تحولات الإسلاميين ما بعد ثورات الربيع الديمقراطي

بلال التليدي

تحولات الإسلاميين ما بعد ثورات الربيع الديمقراطي

ليس من السهل الزعم بإمكان رصد تحولات الإسلاميين ما بعد ثورات الربيع الديمقراطي، مع أن الرصد هو العمل الوصفي الأيسر من حيث علاقته المفترضة بما يلحقه من منحى تحليلي أو استشرافي. والحقيقة أن صعوبة الرصد ترجع إلى اعتبارات تتعلق بالإسلاميين أولًا، ثم بالسياق السياسي الذي يوجدون فيه. فالإسلاميون ليسوا كيانًا حركيًّا واحدًا يستمد أطره الفكرية والسياسية من مدرسة واحدة[1]، كما أن السياقات العربية لم تعرف نسقًا واحدًا، فإسلاميو مصر ليسوا كإسلاميي تونس أو المغرب، والواقع السياسي الذي عرفته دول الثورات ليس هو الواقع السياسي الذي عرفته دول الوفاق السياسي (تونس والمغرب)، ولا الدول التي تحول فيها الربيع إلى عمل عسكري ثوري (ليبيا، وسورية) انتهى في الأخير إلى رهن السياق السياسي كله بإرادات إقليمية ودولية، ولا الدول التي دخلت في حسابات الأمن الإقليمي، فضاعت نتائج الثورة في خضمها (اليمن). ولذلك، ندرك أننا نخوض في هذا الجهد الاستقرائي تمرينًا مغامرًا حينما نجترئ على رصد تحولات الإسلاميين وتحليلها، ومحاولة نسجها في أنساق تركيبية تسهل عملية فهم اتجاهاتها ومستقبلها في المدى القريب والمتوسط والبعيد.

ومع التحديات التي يمثلها هذا التمرين المغامر، نحسب أن المهمة ممكنة إن تم الاستعانة بتحولات ما قبل الربيع الديمقراطي، سواء تلك التي عرفها الإسلاميون ما قبل الربيع العربي من جهة، أو التي عرفها السياق السياسي العربي من جهة ثانية، ومحاولة فهم المنحنى الذي انتهى إليه الكسب السياسي للإسلاميين ما بعد الربيع الديمقراطي. فالتحولات السابقة تكمن أهميتها في ضبط ما انتهى إليه التراكم الحركي والسياسي للإسلاميين، وما انتهت إليه مخرجات القرار السياسي الدولي بخصوص التعاطي مع الإسلاميين وشكل إدماجهم السياسي، والدور الممكن القيام به في العملية السياسية، وعلاقة كل ذلك بالمصالح الاستراتيجية لهذه القوى.

الإسلاميون والسياق السياسي العربي: جدل أنساق المحافظة

الإسلاميون ونسق المحافظة:

مع تباين زمن ميلاد الحركات الإسلامية واختلاف مسارات كسبها السياسي، إلا أن ذلك لم يؤثر بشكل كبير في سقف تراكماتها في مجال السياسة، فمختلف الحركات الإسلامية التي تنتظم داخل مدرسة الإخوان المسلمين اختارت المشاركة السياسية، وتوسيع هوامشها واستثمار عائداتها في تقوية النشاط التحتي القاعدي (التربوي والثقافي والاجتماعي والإعلامي). ومع أن حركة الإخوان في مصر والأردن وسورية ثم العراق لاحقًا كانت الأسبق زمنيًّا، إلا أن تراكماتها السياسية لم تتجاوز ما بلغته حركات إسلامية أخرى، خرجت متأخرة من غير معطفها أو بعد أخذ مسافة منها (نموذج المغرب مثلًا)[2].

ومع أن الثورة الإيرانية كان لها صدى واسع وتأثير كبير في تجارب الإسلاميين، إلا أن تأثيرها في تغيير منحى المشاركة السياسية لدى هذه الحركات كان محدودًا أو منعدمًا، فباستثناء تجربة حركة النهضة التي فرض عليها السياق السياسي المنغلق-لحظة بورقيبة- الانعطاف إلى الفكر الثوري، والاهتمام بالمسألة الاجتماعية[3]، وكذلك حركة حسن الترابي، التي بدأت تزاوج بين المنطق الإصلاحي، وبين المنطق الثوري بحسب سياقات الانفراج والانغلاق السياسيين[4]، وتجربة إسلاميي سورية التي دخلت مرحلة التيه بعد تجربة الاقتلاع العسكري في حماة، وتجربة إسلاميي العراق التي انعطفت مبكرًا بشكل كامل للبعد التربوي والعلمي والأكاديمي بعد حل الحزب الإسلامي، وعدم قدرة الحركة على تدبير الخلافات الداخلية عقب القرار[5]. باستثناء هذه التجارب التي فرض عليها سياقها السياسي تكيفًا من نوع مختلف، فإن الطيف العام للحركة الإسلامية بقي محكومًا بمنطق المشاركة السياسية من أجل تحقيق تقدم على المستوى الإصلاحي العام، دون الاضطرار إلى الدخول في معادلات سياسية تأتي على أمن التنظيم بالتهديد أو الإبطال[6].

 طوال نحو ثلاث عقود تقريبًا، تأطر الفعل السياسي للإسلاميين بهذا النسق العام، واضطرت حركات إسلامية في فترات مخصوصة إلى تدبير التوازنات في مواقفها من المشاركة السياسية (في الأردن والكويت)، مراكمة لخيار المشاركة السياسية واللجوء أحيانًا لمقاطعة الانتخابات[7]، وفي السودان، تأرجحًا بين توسيع الهوامش واستثمار مراحل الانفراج السياسي، والتفكير في خيارات ثورية للعمل داخل سياقات الانغلاق[8]، وفي المغرب تدرجًا في الانسياب الهادئ في المؤسسات، وتحقيقًا للتقدم في نتائج المشاركات السياسية[9]، وفي مصر مشاركة ومواجهة لسياسات الحصار السياسي[10].

 النتيجة التي أفضت إليها تجربة الإسلاميين في سياق مشاركاتهم السياسية في سياقات سياسية عربية محكومة بالضبط والتحكم وإعمال استراتيجية الاحتواء تارة والتحجيم والإضعاف تارة أخرى، أن توسعت قواعدها وتعددت الطبقات الاجتماعية التي صارت تمثلها، مع تسجيل محدودية تأثير المشاركة السياسية على مستوى أجندة الإصلاح الدستوري والسياسي والمؤسساتي[11]، وهذا ما طرح تحديًا جديدًا على الإسلاميين تمثل في سؤال جدوى المشاركة السياسية، فكان جواب الإسلاميين في الغالب محكومًا بمنطق محاولة تحقيق التراكم الإصلاحي دون إدخال التنظيم في معادلات سياسية مربكة لمكتسباته العامة الدعوية والتربوية والثقافية والاجتماعية وأيضًا الاقتصادية والسياسية[12].

تفاعل إسلاميو مصر مع واقعهم السياسي رغم انسداد النسق السياسي، وشدة الحصار الذي فرض على مشاركتهم السياسية، فاختاروا أنماطًا عديدة من التحالفات، وتكيفوا مع أساليب الدولة في ممارسة القمع السياسي ضدهم، وألجؤوها في الأخير إلى معادلة مقبولة ضمنيًّا من الطرفين (قبول الحصار في السياسة، مقابل بعض الحرية في الدعوة)[13].

أما إسلاميو الكويت فكانوا الأنشط من حيث توسيع هوامش المشاركة السياسية رغم طبيعة النسق السياسي، فوازنوا بين التقدم في مسار المساءلة السياسية، وبين تكثيف العمل الإصلاحي القاعدي، لكنهم في المنتهى وجدوا أنفسهم أمام نسق مغلق لا يستطيعون أن يضمنوا فيه مزيدًا من التراكم السياسي، ولذلك كانوا يتحولون في بعض اللحظات القليلة والمحدودة إلى خيار المقاطعة (لحظة الحراك الديمقراطي)[14]، الذي لم يكن يمر دون كثير من الجدل الداخلي حول فعاليته وجدواه.

كان إخوان الأردن مدركين حدود الانفتاح السياسي الذي يتيحه النظام السياسي، لكن عينهم، في المقابل، كانت على البعد الاستراتيجي في الموضوع، وضيق الأفق السياسي في دولة تطرح ديمغرافيتها (الأردنية الفلسطينية) حساسية مزدوجة، من قبل النظام السياسي من جهة، والسياق الإقليمي من جهة ثانية. ولذلك، مع الزخم الذي شكلته مشاركاتهم السياسية، والقوة التي تمثلها النقابات المهنية التي يستندون إليها سياسيًّا، ومع وصولهم المبكر للمشاركة في الحكم أيضًا، ولجوئهم في أكثر من مرة لخيار المقاطعة[15]، لم يتطور عقلهم السياسي كثيرًا، وتحول ذلك إلى صراع أجيال وخيارات سياسية داخل التنظيم لم تنته تداعياتها إلى اليوم[16].

لم يختلف مسار إخوان اليمن في شيء عن المسار ذاته الذي انتهجه الإسلاميون، وتحديدًا حزب التجمع اليمني للإصلاح رغم تأسيسه المتأخر (1990)، بدءًا بممارسة المعارضة السياسية، ثم لينتهي به الوضع بعد ثلاث سنوات تقريبًا إلى المشاركة السياسية إلى جانب حزب المؤتمر الشعبي العام (علي عبد الله صالح)، ويدخل غمار المشاركة في الحكم لسنوات طويلة، قبل أن يبدأ فعاليات التنسيق مع أحزاب اللقاء المشترك، وتجسيد نواة المعارضة السياسية التي ستعرف أوجها سنة 2006، مع الانتخابات الرئاسية التي سيقدم فيها أحزاب اللقاء المشترك، وضمنهم حزب التجمع اليمني للإصلاح، مرشحًا مشتركًا منافسًا لعلي عبد الله صالح، لتبدأ دينامية حراك سياسي كان له تأثيره الواضح في الحراك الشعبي الذي امتد مع ربيع الشعوب العربية[17].

لم تختلف الحركة الإسلامية في المغرب كثيرًا في مسارها نحو المشاركة السياسية عن بقية الحركات الإسلامية، فمع نضجها السياسي المبكر (1987) بالقياس إلى ميلادها (1970)، ولجوئها إلى تأسيس أداة حزبية لتفعيل خيار المشاركة السياسية (1991)، إلا أنها اضطرت لاعتبارات سياسية أن تتفهم رفض الدولة، وتعلّله بالسياق الإقليمي المناهض للمشاركة بعد إسقاط الشرعية الانتخابية في الجزائر، وتنامي القلق الدولي والأوروبي بشكل خاص من مشاركة الإسلاميين في السياسة، فاضطرت أن تنتظر ست سنوات من أجل أن تشق تجربة أول مشاركة سياسية سنة 1997، وأعملت كثيرًا من الكياسة في تنهيج حجم هذه المشاركة حتى تضمن الانسياب السلس والطبيعي في العملية السياسية، والذي تم مع انتخابات 2002، وتعرض لنكسة بسبب أحداث 16 مايو 2003، إذ طلبت الدولة من الحزب تقليص حجم مشاركته إلى النصف، لينحني حزب العدالة والتنمية للعاصفة، ويعمل على تجاوز شروطها السياسية، مع انتخابات2007 التي دخل فيها غمار الاستحقاق الانتخابي بتغطية جميع الدوائر تقريبًا[18].

صحيح، أن هناك بعض الحركات التي خرجت من حيث الظاهر من هذا النسق، أو يصعب وسم سلوكها السياسي بمقتضيات هذا النسق، مثل حركة النهضة في تونس، لكن هذا لا يرجع إليها وإنما يرجع للشكل المتفرد الذي اختارته السلطة التونسية للتعاطي مع الإسلاميين (الاستئصال). ومع ذلك، ثمة أكثر من مؤشر يفيد بأن حركة النهضة، كانت تتصرف من وحي النسق المحافظ نفسه، كونها بقيت في مربع المعارضة، والبحث عن خيارات إضعاف استراتيجية بورقيبة في الهيمنة وفرض واقع الحزب الوحيد، واختارت في لحظة العهد اللاحق (بن علي) إرسال العديد من رسائل الطمأنة لتثبيت واقعها كحزب طبيعي في نسق الدولة السياسي، لا سيما من خلال مشاركتها الانتخابية سنة 1989 [19]. والذي يتابع سياق تأسيس "حركة الاتجاه الإسلامي"، ومسار المراجعات التي قطعتها الحركة، مما سجل الشيخ راشد الغنوشي بعض منعطفاته، سواء في كتابه التأريخي للحركة[20]، أو نظراته الجديدة حول المرأة[21] والعلمانية والديمقراطية والمجتمع المدني[22] والحريات العامة[23] والعنف[24] وغير ذلك، يُلمس الجهد الذي حاول به الغنوشي تقديم إسهام فكري يقصد تهييء الأداة الحزبية للمشاركة السياسية ضمن مؤسسات الدولة، والقطع مع مسار من الارتهان الفكري للمنظومة القطبية، وإنهاء مسار البحث عن الخيارات الثورية والجماهيرية للانفكاك من الهيمنة السياسية للدولة.

التجربة الوحيدة التي خرجت من ضيق نسق المحافظة هي التجربة السودانية، التي يفيد استقراء تجربتها السياسية عن قدرتها في المناورة وتنويع الخيارات والاستراتيجيات[25]، لكنها في نهاية المطاف لم تجد خيارًا غير التحالف مع العسكر لترتيب انقلاب عسكري، وهو الخيار الذي نجح في ترتيب نتائجه السياسية، غير أنه لم يكتف بوصم مزاج الحركة الإسلامية تجاه السلطة والدولة والديمقراطية، ولكنه انتهى إلى شمولية قاتلة، انعكست على الجسم التنظيمي، فخرج من معطفه تيار عريض يعود إلى طرح خيار الحرية، ليس في مواجهة الشمولية في بعدها الدولتي، ولكن لمواجهتها حتى في أبعادها الحركية، فتولدت شموليتان متضادتان داخل التجربة: شمولية الحركة (حسن الترابي) وشمولية الدولة (عمر البشير) التي تعتبر من نتائج كسب الحركة، وتصارعت الشرعيتان أو السلطتان، كل واحدة تريد نزع الشرعية من الأخرى، فانتهى الأمر للانقسام التنظيمي مع إهمال تام لقضايا الجمهور وقضية الإصلاح.

الخلاصة التي يمكن الانتهاء إليها بهذا الصدد أن الإسلاميين، بمختلف تشكيلاتهم، سواء المنتظم في تجارب الإخوان المسلمين أو الذي أخذ مسافة عنها، انتظموا في نسق سياسي واحد، يتأسس على معادلة مزدوجة: طرفها الأول، هو محاولة استثمار المشاركة السياسية لتحقيق تقدم سياسي أو على الأقل تراكم في العمل الإصلاحي العام (القاعدي). أمّا طرفها الثاني، فهو وضع عين على سلوك الدولة السياسي، وتجنب أي اصطدام يمكن أن يربك الطرف الأول من معادلتها سواء في حده الأقصى (التراكمان السياسي والإصلاحي العام) أو في حده الأدنى (تأمين مكتسبات الخط الدعوي)، وهو ما نصطلح عليه بنسق المحافظة.

والمشكلة أن الإسلاميين ظلوا متمسكين بخطوط هذا النسق، لكنه نسق يدخل أزمته من جهتين:

أولها أن بعض المشاركات أصبحت تؤطر بمعادلة "المشاركة بمنطق الخسارة"، كما سماها كبير باحثي كارنيجي سابقًا، ناثان براون[26]، في أحد مقالاته، أي نشارك حتى ولو كانت النتيجة هي الخسارة الانتخابية من أجل المحافظة على مكتسبات الدعوة.

وثانيها أن منطق الدعوة نفسه لم تعد القواعد المسيسة ترى جدواه في العمل السياسي، إلا أن يكون مرجعية أخلاقية مؤطرة فقط، وأن متطلبات السياسية تفرض توغل الحزب في منطق السياسات العمومية، والانعطاف بجدية نحو التدبير، إذ لم يعد أعضاء الحزب السياسي الذي خرج من عباءة الحركة الإسلامية يعبأ بالمرجعية الإسلامية إلا في حدودها القيمية، بينما عينه على الشأن العام والسياسات التي يمكن لها أن تحقق تقدمًا في القطاعات التي يتولونها، فيما بهتت قضايا الهوية والمرجعية بشكل كبير، وأصبح الإسلاميون ينحون منحى الابتعاد عن النقاشات ذات الحساسية المذهبية، خوفًا من إعادة الاصطفاف الأيديولوجي الذي يقدرون أنه يضعف تجربة الإصلاح في مختلف تجلياتها[27].

السياق السياسي ونسق المحافظة

يخيل للبعض أن الإسلاميين وحدهم محكومون بنسق المحافظة في فكرهم وكسبهم السياسي، وأن ذلك يرجع بدرجة أولى إلى طبيعة النسق السياسي الحاكم، وأن السياق الحاكم يخضع لثقل فاعلين سياسيين مهيمنين يفرضون قواعد لعب واشتباك، يعطلون به قدرة الفاعل السياسي الإصلاحي على الاشتغال خارج نسق المحافظة، وأن هؤلاء الفاعلين المهيمنين يتحركون بديناميات مفتوحة وتكتيكات متعددة بحكم إمساكهم بقواعد البيئة السياسية برمتها.

والحقيقة أن هذا الخيال السياسي المحدود يرجع بالأساس إلى فصل السياق السياسي القطْري عن تفاعلاته الإقليمية والدولية، وعدم إدراك التوليفة التي ينتهي إليها النظام السياسي العربي في تفاعله مع السياسات الدولية، سواء في التعاطي مع الإسلاميين أو مع التحولات السياسية في الوطن العربي.

قبل الربيع العربي، تلخصت السياسات الدولية في التعاطي مع الإسلاميين ومع التحولات السياسية في أطروحتين أساسيتين[28]، وأطروحة ثالثة لم تنجح في تركيب الأطروحتين في خيار مستقل له حدود وضوابط مرسومة[29]:

الأطروحة الأولى تتعلق بالأمن والاستقرار بمشمولاته الأساسية، وفي مقدمتها دعم الأنظمة الشمولية والتحذير من مخاطر إدماج الإسلاميين[30]، وتنطلق من تصور خاص للمصلحة الأمريكية في المنطقة العربية، يشترط ضرورة دعم الأنظمة الاستبدادية، وسد المنافذ على الحركات الإسلامية وعدم التمييز بينها، وأنها تمثل جسمًا واحدًا، وأن اختلافها هو مجرد اختلاف في الأدوار والوظائف، وأنها كلها تهدد المصالح الأمريكية، وأنه لا بد من العمل على تقوية العلاقات مع حلفاء أمريكا من التيارات العلمانية والليبرالية، وتنشئة حلفاء آخرين من أجل محاصرة الإسلاميين والتضييق عليهم في مربع العملية السياسية[31].

الأطروحة الثانية تركز على التحولات السياسية بمشمولاتها الأساسية، بما في ذلك دعم إدماج الإسلاميين في العملية السياسية[32]. وترى أن أفضل طريق لتأمين المصالح الأمريكية في المنطقة هو إحداث تحول سياسي في الوطن العربي لا يتعرض للمصالح الأمريكية بالإلغاء، بحيث يؤدي الإسلاميون المعتدلون دور المحرك الأساسي له، شريطة أن يخضعوا لجملة تعديلات في نسقهم الفكري والسياسي، وأن السماح بإدماجهم في العملية السياسية يعينهم على تحقيق هذه التعديلات، وأن الخيار الأفضل هو التعامل معهم؛ لأنهم باتوا يمثلون القوة الأولى في المعارضة السياسية، وأن محاربتهم وإخراجهم من العملية السياسية سينتج منه تشجيع التطرف[33].

أما الأطروحة الثالثة، فقد كانت تمزج بين الأطروحتين، أي دعم التحولات، مع تحديد سقف لمشاركة الإسلاميين، وترك الخيار لصناع القرار السياسي، وترى هذه الأطروحة أن دعم التحول السياسي لا ينبغي أن يكون مفتوحًا إلى الدرجة التي تسمح بصعود فاعلين سياسيين يهددون المصالح الأمريكية، وأنه لا بد لصناع القرار السياسي أن يظلوا حذرين في مواكبة هذا التحول والتدخل لتوجيهه في حال ما أفضى إلى خلق واقع سياسي يهدد المصالح الأمريكية[34].

إنّ تصارع هذه الأطروحات قبل الربيع العربي بثلاث عقود من الزمن، سواء على مستوى الصناعة البحثية ومخرجات مستودعات التفكير، أو على مستوى تعاطي صناع القرار السياسي الدولي مع التجارب السياسية للإسلاميين، كان يعطي للنظم السياسية العربية أكثر من خيار للتعامل مع الإسلاميين، ولم تتحرك ورقة الضغط التي تستعمل الدمقرطة وحقوق الإنسان بشكل كثيف إلا بعيد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، الذي فجر سؤال التعاطي مع الظاهرة الإرهابية، وما إذا كانت أطروحة الأمن والاستقرار قد استنفدت أغراضها لتحل محلها أطروحة التحولات التي عمرت طويلًا، منذ أن أطلقت أمريكا مبادرة ترقية الديمقراطية في الشرق الأوسط[35].

لا يهمنا التوقف عند مقولات الأطروحات الثلاث وتوجهاتها وحججها، فقد تم بسطها بتفصيل في عمل مستقل[36]، لكن ما يهم بدرجة أولى أن نفسر نسق المحافظة فيها.

وإذا كان نسق المحافظة واضحًا في أطروحة الأمن والاستقرار لا يحتاج لكثير بيان، فأطروحة التحولات نفسها، سواء محافظة بأفقها الاستراتيجي (الحفاظ على المصالح الأمريكية والأوروبية في المنطقة)، أو بتخوفاتها وشروطها المعلنة لإدماج الإسلاميين، فهذه الأطروحات كلها تتخوف من أن يفضي إدماج الإسلاميين إلى تغيير أفق المشاركة من تقوية مسار الدمقرطة والإصلاح السياسي إلى أسلمة الدولة والهيمنة على مؤسساتها[37]، ولذلك ظلت المراكز البحثية الأمريكية والأوروبية تراقب طوال العقد الذي سبق الربيع العربي سلوك الإسلاميين، وتستكشف المناطق الرمادية في فكرهم، وتقوم بدور الترشيد لحث الإسلاميين على تغيير عقلهم الفكري والسياسي، تارة بحصر المواقف التي تقترح إحداث مراجعات فيها، وتارة أخرى بتوسيعها وتركها مفتوحة من غير ضابط[38].

أما الأطروحة الثالثة، فتكمن محافظتها في عدم توفيقيتها من جهة، وعدم قدرتها على الانفكاك من لوازم أطروحة الأمن والاستقرار، وتكمن ثانيًا في كونها لم تستطع أن تنتج ضوابط وحدودًا واضحة تسمح بفهم الشروط التي يتم فيها الانتقال من خيار لآخر داخل الأطروحتين[39].

 لم يخرج السياق السياسي العربي في شكل تعاطيه مع الإسلاميين عن ظلال هذه الأطروحات، فأما السياقات التي اختارت الاستئصال أو الإقصاء (التجربة التونسية والليبية) أو الحد الأدنى منه (الحصار السياسي كما هو الشأن في مصر)، أو انفتح نسقها السياسي قليلًا فتبنت تجربة الاندماج السياسي للإسلاميين مع قدر من المراقبة لهذا المسار والضبط لأفقه وسقفه (الأردن، الكويت، المغرب...)، وتعطيل جدواه وبعض نتائجه، فقد كانت تتصرف من وحي نسق المحافظة ذاته، وحتى السياقات التي اقتنعت في الأخير بضرورة طي صفحة الاستئصال، واقتنعت بضرورة التسوية مع الإسلاميين، كما هو الشأن في التجربة المتأخرة للرئيس التونسي بن علي، فهي في المحصلة لم ترغب في أكثر من الانتقال من أطروحة لأخرى داخل نسق المحافظة نفسه، لا سيما بعد دخول السياق الدولي موجة تعزيز الديمقراطية، وتعرض النظام السياسي التونسي لحملات ضغط ممنهجة على خلفية شموليته وانتهاكاته حقوق الإنسان.

المحور الثاني: الربيع الديمقراطي للشعوب العربية ومأزق تحول الإسلاميين

لم تكن الحركة الإسلامية تستشرف قيام حدث بارز يقلب موازين القوى لمصلحة الشعوب العربية، ولم تكن تهيئ نفسها فكريًّا وسياسيًّا لحدث مثل الربيع العربي، فقصارى ما كانت تتوقعه أن تفشل خيارات النظم السياسية العربية، سواء منها التي اختارت الاستئصال[40] أو التي اختارت ضبط المشاركة السياسية والتحكم في نتائجها[41]، أو التي اختارت تعطيل جدواها واستثمار مشاركة الإسلاميين لتحجيم دورهم وإضعاف شعبيتهم أمام قواعدهم الناخبة، وكان مؤشرها الأكبر في هذا التوقع هو ضيق دائرة الشرعية بالنسبة إلى هذه الأنظمة من جراء ضعف المشاركة السياسية، وتراجع الثقة بالمؤسسات، وتنامي مصداقية الحركة الإسلامية كقوة معارضة أولى في المشهد السياسي.

لكنها، مع ذلك كله، لم تطرح أي مراجعات أو تحولات تواكب بها لحظة التوقع المذكورة، فضلًا عن أن تكون قد هيأت نفسها لمواكبة حدث عظيم مثل الربيع العربي. ولذلك، لم يختلف العقل السياسي للحركة الإسلامية في مختلف تشكيلاتها في طريقة تفاعله مع الثورات وتداعياتها الإقليمية، فقد استقرأنا أشكال اشتغاله من خلال أكثر من تجربة في عمل بحثي مستقل[42]، وانتهت خلاصاتنا بهذا الخصوص إلى ملاحظة عدد من الثوابت المؤطرة للعقل السياسي للإسلاميين في شكل تعاطيهم مع الثورات:

تجنب الاصطدام بالفاعل السياسي الأقوى (سواء كان ملكية أو مجلسًا عسكريًّا أو غير ذلك).

عدم الانفراد بالمبادرة السياسية وترجيح الاشتغال مع القوى السياسية والتوافق والشراكة معها.

الميل نحو الإبقاء على عناصر البيئة السياسية المستقرة دون تغيير قواعدها، بما في ذلك شكل تفاعلها مع المحيط الدولي والإقليمي (الموقف من القوى الخارجية والموقف من بعض المعاهدات والمواثيق).

البعد عن المغامرة، والتريث حتى استكمال العناصر والشروط التي تبرر القيام بعمل خارج نسق المحافظة (مثل الالتحاق بالثورات) مع الاستمرار في اصطحاب مفهوم تأمين مكتسبات الدعوة[43].

صحيح أن السلوك السياسي للإسلاميين يظهر في بعض المحطات بعض الجرأة التي قد تفسر بالخروج عن حدود نسق المحافظة قلبًا للطاولة (حركة النهضة التونسية)[44]، أو مخاطبة زعيم العدالة والتنمية للملك في المغرب لإبعاد بعض مقربيه[45] أو غيره من مواقف هذه الحركة أو تلك، لكن مثل هذه المواقف السياسية الطارئة على فعل الإسلاميين ليست في الجوهر سوى فعل تفاوضي يقوي موازين قوى لفائدة معادلة سياسية جديدة تقطع مع واقع الاستبداد والتحكم السياسي، أو رهان مدروس لبيان دور الحركة الإسلامية في صناعة التوافق، كما هو الحال في السلوك التفاوضي الذي تلجأ إليه حركة النهضة التونسية في كثير من المحطات.

في دول الربيع العربي، تريث إخوان مصر ولم يلتحقوا بالثورة، وفضلوا تصريف الموقف عبر فئة الشباب، في ازدواجية معروفة تظهر إلى حد بعيد مدى استحكام نسق المحافظة، فالقيادات الوازنة بقيت ماسكة بخط تأمين مكتسبات الدعوة، فيما أعطت المبادرة للشباب في انتظار ما تظهره البوصلة، وما يستشرف من تطورات تظهر الحاجة إلى الالتحاق بالثورة أو البقاء في موقع تأمين المكتسبات[46].

في تونس، خرج إخوان النهضة، ليس لأنهم كانوا مهيئين لهذا الحدث ومعدين العدة لمواجهة تحدياته، وإنما كان خروجهم فرصة لإحياء تنظيم دمره الاستبداد[47].

وكذلك الأمر في ليبيا، فالإخوان لم يلتحقوا بالثورة لأنهم خرجوا من بنية المحافظة، ولكن لأن الثورة كانت تمثل بالنسبة إليهم شعاع ضوء صغير طالما انتظروه؛ للخروج من العتمة التي كانت تحجبهم عن الظهور في منفاهم القسري في مدينة الضباب[48].

هي التجربة نفسها عند إخوان سورية المكلومين من أحداث حماة وما تبعها من مآسٍ، فلم يعد لهؤلاء خيار لتثبيت وجودهم سوى الانخراط في ثورة وجدت من المناخ الإقليمي والدولي واعتبارات الصراع الاستراتيجي في المنطقة ما يدعمها في شرارتها الأولى، وذلك قبل أن يبدأ التفكير الدولي والإقليمي الجدي في سؤال وماذا بعد بشار؟ وهل يمكن القبول بحكم الإسلاميين في منطقة ثقل استراتيجي متاخمة لدولة الكيان الصهيوني.

أما اليمن، فقد خرج إخوان التجمع اليمني للإصلاح إلى الشارع، استكمالًا لحراك سياسي انطلق منذ سنة 2003 بتنسيق مع أحزاب اللقاء المشترك، فلم يفرض عليهم المبادرة لوحدهم، ولا الخروج عن نسق المطالبة السياسية[49].

أما الحركة الإسلامية في المغرب فكانت أقرب إلى وضوح الموقف من داخل نسق المحافظة، مع محاولة لرفع سقف الإصلاح السياسي؛ فقد أصرت على عدم الخروج إلى الشارع، تعللًا بعدم وضوح الرؤية التي يمكن أن يفضي إليها حراك 20 فبراير، وما إذا كانت تحمل مشروعًا إصلاحيًّا أم تدفع لإنهاء حكم النظام الملكي في المغرب؟[50]

وهو الموقف ذاته التي تبنته الحركة الإسلامية في الأردن، التي وجدت في سياق الربيع العربي فرصة لرفع سقف تطلعاتها الإصلاحية، والضغط على النظام من أجل ضخ جرعة قوية من الإصلاحات تنقذ الدولة من رياح الربيع العربي، وترفع الفجوة بين مطالب الشعب وقدرة الدولة على الاستجابة.

بقي النسق المحافظ ذاته مع الربيع العربي، وعبر محطات من ترتيب الانتقال الديمقراطي مع تشابه في المسارات، وشكل تعاطي الإسلاميين معه، تصعيدًا وتنازلًا، مغالبة وتوافقًا.

 في مصر، تغلب نسق المحافظة باختيار التفاوض الثنائي مع المجلس الأعلى للقوات المسلحة، بعيدًا عن القوى التي صنعت الثورة، فوجد الإخوان أنفسهم في قيادة حكم لا يملكون فيه أمرًا، بسبب سيطرة الجيش والقوى الأمنية على مؤسسات الدولة وإدارتها واقتصادها وإعلامها ومحاكمها[51].

وفي تونس، حاولت قيادة النهضة الخروج من نسق المحافظة بتبني مفهوم الفرصة التاريخية الحاسمة، وعدم التفريط عند التفاوض في وزارات السيادة (الداخلية والخارجية...)، لكنهم لم يكونوا في الحقيقة يفعلون ذلك بدافع من الرغبة من الخروج عن نسق المحافظة، بل خوفًا من الرجوع إلى تجربة بن علي وعودتهم مجددًا للسجون. كان فرارهم من المحافظة في الجوهر محكومًا بذات النسق المحافظ. ولذلك، في جميع مسارات التنازلات التي قدمتها النهضة، سواء مع سقوط حكومة الجبالي أو حكومة العريض، أو خروجها المطلق من الحكومة، كان عقلها السياسي محكومًا بمعادلة: أتنازل لصناعة الوفاق، لكن بعد أن أضمن أن مسار الإصلاح سيستمر، وأن مصير الحركة لن يكون مثل مصيرها زمن بن علي[52].

وفي اليمن أيضًا رغم قوة الحراك ووصوله إلى مستويات زخم مهم، لم يستطع إخوان التجمع اليمني للإصلاح رفض الدور الخليجي، ولم يستطيعوا أن يسلكوا خطًّا مستقلاً عن المبادرة الخليجية التي صنعت الأفق المظلم الذي تمر به اليمن اليوم. نسق المحافظة كان يدفعهم إلى عدم استعداء السعودية؛ خوفًا من أن ينقلب موقفها تجاه الحركات الإسلامية، فتصبح عدوًّا إقليميًّا محرّضًا على استئصال الحركة وإقصائها.

في المغرب، بدأ سقف التطلعات عاليًا، وأنتجت ديناميات كان يظهر من بعض سماتها رغبة في الخروج عن نسق المحافظة، لكنها انتهت في النهاية إلى إنتاج مقولة "الشراكة"، وتغيير عنوان "النضال الديمقراطي" بعنوان "البناء الديمقراطي"[53]، في إشارة إلى أن الحركة دخلت مع المؤسسة الملكية مرحلة جديدة، توافق فيها الطرفان على ثلاث قضايا (الملكية، الإصلاح، الاستقرار)، لكن سرعان ما تسرب الشك إلى عنوان هذه الشراكة مع ظهور مؤشرات من سلوك الدولة السياسي والانتخابي في محطة انتخابات 2015 و2016، لتتحول مؤشرات النكوص السياسي إلى علامات ظاهرة لخوض تجربة الانزياح عن المسار الديمقراطي، مع إعفاء بنكيران وتشكيل الحكومة بشروط غير الشروط التي أنتجتها الإرادة الشعبية المعبّر عنها في انتخابات السابع من أكتوبر 2016[54].

سقط حكم الإسلاميين في مصر، وأزيح الإسلاميون من مواقع وزارية حساسة في كل من تونس والمغرب، واضطر إسلاميو تونس إلى فك تحالف الترويكا (الوريث السياسي للحراك الثوري)، لفائدة التحالف مع التعبير السياسي الجديد للحرس القديم، ودخلت أطراف إقليمية ودولية بأجندتها لمنع المسار الثوري في سورية من التحول إلى مسار سياسي انتقالي، والتحكم في المستقبل السياسي لليمن، وتحويل كل دينامياته السياسية إلى جزئية أمن قومي سعودي، واضطر إخوان ليبيا، الذين نجحوا في تحصين تجربتهم من خلال الإمساك بالبنى الأمنية والعسكرية في العاصمة طرابلس، وأيضًا من خلال تقوية التنسيق مع قوى الثورة وقياداتها الميدانية، اضطر هؤلاء إلى مواجهة إرادات دولية وإقليمية ضاغطة، باستدعاء مفردات من نسق المحافظة، واضطرت الحركة الإسلامية في المغرب إلى مسايرة التراجع السياسي وتثمينه، حتى وهو يفكك كل الشروط التي أفرزوها زمن النضال السياسي، وذلك بأسباب من ثقل النسق المحافظ الذي لم يستطيعوا الانفكاك عنه، رغم كل الإشارات والتحولات التي حملتها أفكار رئيس الحكومة المعفى، والتي كانت تسعى إلى إحداث نقلة نوعية في السلوك السياسي للإسلاميين لجهة فك الارتهان التدريجي مع نسق المحافظة[55].

خلاصة الموقف أن الإسلاميين لم يكونوا فقط غير مهيئين لاستقبال الربيع العربي، بل لم يقوموا بأي جهد فكري وسياسي لإنتاج أطروحة تواكب هذا الحدث، وتجيب عن سؤال ما العمل؟ وما النسق السياسي الجديد الذي يمكن أن يواكبوا به تحولات الموقف الدولي وانعطافه نحو الدمقرطة؟ بل لم يضعوا أي معادلات وحدود للممكن فعله الذي يمكن تحقيق تراكم ديمقراطي فيه، بالقياس إلى القضايا الاستراتيجية واعتبارات الأمن الإقليمي، فضلًا عن إبصار الخطوط الحمر في خارطة الفاعل الدولي، ومعادلات التوازن الاستراتيجي في الشرق الأوسط، وقواعد الاستقرار في شمال أفريقيا (في الضفة الجنوبية من المتوسط).

ما كان يؤطر رؤية الإسلاميين السياسية في بداية الثورات ثلاثة عناوين أساسية مع اختلاف أولوياتها في كل سياق على حدة:

تثبيت الوجود السياسي (إحياء التنظيم واستثمار الربيع العربي لتجميع قواه).

 تحقيق تقدم في الإصلاح السياسي.

 تمكين الإسلاميين من تحقيق خطوة أخرى في مسار تطبيعهم السياسي، وتمكينهم من المشاركة في مؤسسات الدولة[56].

 وهي العناوين التي ظل الإسلاميون يحافظون عليها، حتى وهم يستقبلون رياح الخريف الديمقراطي، فيتنازلون عن بعض مواقعهم في مربع الاندماج، ويرون مسار الإصلاح السياسي يتوقف أو يتراجع، لكن عينهم لا تبرح أبدًا مكتسبات الدعوة، والحاجة إلى تأمين الوجود، والحيلولة دون العودة إلى ماضي الحصار والإقصاء السياسي.

ماذا تبقى من نسق المحافظة عند الإسلاميين؟

 للجواب عن هذا السؤال لا بد من فرز موضوعي يراعي وضع الإسلاميين في السياق السياسي؛ فليس كل الإسلاميين عاشوا الربيع العربي، وليس الذين عايشوا هذا الربيع في وضع واحد من تحولات السياسية وتدخلات الفاعلين الدوليين والإقليميين.

فعلى المستوى الأول، نُخرج تجربة الإسلاميين في كل من السودان والجزائر، فهاتان التجربتان لم تعرفا ربيعهما الديمقراطي إلا في هذه السنة (2019)، بل كان هذا الربيع الديمقراطي في السودان موجهًا أساسًا ضد حكم الإسلاميين الذي لم يتحرر من منطق القوة والهيمنة الذي به خرجت ثورة الإنقاذ للوجود، بل تحول هذا المنطق إلى آلية لتفتيت التنظيم، وخلق أجنحة متصارعة داخله، كل ينطلق من شرعية ما لتسويغ سلطته الشمولية، شرعية السلطة، وشرعية الحركة[57]. أما الإسلاميون في الجزائر، الذين رفضوا من قبل الانخراط في الربيع العربي، متعللين بالخوف من إعادة سنوات الدم التي حصلت بعد الانقلاب على نتائج الانتخابات التي فازت بها جبهة الإنقاذ، فقد انخرطوا ضمن فعاليات الحراك الشعبي تمامًا كما كان نسق تفكير الحركات الإسلامية الأخرى في شكل تعاطيها مع ربيع الثورات العربية. فعلى هذا المستوى، كان العنوان هو نسق المحافظة بكل تفاصيله، دون الجرأة على الخروج عن دائرته.

 تحرك إسلاميو "حمس" في الجزائر، وغيرهم، بوحي من موقف تجارب الإسلاميين في مسايرة فعاليات الحراك دون قيادته. أما في السودان، فقد تفتقت تجليات المحافظة بصورة أكثر قتامة، وذلك من خلال الانكفاء التام، والاكتفاء بمسايرة ما انتهى إليه الاتفاق بين قوى التغيير وبين المجلس العسكري الانتقالي دون تفاصيل تذكر. ومع أن التجربتين مختلفتان تمامًا، مبادرة وانكفاء، فإن ما يميزها منطق واحد: المبادرون في الجزائر يختفون وراء فعاليات الحراك، ولا يريدون الظهور بخصوصيات تختلف عن مواقفهم دون الوقوع في اصطدام مع السلطة. وأما إسلاميو السودان فنسق المحافظة لديهم خيار احترازي، حتى لا يتحول الحراك وزخمه إلى أداة لاقتلاع مكتسباتهم التربوية والدعوية والثقافية والاجتماعية والسياسية.

وعلى المستوى الثاني، أي الحركات الإسلامية التي عاشت الربيع العربي باختلاف في وضع السياق السياسي من تحولات السياسية وتدخلات الفاعلين الدوليين والإقليميين، فهم على أصناف ثلاثة:

السياق المبتلع للثورة، سواء كان دوليًّا (سورية) أو إقليميًّا (ليبيا واليمن).

السياق العائد إلى منطقة السكون، والذي استعاد شروط وضع ما قبل الربيع العربي (مصر والأردن والكويت).

السياق الانتقالي التوافقي (المغرب وتونس).

السياق المبتلع للثورة، سواء كان دوليًّا (سورية) أو إقليميًّا (ليبيا واليمن)

ففي السياق الأول، باستثناء ليبيا التي يؤدّي فيها الإسلاميون دورًا خاصًّا، تضاءل دور الإسلاميين إلى أبعد الحدود أمام هيمنة الفاعل الدولي والإقليمي.

 فإسلاميو اليمن لا يملكون خيارات كثيرة، بعد أن تضاءلت حظوظ وعي السعودية بأهمية إبقاء حبل التحالف ممدودًا بينها وبينهم، واعتبار ذلك شرطًا أساسيًّا في منظومة أمنها الإقليمي، فمصالح الإمارات في اليمن وتحالفها الاستراتيجي مع السعودية يجعل مستند نسق المحافظة عند الإسلاميين مقطوعًا. نعم استيقظت السعودية متأخرة مع الخطر الإيراني الحوثي وتهديده أمنها، ووعت بمخاطر الاستغناء عن تحالفها الاستراتيجي مع إسلاميي اليمن والقبائل التي تحتفظ بحساسية شديدة من هذا التهديد، لكنها لم تفعل شيئًا ذا بال في الموضوع، بل لم تتحرك بالشكل الكافي حتى لحماية الشرعية التي بنتها المبادرة الخليجية في اليمن برعايتها، فبالأحرى أن تغير عقيدتها الدبلوماسية والاستراتيجية الجديدة، التي أصبحت تتأسس من غير اعتبارات مدروسة على استئصال الإسلاميين في كل التجارب، باعتبارهم حلفاء الثورة والربيع الديمقراطي[58].

أما في سورية، فنتيجة لتحالف الإرادة الدولية ضد صعود الإسلاميين، وتنامي القلق الدولي من إمكانية أن يشكلوا بديلًا وحيدًا لنظام بشار الأسد، فلم يعد لإسلاميي سورية على تعدد مشاربهم وأطيافهم خيارات كثيرة سوى التحصن لحماية ما يمكن حمايته بعد التمدد العسكري الجديد للنظام السوري، وممانعة الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوربي لخيارات تركيا في إقامة منطقة آمنة شرق الفرات بسورية.

أما ليبيا، فوضع الإسلاميين ليس أقل سوءًا، فبعد التمرد الذي شكله الجنرال حفتر، والدعم القوي الذي أظهرته كل من مصر والإمارات وفرنسا له، واحتشام الموقف الأمريكي والأوروبي الذي يفترض دعمه للشرعية في ليبيا، لم يعد لإسلاميي ليبيا خيارات كثيرة، فحكومة الوفاق في طرابلس، رغم الإسناد العسكري الذي تلقاه من تركيا، ورغم قوة الممانعة العسكرية التي أبدتها لا سيما في منطقة غريانة، إلا أن العقل السياسي للإسلاميين، على ما يبدو، مقتنع بأي خيار يمكن أن يجنب البلاد قهر الإرادة الدولية والإقليمية، رافعين بذلك شعار "استقرار الشرعية في طرابلس، قبل وضع الإسلاميين بها"[59].

من المفيد أن نلتفت لملاحظة مهمة تندرج ضمن خروج مبكر لإسلاميي ليبيا وسورية من نسق المحافظة، بحكم وضعية القهر والشتات التي كانت هذه الحركات تعرفها بسبب سطوة نظام بشار والقذافي، وقسوتهما على الإسلاميين. فقد اتجهت الحركتان مع أحداث الثورة السورية والليبية إلى التوغل في البنى الأمنية والعسكرية، وخلقت واقعًا ميدانيًّا على الأرض من الصعب تفكيكه. ولذلك، لا تملك هذه الحركات اليوم أي خيارات خارج منطق المقاومة، وإن كانت الخيارات السياسية في ليبيا تميل للمحافظة؛ تحصينًا لاستقرار الشرعية في طرابلس ولو اقتضى الأمر التضحية بمواقع الإسلاميين في مربع الحكم.

السياق العائد إلى منطقة السكون، والذي استعاد شروط وضع ما قبل الربيع العربي (مصر والأردن والكويت)

مع أن النماذج المذكورة ضمن هذا السياق مختلفة ومتباينة في سياقاتها وحيثيات وضعها السياسي، إلا أنها هي الأخرى تعيش على بقايا نسق المحافظة في خياراتها الراهنة. فالأردن التي عاشت ربيعها الديمقراطي بطريقة أقرب إلى النموذج المغربي دون أن تصل إلى مستوى جوابه السياسي الاستثنائي في التعاطي مع الحراك الديمقراطي، إلا أنها انتهت في المحصلة إلى تغليب الاعتبار الاستراتيجي، وتعالي تحديات استهداف الأردن ومصالحها الاستراتيجية بصفقة القرن على ما عداها من العناوين السياسية، التي تخص وضع الفاعلين السياسيين في الداخل، إذ لم يجد هؤلاء الفاعلون، بما في ذلك الحركة الإسلامية نفسها، أي خيار سوى الانخراط في تمتين الجبهة الداخلية، لا سيما أن الملكية هي التي تقود عنوان مقاومة صفقة القرن وخياراتها المستهدفة للأردن ومصالحه الاستراتيجية، بل تجري الملكية مشاورات مع الفاعلين السياسيين، وفي مقدمتهم الإخوان، وتضعهم في صورة الرهانات الاستراتيجية المستهدفة للأردن، والخيارات المطروحة للمقاومة، وهي الوضعية التي تستعيد تجارب سابقة لاصطفاف الإسلاميين إلى جانب الملكية لمواجهة الأخطار الاستراتيجية المحدقة بالبلد[60].

أما في الكويت، فإن الانقسام الذي حصل داخل الإسلاميين من جراء حراك "مسلم البراك" السياسي والشعبي، بشأن المشاركة والمقاطعة في الانتخابات، واضطرار الإسلاميين في نهاية المطاف إلى تبني خيار المقاطعة، بدأت تخف حدته مع امتداد الأمد، مع بروز التحديات داخل البيت الخليجي، وتنامي القلق من التحديات الأمنية المحدقة بمكونات دول التعاون الخليجي، ومنها على وجه الخصوص الكويت، كل ذلك دفع الإسلاميين إلى إعادة النظر في خياراتهم، والتفكير مرة أخرى في منطق المشاركة وحفظ الوجود والموقع، بعد بروز مؤشرات الخريف الديمقراطي في كل من مصر وتونس والمغرب، وتأثر وضع الإسلاميين به. إذ اتجهت الحركة الدستورية الإسلامية، بعد مرور ست سنوات على ثورات الربيع العربي، إلى طي صفحة الخلاف مع السلطة وإعادة تجسير العلاقة معها، من خلال المشاركة في الانتخابات البرلمانية المقبلة 2017، ومحاولة تجنيب الكويت من خطر الاصطفاف وراء الرؤية الخليجية (الإقليمية) في التعاطي مع الإسلاميين[61].

 أما في مصر، فنسق المحافظة اتخذ أشكالًا مختلفة، ووقع تحول في وظائف الأجيال داخل الإخوان، فالشباب الذين كانوا يتهمون القيادات التاريخية بالتردد، وأخذ مسافة عن قوى الثورة، والسعي وراء تحالفات مع المجلس العسكري على حساب تطلعات قوى الثورة، أصبحوا اليوم في موقع آخر يطالبون هذه القيادات نفسها بأن ترفع يدها عن التنظيم، وتترك للأجيال الشابة تدبير التعاطي السياسي من موقع النقد الذاتي[62].

أما القيادات التاريخية، فتستمسك بأطروحة صوابية الخيار، وعناد السياق الدولي والإقليمي، وأن الإخوان لم يخطئوا، وأن المؤامرة كانت أكبر منهم، بينما ترى القيادات الشابة أن المشكلة في تدبير القيادة للموقف السياسي، وأخطاء التحالفات الجسيمة، والهواية في التجربة الحكومية، والتدبير السياسي من مربع الحكم مع القوى المؤثرة فيه[63].

ومع أن نسق المحافظة يبدو واضحًا في مواقف القيادة التاريخية، إلا أنه لحد الساعة لم تبرز في تصورات القيادات الشابة ما يجعل فكرها يخرج عن نمط المحافظة، سوى ما كان من حماسة في المطالبة بالنقد الذاتي.

السياق الانتقالي التوافقي (المغرب وتونس)

يتميز هذا السياق عن بقية السياقات الأخرى بكون الإسلاميين استمروا في معادلة السلطة، رغم رياح الخريف الديمقراطي، واستطاعوا أن يتكيفوا مع التحولات الإقليمية والدولية، بل حتى التحولات السياسية الداخلية، وبقوا مستمسكين، وربما، صانعين لتجربة الوفاق (تونس) أو الشراكة كما يسميها إسلاميو المغرب.

حركة النهضة، التي استُعمل الملف السلفي وملف اغتيال شكري بلعيد لإسقاط حكومتها (حكومة حمادي الجبالي)، وملف اغتيال محمد البراهمي لإسقاط حكومة علي لعريض، ثم الخروج النهائي من الحكومة لجهة قبول رئيس حكومة متوافق عليه، قبلت في النهاية حل الوسط بالتخلي عن تحالف قوى الثورة، والتحالف مع النسخة الجديدة من النظام القديم، ثم اضطرت مرة أخرى إلى تكتيكيات تحالفية استغلت فيها الانقسام الذي حدث في الحرس القديم، للمناورة التكتيكية بين حركتي "نداء تونس" و"تحيا تونس"، مفضلة البدء بانتخابات تشريعية، منت النفس أن تجعل من نتائجها ورقة تفاوضية لتعزيز وضعها داخل السلطة والمحافظة على مكاسبها، غير أن عدم تلبية مطلبها وتأجيل الانتخابات التشريعية، والبدء بانتخابات رئاسية، اضطرها إلى أن تلعب بنفس التكتيك، لكن هذه المرة بإخراج ورقة ترشيح عبد الفتاح مورو، لتجعل من كسب معركة الجولة الأولى ورقة تفاوضية شبيهة بورقة كسب الانتخابات التشريعية، لتثبيت وضعها وتحصينه من أي ارتدادات إقليمية أو دولية.

وعلى ما يبدو في الظاهر من ذكاء سياسي، في تدبير تموقعات حركة النهضة في المشهد السياسي، إلا أنه في المحصلة لا يخرج عن نسق المحافظة، وإن كان يستعمل أدوات الضغط والتفاوض بالقوة من أجل أن يؤول الأمر في الأخير إلى التنازل لصناعة توافق يحين وضع الإسلاميين ويبقيهم في السلطة. لكنها محافظة من نوع مختلف، يتحقق عندها هدفان: تحصين المواقع، والظهور بمظهر الذي يقوم بدور تاريخي في صناعة التوافق بتنازله[64].

أما في المغرب، فقد حاول الأمين العام السابق للعدالة والتنمية عبد الإله بنكيران، قبل نهاية ولايته الانتخابية، من موقع رئاسته للحكومة وأمانته العامة للحزب أن يدشن مراجعات جديدة، تخرج حزبه من نسق المحافظة بإعلانه عن انسداد هذا المسار والحاجة إلى تيار شعبي عام يمثل كل الحساسيات الديمقراطية، حيث بدأ يتحدث عن (الحالة الإصلاحية العامة) وليس عن الحركة الإسلامية (التنظيم)[65]. إلا أن خروجه من رئاسة الحكومة بالإعفاء، وانزياح قيادة الحزب الجديدة عن الوفاء بالمحددات التفاوضية التي رسمها بنكيران لتشكيل حكومة تعبر عن إرادة الشعب، وخروج بنكيران من قيادة الحزب، أعاد الحركة الإسلامية في المغرب إلى مربع المحافظة[66]، إذ حكمت مواقفها السياسية بالحاجة لتأمين مكتسبات التنظيم الدعوية، والخوف من الدخول في مواجهة مفتوحة مع السلطة، فدخلت في متوالية هندسية من التنازلات، كان آخرها التنازل عن مكون من مكونات الهوية المغربية، وثابت من ثوابت الحزب في ورقته المذهبية، وهو التمكين لفرنسة التعليم وإزاحة اللغة العربية من موقعها الدستوري كلغة تدريس رسمية، والتعلل في ذلك كله بعدم الرغبة في معاكسة إرادة الدولة في هذا الموضوع وتأمين مكتسبات التنظيم.

خلاصة

النتيجة التي ينتهي إليها تأمل وضع الإسلاميين أن تفكيرهم لم يغادر نسق المحافظة طوال المراحل الثلاث: ما قبل الربيع وأثناءه وما بعده. والمرجح أن المستقبل سيحكم على هذه التجارب بالتخلي القسري عن هذا النسق، ليس لأنهم لم يعودوا يؤمنون بالحاجة إلى تأمين التنظيم ومكتسباته الدعوية، ولكن لأنهم عجزوا عن التحول إلى حالة إصلاحية عامة في المجتمع، وعجزوا عن استثمار التحولات السياسية، سواء تلك التي تصب في صالحهم أو تلك التي تعاندهم في صناعات تحالفات موضوعية من أجل الدمقرطة والإصلاح، مما جعل وضعهم في مربع السياسة ومربع المجتمع أيضًا يتضاءل، وجعل قواعدهم الانتخابية تتراجع، بما في ذلك قواعدها الوفية التي تصوت على الإسلاميين من منطلق تقاسم المرجعية والقيم الإسلامية.

والمشكلة أن المقايضة التي كانت الحركة الإسلامية-من موقع المعارضة-تناور بها للإبقاء على مكتسباتها العامة (الدعوية) لم تعد مجدية، فقد كانت تقايض لما كانت في موقع المعارضة بالتخفيف من ثقلها في السياسة، بغض طرف السلطة عن تمدد نشاطاتها الدعوية العامة. أما اليوم، فقد تخفف الثقل الدعوي بشكل كبير نتيجة وضع ثقلها في العمل السياسي وضعف عائداتها الدعوية، كما صار ينظر من قبل خصومها لبعدها الإصلاحي العام (العمل التربوي والدعوي والجمعوي والاجتماعي...) كبنية تحتية تستمد منها الحركة السياسية ثقلها وقواعدها الجماهيرية. مما يعني أن نسق المحافظة الذي في العادة ما تتم الهجرة إليه في حالة الأزمة، هو نفسه، صار غير قادر على تدبير الأزمة والقيام بنفسه، كما أن الانعطاف إليه، في سياق تراكم الحالة الإصلاحية العامة، ينتج منه خسائر كبيرة في السياسة والانتخابات، فهل سيتم العودة من جديد إلى منطق: "نشارك ولو كانت النتيجة هي الخسارة، حماية لمكتسبات الدعوة"، أم سيتم إنتاج خطاب (وهم) جديد ينطلق من قاعدة المظلومية، وأن "الحركة الإسلامية طالما تعرضت لهذه التحديات والمحن والابتلاءات، وأثبتت في الأخير انتصارها انتخابيًّا بسبب انحيازها لمصلحة الوطن وتغليبها ما هو ذاتي عن ما هو مصالح عليا للبلاد".

التفكير في أنساق ممارسة السياسة، هو غير رصد تجارب الإسلاميين في بعدها الوقائعي، ذلك أن تتبع قواعد العقل السياسي الذي يشتغل به الإسلاميون، ومراقبة شكل تفاعله مع التحديات الجديدة، وطرقه في تدبير الإكراهات، ومدى قدرته على إجراء المراجعات الضرورية، بما في ذلك مراجعة النسق برمته، وإنتاج نسق آخر قادر على التكيف مع متطلبات المرحلة، هو وحده الذي يرسم مستقبل حركة الإسلاميين في السياسة، وإمكان تقدمهم أو الإيذان بدخول مرحلة ما بعد الإسلاميين كما يروج لها خصومهم من السياسيين وأيضًا من الوسط الأكاديمي.

 

[1]                  يميز بورغا، في هذا السياق، بين الخطاب الذي يستند إليه الإسلاميون، وبين طرائق فعلهم في السياسة؛ فعلى المستوى الأول، ينحو بورغا منحى تسجيل سمة الوحدة، أي إن خطاب الإسلاميين واحد، يرتكز على عودة الهوية والمرجعية الإسلامية للفضاء الاجتماعي ومواجهة السلطة الاستعمارية، ومقاومة التغريب الثقافي، ومواجهة النخب المحلية التي حلت محل الاستعمار في تنفيذ سياساته ومقاومة السياسات التدخلية والأحادية للولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة. أما من جهة طرائق الفعل السياسي، فيرى بورغا أن الإسلاميين ينتجون ممارسات اجتماعية وأنماط عمل سياسي شديد التنوع، وأن ذلك يرجع في نظره إلى السياق الاجتماعي والسياسي الذي تعيش فيه كل حركة إسلامية على حدة. يراجع: فرانسوا بورغا، فهم الإسلام السياسي، ترجمة جلال بدلة، بيروت: دار الساقي، 2008، ص12-17.

 

[2]                  تميل عدد من الدراسات الأمريكية والأوروبية التي تعنى بتصنيف الحركات الإسلامية بحسب معيار الاعتدال ودرجة الاندماج في العملية السياسية، إلى تقديم تجربة الإسلاميين في المغرب وتونس على غيرها من الحركات الإسلامية التي تندرج ضمن التنظيم العالمي للإخوان المسلمين، بل إن بعضها صار يميل إلى مقارنة تجارب الإسلاميين في المغرب العربي بنموذجها الملهم في تركيا. انظر على سبيل المثال ناثان براون-عمرو حمزاوي، بين الدين والسياسة: الإسلاميون في البرلمانات العربية،  بيروت: مركز كارنيجي للشرق الأوسط والشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2011. وانظر أيضا: ناثان براون، المشاركة لا المغالبة: الحركات الإسلامية والسياسة في العالم العربي، ترجمة سعد محيو، بيروت: مركز كارنيجي للشرق الأوسط، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2012.

 

[3]                  راشد الغنوشي، من تجربة الحركة الإسلامية في تونس، لندن: المركز المغاربي للبحوث والترجمة، 2001، ص56-64.

 

[4]                  يراجع الفصل التأريخي لمسار الحركة الإسلامية "معالم سير الحركة" من كتاب: حسن الترابي، الحركة الإسلامية في السودان: التطور، الكسب، المنهج، الدار البيضاء: منشورات الفرقان، 1991، ص23-36.

 

[5]                  إيمان عبد الحميد الدباغ، الإخوان المسلمون في العراق 1959-1971، بيروت: مؤسسة الانتشار ومركز صناعة الفكر للدراسات والأبحاث، 2012، ص 114-116.

 

[6]                  بلال التليدي، الإسلاميون والربيع العربي: الصعود التحديات وتدبير الحكم، بيروت: مركز نماء للبحوث والدراسات، 2012، ص 136-137.

 

[7]                  بسام علي العموش، محطات من تاريخ جماعة الإخوان المسلمين في الأردن، عمان: الأكاديميون للنشر والتوزيع، 2008، ص165-208.

 

[8]                  حسن الترابي، الحركة الإسلامية في السودان، مرجع سابق، ص 28-31.

 

[9]                  بلال التليدي، مراجعات الحركة الإسلامية المغربية، الرباط: مطبعة طوبريس، 2015، ص 88-92.

 

[10]                ناثان براون وعمرو حمزاوي، بين الدين والسياسة، مرجع سابق، ص25-35.

 

[11]                المرجع نفسه، ص 256-258.

 

[12]                بلال التليدي، الإسلاميون والربيع العربي، مرجع سابق ص 136.

 

[13]                ناثان براون، المشاركة لا المغالبة، مرجع سابق، ص 110.

 

[14]                مبارك الجري، "التيارات الإسلامية بالكويت بعد الربيع العربي: الحركة الدستورية الإسلامية نموذجًا"، مركز الجزيرة للدراسات، 2016، على الرابط: https://bit.ly/2wtcFDp

 

[15]                بسام علي العموش، محطات من تاريخ جماعة الإخوان المسلمين في الأردن، مرجع سابق.

 

[16]                طارق النعيمات، "تفكك الإخوان المستمر في الأردن"، مجلة صدى، موقع كارنيجي للسلام الدولي، 19 أكتوبر 2018 على الرابط: https://bit.ly/2nzV9en

 

[17]                عبد الملك محمد عبد الله عيسى، حركات الإسلام السياسي، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2012، ص 61.

 

[18]                بلال التليدي، مراجعات الحركة الإسلامية المغربية، مرجع سابق، ص 88-90.

 

[19]                مبارك صالح الجري، تحولات الإسلام السياسي حركة النهضة نموذجا (1971-2014)، بيروت: مركز نماء للبحوث والدراسات، 2017، ص 214-221.

 

[20]                راشد الغنوشي، من تجربة الحركة الإسلامية في تونس، مرجع سابق.

 

[21]                راشد الغنوشي، المرأة بين القرآن وواقع المسلمين، تونس: المركز المغاربي للبحوث والترجمة، 2000.

 

[22]                راشد الغنوشي، مقاربات في العلمانية والمجتمع المدني، تونس: المركز المغاربي للبحوث والترجمة، 1999.

 

[23]                راشد الغنوشي، الحريات العامة في الدولة الإسلامية، بيروت: مركز دراسات الحدة العربية، 1995.

 

[24]                راشد الغنوشي، من تجربة الحركة الإسلامية في تونس، مرجع سابق، ضمن الملحق الخامس، الإسلام والعنف، ص 317.

 

[25]                حسن الترابي، الحركة الإسلامية في السودان، مرجع سابق، ص298-299.

 

[26]                ناثان براون، المشاركة لا المغالبة، مرجع سابق، ص 33.

 

[27]                بلال التليدي، مراجعات الإسلاميين: دراسة في تحولات النسق السياسي والمعرفي، بيروت: مركز نماء للبحوث والدراسات، 2013، ص 195-224.

 

[28]                بلال التليدي، الإسلاميون ومراكز البحث الأمريكية، بيروت: مركز نماء للبحوث والدراسات، 2014، ص217-220.

 

[29]                يمثل معهد بروكينغز الأمريكي هذه الأطروحة، إذ بقدر ما كان يتبنى أطروحة التحول السياسي، بقدر ما كانت تراوده العديد من التحفظات التي تجعله لا يغادر منطلقات أطروحة الأمن والاستقرار. وتشكل مخرجات الباحثة تمارا كوفمان ويتس نموذجًا لهذا التردد بين الأطروحتين. انظر بلال التليدي، الإسلاميون ومراكز البحث الأمريكية، المرجع السابق، ص 258-261.

 

[30]                ويمثلها أفضل تمثيل معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى ومركز راند. يراجع بهذا الخصوص لكاتب هذا البحث: الإسلاميون ومراكز البحث الأمريكية مرجع سابق، والإسلاميون ومركز راند دراسة نقدية في مشاريع الاعتدال الأمريكي، بيروت: مركز نماء للبحوث والدراسات، 2015.

 

[31]                بلال التليدي، الإسلاميون ومراكز البحث الأمريكية، مرجع سابق، ص 222-224.

 

[32]                ويمثلها أفضل تمثيل مستودع التفكير الأمريكي، معهد كارنيجي للسلام الدولي. يراجع كتابنا: الإسلاميون ومراكز الأبحاث الأمريكية، مرجع سابق.

 

[33]                بلال التليدي، الإسلاميون ومراكز البحث الأمريكية، مرجع سابق، ص 247-256.

 

[34]                المرجع نفسه، ص 256-258.

 

[35]                مارينا أوتاواي، "دعم الديمقراطية في الشرق الأوسط استعادة المصداقية"، معهد كارنيجي للسلام الدولي، بتاريخ يونيو 2008، الرابط:https://bit.ly/2mNIIvx

 

[36]                نقصد بذلك كتابنا، الإسلاميون ومراكز البحث الأمريكية.

 

[37]                في ورقتي معهد كارنيجي: "الحركات الإسلامية والعملية الديمقراطية في العالم العربي: استكشاف المناطق الرمادية" 2006، و"التساؤلات التي ينبغي على الحركات الإسلامية الإجابة عنها: جماعة الإخوان المسلمون نموذجًا" 2007، ثمة بسط مفصل للتخوفات التي أبدتها هذه الأطروحة، فعلى الرغم من إقرارها بوجود تحول مهم في العقل السياسي الحركي تجاه الديمقراطية وقواعدها، فإنها أكدت الكثير من التوجسات التي تخص حضور البعد المرجعي لدى الحركات الإسلامية ونزوعها نحو تطبيق الشريعة. انظر: الإسلاميون ومراكز البحث الأمريكية، مرجع سابق، ص 114 و ص 128.

 

[38]                يقصد بها موقفهم من الشريعة، والعنف، والتعددية، والحقوق المدنية والسياسية، وحقوق المرأة، وحقوق الأقليات. الديمقراطية والحريات، تراجع ورقة كارنيجي: "الحركات الإسلامية والعملية الديمقراطية استكشاف المناطق الرمادية".

 

[39]                لا تحدد هذه الأطروحة الضوابط والمعايير أو الحالات التي يتم فيها الانتقال من أطروحة التحول السياسي إلى أطروحة الأمن والاستقرار، بل يترك ذلك لصناع القرار السياسي الغربي يتولون أمره. وهو ما يجعل الأطروحة فاقدة لأسس موضوعية متينة، بل يجعلها في نهاية المطاف خادمة للقرار السياسي أكثر من خدمتها لمواقع معرفية في التعاطي مع الإسلاميين.

 

[40]                النموذج التونسي.

 

[41]                النموذج الأردني والمغربي والكويتي.

 

[42]                بلال التليدي، الإسلاميون والربيع العربي، مرجع سابق، ص 145-253.

 

[43]                المرجع السابق.

 

[44]                فتحي ليسير، دولة الهواة، سنتان من حكم الترويكا في تونس، تونس: دار محمد علي للنشر، 2016، ص 418-419.

 

[45]                في خضم الحراك الديمقراطي الذي أطلقته حركة 20 فبراير، خطب عبد الإله بنكيران في الجمهور وطالب الملك بإبعاد بعض مقربيه عن مربع القرار السياسي، معللًا ذلك بوقوفهم ضد مصالح الشعب، وذكر منهم مستشاره الوزير المنتدب السابق في الداخلية ومؤسس حزب الأصالة والمعاصرة السيد فؤاد عالي الهمة. انظر الرابط: https://www.youtube.com/watch?v=HnvUjF5PjqI

 

[46]                بلال التليدي، الإسلاميون والربيع العربي، مرجع سابق، ص34-35.

 

[47]                المرجع نفسه، ص27-28.

 

[48]                كانت لندن موطن لجوء غالبية نخبهم وكانوا يجعلون منها منطلقًا لفعلهم المعارض فضلاً عن تعبيراتهم الإعلامية.

 

[49]                بلال التليدي، الإسلاميون والربيع العربي، مرجع سابق، ص 36-42.

 

[50]                بلال التليدي، مراجعات الحركات الإسلامية المغربية، مرجع سابق، ص 107.

 

[51]                سيف الدين عبد الفتاح، "الثورة والتوازن المفقود: النقد الذاتي" عربي 21 نشر بتاريخ 19 يوينو 2018، على الرابط: https://arabi21.com/story/1102677/18

 

[52]                كانت هذه هي المقاربة التفسيرية التي تبناها مبارك صالح الجري في كتابه تحولات الإسلام السياسي حركة النهضة نموذجا، مرجع سابق.

 

[53]                أنتج حزب العدالة والتنمية في المؤتمر الوطني السابع أطروحة جديدة، أطلق عليها شراكة فعالة في البناء الديمقراطي، الرباط: منشورات حزب العدالة والتنمية، 2012.

 

[54]                بلال التليدي، الزلزال السياسي: ديناميات السياسة قبل وبعد السابع من أكتوبر، الرباط: عقول الثقافة للنشر والتوزيع، 2018، ص 212-219.

 

[55]                المرجع السابق، ص 278-279.

 

[56]                بلال التليدي، الإسلاميون والربيع العربي، مرجع سابق، ص145-152.

 

[57]                وليد الطيب، مراجعات الحركة الإسلامية السودانية، القاهرة: مكتبة مدبولي، 2009، ص85-87.

 

[58]                أعلن ولي العهد السعودي محمد بن سلمان عن هذه العقيدة في تصريح مباشر، الثلاثاء 24 أكتوبر 2017: إن بلاده ستعود إلى الإسلام الوسطي المعتدل، متوعدًا بتدمير من وصفهم بـ "أصحاب الأفكار المتطرفة". وقال في المنتدى الدولي للاستثمار الذي تقيمه الرياض: إن السعودية ستعيش حياة طبيعية، مشددًا على أنه لن يسمح بأن تضيع ثلاثين سنة مقبلة من حياة الشعب بسبب "الأفكار المتطرفة". انظر صحيفة عكاظ: https://www.okaz.com.sa/article/1583478

 

[59]                مقابلة خاصة أجراها الكاتب مع أحد قيادات الإخوان في ليبيا بتاريخ 26 أغسطس 2019، طنجة.

 

[60]                يوسف أحمد، "صفقة القرن: توحد ملك الأردن والإخوان لأنها تهديد وجودي للمملكة"، مجلة المجتمع، 19 أبريل 2019، على الرابط: https://bit.ly/2mJPz96

 

[61]                مبارك صالح الجري، "التيارات الإسلامية بالكويت بعد الربيع العربي..."، مرجع سابق.

 

[62]                سيف الدين عبد الفتاح، "الإخوان بين فجوتين: فجوة الأفكار وفجوة الأجيال. النقد الذاتي" موقع عربي 21، منشور بتاريخ 13 نوفمبر 2018 على الرابط:

 https://arabi21.com/story/1137111/-40

 

[63]                سيف الدين عبد الفتاح، "أيها التنظيم رفقًا بالشباب: النقد الذاتي"، موقع عربي 21، نشر بتاريخ 19 ديسمبر 2018، على الرابط:

https://arabi21.com/story/1145953/-45

 

[64]                بلال التليدي، "هل تقسم فرنسة التعليم في المغرب الإسلاميين؟"، موقع عربي 21، نشر بتاريخ فاتح أغسطس 2019 على الرابط:

https://arabi21.com/story/1198269/

 

[65]                بلال التليدي، الإسلاميون ما بعد الربيع العربي، مرجع سابق، ص184.

 

[66]                بلال التليدي، الزلزال السياسي، مرجع سابق، ص278.

 

أواصر - مجلة فكرية فصلية

www.awasr.com