القوانين والحرية في ميزان النسبية

طباعة 2021-06-03
القوانين والحرية في ميزان النسبية

تلخيص

الإنسان الأول كان حرًّا بموجب قوانين الطبيعة، لكنه لم يكن حرًّا من الناحية النظرية لافتقاده الوسائل القانونية الوضعية، ثم اخترع الإنسان القانون، فتحرر حين تطورت بنوده، وحصل أخيرًا على الحرية النظرية، وافتقد من أجلها الحرية الطبيعية والفعلية حين سيطرت عليه وسائله القانونية. هذه هي حالنا مع القوانين البشرية النسبية، كل مكتسب في بند يرافقه قيد، وكل تحرر من قيد يحمل في طياته قيودًا أخرى.

والواقع أن منطق النسبية يمكن أن يوصلنا لحقيقة أن القوانين تبقى أداة تستعمل في الخير أو في الشر. ومن خلال هذه الورقة البحثية سنحاول أن نجلي بعض النقاط المظلمة التي ترافق سنّ وتطبيق القوانين، من أجل المساهمة في التفكير في حلول مستقبلية لها.

مقدمة

البشر لا يملكون إلا دخان القوانين، لكنهم يظنون أن عدالتها تدفئهم. الإنسان كلما تقدم وتوسع في الحريات كلما ضاق عليه خناق القيد. والدليل أننا في زمن يقدس الحرية ويتطرف عند تطبيقها في تضييقها، حتى أصبحنا أكثر قيدًا من الإنسان البدائي الذي لم يكن يعير اهتمامًا للحرية، لكنه كان ينطلق في الأرض الخلاء ويفعل ما يشاء، فليس هناك حدود تقيده ولا قانون بحري يحدد مجال إبحاره، ولا ربُّ عمل يقف على رأسه، ولا ساعة منبّه تفرض عليه وقتًا للاستيقاظ، ولا التزامات بنكية تفرض عليه العمل أكثر. نعم، ارتفع اليوم معدل الحياة بالسنوات ومنسوب الحريات بالبنود القانونية مقارنة مع الماضي، لكن دون أن نعيشها، فقط نعدُّها، والذي يعد سنوات الحياة لا يجد الوقت لعيشها.

النسبية التي نتحدث عنها في هذا البحث لا ترتبط بالحاضر مقارنة بالماضي فحسب، بل تشمل الحاضر مقارنة بالحاضر، فلكل منا حاضره رغم أننا نتشارك نفس الحاضر. الأرض لا تدور بنا جميعًا بنفس السرعة وفي نفس المجال، هي تدور في دوائر، ولكل صنف من البشر أرضه وقوانين مساره وسرعة دورانه. عالمنا ليس واحدًا بل عوالم متعددة. الكرة الأرضية رقعة بيضاوية واحدة لكننا نعيش فيها بجمع الشتات، لكل منا بيضته حتى وإن جمعتنا نفس البيضة، ولكل منا قانونه الخاص حتى ولو جمعنا نفس القانون الدولي، ولكل منا نصيبه من الحرية التي لا توزع بالتساوي بين البشر.

الهدف من الانطلاق من النسبية في التحليل هو الوصول بالقارئ لإعادة التفكير في جدوى الحلول التي تقدمها القوانين، والمشاكل التي يخلقها الإنسان في تنزيله للقواعد القانونية. القانون اختراع وحل يقدمه الإنسان لتنظيم الحياة ومواجهة مشاكلها ومعاقبة جرائمها، لكنه يتحول مع التسييس وتغليب المصلحة لمشكل.

وبعيدًا عن أحكام القيمة التي تدين القوانين، وتبخس المجهودات المبذولة من أجل حماية الحقوق، فإن القانون يبقى ضرورة اجتماعية لتفعيل مقتضيات الضبط الاجتماعي، ولا يمكن التفكير خارجه، ولا يمكن تصور العالم بدونه، لكننا نحاول النبش في الزوايا المسكوت عنها، والتي تعكس ضعف القوانين الجامدة في الاستجابة لاحتياجات الإنسان المتجددة. لذلك جاءت إشكالية البحث لتعكس هذا الهدف: فهل القوانين التي تنظم المجتمع تحقق أهدافها؟ ومن هذه الإشكالية تتفرع مجموعة من الأسئلة الفرعية حول من يَسُنّ القوانين، هل هو من يملك الحق والشرعية أو من يملك القوة؟ وهل نَحكم ونُحكم بقوة القانون أم بقانون القوة؟

من أجل الإجابة عن الإشكالية والأسئلة المتفرعة عنها سنقوم باعتماد منهجين: المنهج المقارن، وذلك عبر المقارنة بين ماضي القوانين وحاضرها، وبين القوانين الطبيعية والقوانين الوضعية؛ والمنهج التحليلي، من خلال تحليل القوانين الوضعية وتطبيقاتها والوقوف على نقط الضعف فيها، والمساهمة في إيجاد حلول لها. وذلك عبر محورين أساسيين:

المحور الأول: نسبية القوانين

المحور الثاني: قيود القوانين وسبل تخفيفها

المحور الأول: نسبية القوانين

الحياة نسبية، والحقيقة حين تلامس الهواء تفسد، فكل مخلوقات الوجود يعتريها النقص الشديد والإعاقة المزمنة بما في ذلك الإنسان منشئ القوانين، رغم أنه من الكائنات الأكثر تطورًا. هذا التمهيد مهم في البداية حتى نكون أوفياء لعنوان المقال، وحتى نؤطر البحث بالإطار العام للنسبية التي نتحدث عنها.

أولًا: الإطار العام للنسبية

نسبية القوانين من نسبية الحياة وحضورنا المؤقت فيها. فالنسبية قاعدة ماسية وأصل متحرك لكل القواعد التي تظهر ثابتة ومسلمًا بها في واقعنا المتردد. وهي في الواقع حقيقة تطال كامل جوانب الحياة:

تطال الأحكام، فالبراءة لا تعني كل البراءة، والذئب حين برأه القرآن من دم بن يعقوب، لم يعفه من مسؤوليته عن دم غيره.

وتطال شروط النجاح، فأينشتاين الذي يعدّ أيقونة النجاح كان يحمل بذور الفشل (ضعيف الفهم، مدخن شره، لا يجيد سواقة السيارة، ضعيف الذاكرة...) لكنه نجح. وهنا نتوقف على البشرى التي تحملها النسبية، فالإنسان لا ينتقل من فشل إلى فشل إلا لكي ينجح. لذلك على الفاشل أن يحاول، فلن يخسر أكثر من جلوسه بدون محاولة.

وتطال التقدير الجسدي، فالأعمى لا يكون أعمى طوال حياته وفي كل أوقاته، هو ليس أعمى على الدوام، بل إن حواسه تكون أقوى من المبصر حين تكون هناك ظلمة وساعة النوم وحين يُحب. يفقد بصره فقط حين يستيقظ، ويسترجعه حين ينام، لأن عالم الأحلام لا مكان فيه للعميان. ولأن ما نملكه اليوم سنفقده غدًا؛ فحتى المبصر لا يكون مبصرًا طوال حياته وفي كل أوقاته، فهو لا يبصر حين تمرض عينه، وفي الظلمات وساعة النوم وحين يحب.

وتطال المجال الصحي، فحتى الدواء الذي فيه الشفاء لا يكون دائما كذلك، فقد يعالج أمراضًا ويسبب أخرى. الدواء فيه الشفاء ومنه السم، والسم فيه الموت ومنه الشفاء.

وتطال الموت والحياة، فكثير من الناس يظنون أنفسهم أحياء وهم ميتون؛ لأنهم مقلدون يعيشون حياة غيرهم على طول ممشاهم، يتقمصون ويمثلون، أو متطرفون يعيشون في الماضي الميت على حساب الحاضر الحي. وفي المقابل هناك كثيرون نظنهم أمواتًا وهم أحياء بيننا، كانوا قبلنا وسيبقون بعدنا، بكتبهم وحكمهم واختراعاتهم ومواقفهم الشجاعة التي لا تموت.

وتطال معايير الجمال، فالورد فيه العبق ومنه الشوك، والسمنة معتبرة ومقدرة في ثقافة وزمان ومكان معين، لكنها محتقرة في ثقافة وزمان ومكان آخر. حتى إن هناك ثقافات تقدّر جمال المرأة بالميزان الكمي، وكلما زاد الوزن زادت القيمة والمهر.

وتطال ما نملك من مال، والذي حين نملكه يملكنا ويحكمنا ويسجننا. والحرية كالمال؛ هناك حرية نملكها، وهناك حرية تملكنا وتسجننا كسجن البخيل للدرهم.

وتطال قوانين الحريات العامة، فهناك مثلا قوانين تشرّع لتحرر المرأة الجسدي والجنسي، وهناك بالمقابل قوانين ترى في تحرير جسد المرأة استعبادًا واستغلالًا بشعًا لأنوثتها.

وتطال العدالة الجنائية، لأن الكثير ممن يستحقون العقاب ينعمون بالحرية، وهناك من يدخل السجن فعلًا ويحكم بمدة أطول بكثير مما يستحق أو أقل بكثير، وثمّة من يقترف جرمًا لا يدخله للسجن، ثم يدخل بسبب جرم آخر لم يرتكبه، ولأن هناك من أخطأ مرة، وعوقب مرتين، وعاش السجن طوال حياته لأن المجتمع وصمه. وهذا يحيلنا إلى نقاش أكثر خصوصية مرتبط بنسبية العدالة.

ثانيًا: نسبية العدالة

الحياة مسير طويل، ولكل ماش في الحياة كبوة وعثرات، غير أن هناك من يتعثر عثرة بعد عثرة فيجد في كل مرة من يأخذ بيده ليعيده إلى خط المسير، وآخر يتعثر عثرة واحدة ويسقط في حفرة، فيجد من يأخذ بيده لتصفد ويقاد للسجن، وشتان بين أخذ وأخذ[1]. الدنيا أرزاق وحظوظ، من المستحيل تطبيق العدالة على الجميع، ولو حصل ذلك لصار من بالسجن أكثر ممن هم خارجه. الإنسان ليس معصومًا والله أمر بالستر، ولكن ليس بالتستر طبعًا.

لنتصوّر السجين مثالًا مجسدًا للشر حين يمثل بقية المواطنين الخير، هي نظرة صبيانية تبسيطية للأمور، فالسجين كسائر البشر إنسان، والسجن لا ينزع عنه إنسانيته بل قد يزكيها، إذا توفرت شروط الرعاية والإدماج. من المفروض أن يكون السجن وسيلة لإصلاح المذنبين في حق المجتمع وشعورهم بإنسانيتهم، وذلك عبر معاملتهم على أنهم بشر طبيعيون وهم كذلك. قد نجدهم أبرياء، أو يكون وجودهم بالمكان الخطأ هو سبب سجنهم، وقد نكون نحن من أخطأنا في حقهم، وربما كان بالخارج من هم أكثر إجرامًا منهم، وحتى إن كانوا مجرمين فعلًا، فإنهم في النهاية بشر مثلنا، يدفعون جزاء كل ما اقترفوا هم وبعضًا مما اقترفناه نحن، في معادلة يمكن تسميتها "السجن بالوكالة". فمن منا بدون خطيئة؟ من ذا الذي يدعي الكمال؟ ومن ذا الذي لا يستحق السجن بموجب القانون؟

العدالة الجنائية نسبية كذلك لأن التهم المُجَرِّمة للأفعال تختلف من دولة لأخرى. التشرد والخيانة الزوجية والبغاء يعاقب عليها القانون في دول، ويؤطرها في دول أخرى بإطار الشرعية بوصفها حريات شخصية. معيار تقييم الأفعال سواء المعيار الاجتماعي أو الديني أو القانوني ليس ثابتًا بل متغيرًا، وهذا يعني أن المعايير الأخلاقية متغيرة، وأن القوانين والاجتهادات العلمية والقيم الاجتماعية مترددة وقابلة للتغيير.

قديمًا كان التفكير الحر مجرّمًا ويجر صاحبه إلى السجن، فهل كان المجتمع على حق؟ ألم يسجن العالم الفيزيائي جاليليو في منزله إلى أن فقد بصره ومات، فقط لأنه أثبت مركزية الشمس من خلال تليسكوبه المطور، معارضًا بذلك نظرية المجتمع في عصره، والتي ترى أن الأرض هي محور الكون وأن جميع الأجرام السماوية تدور حولها وفقًا لآراء بطليموس. فهل كان جاليليو مخطأ ويستحق العقاب الذي ناله؟كم كفّنت ودفنت القوانين أحلامًا إنسانية، وكم من وضيع رفعته لمراتب التقديس، أو عظيم هشمته بمطرقة التبخيس.

صحيح أن كل القوانين وضعت لتحقيق العدالة، لكن نسبتها للإنسان تجعلها نسبية وتبتعد بها عن العدالة. القضاة ملزمون بتطبيق القانون لا بتحقيق العدالة، فقد يرى القاضي أمرًا لكن القانون يقول عكسه، وهو ملزم بتطبيق القانون لا ما تطمئن له نفسه. لذلك يحاول القانون تحقيق العدالة دون أن يصل إليها، كمن يحاول النجاح لكنه في النهاية يرسب، المهم ألا تكون النتيجة صفرية. ومن ثمّ حين نقيم تاريخ القوانين نجدها لم تصل بعد للمعدل المتوسط. وهذا ينقلنا إلى نقاش آخر مرتبط ارتباطًا وثيقًا بنسبية العدالة، وهو نقاش قيمة القوانين.

ثالثًا: قيمة القوانين

قبل تقييم القانون الوضعي، من المهم في البداية تعريفه ومقارنته بالقانون الطبيعي. القانون الوضعي هو مجموعة القواعد العامة الجبرية التي وضعها وطورها الإنسان، والتي تصدر عن إرادة الدولة، وتنظم سلوك الأشخاص الخاضعين لهذه الدولة أو الداخلين في تكوينها[2]. وبالمقارنة مع القانون الطبيعي نجد فكرة هذا الأخير عند بعض الفقهاء تعني وجود قواعد قانونية أسبق وأعلى من القانون الوضعي، خالدة وثابتة، وتصح في الزمان والمكان. وإذا ما اختلفت القوانين الوضعية في الزمان والمكان فإن هذا يعني أن المشرعين في المجتمعات المتباينة لم يصلوا بعد إلى درجة واحدة من الوعي بقواعد القانون الطبيعي التي تعلو على الحكام والمحكومين[3]. ومن ثمّ، فإن القوانين الوضعية بالنسبة إليهم هي قواعد نسبية متغيرة، فقد يدرس الطالب القانون لسنوات، ثم تتغير القوانين ليكتشف أن كل حياته ذهبت سدى من أجل قوانين تتغير مع الزمن[4].

تعود فكرة القانون الطبيعي إلى الفكر الإغريقي، قبل المسيحية بأربعة قرون، وتتمثل هذه الفكرة في وجود قانون أخلاقي أعلى يخضع له كافة البشر. وبعد ظهور النصرانية ظهر من يقول إن القانون الطبيعي هو القانون الإلهي. وبعد هزيمة الكنيسة في صراعها مع السلطة المدنية تراجعت فكرة القوانين الإلهية، وحلت محلها فكرة العقل الذي أصبح هو أساس القانون الطبيعي. بمعنى أن القانون الوضعي يستمد وجوده من سلطة الحكام، بينما يستمد القانون الطبيعي وجوده من سلطان العقل الذي يتماشى مع طبيعة الأشياء. ثم هجر أنصار هذه النظرية ذلك، ونادوا بأن السيادة هي الأساس، خاصة بعد ظهور الدولة القومية؛ حيث لجأ الفلاسفة إلى فكرة القانون الطبيعي لتبرير السيادة[5].

وبذلك تكون نظرية القانون الطبيعي هي أقوى تبرير لوجود القانون الوضعي، فالقانون الوضعي يجد في القانون الطبيعي أساسًا قويًّا يستند إليه[6]. كما أن القوانين الوضعية متعددة ومختلف عليها، خاصة أننا نعيش في زمن يعرف وفرة في القوانين لم تتحقق من قبل.

كثيرة هي الأشياء التي نفقدها حين نملكها، ورغم تعدد الأسباب يبقى الفقد واحدًا. الوفرة تفقد قيمة الأشياء، والقوانين أصبحت وفيرة وفرة التراب الذي تدوسه الأرجل. فالصورة، مثلًا، كانت لها قيمة عند اختراع الكاميرا، وحين دخلنا العالم الرقمي انتقلنا لعصر وفرة الصورة، ومع وفرتها افتقدناها، وأصبحنا نشتاق لتلك الأيام التي كان أخذ صورة يحتاج لطقوس وكأنك تحضر لحفل زفاف.

الإنسان حتى وإن ادعى احترامه للقانون فإن دواخله تكرهه وتمقته، لأنه يصطدم بحريته وبطبعه الأناني وبأهدافه وتطلعاته. القانون قيد، والإنسان يكره القيود. خرق القوانين بالنسبة للكثيرين تعبير أصيل عن الرغبة في الحرية. من المستحيل التحكم التام في الإنسان حتى إن كان معتقلًا، الضبط والربط مسألة نسبية. السجناء مثلًا يطورون قوانينهم استجابة لاحتياجات يرونها ضرورية، ومن أجل ربط الصلة بالعالم الخارجي الذي جاؤوا منه، وللهروب من سيطرة القوانين. لا تنتظر من السجين أن يعترف بالقانون المقيد لحريته والذي كان سبب سجنه. عقدة القوانين تلازم السجين طول مدة اعتقاله. الحرية تصبح معادلة لخرق القانون وتجاوز قيوده، ولذلك تكثر المخالفات حتى داخل السجن.

قيمة القوانين تتأثر كذلك بالمصالح السياسية التي تساهم في خلق قوانين هجينة. المغالطات القانونية والانحراف عن الأهداف التي من أجلها تسن القوانين يؤثر في مصداقية القوانين. فقد يأتي قانون الإرهاب ليس استجابة لحاجة المجتمع إلى الحماية من التهديدات الداخلية والخارجية، بل لأهداف أخرى، مثل السعي للقضاء على المعارضة الداخلية وتبرير العدوان. ولعل أشهر قصة يمكن ذكرها كمثال على ذلك هي اغتيال جوزيف ستالين لصديقه سيرجي كيروف سنة 1934، والذي كان أهم الموالين له في الحزب، وذلك حين أصبح يرى فيه منافسًا له، واتهم معارضيه بعملية الاغتيال، وقام بالتحقيق بنفسه مع القاتل. كما كتب ستالين بيده قانون مكافحة الإرهاب، وتمت المصادقة عليه بعد يومين من الاغتيال، واستغل الحادث بعد ذلك للقضاء على كل معارضيه في الحزب. فالقوة التي امتلكها ستالين هي من صنعت القانون. وهذا يحيلنا على سؤالين أولهما عام والثاني خاص، لكنهما يحملان الجواب نفسه.

فهل يُحكم العالم بقوة القانون أم بقانون القوة؟

لقد أتبث تاريخ العلاقات الدولية والقانون الدولي أن قانون القوة هو الذي ساد ولا زال، ولا يطبق القانون الدولي إلا حين يتماهى مع مصالح أصحاب القوة المتحكمين في توازنات النظام الدولي. بمعنى أن هناك دولًا فوق كل القوانين الدولية.

وهل تُحكم الدول بقوة القانون أم بقانون القوة؟

أكيد أن من يسنّ القوانين داخل الدولة هو من يملك القوة. ورغم أن القانون نظريًّا فوق الجميع، فإن هناك بضعة أشخاص فوق القانون بقوة القانون، وبموجب حصانات وامتيازات قانونية، بل تجدهم يأخذون تعويضات مجزية مقابل خرقهم للقانون.

والخلاصة التي يجب تأكيدها أن قيمة القوانين تبقى رهينة بتطبيقاتها. ولقد أثبتت التجارب العالمية أنه مهما تحررت النصوص القانونية من المصلحة فإنها تبقى دائمًا قاصرة عن إدراك الحلول لكل النوازل والقضايا؛ لأنها تبقى أولًا وأخيرًا من صنع الإنسان غير المعصوم[7]، والذي تسجنه أهواؤه ومصالحه الشخصية التي يغلفها بالمصلحة العامة.

المحور الثاني: قيود القوانين وسبل تخفيفها

ناقوس النسبية الذي قمنا بدقه في المحور الأول قد يجعل في القانون قيدًا حين يشرّع للحرية. لذلك هناك من يرى أننا أحرار، وتتفاوت درجات حريتنا، وهناك من يرى أننا مقيدون وتتفاوت درجات قيدنا بموجب القانون. وإذا كان القانون قد حرر الإنسان من قيود كثيرة، فإن أهم أسباب تكرار الإخفاقات التي نعيشها معه هو النظر إليه كبناء كامل ومكتمل، لذلك لا يجب أن نتوقف عن التطوير والتجديد في إنشاء القوانين. القانون الجامد والمقدس، كما كرسته كثير من المدارس العلمية والإيديولوجية والدينية، صنع أصنامًا وأوقف العقل عن المزيد من البحث والتجديد. وحتى حين يقع التفكير والتجديد فإن ذلك لا يتجاوز بتعصبه حدود المدرسة التي أنجبت القانون وأصنامه، فيتحول بذلك القانون الذي من المفروض أن يكون متغيرًا استجابة للمكان والزمان إلى عقيدة ثابتة وراكدة ركود مياه البرك الآسنة. وحتى لا يفهم مما سبق أننا نهدم المعبد على من فيه ونعمم أحكام القيمة، فإن النسبية التي تحدثنا عنها آنفًا في هذا المقال لا تنطلق من السلبية، ولا تدعو للهدم من أجل الهدم، ولا ترمي للتشكيك في القوانين، ولا للتقليل من أهمية المجهودات المبذولة، بل تجعل الإنسان في بحث دائم عن التجديد والتطوير.

أولًا: جدلية القانون والحرية

الحرية هي تلك العلاقة الوهمية التي تجمع بين المقيَّد والأكثر قيدًا. أنت لست حرًّا تمامًا لأن هناك قانونًا يقيد حريتك، ولست مقيدًا تمامًا لأن القانون نفسه يمنحك الحرية ويحفظها، وباسم القانون أنت حر تحمل قيدًا. مقيد بحريتك، وحرٌ في قيدك التشريعي. إن ادعيت أنك حر فهذا صحيح، وإن أنكرت ذلك فأنت على صواب. وبذلك يرقص الإنسان على إيقاع قيد القوانين وبنود الحرية. بل إننا لا نبالغ إن قلنا إن الحرية والقيد كثيرًا ما يتبادلان الأدوار، فقد تسجنك الحرية ويحررك القيد. إن امتلكت الجرأة على الصراخ مطالبًا بالحرية فأنت حر، وإن منحت الحرية ومنعت من الصراخ فأنت عبد. لذلك تجد الأحرار هم الأكثر تعرضًا للمضايقات والتقييد بل حتى السجن. ومن هنا نصل لحقيقة أن الحرية من المفاهيم التي لم تحظ إلى اليوم بالإجماع حولها، نعم هناك شبه اتفاق بخصوص أهميتها، ولكنها قاعدة لا تخلو من استثناء. جميعنا نؤمن بالحرية، ولكن إيماننا بـ"لكن" أكبر من إيماننا بالحرية. "لكن" هي ترجمة للقوانين التي تصَدّر نفسها كمدافعة عن الحرية لكنها تقيدها، وفي كثير من الأحيان تعدمها. أنت مثلًا تملك الحرية في التظاهر بموجب القانون، لكن القانون نفسه يفرض عليك شروطًا تجعل الحق في ممارسة حقك في التظاهر شبه مستحيل، بفعل قانون "لكن" المستتر بين بنود القوانين.

القانون ماء نرجو منه الرواء، لكنه لا يروي عطشنا بل يزيدنا عطشًا على عطش. لذلك لا يمكننا أن نلوم من يرفض القوانين ويمقتها، ويعدّها لعنة وكلمة شعوذة وسحرًا، ولا يفلح الساحر حيت أتى، وكل حر في إيمانه.

قوانين الحرية ضحّى من أجلها المناضلون بسنوات من عمرهم وهبوها للسجن، وحين انتصروا لها وبها، وأصبحوا قادة يحكمون شعوبهم باسمها، ويستمدون شرعيتهم عبرها، تنكروا للحرية التي ناضلوا وسجنوا من أجلها، وكأنهم كانوا يناضلون من أجل حريتهم هم لا من أجل حرية الإنسان. وهذا ما حصل بعد نجاح ثورة الأنوار الفرنسية في عهد السياسي الفرنسي ماكسميليان روبسبيير[8] في أواخر القرن الثامن عشر، والذي كان من قادة ثورة الحرية، لكنه أسس بعد نجاحها لحكم الإرهاب "la terreur" باسم الثورة، من أجل تبرير القضاء على أعدائه السياسيين، فأعدم معظم زعماء الثورة الفرنسية بدعوى القضاء على أعداء الثورة[9].

قوانين الحرية أفعى تأكل نفسها، لذلك تجدنا نضحي بالحرية الفردية من أجل الحرية الجماعية، وبحرية الحاضر من أجل حرية المستقبل، فلا حرية جماعية حصّلنا ولا مستقبلًا لحقنا، ضَعُفَ الطالب والمطلوب. إنها سجون أسسناها وقيود اكتسبناها باسم الحرية التي وأدناها.

ثانيًا: سجن القوانين المكتسب             

قد يرى البعض أن حالة الطبيعة هي الحالة التي لا توجد فيها عدالة توزيعية، مقابل الحالة المدنية لمجتمع يطبق القانون ويخضع للعدالة التوزيعية[10]. لكن هل وصل الإنسان في زمن وفرة القوانين للتوزيع العادل للحقوق والحريات؟

الحقيقة أن الإنسان يخلق في عصرنا حرًّا كي يختار قيده المكتسب حين يرشد. فهو إذن حر في اختيار سجنه القانوني. المولود يكون حرًّا، ويحتج على ظروف خروجه من البطن للأرض بصرخة، ثم يستمر في الصراخ كلما أحس بالحيف أو الجوع، لكن ومع الوعي والتمدرس والثقافة ينقص مستوى صراخه إلى أن ينعدم ويصبح بلا حرية في التعبير حين يصل لسن المسؤولية الجنائية. إن جاع وصرخ جنى على نفسه واتهم بتهديد استقرار النظام. فهو لم يعد طفلًا حرًّا، بل رجلًا مسؤولًا عن تصرفاته أمام القانون، إلى أن يفقد عقله فيستعيد حريته من جديد. من ادعى أنه أكثر حرية من المجانين فهو كاذب، ومن ادعى أنه أكثر حرية من الأطفال فهو مُرجف. الأطفال والمجانين وحدهم من يملكون حريتهم.

ونحن هنا لا نلوم قيد القوانين، لكننا نلوم الإنسان الذي ساهم في ترسيخ تضييقها، رغم أنه يملك خيار التحرر من قيودها. الإنسان بنى سجونًا متنقلة، مثل سجن الدراسة الذي يعيشه الطالب في انتظار سنة التخرج التي يراها سنة التحرر، لكنه وبمجرد نيل الشهادة يسجن في مكتب إلى أن يصل لسن التقاعد الذي يراه تحررًا، لكنه يجد نفسه مجددًا سجين جسده الواهن الذي افتقد شهية الحياة، وبعد أشهر أو سنوات من التقاعد يسقط في القبر، وحتى سقوطه هذا يحتاج إلى إذن قانوني بالدفن، ويستمر في دفع الضرائب حتى وهو ميت بموجب القانون، فيدفع ضريبة مدفنه، وضريبة الثوب الذي سيكفن به. فكيف لمن كان هذا مساره أن يدعي أنه حر.

صحيح أن الإنسان بطبيعته يميل للتحرر من القيود والانطلاق للحرية، لكنه بسبب الخوف والحرص على الأمن،وفي سبيل تحقيق الأهداف الشخصية قد يقبل القيد، وقد يرتكس لمستوى العبد. الحرية إحدى الأولويات في الحياة، وحين تسبقها وتتفوق عليها أوليات أخرى مثل لقمة العيش والاعتبار الاجتماعي والاستقرار الوظيفي، تصبح الرغبة في الحرية ثانوية. والدليل ما حصل اليوم زمن كورونا، حيث طبّع الإنسان مع قيد الحجر؛ لأن أولوية البقاء على قيد الحياة همشت أولوية الحرية، فقبِلَ الجلوس في منزله والأكل من حقوقه في سبيل سلامته، فما عاد يفكر في الأحزاب ودورها، ولا في الجمعيات وأهميتها، ولا في المعارضة أو النقابات أو غيرها من الأولويات التي تخلفت للمستوى الثاني حين هددت الحياة. باختصار فإن الإنسان يقدس الحرية في الرفاه، ويستنجد بالقيد في الشدة، فتحصل بذلك الردة. وهذا ما يحكيه لنا التاريخ الطويل للبشرية.

في البداية نشأت القوانين من أجل حماية الأفراد وتوفير الأمن والأمان لهم مقابل التخلي عن القليل من حرياتهم، القليل فقط، وذلك بموجب عقود اجتماعية ضمنية مع حكوماتهم، تحقيقًا للمقاصد الاجتماعية والدينية، ثم تطورت هذه القوانين باسم الحرية فأدت لمزيد من التقييد، باسم تنظيم الحركة وحماية الحدود والحقوق، فوضعت متاريس قانونية لإغلاق الحدود باسم تنظيم العبور، وقيود للطيران والملاحة البحرية باسم سلامة الملاحة والطيران، إلى أن تحولت الكرة الأرضية لمعتقل كبير محكوم بقيود القوانين المنظمة للمجتمع والسياسة الداخلية والاقتصاد والعلاقات الدولية. فكانت القاعدة الماسية للتناقض الكبير الذي أسميه "السجن مقابل الحرية". بمعنى التقيد بالقوانين مقابل الحصول على فتات الحرية، أي إن مخالفة القانون يعني السجن. وهي قاعدة شبيهة بقاعدة "النفط مقابل الغذاء" التي طبقت في العراق زمن الحصار.

الحصار نفسه تعيشه البشرية بأناقة منذ اختراع القوانين التي تحد من حركة البشر وتكمم الأفواه، والتي لم تستطع حتى الأمم المتحدة مواجهتها، رغم أنها أصدرت العديد من المعاهدات التي تجعل حرية الحركة حقًّا شرعيًّا للمواطن العالمي. ولنرجع إلى المادة 13 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لنقرأ أن:

لكلِّ فرد حقٌّ في حرِّية التنقُّل وفي اختيار محلِّ إقامته داخل حدود الدولة.

لكلِّ فرد حقٌّ في مغادرة أيِّ بلد، بما في ذلك بلده، وفي العودة إلى بلده.

فأين هو هذا الحق؟

وحتى وأنا أكتب هذه الحروف، ورغم أنني أعبّر عن الحرية، لكنني لست مطلق الحرية. فأنا ملزم باحترام حدود النظام العام للبلد الذي أنتمي إليه. ومن ثمّ فحريتي في الكتابة نسبية لأنها محددة بالقوانين. لذلك تجدني أفعّل زر المسؤولية ذاتيًّا حين ممارسة الحرية. الحرية كلمة خطيرة، إن نوقشت بكل حرية وأطلق العنان لجموحها وسارت بسرعة أكبر من القوانين التي تنظمها تقرّب صاحبها من الاصطدام والحوادث. لذلك يقول لسان حال القانون ضمنا: الإنسان الذي لا يؤمن بالنظام لا يستحق الحرية.

لقد أكل مصطلح المسؤولية القانونية مساحات من ميدان التعبير، وخنقت المسؤولية الجنائية الكثير من مجالات الحرية. هذه الأخيرة حين تخرج عن الإطار القانوني تصطدم بالنظام والدين والإيديولوجيات والسلطة ولوبيات المال وغيرها من الحواجز، لكون الحرية مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالاختلاف، ولكون المؤسسات التشريعية لا تفرز إلا نوعًا واحدًا ونمطيًّا من الحرية. والحقيقة أن كل القيود القانونية يتم تبريرها باسم الخوف على أمن الدولة الداخلي والخارجي، وعلى الاستقرار المجتمعي، وهو منطق حوّل الكرة الأرضية لسجن عالمي قضبان زنازينه وأسواره مبنية بمادة الخوف المسلح. وإذا كان هذا مكمَن الخلل، فأين يكمن الحل؟

ثالثًا: سبل تخفيف قيد القوانين

ما وجد الإنسان على وجه الأرض إلا ليفكر ويطور ويجدد ويبني ويرتفع بعيدًا عن قيد الجاذبية. وحين يصنع الحلول لا يجب أن يعبدها، بل يجددها ويضمن صيانتها ويستمر في البحث عن حلول أخرى أفضل. لذلك ومن أجل الرقي بالقوانين وتجاوز سلبياتها، نحتاج لكثير من الأدوات والمكملات.

تفعيل أساسيات ومكملات القوانين

القوانين التي تعزز الحريات العامة هي آخر ما يطلبه العقلاء والجوعى، وأول ما يطلبه الأغبياء والانتهازيون. العقلاء لا يطلبونها إلا حين يمتلكون أدوات ممارستها وحمايتها من الزوال، بينما الأغبياء والانتهازيون يستعجلونها وهم لا يعرفونها أصلًا، فيأخذونها سهلة ليجدونها مزورة، ويظنون أنهم يعيشونها. كيف لمن يقيده الغباء ويشوش أفكاره أن يعرف أو يفهم؟ الحرية لا تكتمل لوحدها، هي دائمًا في حاجة إلى غيرها. ماذا ستفعل بترسانة القوانين التي تطبل للحرية إن افتقد الحب والأمن والسلامة والكرامة والاستقلال المادي، هناك أساسيات ومكملات في غيابها تصبح الحرية شيئًا تافهًا جدًّا. لذلك أحترم الأحرار الذين ضحوا بالحرية من أجل قيم أكبر. قوانين الحرية وحدها لا تكفي، تحتاج إلى غيرها حتى تعطي القوانين مفعولها. لذلك، بدل أن تتوسل الحرية، ارفع رأسك عاليا، فلن تعيش مرتين، وكرامتك لن تتحمل الرصيد المضاعف. وإن فعلت ستأتيك الحرية راكعة مستسلمة.

ما جدوى الحرية والجهل يقيد تفكيرك؟ ما جدوى اتساع الجغرافية والعوز والخوف يقيد انطلاقك؟ اختراع الطائرة لم يَحْدُثْ بعدُ بالنسبة إلى الجياع والخائفين من الارتفاع. ما جدوى الحرية وأنت تزكي عبرها تعصبك لحزبك وعرقك على حساب باقي البشر؟

المؤمنون يرون أن الحرية لا تتحقق إلا بالعبودية لله، والاشتراكيون لا يرون للحرية معبرًا إلا عبر الخبز، والليبراليون يرون أنها تمر عبر ذاتها. والعدميون يرون أنها لا تتحقق أصلًا لأنها وهْم غير موجود.

وسيحاجج البعض بالقول إن الديمقراطية شرط من شروط الحرية، لكن كيف كان يعيش البشر حريتهم قبل اختراع الديمقراطية؟ وسيدعي البعض أن الدكتاتورية هي التي تقيد الحريات، لكن هل بعد موت آخر دكتاتور في العالم ستنتهي القيود؟

الحقيقة أن بداخل كل واحد منا دكتاتورًا صغيرًا مستترًا يحجبه عن الناس، ولا يخرجه إلا حين يتمكن. فقد تجد الكثير من دعاة الحرية يقمعون زوجاتهم وأبناءهم في الأماكن المغلقة التي لا ترصدها الكاميرات، ويصرخون في وجوههم أكثر من صراخهم طلبًا للحرية. لذلك وقبل المطالبة بالحرية وتنحي الدكتاتوريات، علينا أن نقتل أولًا ذلك الدكتاتور الصغير الذي يعيش في أحشائنا. قد لا نكون من الدواعش لكننا قد نفعل فعلهم بمن هم أقرب المقربين إلينا. وقد لا نكون نازيين، لكننا نحرق قلوبا كل ذنبها أنها أحبتنا بإخلاص.

نحن في حاجة إلى مزيد من هواء الحرية النقي وجرعات الديمقراطية حتى لا نصل لمرحلة الاختناق. صحيح أن القوانين تقدم نفسها كمعيار إلزامي للتمييز بين الصواب والخطأ، فالقانون ليس استشارة بل هو أمر[11]. لكن الحقيقة أن من يحدد الصواب والخطأ ويترجمه إلى قانون هو من يملك القوة. القانون لم يصنع لكي يسود النظام في المجتمع، ولكنه صنع من أجل تنفيذ رغبة من يمتلك القوة فيما يريد أن يفعله بباقي المجتمع، لدرجة أن من يملك القوة في دولة متقدمة لا يكتفي بدولته وبشعبه، بل يفرض القوانين التي يريد على الدول الضعيفة[12].ومن ثمّ فإن نصيبك من القانون يعادل نصيبك من القوة. وهنا لابد أن نتحدث عن الدستور الممنوح الذي يتم إنشاؤه بإرادة ممن يملك القوة، لكن لا أحد يستطيع التصريح صراحة بأنه ممنوح؛ لأن القوة نفسها التي منحتك القانون ستجود عليك بالقمع إن ادعيت أن الدستور ممنوح. وما يميز هذه الدساتير أن من منحها للشعب قد يسحبها في أي وقت. ومن ثمّ، يكون الشعب ليس مصدرًا للقوانين بل وعاء لاستقبال ما تجود به السلطة الحاكمة المتمكنة من القوة. والحقيقة أن أغلب الدساتير التي تروج اليوم هي دساتير ممنوحة، وإن اختلفت أشكال المنح ودرجته والتسميات التي تطلق عليه، لكن مانحها لن يقبل أبدًا تسميتها بالمنحة.

إن توسيع مجال الديمقراطية والحقوق يؤدي لقوة الدولة وضمان طاعة القانون، والقسر والإكراه يجعل من الدولة قوة كابتة، ومن القانون حالة تعسفية. ومع وجود الحرية التشاركية فإن الناس يشاركون الدولة في تطبيق القانون باقتناع، ذلك أن الحرية هي الطاعة، لكنها طاعة لقانون متوازن نضعه بأنفسنا[13]. وهكذا يمكن أن نفهم مما تقدم أنّ مجرد وجود القانون لا يكفي لتحقيق الديمقراطية وحمايتها، مثلما لا يكفي أن ننادي بشعار الديمقراطية دون أن نوفر لها وسائل الحماية، التي لا تتوفر إلّا عبر الإرادة الشعبية[14].

خلق التوازن بين القانون والحرية

الحقيقة أن هناك تشابكًا بين الحرية والقوانين التي تنظمها. فالحرية لا تقيّم إلا بميزان القيد الذي يفرضه القانون. كذلك القانون لا يقيّم إلا بميزان الحرية التي تمنحها التشريعات. وبالرجوع إلى الدساتير، نجدها تتغنى بالحريات وتتمايز بالجرأة في توسيع مجالاتها.

كثيرًا ما عانت الحرية من طغيان قيود القوانين، وكثيرًا ما حدث العكس. الحرية ضرورة في كل صورة، والقيود القانونية لازمة عند الضرورة، حتى لا تخرج الحرية عن نطاقها وتتجاوز حدودها، وتتحول لفوضى عارمة أو لتفاحة فاسدة. زيادة الجرعة يؤدي للكوارث، وهذا هو الإشكال المطروح اليوم في كل الأنظمة الديمقراطية والليبرالية. تحقيق التوازن المرن بين الحرية وقيودها مطلوب إذن، وإن كان هذا التوازن صعب التحقيق، إلا أنه ليس مستحيلًا. الإنسان في الزمن الليبرالي الحالي قدس الحرية لدرجة تطرف في استعمالها، فقيدته بحبالها، وصار يعيش عصر المسخ التشريعي.

الغرب المنتصر اليوم يُعدّ المعيار الذي تستعمله الدول في استنساخ نماذجها القانونية، لكن الغرب تجاوز بقوانينه حدود الإنسان وحطم طبيعته المحافظة. وما نقصده بالمحافظة ليس التزمت، بل المحافظة على إنسانية الإنسان. لذلك من المهم تحويل سياق التفكير القانوني للبعد الإنساني الذي يعكس العالمية ويحقق التوازن، في ظل ثقافة تشاركية تؤمن بالنسبية والخصوصية.

تفعيل النسبية والخصوصية والبعد الأخلاقي عند صياغة القوانين

كثيرون يشككون في وجود العدالة ويعدونها تنظيرًا بعيدًا عن الواقع. والحقيقة أن التشكيك في العدالة يزول حين ننظر إليها من زاوية النسبية. يجب أن نؤمن بأن هناك اجتهادًا نسميه القانون يقترب من العدالة ويبتعد دون أن يصل إليها. ونحن هنا لا ننفي العدالة عن عالمنا لكننا نعترف بصعوبة تطبيقها. ذلك أن العدالة الكاملة هي عدالة مستحيلة في التطبيقات البشرية، ولن نستطيع أن نحقق ما عجز عنه الرسل. وفي ذلك يقول رسول الله ﷺ: "إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إليّ، فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع منه. فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذن منه شيئًا فإنما أقطع له قطعة من النار"[15].

من المهم كذلك الرجوع إلى الأخلاق كمصدر أساسي للقوانين، كما كان ذلك في بداية التجارب القانونية. القواعد الأخلاقية تسمو بالإنسان نحو الأفضل، لذلك فهي ترسم النموذج الذي يجب أن يكون عليه الشخص موضوع القانون. فالمعروف أن القواعد القانونية مؤيّدة من الدولة التي تستطيع فرضها بالقوة، أما القواعد الأخلاقية فالذي يفرضها على المرء هو ضميره، في مجتمع أصبح ماديًّا بلا ضمير. كما أن القانون لا يثيب المطيع لكنه يعاقب المخالف، أما الأخلاق فتثيب الطائع بالرضاء النفسي والهدوء وطمأنينة القلب والاحترام، كما يعاقب العاصي بالتأنيب الداخلي[16]. ولكن على الرغم من الفوارق بين الأخلاق والقانون فالصلة بينهما قوية جدًّا، ذلك أن القاعدة الأخلاقية تريد دائمًا أن تصبح قاعدة قانونية، والقواعد القانونية مستمدة في أغلبها من الأخلاق[17]. وما علينا فعله هو العودة بالقواعد القانونية لدائرة الأخلاق حتى نكمل ما ينقص القانون الجاف.

من المهم كذلك أن تكون القوانين ملائمة للظروف الثقافية والمعيشية والاجتماعية والجغرافية للبيئة التي يشرع لها، إذ إن قانونًا صالحًا ومستقيمًا من حيث شروطه ومبادئه قد يصلح لمجتمع معين دون آخر[18]. وهذا مظهر من مظاهر نسبية القوانين التي يجب اعتمادها أولًا وأخيرًا.

خاتمة

قَدَرُ الإنسان أن يصنع مآسيه وأزماته، فقدرته على التفكير في الخير وترجمة هذا الخير لقوانين، توازيها أو تتجاوزها قدرته على تدبير الشر انطلاقًا من نفس القوانين وباسمها. مستقبل المواطنين موضوع القوانين قد لا يكون أفضل في القادم من السنوات، لأنهم لعبوا ويلعبون في كل مراحل التاريخ دور المستقبِل للفعل، بينما القلة الآخرون يتصارعون به ويدعون الصراع من أجله.

المتوقع بمعطيات الواقع أن يستمر مستقبل القوانين مختطفًا من طرف قلة قليلة تفضل مصلحتها، وكثرة مغلوبة على أمرها، تأمل في مستقبل أفضل للعالم، لكنها لا تملك الوسائل للتغيير، ولن نحلم بتغير إيجابي في المستقبل إلا بتغير المعطيات التي تقف بين الإنسان وما يريد، والتي ساهم هو نفسه في إيجادها، والرهان في ذلك كان وسيبقى على الشعوب التي يجب أن تَتَغير كي تُغير.

 

[1]  لذلك أيها القارئ الحر، وأنا أحدثك عن نسبية القوانين، أريدك أن تحمد الله الذي نجاك من السجن الذي نستحقه جميعًا بموجب القوانين التي وضعناها بأيدينا.

[2]  سعيد عبد السيد تناغو، النظرية العامة للقانون، الإسكندرية: منشأة المعارف، 1974، ص 7.

[3]  منذر الشاوي، النظرية العامة في القانون الدستوري، عمان: دار ورد للنشر والتوزيع، 2007، ص 147-148.

[4]  إبراهيم سنان، برزخ بين قلب عذب وعقل أجاج، عمّان: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2007، ص 113.

[5]  مصطفى أبو الخير، القانون الدولي المعاصر، دار الجنان للنشر والتوزيع، 2017، ص 30-31.

[6]  ديجي ليون، التطورات العامة للقانون منذ مجموعة نابليون: دراسات قانونية، ترجمة ضياء الدين عارف، الكويت: دار نهوض للدراسات والنشر، 2018، ص 38.

[7]  عليان بوزيان، "توظيف فلسفة المقاصد الشرعية في أسلمة المعرفة القانونية"، مجلة الفكر الإسلامي المعاصر، العدد 78، خريف 2014، ص 61.

[8]  أحد أكبر الشخصيات السياسية المؤثرة في الثورة الفرنسية، عرف بعشقه للدم والإعدامات، وانتهى بدوره على مقصلة الإعدام (1758-1794).

[9]Marthoz Jean Paul,Les Médias face au terrorisme, UNESCO, 2017, p. 21.

[10] عبد الرحمن بدوي، فلسفة القانون والسياسة، بيروت: دار القلم للطباعة والنشر والتوزيع، 2020، ص 83.

[11] فريال حسن خليفة، المجتمع المدني عند توماس هوبز وجون لوك، القاهرة: مكتبة مدبولي، 2005.

https://urlz.fr/e5Xz

[12] إسلام عبد الله، الشماس، القاهرة: دار اكتب للنشر والتوزيع، 2016، ص 267.

[13] علي صبيح التميمي، فلسفة الحقوق والحريات السياسية وموانع التطبيق: دراسة تحليلية في الفلسفة السياسية، عمّان: دار أمجد للنشر والتوزيع، 2016، ص 18.

[14] "الديمقراطية والقانون"، بلاغ، 12/12/2016. hk

https://www.balagh.com/15046

 

[15]          حديث متّفق عليه.

[16]          محمد يوسف موسى، مباحث في فلسفة الأخلاق، القاهرة: مؤسسة هنداوي، 2018، ص 114.

[17]          حنان محمد القيسي، النظام القانوني لمدونات السلوك البرلماني، القاهرة: المركز العربي للنشر والتوزيع، 2017، ص 27.

[18]          مصطفى النشار، فلسفة القانون وإشكالياتها، القاهرة: الدار المصرية اللبنانية، 2018، ص 26.

شارك :

التعليقات (0)

أضف تعليق