حرب تحيي ولا تميت: إفادة الحرب للحوثيين

رياض المسيبلي

حرب تحيي ولا تميت: إفادة الحرب للحوثيين

لا أتذكر أين قرأت مرة بأن دولة الكيان الصهيوني لا تستطيع البقاء في فترات السلم؛ إذ أن مكونات المجتمع اليهودي المحتل ستتصارع فيما بينها لأسباب عديدة منها الانتماء الطائفي والإيديولوجي وغير ذلك. ثمة أفكار وجماعات كثيرة لا تصعد أو تبقى حية إلا في أوقات الحروب. ولعل المثال الحوثي في اليمن من أفضل الأمثلة على هذه المفارقة الصارخة.

إن الصعود الحوثي الأخير، وسرعة انتشاره السريع وسيطرته على كثير من مناطق اليمن، كان مفاجئا لكثير من مراقبي الوضع اليمني بعد ثورة 2011. ما الذي مكّن عصابة متطرفة، كجماعة الحوثيين، ليس لديها أية خطة واضحة لبناء دولة أو تصورها، تتشبث بأفكار تحمل عنصرية العرق والإقصاء، ما الذي جعل جماعة كهذه تخضع بلدا مليئا بالأسلحة والقبائل والإيديولوجيات؟ يمكن الجواب على هذا التساؤل إذا قرأنا الحرب كأعظم ما خدم الحوثيين ويخدمهم. فالحوثي حريص على فتح أكثر من جبهة؛ سواء كانت خارجية أو داخلية، لتبقى سيطرته بعيدا عن المساءلة لدى أتباعه، وأبعد عن المقاومة لدى خصومه.

كان تأسيس جماعة "أنصار الله"، كما يحلو لأتباع الحوثي تسمية جماعتهم، وسيلة استخدمها علي عبد الله صالح لضرب الإصلاح في اليمن أولا، وإضعاف "حزب الحق" ذي الانتماء الزيدي الصريح ثانياً. ثم علا اسم الجماعة أثناء الحروب الست التي خاضها نظام علي عبد الله ضدهم في العقد الماضي، وهنا قدمت هذه الحروب حملة دعائية مجانية للجماعة كان ظاهرها التشويه ولكنها قدمت للحوثيين فرصة ثمينة لحشد الأنصار. فحقيقة أن خصم الحوثيين، النظام الحاكم السابق في اليمن، من أكثر الأنظمة التي حكمت اليمن في تاريخه المعاصر فساداً، وكذلك ما أشيع في أوساط اليمنيين بأن علي عبد الله صالح كان يتخذ الحروب ضد الحوثيين مطية للتخلص من الرجل القوي علي محسن الأحمر، ومن ثم التمهيد لتوريث الحكم لابنه، كل ذلك لم يكن مجديا في قطع السبل على الحوثيين لاستجلاب الأنصار وتحشيد الأتباع لجماعتهم.

كانت إيديولوجية الحوثيين غريبة على الوسط الزيدي الذي خرجوا منه، وأكثر غرابة وشذوذاً على الوسط السني في اليمن. وبعيدا عن أهداف المصلحة التي تجعل من البعض محالفا لهذا الفصيل أو ذاك، فإن أجواء الصراع جعلت من بعض الزيدية ينسون خلافاتهم الفكرية مع الحوثيين ليصبحوا من مشايعي الأخيرين، كما رأينا ذلك بعد انقلاب الحوثي سنة 2014 مع أسماء مثل الراحل المرتضى زيد المحطوري وغيره. وجرّاء أوهام إحياء ملك قد اندثر أو مكانة بادت، سارع كثير من الهاشميين في اليمن للانضمام إلى المد الحوثي الأخير ومناصرته. إذن، ليس هناك أفضل من أجواء التوتر والاحتراب لضم أولئك المختلفين أو المتنافرين المتصلين ببعضهم، إذا كان ثمة اتصال، بصلة واهنة وصفّهم جميعا في معسكر واحد.

وفي 2015 انطلقت ما سمي بـ"عاصفة الحزم" لتهدي للحوثيين خطابا متلبسا بالوطنية وصد العدوان الوهابي كما يحرص الإعلام الحوثي على تسمية وتصوير عمليات قوات التحالف التي شنت هجماتها على الجماعة. وهنا انضم للخطاب الحوثي مجموعة من "الليبروحوثيين"، أولئك الذين لا يرون الإرهاب والتطرف إلا إذا كان منبعه سنّيّاً. كل هذه الجماعات التي شايعت الحوثي إبان الحرب حشدتها القلاقل إلى صفّه، وما إن تنتهي الفتنة التي جمعت هؤلاء فلن يكون هناك ما يغري بالاتصال بالحوثي والتحالف معه؛ فالمصلحة ولاء من لا ولاء له.

 

الحرب حالة جنون صرف؛ ينزوي أثناءها العقل وتعلو أصوات الدفاع وحماية الذات ومشاعر الحماس الأجوف. حينها تتسلل أفكار لا يمكن أن تقوى على النهوض في أوقات السلم. ولو تتبع أحد تاريخ أفكار الهرطقات والتطرف وغيرها من ألوان العقائد الشاذة لوجدها تعلو في الأزمنة المضطربة؛ يرى قارئ التاريخ الإسلامي ذلك-مثلاً-في ما تلى الفتن نهاية حكم الراشدين من ظهور الفرق حينها، ونراه اليوم في هذه المجموعات الجنونية التي عصفت بعالمنا العربي والإسلامي.  وأفكار الحوثي لا تستطيع البقاء اليوم؛ ففكرة حصر الحكم في نسل الحسن والحسين فكرة تجاوزها المجتمع اليمني بمراحل بعد إنهاء الحكم الإمامي. ثم إن هذا زمن كثر فيه الطامعون والطامحون، وليس من اليسير قبول مثل هذه الأفكار التي تمنع الراغب في الحكم من الوصول إليه. وكذا فإنّ تصور الحوثيين لمفهوم الدولة إنما يستقيه من التاريخ المديد لحكم الأئمة الزيدية لليمن الذي طال أكثر من ألف عام؛ يتضح ذلك في أعمال الحوثي في المناطق السنية التي دخلتها قواته. فهدْمه المنازل، وقتل أو سجن كل من يعارضه ولو اشتباهاً، وغيرها من التصرفات التي لا تدل على تصور للدولة كمظلة واسعة لكافة أطياف الشعب اليمني، كل ذلك ليس سوى تطبيق حوثي لتاريخ الحكم الزيدي في اليمن. ويبدو أن كل فاقدي الحلول لليمن قدموا له الحرب بديلاً؛ ليبقى هذا البلد موطنا للخراب إلى حين، ويبقى الحوثي راية يحاصر ويدمر اليمن باسم محاربته، وتستفيد هذه العصابة من هذه الحرب ما دام أوارها لم ينطفئ. ليس لدى الحوثي ما يقدمه في أوقات الاستقرار، والحرب مهما طالت فهي طارئة، واليمن يعرف في تاريخه القريب أمثلة عديدة على جنون الحروب الأهلية، التي طال بعضها لسنوات ثم سرعان ما انطفأت وذهب موقدوها إلى مجاهل التاريخ.

 

أواصر - مجلة فكرية فصلية

www.awasr.com