمهم لليكود بالإطاحة بحزب العمل عام 1977 بعد 29 عاماً في الحكم، على أمل أن يكون الليكود أقلّ عنصرية في التعاطي معهم، ووفق "أريه درعي" زعيم حزب شاس، فقد كان للفهود السود الدور الأبرز في تأسيس حزبه[10]، الحزب الحريدي[11] الشرقي، الذي ينشط في الساحة السياسية منذ العام 1984.

تعددت بعدها الأحزاب الطائفية والدينية، لتُرسم الخريطة السياسية في الكيان الصهيوني، بطريقة تُعبر عن عُمق الأزمة، ليُشكل الروس حزب "إسرائيل بيتنا" بزعامة "افيجدور ليبرمان"، وحزب يهودوت هتوراة ممثلا لليهود الحريديم الغربيين، وأحزاب الصهيونية الدينية التي تُعبر عن المتدينين الصهاينة، ليبقى الليكود الحزب المستقر الوحيد من بين الأحزاب الكبار، فيما تراجع العمل إلى حدود نسبة الحسم، وتبلورت مجموعة من الأحزاب الموسمية التي تحظى بدعم الغربيين في الكيان.

هذا الانقسام الإثني، الطائفي والديني، وما تبعه من فرزٍ وتشظٍ إلى مكونات تُمثلها أحزاب سياسية، لقد أصبح بعد وقت ليس بالطويل يُهدد شكل الدولة وطبيعتها على أنّها دولة تُمثل الكل اليهودي، ومن جانب آخر تهديد حقيقي للديموقراطية الصهيونية، حيث باتت هناك مخاوف تدعمها بعض الحقائق على الأرض، على أنّ المؤسسة الرسمية المنتخبة غير قادرة على فرض سيادتها، وهو ما وصفه بلسنر على أنّه الحرب بين داعمي الديموقراطية الحقيقة وبين مؤيدي استبدادية الأغلبية[12].

ثانياً: تبلور الانقسام خلال العقد الأخير.

تُعتبر بداية الألفية الجديدة المحطة الأهم في بلورة وتجذر الانقسام والتصدع في المجتمع الصهيوني، حيث شكل انتصار زعيم حزب الليكود ارئيل شارون في المعركة الانتخابية على غريمه زعيم حزب العمل إيهود بارك بداية اندثار الأخير الذي كان الحزب الأهم في الساحة السياسية الصهيونية، حيث قاد الكيان في حروبه الثلاث الأولى والأهم (1948،1967،1973) وكان الحزب الحاكم منذ نشأة الكيان إلى العام 1977 دون منافس، قبل أن يبدأ الليكود في تشكيل خطر على سيطرته، وإخراجه من قيادة الحكومات الصهيونية وصولاً إلى استفراد الليكود وشركاءه بالحكم، وسيطرتهم على غالبية الحكومات الصهيونية منذ العام 2009.

انسحاب ارئيل شارون من قطاع غزة، تحالف الليكود مع المتدينين، واعتماد حزب الليكود على خزان انتخابي غالبيته من الشرقيين، فتح باب الصراع بين المكونات المختلفة في اتجاهات أكبر عُمقاً، صراعات بين تكتلات وصراعات داخل كلّ تكتل، حيث انقسم العلمانيون ما بين شرقي وغربي، روسي وأثيوبي، وبدأت ملامح الصراع الديني ما بين الحريديم والمتدنين القوميين[13]، أنتجت هذه الصراعات مجموعة أكبر من التناقضات وسيف مسلط من الابتزازات، فرضتها التيارات الصغيرة على تلك الأكبر في إطار تشكيل كل الائتلافات الحكومية خلال السنوات الأخيرة.

انزاحت الخريطة السياسية باتجاه اليمين القومي والديني مع التراجع الكبير لحزب العمل، واستقرار حزب الليكود نسبياً منذ العام 2008، حيث وعلى خلاف طبيعة الائتلافات الحكومية ما بعد الانتخابات بدأ يظهر في دولة الاحتلال تكتلان يرفضان التشارك في الحكومات من حيث المبدأ، بعيداً حتى دون خوض مفاوضات ائتلافية.

ازدادت هذه النزعة لدى التكتلين الأساسيين، اليمين القومي والديني بقيادة نتنياهو، وأحزاب المركز واليسار التي تناوب على قيادتها منذ العام 2009 مجموعة من الوجوه، حيث يتميز هذا التكتل بأنّ الحزب الأكبر كان غالباً موسمياً وليس تاريخياً،مرتبطاً بقوة شخوص بعينهم قرروا تشكيل حزب وليس فكراً وأيديولوجيا ومؤسسات، وفي الغالب لا تُجري هذه الأحزاب انتخابات داخلية[14]، حيث قاد هذا التكتل حزب يوجد مستقبل بقيادة يائير لبيد ما بين الأعوام 2013 حتى العام 2019، ثم بيني غانتس بقيادة حزب أزرق أبيض، قبل أن يعود يوجد مستقبل للواجهة مجدداً.

صحيح أنّ حكومة نتنياهو الثانية والثالثة ما بين الأعوام 2009-2015 ضمت أحزاب من المركز واليسار، ولكن العمود الفقري فيها كان من اليمين الديني والقومي، وانهيار الحكومة الثالثة لنتنياهو عام 2013 والاتجاه لانتخابات جديدة كان على وقع بداية تجذر الانقسامات وبدء قرعها أبواب مختلفة، حيث رفعت بعدها أحزاب المتدينين الحريديم شعار لن نجلس مع أحزب المركز واليسار، التي تريد فرض التجنيد علينا والتعليم الرسمي، فيما رفعت الأخيرة شعار المساواة في تحمل الأعباء[15]، هذا في ظل ارتفاع منسوب التوتر ما بين اليمين ككل، والمركز واليسار.

يُعتبر العام 2015 تاريخ تتويج الانقسام في الكيان، حيث شهدت المرحلة متغيران هامان، الأول تشكيل حكومة يمينية خالصة برئاسة بنيامين نتنياهو، ضمت كلّ المتدنيين والليكود وحزب كولانو بقيادة موشيه كحلون اليهودي من أصول ليبية، ولاحقاً حزب إسرائيل بيتنا المُمثل ليهود الاتحاد السوفياتي سابقا بزعامة افيجدور ليبرمان[16]. والثاني بدء الحديث عن تحقيقات تقوم بها الشرطة ضد رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بمجموعة من القضايا على رأسها الفساد والرشوة.

 رفع بنيامين نتنياهو شعار لست مذنباً تحت عنوان "لن يكون هناك شيء لأنّه لم يكن أصلاً"[17] في إشارة إلى بدء التحقيقات معه عام 2016، لكن صيرورة الأحداث أكدت خلاف ذلك تماماً، بدأ نتنياهو العمل على تحصين نفسه في ثلاثة اتجاهات مهمّة، التخلص من كل قيادات حزب الليكود التي تُشكل خطراً عليه مثلما فعل مع موشيه يعلون، عندما أقاله من وزارة الجيش وأدخل افيجدور ليبرمان مكانه، الأمر الذي دفع يعلون للخروج من الحلبة السياسية، واستمر نتنياهو في هذه السياسة تجاه الآخرين.

بدأ نتنياهو في الاتجاه الآخر تشكيل تكتل أطلق عليه اسم "بلوك اليمين"[18] وكان الهدف منه منع وجود أي احتمالية لإخراجه من الحلبة السياسية، ووقتها ظهر مصطلح "البيبزم"[19] الذي يُعبر عن حالة الولاء لنتنياهو، والاتجاه الثالث الأكثر خطراً هو عمل نتنياهو والموالين له على سحب الشرعية من مؤسسة المستشار القضائيبرئاسة افيخاي مندلبليت[20] وبعدها محكمة العدل العليا في الكيان، والتي ستكون لاحقاً محور الصدام وعنوان الانقسام الصهيوني الداخلي الذي تدور رحاه اليوم.

أخرج نتنياهو وفريقه من دائرة اليمين كل من يعارضهم، وألحقوه بتكتل اليسار، تكتلين يرفض كلّ منهما الجلوس مع الآخر، وتتوج ذلك بإجراء خمسة انتخابات ما بين الأعوام 2019-2022، حيث مع إجراء الانتخابات الأولى في 2019، لم يُفلح نتنياهو في تشكيل حكومة ائتلافية، رغم أنّ اليمين حصل على أكثر من النصف من المقاعد، وذلك بسبب رفض افيجدور ليبرمان زعيم حزب إسرائيل بيتنا الانضمام لها، مطالباً بضرورة أن يكون هناك توزيع للأعباء على كافة الطوائف في الكيان، وأن يكون هناك قانون تجنيد إلزامي للتيار الحريدي[21]، وزيادة نسبة شبابهم العاملين في القطاعات وإلزامهم بالتعليم الرسمي.

أعيدت الانتخابات في نفس العام ودون حسم أيضاً، فلم يبلغ أي معسكر نسبة ال50%+1، حيث يتم استثناء الأحزاب العربية من حسابات تشكيل الائتلافات، والجديد في هذه الانتخابات التحاق ليبرمان رسميا بمعسكر معارضي نتنياهو، وبعد إجراء الانتخابات للمرة الثالثة تشكلت حكومة ائتلافية ضمت بلوك اليمين بقيادة نتنياهو، وحزب أزرق أبيض بقيادة بيني غانتس، سرعان ما انهارت بعد تنكر نتنياهو للاتفاق.

 وتم إجراء انتخابات رابعة نجحت فيها أحزاب معارضي نتنياهو (يمين ومركز ويسار) من تشكيل حكومة ائتلافية كسرت فيها الأحزاب الصهيونية عُرفاً تاريخياً، من خلال الاعتماد على الحزب العربي "الموحدة" بقيادة منصور عباس، واعتبر ذلك كسراً للقيم اليهودية وضرباً ليهودية الدولة وفق اليمين القومي-الديني، لكن هذه الحكومة لم يكن لها أن ترى النور وتحصل على أغلبية دون ذلك، على أمل أن يترك نتنياهو الحلبة السياسية وبعدها تعاود الأحزاب الصهيونية تشكيل حكومة جديدة، لكن ذلك لم يحدث.

ضم الائتلاف الجديد بين طياته ثلاثة أحزاب يمينية "إسرائيل بيتنا" بزعامة ليبرمان،وأمل جديد بقيادة الليكودي السابق جدعون ساعر، وحزب يمينا بزعامة نفتالي بنت الذي أصبح رئيسا للوزراء، حكومة اتهمها يمين نتنياهو على أنّها يسارية غير قومية، صمدت عاماً واحداً قبل أن تسقط ويعود بلوك اليمين بزعامة نتنياهو ومنفرداً ليُشكل حكومة ائتلافية منذ نهاية العام الماضي.

منذ العام 2015 وحتى تشكيل حكومة نتنياهو الأخيرة، يُمكن رؤية مجموعة من التحولات التي جذرت الانقسامات التاريخية، ووجهتها بطريقة جديدة، حيث لم يعد اليمين واليسار، هذا الانقسام -الأكثر خطراً من وجهة نظر الصهاينة- على ما كان عليه تاريخياً، بل أصبح مصطلح اليمين يُطلق على الموالين لنتنياهو، ومصطلح اليسار على معارضيه، رغم أنّ الأخير يضم أحزاباً يمينية كإسرائيل بيتنا، وما بين اليمين واليسار (أحزاب مركز) كأزرق أبيض.

تكتل نتنياهو (اليمين) بات يُضم المتدينين كلّهم بشقيهم الحريديم والقوميين، إضافة إلى الليكود، المدعوم إلى حد بعيد من اليهود الذين يسكنون في الأرياف وليس المركز، ومدن الجنوب وليس تجمع جوش دان[22]، ما بات يفرز توجهات مُعينة لكل منطقة في الكيان، خاصة أنّ المستوطنات في الضفة الغربية تدعم وبشكل لا محدود أحزاب الصهيونية الدينية، فيما للحريديم الدعم الأكبر في مدينة القدس، ومدينة بني براك الحريدية الخالصة.

كما أنّه في كل معسكر هناك صراعات داخلية كبيرة، حيث داخل تكتل اليمين هناك صراع بين المتدينين القوميين والحريديم، أبرز ملامح هذه الصراع تتمحور حول من هو الطرف الذي يجب أن يكون متصرفاً في الأمور الدينية في الدولة، وتحديد طبيعة علاقة الدين بالدولة، خاصة أنّ الفجوة كبيرة بينهم فيما يرتبط بالنظرة للصهيونية، فالقوميون مؤمنون بها بالمطلق فيما الحريديم يرونها مجرد وسيلة، كانت مرفوضة لديهم مع بداية تأسيسها[23].

بدأ منذ سنوات داخل حزب الليكود نفسه ومع تفاقم الأزمة السياسية انقسام حول شخص بنيامين نتنياهو، بين تيار داعم له حتى في ظل لوائح الاتهام والمحاكمة، كونه الضامن لاستمرار قوة الليكود بفضل شعبيته الكبيرة، وتيار يرى أنّ وجوده دفع الليكود باتجاه تحالفات غيرت الوجه الحقيقي لليكود، ما سينعكس سلبا على الحزب وسيفقد تياره الداعم وخزانه الانتخابي التقليدي لصالح اليمين الليبرالي. وهذا مهد إلى خروج الشخصية الثانية في الحزب جدعون ساعر، بعد هزيمته الساحقة أمام نتنياهو في الانتخابات الداخلية[24]، ساعر نفسه كان سبباً في تشكيل الحكومة الائتلافية عام 2021، بعد أن حقق حزبه الوليد مجموعة من المقاعد.

لا يقل انقسام المعارضة كذلك عن التصدعات الموجودة لدى اليمين الحاكم، فلا يجمع المعارضة أي برنامج سوى إسقاط نتنياهو والخلاص منه[25]، الأمر الذي أفقدها الكثير من برامجها التاريخية، وجمع مكوناتها في صورة فاقدة البرنامج من جانب، وليس لديها أي أعمال على الأرض من شأنها أن تجلب قطاعات واسعة من الجماهير، ما قاد إلى وجود معسكر قوي تحت عنوان فقط نتنياهو، لترتسم صورة الانقسام في الكيان تحت هذين التكتلين، رغم وجود انقسامات كبيرة داخل كل تكتل.

صيرورة الأحداث منذ العام 2015 وصولاً إلى اليوم، تتمركز حول شخص بنيامين نتنياهو، الذي أعاد رسم خريطة اليمين واليسار بناءً على الموقف منه، فمعارضوه يسار حتى وإن كانوا يمنيين معروفين كساعر وليبرمان، ومؤيدوه هم اليمين الحقيقي. تصنيف ليس دقيقاً بالمطلق لكن هذا ما تم فرضه على أرض الواقع، ليُصبح نتنياهو مركز الانقسام، يعمل ويمينه الحاكم على البقاء مهما كلّف الأمر، فيما منافسوه لا يُملكون من الأوراق سوى محاولة إسقاطه بكل الوسائل ومهما كان ثمن.

نتنياهو الذي يجمع مؤيديه ويوحد معارضيه، غيابه سيفتح خريطة التحالفات لتتشكل مرة أخرى، وساحة الصراع والمنافسة ستكون أوسع وأكثر شمولية، بحيث ستغيب الأحزاب الكبيرة عن المشهد، فالليكود دون نتنياهو مصيره كحزب العمل، والتكتل الآخر سيتوزع بين مجموعة كبيرة من الأحزاب الصغيرة، وإن كان نتنياهو وفق الكثير من معارضيه هو السبب في تمزيق الجمهور الصهيوني[26]، وخلق معسكرين متنافسين، فإنّ غيابه ربما سيؤدي إلى انقسامات أكبر، فما يجمع اليمين ويوحده هو قوّة نتنياهو، والرابط الوحيد للمعسكر الآخر هو الخلاص من نتنياهو.

ثالثاً: أزمة القضاء وانعكاساتها.

وفق الاتفاق الائتلافي بين الأحزاب التي شكلت الحكومة الصهيونية، فإنّها جميعا ملزمة بالتصويت لصالح ما تُسميه الحكومة الإصلاحات القضائية، وما تعتبره المعارضة انقلاباً قضائيا، حيث يرى وزير القضاء في الكيان يريب ليفين، وهو الشخص الثاني في الليكود من حيث القوّة، أنّه دون إجراء إصلاحات قضائية فلا قيمة لوجود ائتلاف يميني، القضاء الصهيوني من وجهة نظره يُعاني الكثير من الخلل[27]، ويميل وفق اليمين لصالح المركز واليسار، الأمر الذي يمنعهم من القدرة على الحكم وفرض السيطرة.

كشفت أزمة القضاء الأخيرة في الكيان، أنّ الانقسامات في المجتمع الصهيوني أعمق بكثير من الاعتقاد السائد داخله، وأنّ حدّة الانقسام تصل إلى عُمق الكثير من المؤسسات العامة والخاصة، والاستقطاب الداخلي وصل إلى مستويات مرتفعة، حيث باتت الكراهية المجانية كما توصف في الكيان، مبنية على الموقف والاصطفاف السياسي، وهو أعلى وأخطر أنواع الكراهية والاستقطاب، ووفق بحث مؤشر الكراهية والاستقطاب الذي أجرته مؤسسة بنيما[28] في الكيان، فإنّ كل طرف يحمل الآخر كامل المسؤولية عن غالبية هذا الاستقطاب.

أغلقت بعض الشركات أبوابها بسبب الخلافات حيال التعديلات القضائية مؤخراً، وفضّ الكثيرون الشراكات مع من يخالفهم سياسياً، وتم مقاطعة شركات ومنتجات بسبب اتخاذها موقفاً مما يجري، وتم فصل مجموعة من العمال على خلفية مواقفهم السياسية، ووصل الأمر إلى حدود تمزق بعض العائلات من الداخل[29]، وهذه جزء من الآثار التي ترتبت على الأزمة القضائية في الكيان، والتي ما زالت تُطل برأسها دون تعب أو ملل.

بالعودة إلى جوهر الخلاف حول القضاء في دولة الاحتلال، فإنّ أحزاب اليمين ترى أنّ محكمة العدل العليا، والتي يُناط إليها النظر في بعض القوانين في ظل غياب دستور ينظم الحياة في الكيان، باتت تسرق توجهات الناخبين، وتحرم اليمين الصهيوني من إمكانية الحكم وتنفيذ سياساته رغم امتلاكه الأغلبية[30]، فيما الحريديم يعتبرون أنّ تلك المحكمة عنصرية بفعل عدم وجود أيّ من المتدينين الحريديم فيها، علاوة على أنّها تُحارب اليهودية كدين، وبالنسبة لليكود فإنّ التعديلات ضرورة ملحة، هذه الضرورة تلاقت مع رغبات نتنياهو  الباحث عن حصانة من المحاكمة، والراغب في الخلاص من لوائح الاتهام.

وهذا ما تعيه المعارضة الصهيونية، والتي ليس لديها رفض مبدئي لإجراء تعديلات قضائية، بل هناك من طالب من رجالاتها سابقاً بذلك، لكنّها تتنبه تماماً أنّ اليمين والليكود تحديداً يريدان هذه التعديلات لإنقاذ رقبة نتنياهو، وهذا ما صرح به كل قيادات المعارضة الحاليون، وحتى أولئك السابقون كإيهود باراك، العدو اللدود لنتنياهو، الذي اعتبر أنّ سعي نتنياهو للإفلات من المحاكمة أفقده القدرة على الحكم وعلى إدارة شؤون الدولة، ورسخ انقسام كبير داخل الدولة العبرية[31].

مع أداء حكومة نتنياهو للقسم وما تبعه من حراك باتجاه التعديلات القضائية، بدأ حراك الشارع الصهيوني على شكل مظاهرات في وسط مدينة تل أبيب، سرعان ما استطاعت تجميع عشرات الآلاف وصولاً إلى انخراط المعارضة جهارا نهارا في قيادتها[32] بعد أن تحققت المعارضة من حجم الشارع الكبير الرافض لإجراءات الحكومة، ليتحول مساء كل سبت إلى كرنفال استعراضي لأعداد تزداد في كلّ مرة، وشهية مفتوحة ليس فحسب لإيقاف التعديلات القضائية، بل أيضاً رافعين شعار لترحل حكومة الفساد بقيادة المتهم بنيامين نتنياهو.

لقد وقع الائتلاف الحاكم في فخ المظاهرات ولم يُحرك اليمين شارعه منذ البداية باتجاه حراك مضاد، رغم قدرته على ذلك، إلى الآن لم تخرج الأمور عن سياق المألوف، حتى وجدت حكومة نتنياهو نفسها أمام نداءات بالعصيان المدني،وبعدها إضرابات في أهم القطاعات الصناعية وهو الهايتك[33]، ليتغلغل بعدها العصيان إلى صفوف جنود الاحتياط من خلال التغيب عن التدريب، ولاحقاً اضراب تجمع النقابات في الكيان، لتدفع نتنياهو الخروج وإعلان تأجيل التعديلات القضائية وفتح باب الحوار حولها.

إنّ مجريات الأحداث منذ تشرين ثاني 2022 وحتى نهاية نيسان 2023، كشفت الوجه الحقيقي للأزمة، وأنّ هناك انقساماً اثنياً حاداً متجذراً إلى حدود السيد والعبد، الدولة العميقة والدولة الرسمية، الأولى فعّلت أدواتها من خلال مظاهرات ضخمة في وسط مدينة تل أبيب، ذات الأغلبية الغربية من اليهود، والتي يُطلق عليها في الكيان دولة تل ابيب، وسط اتهامات من اليمين بأنّ الطائفة الغربية تُحكم السيطرة على الدولة[34]، ووعيد من يائير لبيد قائد المعارضة بشلً الدولة في حال استمرت التعديلات القضائية، ومظاهرات مضادة من اليمين الحاكم، كان عمادها اليهود الشرقيون والمتدينون.

سياق التصريحات المتبادلة وحراك الشارع، كشف عن تساؤل مهم، من هو المؤثر الفعلي في الدولة، وسط خطاب زعيم المعارضة يائير لبيد من سيدفع ثمن سلوك الحكومة ومن سيدفع للميزانيات، في إشارة إلى سيطرة الغربيين على المفاصل الاقتصادية الأهم، كان رد النائب الشرقي في الكنيست دودي امسالم من حزب الليكود، بأنّه لن يسمح باستمرار سيطرة النخبة الغربية على الدولة، واصفاً الواقع بين الغربيين والشرقيين على أنّه علاقة صاحب العمل بالعامل[35]، السيد والعبد.

بالنظر إلى المعطيات، فإنّ حقيقة سيطرة الغربيين على الدولة رغم أنّهم ليسوا أغلبية، تؤكده الأرقام وتوزيع المناصب، فبعد 74 عاماً على تأسيسها لم يصل إلى رئاسة الوزراء في دولة الاحتلال أيّ شرقي، وهذا ينسحب على مؤسسة الموساد ومحكمة العدل العليا، التي يتهمها اليمين الحاكم بأنّها الواجهة التي من خلالها يستمر الغربيون في توجيه دفة القيادة سواءً كانوا أغلبية في الحكم أم أقلية، وهذا ما يدفع اليمين باتجاه سنّ قوانين تحرم هذه المحكمة القدرة على التدخل في عمل الحكومة والكنيست، قوانين من المُمكن أنّها لن ترى النور في ظل دولة عميقة تُسيطر بشكل كلّي.

لم تضم محكمة العدل العليا حجر الانقسام، منذ تأسيسها مع نشأة الدولة العبرية وإلى اليوم ومن بين 82 قاضياً سوى 7 من الشرقيين، وفقط اثنان من بين خمسة عشر قاضيا يُشكلون المحكمة اليوم[36]، وفي الوقت الذي يرى اليمين أنّ صلاحيات المحكمة غير ديموقراطية، ويريد تشريعاتتحد من صلاحيات المحكمة العليا في إلغاء القوانين، ويسمح للبرلمان بإعادة سن القوانين التي استبعدتها المحكمة، ويمنح الحكومة السيطرة على تعيين القضاة، ويسمح للوزراء بتعيين المستشارين القانونيين لوزاراتهم، فإنّ اليسار والمركز يرون بتغيير الواقع الحالي اعتداء على الحريات، ومنح الجهة التنفيذية القدرة المطلقة، ما سيؤدي إلى تقويض الديموقراطية، ومنع وجود توازنات ما بين السلطات الثلاث.

تجري في بيت الرئيس الصهيوني إسحاق هرتسوغ ما بين اليمين الديني الحاكم والمعارضة العلمانية الليبرالية مفاوضات للوصول إلى حلول وسط، لكن القناعة التامة أنّ تعديلات نتنياهو القضائية بغالبيتها لن تمر، حيث تجندت القوى الغربية الأكثر تأثيراً في مناحي الاقتصاد والأمن وغيرهما للتصدي لليمين، حيث  عطلوا الاقتصاد لأيام، ما أدى إلى تراجع تصنيف الكيان في بعض المؤسسات الدولية، كما فقدت عملته (الشيقل) أكثر من 10% من قيمتها، وبغض النظر عن طبيعة وجوهر التعديلات، فإنّ ما يُمكن قوله أنّ اليمين الحاكم أقرب إلى الاستسلام أمام هذا الزخم في الشارع وفي المؤسسات المحتجة على إجراءاته، ليبقى شعار اليمين بضرورة الحكم والسيطرة اعتماداً على نتائج الانتخابات، صعب المنال على الأقل مرحلياً.

رابعاً: أزمة الهوية في دولة الاحتلال.

يُؤدي اتساع رقعة الانقسام في الكيان إلى أزمة في تعريف الهوية الصهيونية، هل هي دولة يهودية علمانية ديموقراطية لكل مواطنيها، أم دولة يهودية ديموقراطية؟، وفي ظل إقرار التعريف الثاني والذي تمخض عنه المزيد من القمع تجاه الفلسطينيين الحاملين لجنسية الكيان، فإنّ هذا التعريف لا يلقى اجماعا صهيونيا، فما بين متدينين يريدون المزيد من فرض الهوية الدينية، وآخرين علمانيون يريدون الحفاظ على طابعها الليبرالي، في المنتصف تقف شريحة همومها أبعد من ذلك بكثير.

الناظر إلى الواقع الصهيوني الداخلي، لا يُعاين فقط وجود انقسام فكري وأيديولوجي ما بين تيارات مختلفة، بل باتت الجغرافيا كذلك أقرب إلى وصف الدول الثلاث، فالصهيونية الدينية تتمركز في مستوطنات الضفة، تُسيطر عليها وتزيد من وجودها وغرس هويتها فيما تُسميه "دولة يهودا"[37]، فيما الداخل الصهيوني مُنقسم إلى شبه دولتين، الأولى دولة تل أبيب ذات الأغلبية الليبرالية الغربية التي تُسيطر على الاقتصاد، والثانية المحيط أو الأرياف ذات الغالبية غير الغربية، والتي تُعاني من التهميش والفقر.

وبتفحص آلية تصويت الناخبين في الانتخابات الصهيونية الأخيرة والتي سبقتها، يجد بأنّ هذا الانقسام يتجذر ويتعمق، فالعلمانيون الليبراليون حصلوا على النصيب الأكبر من أصوات المركز (تل أبيب ومحيطها)، فيما كان لليكود النصيب الأكبر في الأرياف والمدن البعيدة، وسيطرت الصهيونية الدينية والحريديم على الأصوات في مدينة القدس ومستوطنات الضفة الغربية[38].

تسير دولة تل أبيب بخطى ثابتة باتجاه تكريس نمط حياة مختلف عن باقي المدن الصهيونية، ولا يُخفي رئيس بلديتها رون خولداي الذي يدعم في كل عام مسيرة للمثليين يُشارك فيها مئات الآلاف، أنّ مدينته ستستمر في سن القوانين الخاصة بها، لكنّها ستبقى مرتبطة بالكيان، ولكنه يتمنى أن تكون بقية المدن الصهيونية كتل أبيب، مدينة ليبرالية ديموقراطية، ترفض الوضع الراهن فيما يتعلق بعلاقة الدين والدولة، وتُتيح المواصلات العامة يوم السبت، وتمنح الحريات المطلقة لكل فرد ليعيش وفق رؤيته[39].

على الطرف الآخر فإنّ المتدينين بشقيهم الحريدي والصهيوني، يرون أنّ الدولة العبرية يجب أن تكون كما أرادها أنبياء يهود، فليست الديانة اليهودية عقيدة فقط، بل هي نمط حياة، يستند إلى تعاليم الشريعة اليهودية، يتوجب الالتزام بها، بل إن التمسك بها هو الذي يحدد مقدار يهودية الفرد،لذلك سنجد العديد من مظاهر التزمت الديني في الكيان، خاصة في المناطق التي تتركز فيها الجماعات المتدينة كاللباس المحتشم، والتزام السبت[40]، على عكس مدينة تل أبيب الأقربلتكون تكساس الشرق، صخب طوال الوقت، وليبرالية على نسق غربي صارخ.

ما بين هذا الصراع القائم بين العلمانيين والمتدينين، هناك تيار ثالث يقف في المنتصف، يُعرف على أنّه اليهودي التقليدي، المؤمن باليهودية واحترامها، ولكنه في ذات السياق ضد فرض التعاليم الدينية على الجميع، وضد لبرلة الدولة بالمطلق، يبحث عن هموم خاصة ترتبط بواقعه المعيشي وتعريفه في الدولة،كالروس وغالبية من اليهود ذوي الأصول الشرقية، والأثيوبيون الأكثر مواجهة للعنصرية، بسبب لون بشرتهم السوداء، أو بسبب أصولهم الأفريقية، فلا قبلهم المتدينون في ظل اعتقاد بعض الحاخامات اليهود، بأنّه لا يوجد يهود ذوو بشرة سوداء[41]، ودفعتهم تل أبيب خارجاً فلا مكان للأفريقي الأسود فيها.

ارتكب العلمانيون الليبراليون الذين أسسوا الدولة خطيئة حينما اعتبروا اليهودية هوية قومية وليست ديناً كسائر الأديان، هذا التعريف فتح شهية المتدينين الذين تضاعفت نسبتهم منذ تأسيس الدولة ومن المرجح أنّهم سيشكلون نصف المجتمع بعد عقدين من الزمن[42]، وأصبحوا في موقع اتخاذ القرار، إلى محاولة فرض الدين اليهودي ليس بوصفه هوية قومية، إنّما شعائرا وطقوسا، ونمط حياة، مُعتمدين على امتلاكهم أغلبية يمينية قومية-دينية.

يستغل من هنا المتدينون اليوم حاجة نتنياهو وحزب الليكود لهم من أجل الاستمرار في الحكم، وحاجة نتنياهو إلى الخلاص من المحاكمات، وهذا ما يدفع نتنياهو وحزبه باتجاه قبول توجهات المتدينين رغم أنّ شريحة كبيرة من الليكوديين هم من الليبراليين العلمانيين، فملف تعريف الدولة وهويتها، مفتوح على مصراعيه بضغط من المتدينين وإن كان الأمر سيستغرق سنوات حتى حسمه، فإنّ قرع أبوابه الآن فتح المجال إلى مزيد من الصراع الداخلي في الكيان.

تأتي المظاهرات والصراعات الأخيرة حول محكمة العدل العليا في سياق الحرب على الهوية، فالمتدينون واليمين القومي يرون بأنّ المحكمة بتشكيلتها الغربية تميل إلى إبقاء الوجه الصهيوني الليبرالي العلماني للدولة، ويمنعون منهم الحكم رغم امتلاكهم الأغلبية، فيما الغربيين يرون بأنّهم هم من أسس الدولة وبنى أركانها، وبقائها ضمن تعريفها وسمتها التاريخي سيحفظ مكانتها وقوتها وعلاقتها مع الخارج تحديداً الولايات المتحدة الأمريكية وبعض من الدول الغربية.

بالمجمل فإنّ الصراع ما بين طرفين يرى كلّ منهما أحقية طرحه، اليمين وتحالفاته يرون أنّ اليهودية تسبق الديموقراطية، فيما التكتل الآخر العلماني الليبرالي يرى بأنّ الديموقراطية قبل اليهودية، وأن أي تغيير في حصيلة التراكمات في الدولة سيحولها إلى استبدادية[43]، صراعٌ سيُحسم قريبا لصالح التيار الأول الذي يسير باتجاه إعادة تشكيل وجه الكيان نحو اليمينية، ذات النزعة القومية الدينية العنصرية، ونحو ترسيخ القيم اليهودية الدينية وتعميمها في ثقافة المجتمع، ونحو مزيد من التغلغل الديني في مؤسسات الدولة والمجتمع والجيش والقضاء، اعتماداً على تغيّر ديموغرافيا الكيان، ونزوحها نحو أغلبية دينية بعد عقدين على الأكثر.

خلاصة

ينقسم الكيان بصورة أبلغ من أي وقت مضى، ورفض نتنياهو الانسحاب من الحياة السياسية بعد توجيه لوائح اتهام ضده كما فعل رئيس الوزراء الأسبق ايهود اولمرت، بات يزيد من حدّة هذه الانقسامات، وإن كان ليس صحيحاً بالمطلق أنّ خصومه يرفضون الجلوس تحته بسبب محاكمته، إنّما كونه الشخصية الأقوى والمركزية، التي دون الخلاص منها لن يكون هناك أمل لقيادات جديدة، بتصدر المشهد السياسي.

لم يكن انعكاس الأزمة في الكيان على علاقة اليهود بالداخل فقط، بل امتد ليشمل انقساماً حاداً مع يهود الولايات المتحدة، الذين ومنذ سنوات يحتجون على التحولات الدينية في الدولة، وسيطرة التيار الديني الأرثودوكسي[44] على كل ما يرتبط بالدين اليهودي، مطالبين بالاعتراف بالتيار الإصلاحي الذي ينتمي إليه غالبية يهود الولايات المتحدة، وتخصيص مساحة لهم للصلاة عند حائط البراق[45]، مطالب قابلها نتنياهو بالرفض وسط ضغط المتدنين عليه، ما فاقم الأزمة بين الكيان ويهود الولايات المتحدة، وأدخل مصطلحا جديدا لمنظومة الانقسامات الصهيونية، انقسام الكيان ويهود أمريكا.

إنّ أزمة القضاء والصراع على الهوية باتت معركة حياة أو موت بالنسبة للتيار الغربي، الذي يحكم من خلال منظومة قضائية بناها هو مع تأسيس الدولة العبرية، وبات يخشى فقدانها لصالح أقليات هو ساهم باستقطابها من دولها، ولم يكن يتصور أنّها ستُصبح مُهدداً لوصايته على مفاصل الدولة. ما بات يدفعه ليس فحسب للصراع الداخلي ضد اليمين القومي-الديني، بل أيضاً الاستعانة بالولايات المتحدة الأمريكية وجزء من الخارج لتدعيم موقفه، تحت شعار أنّ التغييرات ستؤدي إلى تشويش العلاقات مع الخارج، وصولاً إلى عقوبات دولية ومحاكمات لضباط وقيادات صهيونية.

صيرورة الانقسامات في الكيان تسير دون توقف، يُمكن أن تشهد المرحلة المقبلة محاولة لتخديرها وتأجيل انفجارها، لكن التركيبة التي بُنيت عليها، وتحوّلها إلى ساحة تضم متناقضات كثيرة، تدفع باتجاه تجذرها بشكل أكبر وصولاً إلى مراحل مرضية أكبر. الدولة العبرية التي كانت سابقاً تتشكل حكوماتها من تحالف حزبين، باتت اليوم بحاجة لسبعة وثمانية أحزاب لترى النور، في إشارة إلى طبيعة التفتت واختلاف الأولويات، وضيق النظرة، والبحث عن الذات قبل المصلحة العامة.

 

 

 

[1] باحث فلسطيني، متخصص في الشؤون الإسرائيلية. ومحلل سياسي يظهر في العديد من الفضائيات العربية.

[2]  السلالة الحشمونية (مملكة إسرائيل المستقلة)، السلالة التي حكمت جنوب فلسطين والمناطق المحيطة بها بين عامي 140-37 قبل الميلاد خلال العصور القديمة الكلاسيكية.

[3] يهوناتان ليس، "الخشمونائم صمدوا 80 عاما، علينا تأمين وجود إسرائيل 100 عام"، هآرتس، 10 تشرين أول 2017، https://2u.pw/lTT138g

[4] أول رئيس وزراء إسرائيلي، استمر في الحكم ثلاثة عشر عاماً.

[5] موقع الكنيست، الرئيس الإسرائيلي السابق، القبائل المختلفة في المجتمع الإسرائيلي، موقع الكنيست، 7 تموز 2021، https://main.knesset.gov.il/news/pressreleases/pages/press07072021d.aspx

[6]باحثة في المركز الإسرائيلي للديموقراطية، حائزة على حائزة اليكس بيرجر المقدمة من الجامعة العبرية 2008، عملت محاضرة مستضافة في جامعة Tufts في بوستون في الولايات المتحدة.

[7] دانا بلاندر، انقسامات جديدة- قديمة في المجتمع الإسرائيلي،معهد دراسات الأمن القومي، 16 نيسان 2018، https://www.idi.org.il/parliaments/22242/22263

[8]  يوحنن بيرس واليعزر بن ارئيل، التقارب والتنافر: انقسامات في المجتمع الإسرائيلي، 2006، دار النشر عام عوفيد، تل ابيب.

[9] الأرقام مأخوذة من داتا يسرائيل، يُمكن العودة إلى دانا بلاينر، انقسامات جديدة-قديمة في المجتمع الإسرائيلي.

[10] أريه درعي، "صورة الحركة"، تسريخ عيون،19 كانون أول 2017، https://2u.pw/FF2kidG

[11] تيار ديني أصولي ملتزم، يعيشون حياتهم وفق الشريعة اليهودية، يُشكلون 12% من المجتمع الإسرائيلي، ويُمثلهم حزبين رئيسيين، شاس كحزب لليهود الشرقيين ويهدوت هتوراة للغربيين، يتفرغ غالبية شبابهم لتعلّم التوراة، ولا يتجندون للجيش، ويحصلون على مخصصات عالية من الدولة، ومعدل الأسرة لديهم هو الأعلى في إسرائيل بواقع 8 اشخاص، أب وأم وستة من الأبناء.

[12]يوحنن بلسنر، "انقسامات في المجتمع الإسرائيليالمركز الإسرائيلي للديموقراطية،21 كانون أول 2017  https://www.idi.org.il/galleries/20346

[13] المتدينون الذين يؤمنون أنّ الصهيونية هي حركة خلاص لليهود، وخطوة في تسريع مجيء المخلص، اندمجوا في الصهيونية ويريدون تحويلها باتجاه ديني خالص، تعتمد على الاستيطان كنهج، وشكل ديني للدولة كهدف.

[14]ميخائيل كلاينر، "أحزاب كيوجد مستقبل وإسرائيل بيتنا يتم ادارتها بشكل دكتاتوري"، معاريف، 13 آب 2022 https://www.maariv.co.il/journalists/opinions/Article-936629

[15]آبي كوهين، "لبيد: لن نجلس في حكومة لا تجند الحريديم"، يسرائيل هيوم، 26 شباط 2013،   https://www.israelhayom.co.il/article/62718

[16]تيل شيلو، "انتهت أزمة الائتلاف، اليوم ستصادق الحكومة على تعيين ليبرمان وزيراً للجيش"، ويلا، 30 أيار 2016،  https://news.walla.co.il/item/2965735

[17] هآرتس، "الأمر بدأ بأنّه لم يكن هناك شيء، وانتهى بطلب الحصانة"، هآرتس، 2 كانون ثاني https://www.haaretz.co.il/news/politi/2020-01-02/ty-article/.premium/0000017f-e943-df5f-a17f-fbdf33920000

[18]  كتلة ضمت الليكود، وأحزاب الحريديم (شاس ويهدوت هتوراة)، وحزب الصهيونية الدينية، حيث وقعت هذه الأحزاب تعهداً بأنّ ينضموا فقط لحكومة برئاسة نتنياهو.

[19] مصطلح يُطلق على اتباع ومؤيدي نتنياهو الذين يؤيدون بقاءه في الحلبة السياسية حتى في ظل لوائح الاتهام، ويُحددون توجهاتهم السياسية بناء على

[20] زيف كريستال، مندلبليت: "الجهد لسحب شرعيتي سيزداد وقت حسم ملفات نتنياهو"، بوستا،  17 تشرين أول 2017، https://2u.pw/FF2kidG

[21]  يوحنن فيسلر ود. جلعاد ملاخ، "مساواة حقيقية في الأعباء"، مركز الديموقراطية الإسرائيلي، 7 آب 2019 https://www.idi.org.il/articles/27153

[22] بروفيسور عوفير كينج، "نماذج التصويت في 2022 مقارنة ب2021"، مركز الديموقراطية الإسرائيلي، 15 تشرين ثاني 2022، https://www.idi.org.il/articles/46440

[23] رائف زريق، "إسرائيل خلفية تاريخية وآيدولوجية"، في دليل إسرائيل، صفحة 5-7، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2020 رام الله.

[24] يديعوت أحرونوت، "الليكود ملكه، نتنياهو هزم ساعر في الانتخابات الداخلية"، يديعوت أحرونوت، 27 كانون أول 2019، https://www.calcalist.co.il/local/articles/0,7340,L-3776597,00.html

[25]يوبال ايلون، "فقط لا لنتنياهو، قتلت اليسار"، سيخا مكوميت، 27 تشرين ثاني 2019 https://2u.pw/E18AzfV

[26] رونيت يوبال، "هل بيبي يُزق الشارع"، سالونا، 6 كانون ثاني 2020،  https://2u.pw/qFxx3Fv

[27]  سيون خيلاي، الوزير ليفين: "سنوات وأنا اقنعهم أنّنا بحاجة لتعديلات قضائية"، واي نت، 16 كانون ثاني 2023https://www.ynet.co.il/news/article/rkshbk7ii

[28] نداف شرجاي، "مؤشر الكراهية والاستقطاب، مقسمين، كارهين- لكن مستعدون لحلول الوسط"، إسرائيل اليوم، 4 آب 2022، https://www.israelhayom.co.il/news/local/article/12674040

[29]  ايلي ليفي، "المونولوج الخاص بارئيل سيجل كشف الحقيقة المرّة"، جلوبس، 3 آذار 2023https://www.globes.co.il/news/article.aspx?did=1001439831

[30]  تومار بريسكو، "خطأ بن جوريون"، لولا هئيل،2 شباط 2023 https://2u.pw/bLWkQZb

[31] معاريف، باراك يهاجم: "نتنياهو استسلم وفقد أهليته"، معاريف، 28 آذار 2023،  https://www.maariv.co.il/news/politics/Article-991473

[32]شاخر ايلان، "قيادة الحراك، أكثر من 250 ألف تظاهروا في القدس، لبيد: سنقاتل حتى النصر"، كلكلست، 13 شباط 2023https://www.calcalist.co.il/local_news/article/bjdu0dp6s

[33]نيتسان شفير، "اضراب تحذيري في قطاع الهايتك ضد الانقلاب القضائي"، كلكلست، 22 كانون ثاني 2023https://www.globes.co.il/news/article.aspx?did=1001436149

[34]  د. حاييم فايسمان، "هل النخبة الغربية تُسيطر على الدولة"، زمان يسرائيل، 21 شباط 2023  https://www.zman.co.il/373715/

[35] سيون خيلاي، "امسالم يؤكد، انقلاب حتى النهاية رغماً عنكم"، واي نت، 13 شباط 2023  https://www.ynet.co.il/news/article/s1h7ixdai

[36] ابراهام بلوخ، "حكم النخبة، أين الشرقيون في محكمة العدل العليا"، سيروجيم، 10 شباط 2020  https://2u.pw/xQTXSga

[37]مُصطلح يُطلقه المتدينون الصهاينة على جبال الضفة الغربية، حيث يعتبرون أنّ الدولة الحقيقة لليهود كانت هنا، وأنّ العمل يجب أن يستمر للسيطرة عليها بالمطلق.

[38]  ويلا، "الصهيونية الدينية قفزت في الجنوب، لبيد استحوذ على أصوات العمل وميرتس في المركز"، صحيفة ويلا، 2 تشرين ثاني 2022، https://elections.walla.co.il/item/3538147

[39]فريدمان، شوقي. "دولة تل أبيب الآن أكثر من أي وقت"، معهد دراسات الديموقراطية الإسرائيلي، 5 حزيران 2020، https://www.idi.org.il/articles/31888

[40] عبد الغني سلامة، "إسرائيل، والصراع على هوية الدولة والمجتمع"، قضايا إسرائيلية، مركز مدار، 2019، ص 102.

[41]اليشيب رايخنر، "قالوا لي ذات مرة، بأنّنا لسنا يهودا لأننا سود". مكور ريشون 27 كانون أول 2018 https://www.makorrishon.co.il/judaism/101535/

[42]كوبي نخشوني، "متى ستحسم الديموغرافيا الحريدية الدينية التعادل السياسي"، يديعوت أحرونوت، 8 تموز 2022، https://www.ynet.co.il/news/article/ryfcc7bs9

[43] موشيه جورلي، "المظاهرة هذا المساء ستكون حول هوية الدولة"، كلكلست، 27 نيسان 2023، https://www.calcalist.co.il/local_news/article/bysd7spq3

[44]مصطلح يُطلق على اليهود المتدينين في إسرائيل بشقيهم القومي والحريدي.

[45]  جيكوب مجيد، "الضغوطات التي اسقطت مخطط حائط البراق"، زمان يسرائيل، 6 شباط 2022، https://www.zman.co.il/287838/popup/

شارك :

التعليقات (0)

أضف تعليق