اليمين المتطرف في ألمانيا: أمس واليوم وغدا

فارس يواكيم

  • التصنيفات: دراسات أجنبية -
اليمين المتطرف في ألمانيا: أمس واليوم وغدا

 

من علامات التاريخ الألماني الحديث سيطرة النازية على البلاد من سنة 1933 إلى سنة 1945. ثمة ظروف سمحت بنشوئها، وثمة ظروف أدت إلى انهيارها. ومنذ سنوات ظهرت بوادر ما سماه البعض إحياءً للنازية. فهل ذلك الإحياء ممكن؟

خرجت ألمانيا من الحرب العالمية الأولى خاسرة. انتهى عهد الملكية وقامت جمهورية فايمار سنة 1919، وأرغمت ألمانيا بموجب معاهدة فرساي على دفع تعويضات هائلة للحلفاء المنتصرين؛ مما أدى إلى خلخلة الوضع الاقتصادي. وزاد الأمر سوءاً بتفشي الفقر وارتفاع معدلات التضخم ثم البطالة. احتلت فرنسا منطقة الرور الصناعية سنة 1923 فتراكمت الانتكاسات السياسية والاقتصادية معاً. وجاءت الأزمة المالية الطاحنة التي حلّت بالعالم سنة 1929 لتقود المجتمع الألماني نحو الهاوية، إذ بلغ عدد العاطلين عن العمل 6 ملايين من أصل 18 مليون يشكلون مجمل القوى العاملة. أصبحت جمهورية فايمار بلا جمهوريين! وفي هذا السياق المأزوم نشأ هتلر والحزب النازي (الاشتراكي القومي) ووعد الألمان بدولة سيادية قوية تسترد الكرامة، وتمحو الأزمة الاقتصادية وتوفر للمواطنين الرخاء؛ ما جعل عدد مؤيدي الحزب النازي يتزايدون بإيقاع سريع، حتى فاز في الانتخابات العامة سنة 1933.

أصبح هتلر مستشار ألمانيا، وما لبث أن تخلص بسرعة من معارضيه، وبموجب "قانون التخويل" أهداه البرلمان الصلاحيات الدستورية كافة، فحظر الأحزاب ما عدا حزبه، ثم قضى على النقابات، وصار دكتاتوراً مارس إرهاباً عنيفاً ضد خصومه، ووضع مرافق الدولة كلها في يده، وتصرّف بها كأنها ملكه، وقاد بلاده إلى حروب وهزائم ودمار.

هدوء ما بعد الحرب

خرجت ألمانيا من الحرب العالمية الثانية مدمرة وممزقة ومنهارة، وظلت أربع سنوات تلملم جراحها العميقة إلى أن تم تقسيمها إلى دولتين أعلن قيامهما سنة 1949: في الغرب دولة ديمقراطية على النمط الجمهوري دعيت "ألمانيا الاتحادية"، وفي الشرق دولة ذات نظام شيوعي دعيت "ألمانيا الديمقراطية". وسواء في الشرق أم في الغرب، لم يكن هناك مجال لعودة النازية إلى المشهد السياسي، ليس فقط بحكم وجود القوات السوفياتية في الشرق، والقوات الأمريكية والبريطانية والفرنسية في الغرب، بل لأن الألمان اقتنعوا بربط النازية باللعنة المشؤومة. في الشرق كان الأمر مستحيلاً لكون الشيوعية من ألد أعداء النازية، وفي الغرب حظر البرلمان الديمقراطي قيام أحزاب ذات طابع عنصري، وخصّ الدستور الألماني الأحزاب بمادة مستقلة هي المادة 21 التي نصّت على أن: "تشارك الأحزاب في تكوين الإرادة السياسية للشعب. تشكيلها حرّ ويجب أن يتطابق نظامها الداخلي مع الديمقراطية، وهي ملزمة بإعلان مصادر تمويلها". ومازالت هذه المادة مطبقة بعد وحدة ألمانيا سنة 1990. وعلى أساسها حظرت أحزاب مثل "حزب الرايخ الألماني" و"حزب الرايخ الاشتراكي" وما شابههما من الأحزاب ذات التوجه العنصري المتطرف.

ويشترط قانون الانتخاب الألماني حصول حزب ما على نسبة 5% على الأقل من أصوات الناخبين لكي يتسنى له دخول برلمانات الولايات أو البرلمان الاتحادي (البوندستاغ). وتجدر بنا الإشارة إلى أن أحزاب اليمين المتطرف تقدمت بمرشحين في مختلف الانتخابات في "ألمانيا الاتحادية"، وبعد الوحدة نشطت هذه الأحزاب في الولايات الشرقية التي كانت سابقاً دولة "ألمانيا الديمقراطية".

أحزاب اليمين المتطرف

في أوروبا عامة وألمانيا خاصة تتراوح برامج أحزاب اليمين بين العنصرية الرافضة للآخر وبين الاعتزال والانزواء عنه، ويصرّح البعض بهذا علناً بينما أسرّه البعض الآخر فيمارسه ضمنيّاً، وهذه الأحزاب هي:

  • الحزب الديمقراطي الوطني الألماني[1]:

تأسس سنة 1964 وانتمى إليه أعضاء من تيارات يمينية متشددة مختلفة. بعد سنة خاض الانتخابات العامة، بيد أنه لم يحصل سوى على 2% من الأصوات. لكنه في السنتين الأخيرتين من عقد الستينيات نجح في إيصال ممثلين عنه إلى سبعة برلمانات من البرلمانات العشرة في ألمانيا الاتحادية. وكاد في الانتخابات العامة 1969 أن يدخل البوندستاغ، غير أن نسبة 4.6% التي حصل عليها لم تؤهله لذلك. وفيما بدا أنه تطور إلى الأمام، جاءت نتائج الانتخابات التالية على صعيد عموم ألمانيا وعلى صعيد الولايات مخيبة لآمال أنصاره، إذ تدنى تأييده إلى أرقام لا تكاد تذكر. وبعد فترة الركود والانكماش، انتعش هذا الحزب مجدداً في الولايات الشرقية. وظهر بقوة سنة 2004 محرزاً 9.2% من الأصوات في ولاية سكسونيا. وفي الدورة التالية 2009 تراجع إلى 5.6% لكنه ظل ممثلاً في برلمان الولاية. وفي انتخابات هذا العام كان قاب قوسين أو أدنى من عتبة برلمان سكسونيا، إلا أنه توقف عند نسبة 4.9% فخرج من البرلمان بعد ما ظل فيه لعشر سنوات. وكانت النتيجة الأخرى اللافتة للنظر هي تلك التي حصل عليها في ولاية مكلنبورغ فوربومرن في انتخابات البرلمان المحلي سنة 2006؛ إذ أحرز 7.3%. وبرغم انخفاض نسبته إلى 6% في انتخابات 2011، فإنه ظل ممثلاً في برلمان هذه الولاية. وهو حالياً البرلمان الوحيد الذي به نواب ينتمون إلى هذا الحزب.

بمرور السنوات وما استجد من متغيرات سياسية واجتماعية في ألمانيا، أخذ خطاب الحزب الديمقراطي الوطني الألماني يميل نحو المزيد من التشدد، بالغاً الذروة في سنة 2014، حيث تحدث عن "تغيّر الأغلبية العرقية" في عدد من الأحياء في المدن الألمانية. وهو إذ يشير إلى رقم 16 مليون إلى الألمان ذوي الجذور غير الألمانية، فهو لا يعني الإسبانيين والبرتغاليين والبولنديين مثلاً، إذ يشير صراحة إلى "الأناضوليين والعرب الذين أوجدوا مجتمعات جديدة موازية للمجتمع الألماني"، وإلى "الراديكاليين السلفيين الذين يوزعون نسخ القرآن بشكل استفزازي في ألمانيا ويدعون إلى استخدام العنف ضد الكفار". ويرى الحزب أن الدولة الألمانية تنفق الكثير من مال الشعب في مجال المساعدات الاجتماعية للمهاجرين، وأن المبالغ المرصودة لبرنامج "الاندماج" ليست ذات جدوى وهي ترهق جيوب المواطن الألماني. والمهاجرون إلى ألمانيا في نظر الحزب هم من "اللاجئين الاقتصاديين" وليسوا من اللاجئين السياسيين.

  • اتحاد الشعب الألماني[2]:

تأسس سنة 1971 بوصفه جمعية أسسها الناشر غيرهارد فراي صاحب الصحيفة القومية الألمانية ذات التوجه اليميني المتطرف. وجمعت أنصارا من "حليقي الرؤوس" و"النازيين الجدد" ومن المتشددين تقليديّاً والرافضين للأحزاب التقليدية، ثم تحولت الجمعية إلى حزب سنة 1987. وجاءت المفاجأة عبر نجاحه سنة 1992 في انتخابات ولاية شليسفيغ هولشتاين في (غرب ألمانيا) لحصوله على 6.3%. ثم كانت النتيجة المذهلة سنة 1998 في ولاية سكسونيا -أنهالت في الشرق حيث حصد في انتخابات برلمان الولاية 12.9% من أصوات الناخبين. وفي ولاية براندنبورغ في الشرق أيضاً نجح في إيصال نواب إلى البرلمان في دورتين متتاليتين، في سنة 1999 ونال 5.3%، وفي سنة 2004 حيث أحرز 6.1%. وفي سنة 2010 اشتدت الخلافات الداخلية في قيادة الحزب، إلى أن انتهى من الوجود بعد ما التحق السواد الأعظم من أعضائه بالحزب الديمقراطي الوطني الألماني سنة 2012.

  • الجمهوريون[3]:

لم يمثل هذا الحزب الذي نشأ سنة 1983 في أي برلمان في الولايات الشرقية، لكنه اقتحم البرلمان الأوروبي سنة 1989 بعد حصوله على 7.1% من أصوات الناخبين الألمان. وفي السنة ذاتها دخل برلمان ولاية برلين الغربية بحصوله على 7.5%. وفي التسعينيات نجح مرتين في انتخابات ولاية بادن- فورتنبرغ في سنة 1992 بنسبة 10.9% وفي سنة 1996 جامعاً 9.1% من الأصوات. من بعد، لم يفز مرشحو هذا الحزب في أي من الانتخابات، المحلية أو العامة أو الأوروبية، واضمحل تأثيره وانخفض عدد المنتسبين إليه إلى 6500.

  • البدائل من أجل ألمانيا[4]:

هو أحدث أحزاب اليمين المتطرف في ألمانيا، وأمهرها إعلاميّاً. تأسس عام 2013 وكاد في تلك السنة يتمثل في البوندستاغ لولا أنه توقف عند نسبة 4.7%، وهي نتيجة ملفتة للنظر لأنه كان على وشك دخول البرلمان الاتحادي بعد أشهر من تأسيسه، بل وبعد سنة من هذا التأسيس تمكن من دخول البرلمان الأوروبي ممثلاً بسبعة نواب بعد حصوله على 7% من أصوات الناخبين الألمان. ودخل بقوة في برلمانات ثلاث ولايات في شرق ألمانيا هي: براندنبورغ بـ 12.2% وتورينغن بـ 10.6% وسكسونيا بـ 9.7%. وهي أيضاً نتائج تستدعي التأمل بالنظر إلى ما تعنيه هذه الأرقام، وإلى حداثة عهد الحزب في المشهد السياسي الألماني.

أعضاء الحزب يعرفون أنفسهم بأنهم ليبراليون أو محافظون، لكن الإعلام الألماني يستخدم صفة "الشعبوي اليميني" حين يتحدث عن هذا الحزب. وحذاقة هذا الحزب تتجلى في كون برنامجه لا يتضمن نصّاً صريحاً يمكن أن يعد عنصرياً من الناحية القانونية. لكنه يترك باب التأويل مفتوحاً حين يطالب بقانون جديد للهجرة ليس متساهلاً كالقانون الحالي. وهو إذ يطالب بأن يقتصر منح اللجوء على المهددين سياسيّاً في بلادهم، يؤكّد على أن ألمانيا تحتاج إلى ذوي الخبرة من الأجانب، والقابلين للاندماج في المجتمع الألماني. يدعو الحزب إلى إجراء إصلاحات ضريبية والتركيز على قيم العائلة والقيم الألمانية التقليدية، وإلى اعتماد نظام استفتاء الشعب في القضايا الساخنة. وهو حزب مناهض للاتحاد الأوروبي ويدعو إلى خروج ألمانيا من نطاق اليورو والعودة إلى التعامل بالمارك.

التحركات في الشارع

إضافة إلى الأحزاب المذكورة نشأت جماعات تنتمي إلى اليمين المتطرف مهمتها التحرك في الشارع. من أبرزها:

  • بيغيدا[5]:

الاسم مكوّن من الأحرف الأولى من "الأوروبيون الوطنيون ضد أسلمة العالم الغربي". تركـّز في خطابها على استغلال تجاوزات بعض المهاجرين المسلمين (التركيز على نسبة مرتكبي الجرائم من المهاجرين دون الحديث عن المرتكبين الآخرين، لتبدو الجريمة وكأنها خاصة بالمهاجرين)، وتوظف الصور المتداولة في وسائل الإعلام عن سلوكيات "داعش" و"النصرة" الدموية في العراق وسورية، وظهور بعض السلفيين في بعض المدن الألمانية ومحاولة البعض منهم ممارسة دور "الشرطة الإسلامية". كما تستخدم هذه الجماعة حق التظاهر للتعبير عن رأيها في الشارع، فقد بدأت التظاهرات في مدينة درسدن بمشاركة عشرات من المتظاهرين، ثم صاروا مئات، ثم صاروا نحو 15 ألف يتظاهرون كل يوم اثنين، على غرار ما حدث في "ألمانيا الديمقراطية" قبل انهيارها، ويهتفون كما في تلك الأيام "نحن الشعب"، وينددون بـ"المهاجرين الاقتصاديين والتغريب الثقافي للمجتمع الألماني". وفي رأي مجلة دير شبيغل أن هؤلاء يتجنبون رادار الشرطة والدستور ما داموا لا يلجأون إلى العنف.

هوغيزا[6]:

عماد هذه الجماعة غلاة مشجعي كرة القدم المعروفون بـ"الهوليغنز". والاسم مشتق من "الهوليغنز ضد السلفيين". وقد رصد المراقبون بدء تكوين هذه الجماعة في عام 2012، إلا أنها استعرضت عضلاتها في الشارع في مظاهرة كبيرة في مدينة كولونيا في 26 أكتوبر 2014. وكما يدلّ اسمها فهي موكلة بالتصدي للتيارات السلفية الإسلامية في ألمانيا، أحياناً كردّ فعل، وأحياناً استباقاً للفعل بوصفه مظهراً رادعاً للخصوم السلفيين. وهذا التحرك دفع الأندية الألمانية إلى رفع شعارات ضد التعصب والعنصرية في ملاعب كرة القدم قبل بدء المباريات. وبرغم أن هؤلاء الهولينغز هتفوا في مظاهرة كولونيا "ألمانيا للألمان" و"الأجانب إلى الخارج"، فليس من صلاحية المحكمة الدستورية النظر في أمر مشجعي كرة القدم، بل من اختصاص الشرطة التدخل لاعتقال ممارسي العنف، أو الذين يتجاوزون ما يسمح به قانون التظاهر.

نحو النمـوّ أو التراجع؟

ثمة سؤالان بشأن أحزاب اليمين المتطرف والجماعات الراديكالية الموازية في ألمانيا هما: لماذا التجاوب أكثر في شرق ألمانيا؟ وهل ستنمو هذه التيارات أم إنها سوف تتراجع؟

فيما يخص الجواب عن السؤال الأول: فهو أن سبب الانتشار الأكبر في الولايات الألمانية الشرقية هو ارتفاع نسبة البطالة فيها، هذا هو العامل الاقتصادي. أما العامل النفسي، فتفسيره أن المواطنين الذين عانوا من الكبت في ظل النظام الشيوعي سُمح لهم أن يعبروا عن آرائهم، فكان أن رفعوا أصواتهم عالياً.

أما مستقبل هذه التيارات في ألمانيا فلا يثير المخاوف وإن كان يستدعي الحذر التام. ومن العوامل التي حالت دون تفشي "اليمين المتطرف" إلى الدرجة التي يهدد فيها الأمن القومي: قوة الأحزاب الألمانية الكبرى سياسياً، ومتانة الوضع الاقتصادي في ألمانيا عموماً، والمساعدات المالية المتنوعة للفقراء والضمان الصحي والاجتماعي المنتظم للجميع، وعدم رغبة السواد الأعظم من الألمان في استعادة عنصرية النازية، وتصدي وسائل الإعلام لليمين المتطرف، وتعاطف الكثير من رجال الكنيسة العلني مع المهاجرين، ومشاركة نجوم المجتمع من الفنانين والرياضيين في الحملات ضد العنصرية. وما زالت نتائج الانتخابات العامة تشير إلى عدم بلوغ أحزاب اليمين المتطرف نسبة الـ(5%).

 

[1] NPD, Nationaldemokratische Partei Deutschland

[2]DVU, Deutsche Volksunion

[3]REP, die Republikaner

[4]AFD, Alternative für Deutschland

[5]Pegida, Patriotische Europäer gegen die Islamisierung des Abendlandes

[6]Hogesa, Hooligens Gegen Salafisten

  

أواصر - مجلة فكرية فصلية

www.awasr.com