سياسات الضيافة: الديمقراطية، الآخر وسرير بروكست

رشيد بوطيب

  • التصنيفات: دراسات عربية -
سياسات الضيافة: الديمقراطية، الآخر وسرير بروكست

  

"لا ينهار البيت إلا من الداخل. إن المنافحين عن العرش وعن المذبح هم الذين مرغوا العرش بالتراب وفعلوا -قدر المستطاع- الشيء نفسه بالمذبح".

بيغي

"إن القيمة التي تمثلها إمكانية الانفتاح على الآخر بالنسبة لجوهر البيت، لا تقل عن تلك التي تمثلها الأبواب والنوافذ الموصدة".

ليفيناس

"فعل الضيافة لا يمكنه إلا أن يكون شعرياً".

جاك دريدا

(1)

لم الضيافة؟ وهل من الضيافة أن نقولها في لغة فلسفية، تظل في أغلب الأحيان لغة غير مضيافة؟ إن الضيافة بوصفها آخر للتفكير (penser que Autrement) يمر عبر تفكيك الديمقراطية وفكرة المواطنة. وحسب دريدا، لا يمكننا النظر إلى الضيافة بوصفها موضوعاً أخلاقيّاً فحسب، بل إنها الأخلاق ذاتها. إن دريدا يميز بين ضيافة مشروطة، تلك المرتبطة بالسلطة والسياسة، ولما نقول السياسة، نقول العقل والسيادة، الموضوعة مسبقاً عبر قوانين وشروط موضوعة مسبقاً، تقوم بانتقاء ضيوفها. لكن أليس الانتقاء جوهر السياسة ذاته؟ إنها ضيافة أو بالأحرى سياسة لا تقبل الآخر كما هو، ولكن كما يتوجب عليه أن يكون. وعلى النقيض من عمل العقل الذي يقوم على منطق الشبيه، يتحدث دريدا عن ضيافة غير مشروطة، تتجاوز القواعد الموضوعة من طرف السياسة والسلطة، فأن تكون مضيافاً يعني أن تقاوم إغراء بروكست[1]. فهنا، الآخر هو الذي يأتي وغالباً دون أن يضرب موعداً، لكنه من يختار، من اختارني ومن أحبط تجلي وجهه المنطق الانتقائي للسيادة. إن الضيافة، في هذا المعنى، هبة الآخر، قادمة منه، غيرية لا نهائية؛ لأنها تتحقق خارج منطق الهوية بل خارج منطق الاعتراف. يكتب دريدا في لغة ليفيناسية: "إما أن تكون الضيافة لا نهائية أو لا تكون. إنها متفقة مع استقبال فكرة اللانهائي، أي اللامشروط"[2]. إن الضيافة، في هذا المعنى، متمردة على كل شكل من أشكال الهوية أو الانتماء. فهي لقاء، تجربة وخروج من الذات وعليها. يقول سارتر: "إننا نلتقي الآخر ولا نكونه". لكنه يقول -من حيث لا يدرك- ضد فلسفته ذاتها، التي لم تفكر في الآخر إلا في إطار الكوجيطو. الكوجيطو، هو حرية مطلقة ونظرة تشييئية. يفرق الفيلسوف الألماني آكسيل هونيث بين ثلاثة تصورات للحرية: السلبية، والتفكرية والاجتماعية. إن الأب الفلسفي للحرية السلبية هو بلا شك توماس هوبز، الذي يفهم الحرية الإنسانية غياباً لكل ما يمكن أن يحددها، وبتعبير آخر يراها كحرية حرة من كل مسؤولية. وبالنسبة لهونيث، فإن سارتر، الذي يستحضر هذا التصور في سياق غير سياسي فلسفي لكنه سياقي أنطولوجي، يمثل ردكلة (من الراديكالي) لمفهوم هوبز عن الحرية[3]. لكن حريتي - كما كتب ليفيناس- "لا تملك الكلمة الفصل، فأنا لا أعيش وحيداً"[4]. وذات الضيافة، إن أمكن الحديث عن ذات في الضيافة هي منزوعة الملكية، خارج بيتها، أو "بلا هوية" كما يقول ليفيناس، مقتفياً خطى بليز باسكال الذي كان يجد في "مكاني تحت الشمس.. بداية وصورة الفساد في الأرض"[5].

(2)

سأقول نعم لنقد هذه الضيافة السياسية غير المضيافة ورفضها وتخريبها، ما دامت ضيافة تمارس عنفاً على الآخر وتصر على الانقضاض على غيريته. إننا مدعوون في هذا السياق إلى التفكير في علمنة للعلمنة، وهو تفكير يمر عبر تحريرها من كل منطق هوياتي ــ أمني. يتحدث إتيان باليبار في سياق قريب، عن "دمقرطة للديمقراطية"[6]، دمقرطة لا محيد عنها أمام علمنة متعصبة لا تتأخر في حظر ما لا تستطيع تبشيره وترحيله أو هضمه.

نقف في هذا السياق أمام منطق أيديولوجي، يرى في العلمنة مبدأ مؤسساً للهوية السياسية والثقافية الجمعية، متناسياً في هذيانه الديماغوجي أن القانون خلق، كما يقول روزنتسفايغ في نجمته من أجل خدمة الإنسان وليس ليخدمه الإنسان. إذن، كلما قل المهاجرون، كان الوضع أفضل! هذا ما يقوله لسان حال المونوديمقراطيات الغربية. لكن ماذا عن الضيافة غير المشروطة؟ وكيف علينا أن نتصرف إزاء هؤلاء الضيوف الذين يستغلون الضيافة والذين لا يحترمون "استحالتها"، والذين يشيدون في بلاد الآخرين سلطتهم الخاصة بهم أو سياستهم وانتماءهم؟ هل يمكن بعد كل ذلك أن نعد(هم) ضيوفاً؟ إن هذا الانفتاح على ما لا يمكن حسابه في الضيافة غير المشروطة، فعل التحية السابق على الكوجيطو، لا يريد أن يقول بتبني سياسة جديدة ضد السياسة القائمة للأغلبية أو التشريع لانتماء مغلق. ولهذا أرى بأن الوقت قد حان للعمل من أجل ضيافة أسميها بالحوارية، على ألا نفهم الحوار هنا كمجرد خاصية عرضية للذات، بل هويتها ذاتها ونواة تضامن نقدي، يقول نعم، "نعم غير مشروطة"[7]لغيرية الآخر دون أدنى محاولة لصهره، لكنه يقول نعم لغيرية لا تخل باحترامنا لها ولا تبحث عن انتماء. يقول غابرييل مارسيل: "أنا لا أنتمي إلى ذاتي". إن الضيافة في هذا المعنى هبة اللقاء، لقاء يتحقق فيما وراء المعايير والقواعد السياسية، يقول بمسؤولية مشتركة، فهو لقاء لا يأتي من الآخر فقط وليس نتيجة سياسة ذاتية، لذات معطاة مسبقاً، تكون العالم وتنحو إلى تدجين غيريته، ولا ترى في الآخر سوى تأكيد للذات. وفي لغة أكثر من دريدية، إن الضيافة هي لا غرو ما وراء القرار، القرار بوصفه سياسة وسلطة، لكنها "مستحيلة" بشكل مضعف.

(3)

ينافح ليفيناس حسب دريدا عن تصور مبتكر وجذري للضيافة، يرفض ربطها بهوية معينة أو بكل حضور داخل الذات. إن الذات يجب أن تفهم بوصفها ضيافةً للآخر، ضيافة لا نهائية في غيريتها، بما أن ذات الضيافة، إذا صح الحديث عن ذات في هذا السياق، هي في الآن نفسه وكما بين دريدا "في ضيافة هذا الذي تستضيفه"، وهو ما يعني أيضاً تجاوزا لفكرة الحرية. يقول ليفيناس: "فأن تستضيف الآخر، يعني أن تضع حريتك موضع سؤال"[8]. إن فلسفته تدشن نقداً جذريّاً لمفهوم الحرية السلبية في الفلسفة المعاصرة. ومن أجل فهم القطيعة التي يؤسس لها ليفيناس، يتوجب علينا الانتباه إلى تفكيكه لمنطق الكلية والشبيه، وخصوصاً عند فلاسفة كهوسرل وهايدغر وسارتر. إن المعجم الهوسرلياني يفضح هذه الأنوية المركزية لكل فلسفة تبحث عن تكوين الآخر في عالم الأنا. وحتى لا نقدم إلا مثالاً واحداً، أستحضر هنا التأمل الخامس من تأملاته الديكارتية والذي يتحدث فيه هوسرل عن سؤال الآخر، وحيث العلاقة مع الآخر لا تتحقق إلا بوصفه تكويناً. هذا التكوين الذي يمثل في جوهره "فرضاً" لمعنى (Sinnstifung)، أو كما كتب ليفيناس منتقداً: "إن أطروحة هوسرل عن أولوية الفعل المموضع (..) تقود إلى الفلسفة الترنسندنتالية، إلى تأكيد أن موضوع الوعي -هذا الموضوع المختلف عن الوعي- هو تقريباً نتاج للوعي بوصفه معنى معطى من طرفه، ونتيجة لـ(Sinngebung)[9]. لكن "الوجود من أجل الموت" الهايدغري يفضح أكثر من الوعي المكون للعالم الاستقالة الأخلاقية للفلسفة المعاصرة، فموت الآخر في هذا السياق ليس فقط ثانوياً، بل يخفي إلى جانب ذلك المعنى "الحقيقي" أو على الأقل المعنى "الأخلاقي" للموت. إن الموت بوصفه نهائية للدازاين يقول هايدغر، هو إمكانية بالغة الخصوصية (Eigenste)، لا ارتباط لها بشيء (Unbezuegliche) ولا يمكن تخطيها (Unueberholbare)[10]. إن كلمة (Eigenste) مشتقة من الجذر (Eigen) والذي يقول التملك والهيمنة. إن الدازاين هو الذي يمتلك ويسيطر على موته. وفي لغة أخرى، فإن الطريق إلى تلك الأصالة المنشودة تمر عبر فعل التملك. إن الموت الهايدغري، هذا الموت الذي أراده بطولياً، يدخل في مجال الملكية (Avoir). أما النعت الثاني للموت بأنه لا ارتباط له بشيء، فإنه يعبر عن الوجه الأنوي لهذا الموت.

إن الموت في نظر هايدغر فردية صارمة، ولا يمكن اقتسام تجربة الموت مع الآخرين، إنها تجربة منعزلة، وهي التي تتضمن المصدر ذاته للأصالة وليس علاقتي بالآخرين وهو ما يرفضه ليفيناس مثلاً، مؤكداً أن موت الآخر يؤثر عليّ في هويتي ذاتها كإنسان مسؤول، بل إنني أمام موت الآخر أشعر بالذنب[11]. أما تصور هايدغر للموت بوصفه إمكانية لا يمكن تخطيها، فهي النتيجة المنطقية لهذه القراءة الأنوية للموت، الأحادية للزمان. حيث لا يمكننا في هذا المعنى تخطي موتنا، وهو ما يعني خصوصاً أن ما وراء الموت، موت الدازاين يظل في فلسفة هايدغر محض تكهنات. وعلاوة على نقده لثانوية موت الآخر، يرفض ليفيناس التفكير في الزمان بوصفه تحديداً للكينونة، إنه يفهمه كعلاقة مع اللانهائي، وبلغة أخرى أكثر وضوحاً: الكينونة حياة أقتسمها مع الآخرين، فمن يقول اللانهائي يقول الآخر. إن الضيافة الليفيناسية يتوجب فهمها، وإذا استعملنا لغة موريس بلانشو، بصفتها "ذاتية بلا ذات"[12]، مستعصية على كل سلطة وكل فكر معطى، أو إذا أردنا استعمال مفردات ليفيناس: بصفتها سلبية وإنابة. بل إن الإله نفسه وفقاً لهذا التصور نعيشه كضيافةً، ضيافةً لا نهائية، قادمة، قد نسميها لا سياسية بلغة روبرتو إيسبوزيتو.

(4)

ولكن قبل ليفيناس، الذي يمكن رؤية عمله الفلسفي بحثاً كبيراً حول الضيافة[13]، فإن كانط أول فيلسوف معاصر انبرى لمعالجة هذه القضية. يؤكد فيلسوف كونيغسبيرغ أن الضيافة لا تدخل في باب الأعمال الخيرية بل ترتبط بالحق، حق الغريب عند وصوله إلى أراضي دولة أخرى في ألا يعامل بوصفه عدواً[14]. وهنا يكمن الإنجاز الكبير للخطاب الكانطي حول الضيافة. أما أن يمتلك الغريب حقّاً في الزيارة فقط دون أن يمكنه المطالبة بحق الإقامة، فإنه يظل تفصيلاً يتجاوزه كانط في شكل غير مباشر وهو يدافع عن مواطنة عالمية. ويتوجب في هذا السياق أن نفهم إدانته لما يسميه بالسلوك غير المضياف للدول المستعمرة. إن تصوره للضيافة بوصفها حقاً في الزيارة، يجدر بنا قراءته في سياق إدانته للاستعمار. فرغبة منه في الدفاع عن الآخر أمام هذه الدول التي تزعم التحضر، والتي لم تر في هذا الآخر وأرضه سوى فريسة، هو ما جعله يتحدث عن حق للزيارة وليس للإقامة، وهو ما لم تنتبه إليه القراءات السياسية لهذا الكتاب؛ لأنها درجت على قراءته في انفصال عن المشروع الأخلاقي الكانطي.

إن كانط ليس جون راولز الذي يدافع عن فهم قومي للشعب والذي يتصوره كلا متلاحماً. وهو لا يرى مع راولز في الغرباء خطراً على الثقافة السياسية للشعب. ومن يقول خطراً يقول عدواً. ومن حق شيلا بن حبيب أن تؤكد أن المشكلة عند راولز تكمن في دفاعه عن المجتمع السياسي وهو"نظام كامل ومغلق"[15]. فبالنسبة لشيلا بن حبيب فإن إغلاق الأبواب في وجه الأجانب يخدم أيضاً السلطة التقليدية القائمة وتدجينها للمعارضة المحلية. فالديموس بالنسبة لها ليس الإثنوس، والشعب ليس معطى نهائيّاً ومغلقاً. أما راولز فهو يخلط بين الديموس والإثنوس وينظر إلى الأفراد بأنهم "أعضاء في شعب وليسوا مواطنين كوسموبوليتيين"[16]. لكن هل من الضروري أن ندافع عما تسميه بن حبيب حق كل شخص في الإنتماء إلى دولة؟ وبلغة أخرى أليس منطق الانتماء ذاته هو الذي يتوجب علينا تجاوزه؟ أو بعبارة أخرى، أليس هناك مواطنة فيما وراء الانتماء وفيما وراء المواطنة كما درجنا على فهمها حتى اليوم؟[17] فكل سياسة للضيافة تفهمها أنها عملية انتقاء لا يمكنها أن تسهم في تحقق هذه المواطنة العالمية. فالانتماء الذي يفهم غالباً بوصفه الخير السياسي الأسمى، يظل مرتبطاً بمنطق الاندماج. وحتى دمقرطة الانتماء تريد لنفسها أن تكون سياسية ومنفصلة عن الهوية، تتأسس على أخلاقيات النقاش وليس على فرضية هوية قومية، لا يمكنها أن تقبل في نهاية المطاف الحياة المشتركة أو بالأحرى الحياة بشكل آخر مع الآخر المطلق دون نشدان إدماجه القسري بنظام الأنا. وكما عبر عن ذلك دريدا، فإن سياسة كل جماعة ثقافية أو لغوية تقوم غالباً على خيانة مبدأ الضيافة المطلقة، من أجل حماية الملكية والخصوصية[18].

وإذا كان راولز ينظر إلى المجتمع الديمقراطي بوصفه نظاماً مغلقاً، تكمن مصلحته في إيصاد أبوابه أمام الغرباء من أجل حماية ثقافته السياسية والقانونية ومبادئه الدستورية، كما لو أن الغرباء فئران تهدد بقضم مسودة الدستور، فإن دريدا يجد فكرة "الباب" في حد ذاتها معادية للديمقراطية، تعين دائماً حدوداً وعبر ذلك انتماء وسيادة. يقول المثل الفرنسي: "أغلق الباب، لترحل الشياطين". وفي هذا السياق أيضاً أجد نفسي مضطراً لأن أعرج على هابرماس وكتابه (Die Einbeziehung des Anderen) الصادر عام 1999، هابرماس الذي درجت الأدبيات الفلسفية على جعله أحد ورثة كانط وورثة فكره الكوسموبوليتي.

سأبدأ بمناقشته لفلسفة كارل شميث، الذي ظل يرى الانسجام القومي شرطاً لا محيد عنه بالنسبة لكل ممارسة ديمقراطية للسلطة السياسية. في كتابه (Verfassungslehre)، ينافح شميث عن دولة ديمقراطية تجد في القواسم القومية المشتركة لمواطنيها شرط الديمقراطية نفسه. إنها تتوافق عبر ذلك مع ما نسميه بمبدأ الجنسية، والذي عبره تؤسس أمة دولة. إن الديمقراطية بهذا المعنى لا يمكنها أن تتحقق إلا بكونها ديمقراطية قومية. إن شميث كما يلاحظ هابرماس لا يفهم الديمقراطية تواصلاً بينذاتياً بين مواطنين أحرار ومتساوين. إنه يشيئها وينزل بها إلى القواسم المشتركة لأبناء الوطن الواحد. ففي هذه الديمقراطية لسنا متساوين إلا لأننا ننتمي إلى الأصل القومي نفسه. إن منطق الانتماء لدى شميث هو من يصنع الديمقراطية. ولهذا السبب يرى أن المفهوم الأساسي للديمقراطية هو الشعب وليس الإنسانية. ينتقد هابرماس موقف شميت مؤكداً أن الديمقراطية أو الإرادة المبنية ديمقراطياً تسمح باتفاق معياري معقول حتى بين أجانب. إن الديمقراطية لا ترتبط البتة بالانسجام الثقافي وليس لها طابع قومي، يظل في أغلب الأحيان مصدراً للتجاوزات العنصرية.

وحتى نعود إلى كانط، فإن كوسموبوليته لا تتحدد بنظرية للدولة. إنه وعلى النقيض من كارل شميث لا يفهم السياسة كعمل عدائي ولا الآخر، الغريب، كغيرية تهدد نظام الأنا، ولكن يراه شخصاً يتمتع بحقوق تجد مصدرها في وضعه بصفته مواطناً في العالم. لكن شميث يرفض أن يمنح للآخر مكاناً داخل ديمقراطيته. فبالنسبة له: "من يقول الإنسانية يطلب الخديعة". يرى هابرماس في مناقشته للجمعياتية أن أي نظرية للحقوق مفهومة بشكل صحيح لن تكون عمياء أمام الاختلافات الثقافية. إنها ستتطلب سياسة للاعتراف لا تحمي فقط الحقوق السياسية للفرد ولكن أيضاً هويته. لكن هابرماس يؤكد في الآن نفسه أن كل ثقافة تطلب الاستمرارية مضطرة للتحول. وهو ما يتضمن مجهوداً للانفتاح على الثقافات الأخرى وبلغة أخرى: فعل الضيافة. بل حتى ثقافة الأغلبية مضطرة، من أجل الحفاظ على حركيتها، يقول هابرماس "أن تعيد النظر بمقدماتها، تبحث عن بدائل أو تدمج عناصر أجنبية. إنه أمر ضروري خصوصاً بالنسبة للثقافات التي تنحدر من الهجرة والتي عليها أن تعيد بناء ذاتها في نهاية المطاف بعيداً عن انتمائها الأصلي وعن سياسة الصهر الثقافي"[19].

إن الرؤية الأصولية إلى العالم لن تجد لها مكاناً في مجتمع متعدد الثقافات؛ لأنها تقوم على الإقصاء وليس على الاعتراف المتبادل، وفي هذا السياق نفسه يمكن في رأيي الحديث أيضاً عن ثقافات مضيافة وأخرى غير مضيافة. فهناك حيث تسود ثقافة نقدية لا تتورع عن انتقاد "مسلماتها"، يمكننا الحديث عن الضيافة. فالطريق إلى الآخر تتضمن خروجاً نقديّاً من الذات وعليها. لكن، بالعودة إلى هابرماس، فإنني أرى أنه ليس من الصعب علينا أن نلاحظ كيف أنه ينطلق بأفكاره في اتجاه أقل مضيافية. إنه يفرق بين مستويين للصهر الثقافي: الأول يطالب الأجنبي باحترام الثقافة السياسية للبلد المضيف، والثاني يطلب -علاوة على ذلك- صهر الأجانب ثقافيّاً، وهو ما يرفضه هابرماس بشدة، لكنه يدافع عن المستوى الأول. ورب سائل يسأل: هل هناك من ثقافة سياسية مغلقة ونهائية؟ يتحدث هابرماس عن الثقافة السياسية بوصفها شيئاً مطلقاً، ويغفل أنه من حق هذا الأجنبي أن يشاركني أيضاً في صياغة هذه الثقافة، أن يفكر فيها بشكل مختلف، أن ينتقدها أيضاً ويوسع من أفقها، بما أن علينا أن نفهم الديمقراطية باعتبارها نصّاً مفتوحاً ولا نهائيّاً، في حركة مستمرة، وهذا دريدا يتحدث عن ديمقراطية قادمة. ثم هل يمكننا أن ننكر أن حضور الإسلام في أوروبا، رغم سوء الفهم الكبير والأحكام المسبقة المنتشرة حول هذا الدين ورغم الفهم الضيق له في بعض أوساط المهاجرين، ساهم فيما أضحت الأدبيات الغربية تسميه بعودة الأديان، ودفع أوروبا إلى التساؤل عن هوياتها ومراجعة رؤيتها إلى الآخر، بل وإلى إعادة النظر في أحكامها المسبقة؟ إن الضيافة لقاء غير مشروط، وبلغة أخرى لقاء منفتح على النقد المزدوج، أكثر منها إدماج للآخر. ولهذا يظل التصور الهابرماسي أبوياً. ولا يمكنني في هذا السياق إلا أن أؤكد ما ذهب إليه الباحث الفرنسي إيف كاسي عن التصور الهابرماسي للضيافة، معتقداً أن الآخر عند هابرماس يتم النظر إليه دائماً انطلاقاً من وجهة نظر داخلية وإدماجية لجماعة معطاة، عبر السؤال السياسي - المعياري للاندماج وليس غيريةً تخترق هذه الجماعة من داخلها وتؤثر في علاقتها بذاتها أو هويتها، مندهشاً من عدم وجود تفكير حول الحق في الضيافة الكونية لدى هابرماس[20].

ينتقد دريدا في كتابه عن الضيافة التصور الأبوي للضيافة، بل لربما لا يمكننا أن نفهم تفكيكيته إلا كنوع من التمرد ضد سلطة الأب، التي تؤبد منطق الانتماء. إننا نشعر دائماً بنوع من الغبن في بيت الأب. وهذا أمر نعرفه منذ كافكا، لأن بيت الأب يرغمنا على التحالف مع ماض معين، وهو تحالف يرفض كل شكل من أشكال الغيرية والتجاوز. الأب كسياسة للاسم الشخصي، اسم السلالة والأصل، سلطة تريد نفسها مطلقة، فكرة المكان المقدس، والمغلق أمام الغريب واللانهائي. إن "تحولات" كافكا تصف إحساس الابن الغريب في بيت الأسرة. بيت الأب، أو بالأحرى إن الضيافة الأبوية ترغم الابن على استبطان ثقافة الأسرة، وعلى إعادة إنتاج الأب، وعلى إنكار بعد الزمن. وما هي الضيافة إن لم تكن هذا الزمن الذي أقتسمه مع الآخرين؟ يكتب كافكا: "بت أقلد والدي مثل قرد"[21].

(5)

إن كل ديمقراطية تنزع إلى استقبال الأجانب على سرير بروكست، وتريد أن يكون لهم الهوية نفسها واللغة ذاتها وطريقة الحياة السائدة، هي لا ريب ديمقراطية غير مضيافة، نشهد فيها ما يمكن أن نصطلح عليه بـ(Procustiation) للآخر. وعبر هذا التعبير لا أريد أن أقول شيئاً آخر غير رفض لغته. فلا شيء يزعج وهم اكتمال الذات ومركزيتها سوى جرس اللغة الأجنبية. إن اللغة هي من تصنع منا غرباء.. إنها الغربة ذاتها. لكن الغريب ليس دائماً ذلك الشخص القادم من بلاد غريبة أو الذي ينتمي إلى ثقافة أخرى، وإلا ماذا سنقول عن سقراط، المعروف من الجميع بأنه مواطن أثيني، يقف أمام المحكمة ويقول: "إنني غريب بشكل مطلق عن طريقة كلامكم هنا". لقد طالب في مرافعته القضاة بأن "يتركوا له حرية استعمال أسلوبه وطرق كلامه"[22]. ألا يدفعنا هذا للقول إنه لا يمكننا اختزال الغريب في لغة قومية أو ثقافة أو قومية، وأنه لا ينتمي إلى أرض، وهو الذي تعود على أن تكون له أكثر من سماء. إنه يمثل نقضاً لوثنية المكان وللوغوس الأبوي، ولكن خصوصاً للأحادية اللغوية. لكن منطق بروكست لا يتوقف عند هذا الحد، فهناك أيضاً، وفي ظل المونوديمقراطيات الغربية، رفض قطعي لأن يتكلم الآخر لغتي. إن الشاعر الايطالي بيتراركا المعروف بأنه أب الحركة الإنسية يقدم في هجومه على التأثير الذي مارسه الكتاب العرب على فكر معاصريه نموذجاً معبراً في هذا السياق. فبيتراركا لم يحقد على الثقافة العربية لأنها عربية، ولكن لحمولاتها اليونانية؛ لأنها كانت يونانية أيضاً، ولأن العرب ما برحوا حينها ينظرون إلى ثقافة اليونان وعلومهم بأنها جزء من تراثهم وثقافتهم، لكن بيتراركا لم يرد اليونانية إلا لنفسه، رفض اقتسام -في لغة بورخيس- "تراث الكون" مع الآخرين، ومثل هايدغري قبل الهايدغرية، رفض اقتسام الزمن مع الآخرين. وفي إحدى رسائله التي قدم بها عبد الفتاح كيليطو لكتابه لن تتكلم لغتي[23]، كتب يقول إنه يكره هذا العرق، ويعني العرب، ويطلب من صديقه ألا يمنحهم أدنى أهمية ويسخر من الأطباء العرب ومن شعرائهم وينتقد معاصريه الذين يكيلون المديح لهم. لكن الواقع أن ما يكرهه بيتراركا هنا ليس العرق، بل الثقافة، وحقيقة أن العرب ورثوا اليونان وكانوا قريبين منهم إلى درجة التماهي أحياناً. فبيتراركا يحقد عليهم لهذا السبب، ويريد أن يقول إن ثقافة اليونان هي حكر على أمثاله، ملكية لاتينية. لم أعد إلى هذا المثل الصارخ إلا لأنه لا يختلف كثيراً عن الموقف الذي يقول إن العقل حكر على الديانة المسيحية، محاولاً الرجوع بهذه العقلانية المزعومة للمسيحية إلى علاقتها بالحضارة الإغريقية. نقف هنا أمام "رؤية للعالم" مغلقة، وتريد لنفسها أن تكون مستعصية على كل ترجمة، تمنع الآخر ليس فقط من الوصول إلى مكان، ولكن أيضاً من الوصول إلى لغة وثقافة. لن تتكلم لغتي، لن تتكلم لغتك، ولا لغة أجداد(ي). لن تنبس ببنت شفة!

لا تبغي الضيافة صهر الغير، لا على المستوى السياسي ولا على المستوى الثقافي، إنها مثل الحب عند غابرييل مارسيل، ما وراء القيد والشرط: "إن الحب، بالمعنى الأكثر اكتمالاً والأكثر حسية (...) يبدو أنه يجد أساسه في فكرة اللامشروطية: سأستمر بحبك مهما حدث"[24]، وهي الكلمات نفسها التي يمكننا أن نسمع صداها يتردد لدى ليفيناس. ففعل الضيافة بوصفه فعل الحب لا يمكنه أن يختزل في عمل الفكر المموضع، إنه خارج منطق الحساب، المنطق الأمني للعقل. "إننا لا نحب إلا حين نتحرر من رغبتنا في المعرفة"[25]. إن "فكرة" اللامشروطية التي تتجاوز كل تفكير، نلتقيها عند غابرييل مارسيل وإدانته للأوتونوميا الخاطئة لمنطق التملك، ولاكتفاء الذات المعاصرة. في كلمة (indisponibilité).

إن مارسيل يرفض نموذج التفكير والعيش الذي يماهي بين ألا تملك وألا تكون، منافحاً عن ضيافة تتجاوز منطق التملك. إن كل فلسفة مضيافة هي بلا ريب فلسفة غير نسقية، ترفض تقديم مقولات نهائية وترتبط بالتجربة والحسي. إن مارسيل يتحدث عن لدغة الواقع. إنها ثانياً فلسفة لقاء. فإذا كان جوهر التفكير بالنسبة لكانط ليس الحقيقة بل الحرية، فإن ليفيناس يتحرر من الحقيقة كما من الحرية، ولكن أيضاً من كل تفكير يختزل الحياة في معنى. إن اللقاء بوصفه مسؤولية هو من ينتج التفكير والحرية. ففي الحرية وفي الحقيقة، ينزع الفكر إلى صهر المختلف، يستعمل بالآخر ويعبث به كما يفعل ذلك بالأشياء. وثالثاً، حين نقول مسؤولية، نقول: جسد. أو بلغة ليفيناس، "إن الأنا هي ذات من لحم ودم. (...) قادرة على أن تخرج قطعة الخبز من فمها لتمنحها إلى الآخر، أن تمنحه لحمها"[26].

 

[1]تقول الأسطورة اليونانية إن قاطع طريق اسمه بروكست كان يقبض على المسافرين ويعمل على تمديدهم على سريره. فإذا وجد الشخص أقصر طولا من سريره عمد إلى شد أوصاله حتى يصبح بطوله، وإذا وجده أطول من السرير قطع بروكست من قدميه!

[2]Adieu, Galilee, 1997, 91

[3]Das Recht der Freiheit, Suhrkamp 2011, 48

[4]Totalité etinfini, Kluwer Academic 1996, 74.

[5]Pensées, Flammarion 1993, 295.

[6] Saeculum, Galilée 2012, 19.

[7]Quatre lectures talmudiques, Minuit 1968, 108

[8]Totalité etinfini, 58.

[9]المرجع نفسه، ص. 128

[10]Sein und Zeit, Max Niemryer, 1993, 34.

[11]دريدا، ص. 19.

[12]L’écriture du désastre, Gallimard 1980, 45.

[13]دريدا، المرجع نفسه، ص. 49.

[14]Vers la paixperpétuelle, traduction par Jean-François Poirier et Françoise Proust, Flammarion 1991, 93-94.

[15]The Rights of Others: Aliens, Residents, and Citizens, Cambridge 2004, 85

[16]المرجع نفسه، ص. 75.

[17]يتحدث دريدا في كتابه (De quoi demain) عن ديمقراطية مقبلة، لن تكون مرتبطة بشكل جوهري بالمواطنة. انظر الصفحة 161 من الكتاب.

[18]Papier machine, Galilee 2001,273

[19]Die Einbeziehung des Anderen 1999, 261

[20]Penser l’accueil avec Habermas contre Habermas, in: Les lumières de Jürgen Habermas, Lumières, Numéro 19, 2012, 165.

[21]Alain Montandon, Désirsd'hospitalité. De Homère à Kafka, Presses Universitaires de France, 2002, 193.

[22]Henri Joly, La question des étrangers, Vrain 1992, 14

[23]عبد الفتاح كيليطو، لن تتكلم لغتي. بيروت: دار الطليعة، 2002. ص5.

[24]La Dignité Humaine et sesAssisesexistentielles, Aubier-Montaigne, 1964, 103

[25]Fragments philosophiques.Nauwelaerts, 1961, 89

[26]Fragments philosophiques.Nauwelaerts, 1961, 89

 

  

أواصر - مجلة فكرية فصلية

www.awasr.com