فشل العلمانية في العالم الإسلامي

طباعة 2022-07-20
فشل العلمانية في العالم الإسلامي

ملخص

لماذا فشلت العلمانية في العالم الإسلامي؟ يشير المقال إلى غربة العلمانية وغربة مروجيها عن المجتمع الإسلامي، بالإضافة إلى غربتهم عن وعيها في بلادها أو سوء استخدامها بقصد مسبق، ويشرح المقال صورًا من فشلها في مجتمعين وثورتين مهمتين كما في تونس ومصر.

 

ثقافة العلمانيين في العالم المتخلف

هناك مشكلة في بعض المصطلحات التي لم تكن لنا أصلًا وليست في لغتنا، ولم نقدم لها تفسيرًا أو لم نستوعب تفسيرها في بيئاتها، فبقيت هامشية فكرًا وممارسة، كما بقي دعاتها يعانون غرابة وبعدًا عن المجتمع وثقافته، وإن استطاعوا بقوة المستعمرين أو المستبدين قسر الشعوب على بعض مظاهرها. وقد شعروا أن غربتهم هذه، وغربة ما يتخيلون أنهم يحملون من أفكار، فهمٌ وتعالٍ عن الباقين، وما هي في الواقع العملي سوى ظاهرة ضعف وخذلان، إن سلمت من تهم العمالة للخارج التي تطلق على دعاة الولاء لكل ما هو مضاد لدين الشعوب وثقافتها. ليس هذا البحث عن معاني المصطلح، بل هو عن بعض الوقائع والآثار. فما عند العلمانيين الغربيين من فهم وممارسة لما أنتجوه من أفكار وتطبيقاتهم لها لا يقارن فكريًّا أو سلوكيًّا بما فهمه وطبقه علمانيو العالم العربي والإسلامي، وما جنوه على مجتمعاتهم من تخلف وتبعية وإرهاب وعنف. وإن تشابهت الأسماء فإن المحتوى مختلف؛ فالغربي لا يرهب سكان بلاده باسم دفعهم للعلمنة ليخضعهم لعدو خارجي، ولا يرى نفسه وصيًّا لقوة قادمة من الخارج على فكر قومه وسلوكهم، ولا يمارس الإرهاب لإرغام شعبه لتبني عقائد وافدة وإكراه شعبه على نمط حياة غريب.

ولك أن ترى الفارق بين العلمانية الأوروبية أو الأمريكية بيسارها ويمينها، وبين أتباع أفكار الغرب ممن تبنى الفكر اليساري وقتل باسمه الشعوب من بول بوت في كمبوديا الذي تسبب في القضاء على أكثر من ربع السكان، إلى بشار وأمثاله من المستبدين والسجانين والقتلة في عالمنا. وكذلك الفرق بين المسخ الذي يسمى ديمقراطية في بلادنا (ومن ذلك المسخ مثلًا الديمقراطية التي صنعها الاحتلال الأمريكي في العراق) وبين ديمقراطية الغرب. يقول محمد عبده نقلًا عن شيخه الأفغاني ومبينًا الفرق بين العلماني الأصلي الغربي وبين العلماني المقلد في العالم الإسلامي:

إن أحمد خان [كان من أولياء بريطانيا بين مسلمي الهند] ومن تبعه خلعوا لباس الدين وجهروا بالدعوة إلى خلعه ابتغاء الفتنة بالمسلمين وطلبًا لتفريق كلمتهم، وزادوا على زيغهم أنهم يزرعون الشقاق بين أهل الهند وسائر المسلمين، وكتبوا عدة كتب في معارضة الخلافة الإسلامية. هؤلاء الدهريون ليسوا كالدهريين في أوروبا، فإن من ترك الدين في البلاد الغربية تبقى عنده محبة أوطانه، ولا تنقص حميته لحفظ بلاده من عاديات الأجانب، ويبذل في ترقيتها والمدافعة عنها نفائس أمواله، ويفدي مصلحتها بروحه. أما أحمد خان وأصحابه فانهم كما يدعون الناس لنبذ الدين يهونون عليهم مصالح أوطانهم، ويسهلون على النفوس تحكم الأجنبي فيها، ويجهدون في محو آثار الغيرة الدينية والجنسية، وينقبون على المصالح الوطنية التي ربما غفل الإنجليز عن سلبها، لينبهوا الحكومة عليها فلا تدعها. يفعلون هذا لا لأجر جزيل ولا شرف رفيع، ولكن لعيش دنيء ونفع زهيد. وهكذا يمتاز دهري الشرق عن دهري الغرب بالخسة والدناءة بعد الكفر والزندقة[1].

وإذا كان بعضهم قد فعل هذا لحرب الإسلام باسم العلمانية لمكاسب مادية وسياسية ينالها من الغرب، فأحيانًا يكون دافع النبذ والتشنيع بالإسلام وأهله تملقًا لقوى معادية نافذة. يذكر ميخائيل نعيمة في مقابلة معه أن جبران [خليل جبران] أراد أن يسير على خطا الريحاني ليصبح مشهورًا مثله، فهاجم رجال الدين -كما فعل الريحاني- ليلفت إليه الأنظار[2]. وهناك سبب آخر كتب عنه العقاد في كتابهرجال عرفتهم، يشرح فيه أسباب تشدد نصارى الشام الملحدين ضد الدين[3]، وهو تسلط رجال الدين المسيحيين على رعاياهم وقسوتهم ضدهم، مما جعل في العلمانية الغربية مخرجًا لهم. وأصبح أتباع العلمانية الفرنسية أكثر تطرفًا ضد الدين، وصنعوا بيئة معادية للمسيحية في مجتمعهم، ثم جعلوا من أتباعهم من أبناء المسلمين مجرد صدى لمعاناة المسيحي الشامي من كنيسته فنقلوا العداء إلى الإسلام. فماذا تتخيل من سوء حال نسخة عن نسخة عن نسخة؟

أما كون الموقف الإسلامي كان معاديًا للعلمانية فأمر مفهوم؛ إذ العلمانية نُظر إليها في العالم الإسلامي بوصفها ثقافة للمحتلين، قهروا بها الشعوب الضعيفة والمغلوبة بالاحتلال الغربي عبر وسطاء للأفكار الغربية. إن المسلمين عرفوا من الواقع والاطلاع أن العلمانية دين يخالف دينهم حتى في المنظور الثقافي الغربي نفسه، فكيف بالمجتمع الإسلامي الذي لا يراها فقط دينًا آخر، بل وسيلة من وسائل الاستعمار لاستتباعهم وإبعادهم عن ذواتهم[4]. وفي أحسن الأحوال يرى المثقفون الواعون أن كثيرًا من العلمانيين العرب ضحايا لمستوردات فكرية لم يستطيعوا استيعابها، بل سمعوا بها وقرؤوها فطبقوا أسوأ ما فيها غالبًا بغفلة عن حقيقتها وعن مضارها على مجتمعاتهم. وإذا كان قد حصل للمثقفين الروس أن كانوا ضحايا لأفكار وافدة من غرب أوروبا أضرت بهم بسبب سوء فهمهم، أو لكونها لا تنطبق على مجتمعهم[5]، فكيف بقراء وأتباع وأنصاف مثقفين في العالم الإسلامي كانوا ضحية لأفكار أغرب عنهم من غربة الفكر الغربي عن الروس؟

ونحن نجد حال العلمانيين العرب مضطربًا، وغالبًا ما كانت ثقافتهم تتكون من منظومة غربية معقدة؛ فهي خليط من ثقافة الإرساليات التبشيرية التي زرعت في عقولهم كراهية متوارثة ومترسخة ضد الإسلام وكل ما يمثله، ولهذا فقد كانت الحركة العلمانية العربية تعود إلى جذور إرساليات تبشيرية مسيحية أو إلى جذور الفكر الشيوعي، ثم زاد الطين بلة ما قامت به الليبرالية الغربية لإنشاء أولياء لها وتابعين يعادون المنظومة الشيوعية الشرقية، وهذا التيار يتغذى من جذور الثقافة الغربية المؤسسة على موقف معاد للثقافة العربية الإسلامية من جذوره. وما الخطاب العلماني الليبرالي المتظاهر بالحياد إلا تلطيف لموقف ثقافي عميق، سواء كان تاريخيًّا أم معاصرًا، يستبطن ما لا يخفى على من تابع مواقف وكتابة كبار مثقفيهم، كما رصد الكثير منها إدوارد سعيد في الاستشراق[6]. ثم جاءت أفكار التيار العلماني الحاكم للمنطقة ثقافة مستوردة تمامًا خالية من أي جهد ذاتي أو عمل تفكيري ناضج خاص بها أو موطّن لها. وحين يستلهم هؤلاء التراث أو يفكرون فيه فليس للتفهم ولا للدرس، بل سعيًا لتسخيره لفكرة أجنبية خالصة[7]. ثم إن هذا التيار رأى تراث قومه بعيون غيرهم، وهذا ما يؤكده أحد الباحثين، إذ إن "ما اعتقدته هذه الإنتلجنسيا أو فهمته من التاريخ والفكر الإسلاميين جاء جله من كتابات المستشرقين الغربيين"[8]. فكانت ثقافة من تثقف من هؤلاء منحازة ضد ثقافتها وفهمها وتاريخها، فقد قدم لهم تاريخهم وثقافتهم وتراثهم بعيون عدوهم، فرأوه بتلك العين وفهموه عبر فهم وتقييم ورؤية الوسطاء المستشرقين وتلاميذهم.

 

عداء العلمانيين العرب للديمقراطية

أصيب مثقفو اليسار العربي واليمين المحافظ التابع لهم بغرور شديد وغفلة تامة، فقد أحسوا بحكم ما منحهم المستعمر من قوة ونفوذ في شتى المجالات أنهم هم العقلاء الفاهمون والصفوة التي لها حق النفوذ والحكم والتحكم وتوجيه المجتمعات، فهم الخاصة وغيرهم عوامّ. أذكر أن أحد هؤلاء من الصحفيين كتب ذات يوم في مجلة المجلة التي كانت تصدر في لندن صارخًا ضد الديمقراطية حين جاءت بالإسلاميين للبرلمان، مستنكرًا ومطالبًا بالدكتاتورية لأن حزبه [وكان من مخلفات الناصرية] أو قومه من اليساريين خسروا الانتخابات في الكويت، محتجًّا بأن حزبه الخاسر كان يطالب بالرأي العام وليس برأي العوام. ويقصد بالرأي العام حزبه من مخلفات اليسار، أما غيرهم فعوام. وكانت تلك مرحلة في عالمنا أعلن فيها اليسار الخاسر للشعوب والأفكار عن الركون إلى المتنفذين، واللجوء إلى السلطات ضد الشعوب التي نبذتهم، وانتهى من كانوا يتظاهرون بالنضال السياسي المدعى إلى صف القوى السلطانية التي تخالف مصالحها مصالح الجمهور حين خسروا منافع الادعاء النضالي. وتبين أنه نضال لمكاسب قيادات وأحزاب وقوى مرتبطة بالخارج، وحين فقدوا ما كانوا يتمتعون به مما أسموه "الرأي العام" صاروا إلى حالة من العبودية للمتنفذين، واجتهدوا في شتم "الرأي العام" ومصادرته، وأصبحوا خصومًا للشعوب التي نبذتهم، وقامت وقتها جبهة متحدة من العلمانيين المتطرفين مع أنظمة حكم مستبدة وتكالبت مع بعض المنتفعين لتقف ضد الشعوب، واصطف هذا الصف المستقوي بالخارج وبالماضي القريب، من السلطات والتيارات المستغربة التي ترفع شعار العلمانية وخطابهم ذلك خداع محض. فالعلمانية كما ظهرت عند اليسار العربي مجرد معاداة للإسلام مغلفة بالحريات أو العلمانية، ولكن متى كسب المسلمون أو الشعوب عمومًا مكسبًا من الحرية أو الديمقراطية فإن التيارات العلمانية ترجع إلى دينها الغربي المستورد المعادي لدين الأمة. وللأسف حدث هذا في كل مرة، وهذا يدل على أنهم لا يؤمنون بعلمانية ولا بديمقراطية إلا بما ينتقص الإسلام وأهله، ونصبوا أنفسهم منافحين عن أديان يتوقعون أنها أديان الغرب، ولكنها أديان، مع بعدها، شوّهت بفهمهم المنحرف واستغلالهم المقيت لها.

***

كان ذلك القول عن قصة الرأي العام ورأي العوام منذ أكثر من عقدين من الزمان، ثم جاء الربيع العربي فرأينا الشعوب تصطف معه وتناصره، وفرحنا وتخيلنا أننا حققنا وحدة فكرية كنا فقدناها منذ ما يزيد على قرن من الزمان، حين تمايزت وتنافرت الصفوف ووقف أولياء الاستعمار الغربي ضد الشعوب الإسلامية وضد دينها ومصالحها، منحازين إلى المستعمر في حالات خيانية لا مثيل لها. وكان ممن تحدث عن تلك المأساة العالم الجليل مصطفى صبري[9]، الذي كان من أعماله المهمة كتاب موقف العلم والعالم من رب العالمين وعباده المرسلين، عن التحولات الفكرية والسياسية في زمنه، لكنا توقعنا أن القوم عقلوا، وعادوا إلى مصالح بلدانهم واحترموا شعوبهم؛ فإذا هم يعلنون في مصر عن محاسن إلغاء الديمقراطية لأنها جاءت برئيس إسلامي منتخب، ويعودون يصفقون لاستبداد يقتل المعارضة والمعارضين، حيث رحب هؤلاء العلمانيون بالاستبداد ومصادرة الحريات وبيع الشعوب في سوق المستعمرين والغاصبين. ولا يخفي هؤلاء ولا سادتهم دورهم في إنهاء الحريات وتجريم الديمقراطية التي جاءت بالرأي العام للحكم، ثم يسمون خيانتهم للديمقراطية ديمقراطية.

شاهدنا بعدها في تونس كيف صنع التيار المعادي للشعوب ولمصالحها دكتاتورًا جاء أساسًا بسبب الديمقراطية فإذا هو يصادرها، تمامًا كما فعل هتلر الذي جاء بالديمقراطية لينهيها ويصنع بالتفاف على الديمقراطية التيار النازي. والفارق أن دكتاتورنا "التونسي" على قدر حالنا ضعيف مصنوع موجه من الخارج، يرى نفسه وصيًّا معينًا من سادته هناك ضد الداخل، وممولًا وموجهًا ليقوم بالانقلاب على الحريات ويعود بتونس إلى عصر الظلمات، عصر بن علي الأسوأ في تاريخ البلاد. وفي المرسوم رقم 117، خول سعيد لنفسه السيطرة على السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، جامعًا بذلك ما لم تجمعه أعتى النظم الشمولية المعاصرة[10].

وحين نتابع بعض عتاة العلمانية الفرنسية نجد أن العلمانيين الفرنسيين في بلادهم يحتقرون الأتباع الأغبياء الجاهلين بالديمقراطية والحريات من نتاج المستعمرات السابقة زمن بن علي، فالفيلسوف الفرنسي إدجار موران ومجموعة من المثقفين الأجانب كتبوا بيانًا يستنكرون فيه انحدار تونس تحت حذاء الدكتاتورية مرة أخرى[11]. لكن أتباع العلمانية الفرنسية في تونس يحاربون الحريات ويؤيدون الدكتاتورية المذلة للشعب؛ لأنها سوف تؤذي منافسيهم أو تقضي على الرأي العام، بحجة أن عدو عدوي صديقي وإن كان سيقضي عليّ أيضًا. وذلك ما أشارت إليه نادية عكاشة مديرة ديوان الرئاسة التونسية لما رأته من انحراف في خطاب استقالتها من العمل في إدارة يقودها قيس سعيد: "لينفرد بالحكم في البلاد بدعم من فئات واسعة من الشعب التونسي، تتهم الطبقة السياسية بالفساد وعدم الفاعلية، على وقع انتقادات حقوقية وسياسية"[12].

أما عن تعيين الغرب للعلمانيين التابعين له أوصياء على شعوب العالم الثالث فلم يعد ذلك مجال إنكار[13]، بل النقاش في أي المؤسسات يقبع الأوصياء؟ هل في الإعلام؟ أم الثقافة؟ أم العسكر؟ أم في كلها؟ وذلك مما قتل توثيقًا وإثباتًا. ولكن خذ هذا المقطع من مقال طويل يتحدث عن خيانة العلمانيين للديمقراطية في مصر: "لقد شهد عصر الاستعمار صعود طبقة مثقفة درس معظم أفرادها في الغرب، وتم تدريبها لتشكل الطبقة البورجوازية الضرورية لإدارة جهاز الدولة البيروقراطي اللازم لخدمة مصالح الاستعمار في المنطقة[14]... قبل قيام الانقلاب العسكري بفترة طويلة، حكمت النخب الثقافية وبعض شركائها الثوريين على الثورة المصرية بالإجهاض نتيجة خوضهم فيما أصبح في زمننا الحالي خطأ متكررًا. فقد تصوروا أنفسهم ملاك الشرعية الحقيقيين والوحيدين، ليس لكونهم يمثلون إرادة الشعب، بل لاعتقادهم بأنهم وحدهم يملكون القيم الحضارية والفكرية الضرورية لقيام نظام تقدمي يضمن تحقيق الديمقراطية الحقة في معزل عن القوى/المؤثرات الرجعية"[15].

ويستمر حديث الكاتب عن دور العلمانيين في مصر في هدم الديمقراطية وتدمير مستقبل واستقلال وحرية البلاد فيوضح بعض ما حدث: "الإنتلجنسيا العلمانية المصرية والثوار أنفسهم أكثر من أي شيء آخر هم الذين دفعوا بالثورة إلى الانتحار القسري، ولهذا ينبغي فهم حقيقة أن الفشل الحالي، قبل كل شيء آخر أيضًا، هو هزيمة لأخلاقية الشرعية. والمفارقة الواضحة في المشهد السياسي الراهن تقول الكثير حول الأزمة في أخلاقية الشرعية، إذ كانت الشكاوى ضد الرئيس محمد مرسي تتلخص في أنه حاول احتكار السلطة، ولم يحترم حكم القانون المتمثل في السلطة القضائية، وانتهك حقوق المعارضين. لكن ممثل السلك القضائي الذي يتربع اليوم على هرم السلطة كرئيس مصر الانتقالي يبدو هانئًا مرتاح البال، لا يؤرقه عدم قانونية إغلاق وسائل الإعلام المعارضة، ولا الاعتقالات الجماعية أو حتى قتل أنصار مرسي ومؤيديه، ولا احتكار السلطات التشريعية والتنفيذية التي منحها له العسكر... ولا تفوت المرء المفارقة الساخرة بأن الرئيس المؤقت عدلي منصور، الذي يجلس قاضيًا في المحكمة الدستورية، لم يطق أي درجة من التدخل السياسي لرئيس مدني، لكنه لا ينزعج اليوم من تلقي أوامره المباشرة من العسكر. إن النخب الثقافية العلمانية في مصر والعالم العربي عمومًا حصرت المنطقة في دائرة مفرغة من الإحباط وهزيمة الذات؛ لأنها تبدو عاجزة عن فهم حقيقة أن لا شيء يغتال المبادئ السامية كالنفاق البراغماتي لحامليها".

ثم يسخر الكاتب من استغلال نظرية مؤامراتية رددها العلمانيون من أعداء الشعوب زعموا فيها أن الإسلاميين كانوا متآمرين مع الأمريكان للإطاحة بفساد مبارك ليصلوا إلى الحكم: "إن تصوير الإسلاميين على أنهم جزء من مؤامرة غربية مدفوع بالحاجة إلى إقصائهم كغرباء خارج المجتمع، وبالتالي تجريدهم من أي نوع من المصداقية التقليدية أو المحلية، بل هم عملاء مخربون تستغلهم القوى الخارجية وتتلاعب بهم. كما أنهم يستغلون الشعارات المحلية لكن لمجرد خدمة أجندات خارجية لا علاقة لها بالمصالح المادية الحقيقية للشعب الذي يدعون تمثيله".

ثم يشرح أبو الفضل أن العسكر بعد انتخاب محمد مرسي بدأوا بالتفاوض مع واشنطن لإزاحته عن السلطة، "وإعادة تسليم الثورة إلى أصحابها الشرعيين، وأصحابها الشرعيون هم ملاك الحقيقة العلمانية القائلة بأن لا دور للدين في المجال العام". إلى أن يقول: "يبدو فعلاً أن النخب الثقافية العلمانية المصرية مصممة على إعادة التاريخ مرة أخرى. وباحتفالها بانقلاب عام 2013، تمامًا كاحتفالها بانقلاب عام 1952، تظهر أنها فعلًا لم تتعلم شيئًا من دروس التاريخ"[16].

صحيح أن ممثلي شعوبنا المنتخَبين غرباء عن السياسة وعاشوا منذ بداية زمن المحتل غرباء عن تدبير شؤونهم، ولكن هل الوصي الذي يعينه المحتل هو الأقدر وهو الذي يعرف مصلحة الشعوب؟ الحقيقة أن المحتل المحلي هو من ينفذ التوصيات الموجهة إليه ويتطرف في تطبيقها أحيانًا على المستضعفين أكثر من المحتل الغربي أو الشرقي.

قد يحتج المثقفون الأتباع للمستبدين أنهم يعرفون بلدانهم أكثر من غيرهم، ويرددون ببغائية مقولة المستبدين القامعين والعملاء بأنهم يفهمون الشعوب والغرب لا يفهمها، وأن المعارضة تعارض لأجل المعارضة، والدين حجة لاستلام السلطة. ولدي بعض الملاحظات على هذا الاحتجاج: بداية إن كان العلماني المتغرب في السلطة أو مع السلطة فهو يستعين بالعدو على شعبه، وينفق ثروة المجتمع لشراء وسائل التعذيب والتدريب عليها وبناء السجون وتدمير التعليم والجامعات، ولو وضع لوحات وشعارات فمحتوى تعليمه إذلال وتجهيل ورشوة وإنتاج لمصفقين ينحازون إليه ضد المصالح العامة، وهذا ما نراه عيانًا في كل زاوية من نتاجهم.

أما قولهم إن المعارضة تعارض من أجل أن تستلم السلطة، فإن كانت السلطة عيبًا أو عارًا فلماذا هم متشبثون بهذا العار ويحاربون من يتوهمون أن سوف ينافسونهم؟ أهي حرم مقدس حلال لهم وحرام على الشعب وعلى من يختاره؟ ولماذا يعاب من ينالها بقرار شعبي بينما يقدس ويحمى من ينالها بانقلاب مستعمر أو بتوصية منه أو تعيين عميل؟

إن الأحقاد الراسخة التي تدفع المنافقين في البلاد العربية والإسلامية للانضمام إلى من يعادون الإسلام وأهله طبيعة مستمرة منذ أسلافهم الممهدين للمستعمرين، وحتى يلفظ كل استعمار أنفاسه سيبحثون عن عدو يقدمون له ولاءهم وخدماتهم، ما دام هذا العدو يدمر بلادهم فهم أولياء مخلصون له: "فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة، فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين"[17].

وخذ هذا المثال من أحد اليساريين وقد فاز هؤلاء كلهم بمقعد يتيم في برلمان تونس يقول: "إن ما قام به الرئيس تجاه حركة الإسلام السياسي لم يقدر عليه لا بو رقيبة ولا بن علي"[18]. ومن قبل الثورة التونسية حاولت فرنسا الإبقاء على بن علي إلى آخر لحظة ضد الشعب التونسي، ولما تأكدت من خسارته لم تسمح له بمأوى، تمامًا كما فعلت أمريكا مع الشاه، استخدمته ما دام نافعًا، فلما أسقطه شعبه حرمته حتى من العلاج على أرضها وهو يعاني السرطان ولم يجد بكاؤه ولا بكاء زوجته شيئًا.

النفاق الديمقراطي الغربي للتونسيين وخطابات المطالبة الغربية بعودة الديمقراطية يجب ألا يفهم منه التونسيون أن الغرب سيعيد لهم ديمقراطيتهم من أنياب الانقلابيين، ولكن المواقف الغربية مواقف مساومة وسوف يندفعون وراء الدكتاتور المنتصر لو تأكدوا أنه سيربح السباق؛ لأنهم أخذوا درسًا من مساندة بن علي المطلقة، وحتى لا يتكرر المشهد ويفقدون بقية ماء وجه تجاه الشعوب، غير أنهم يشكون فقط في قدرة قيس سعيد على الانتصار ضد الشعب الثائر الذي ذاق الديمقراطية عقدًا من الزمان، بالرغم من ضجة إعلام الدكتاتوريات العربية المشوهة للديمقراطية التونسية، تلك الدكتاتوريات التي أخذت على عاتقها إسقاط أول ديمقراطية عربية وأطولها عمرًا بعد الربيع العربي. ثم إن حيل الانقلابيين المدعومة بسخاء الدكتاتوريات العربية وإعلامها ضللت كثيرًا من الشعب عن مصالحه وحريته، وأوهمته أن الإسلام إرهاب وأن وجود إسلاميين في البرلمان والحكومة سيكون كارثة لهم، وجعلت الدكتاتوريات العربية من قيس سعيد الذي عملت على الهيمنة عليه وإيهامه وتغريره بأنه الزعيم الذي سيصنع حكمًا وتاريخًا ومستقبلًا عظيمًا لنفسه ليكون المنقذ الأكبر، فما جلب ولن يجلب إلا الفقر والقلق والاضطراب وضياع البلاد وسطوة الخلاف، ثم قد يسقطه عسكري يعدونه للمنصب في إحدى الزوايا الآن. لم يتحرك الجيش معه تمامًا وبقي بين بين، ولكنه يحرس دكتاتوريته ربما بضغط خارجي، رغم أننا نشك في تأخر الدكتاتوريات العربية التي لم تسقطه إلى الآن وربما لا ترى دوره قد انتهى، ولعلها مشغولة باختيار مدني أو عسكري بديل لقيس ليعيد ظلمات القهر والفقر والاستبداد إلى تونس، ولتجعل من الديمقراطية وتحرر الشعوب شرًّا يفر منه الجميع إلى واحات الهوان والقهر والعلمانية والتبعية التي تروج لها الصهيونية وأتباعها العرب.

إن تونس تعيش لحظة خدعة كبرى وسوف تستيقظ في قبضة دكتاتورية لا ترحمها، وقد نفذت الحكومات الدكتاتورية العربية قرارها ضد تونس فألغت برلمانها وألغت قضاءها المستقل، وسجنت وزراءها والناشطين القادرين على استعادة العدل والحريات، بل تم تجريم أول رئيس ديمقراطي لتونس وحكم بالسجن غيابيًّا أربع سنوات لأنه لم يصمت. كما أن أمريكا تشك، خاصة الرئيس بايدن وفريقه، في إمكانية قيام ديمقراطية في بلد عربي[19]. فالغرب يدرك أن العلمانية أكثر غربة وغرابة عن مجتمعاتنا، لكنه يستخدمها فيما ينفعه، وقد ظهرت فوائد ذلك في تنافر المجتمعات واغتراب فئات منها عن ذواتها ومجتمعاتها، وبقي الصادق والمخلص من ضحايا العلمانية على الأعراف، لا للعدو انحاز ولا للقريب أخلص ووعى قضاياه إلا ما ندر.

وإذا كانت حكومات المحافظين الغربيين متشددة ضد الآخرين سواء كان الآخرون يساريين أو إسلاميين أو قوميين لا ينصاعون لمصالحها، فإن الديمقراطيين الذين يلوحون بالمبادئ، علمانية كانت أو ديمقراطية، سرعان ما يسقطون المبادئ من حسابهم ويجعلونها شكلية وضعيفة وغير ذات أهمية أمام ما يرونه مصالح، أو كما يرى أحد كتاب مقالات جريدة واشنطون بوست بتوصيف طريف أنهم يفرشون السجاد الأحمر لاستقبال الدكتاتوريين، بينما الغرف الجانبية واسعة تسع دعاة حقوق الإنسان، وبهذا يتمكن الدكتاتور ويتسلى الحقوقي بوجود هامشي فيشعر أنه لم يترك في العراء.

 فيما يتعلق بتونس والنهضة أو غيرها من الأحزاب فإنا لا نقف مع النهضة ولا مع خصومها لموقف عقدي من أي حزب، بل القول هنا هو ما نؤمن به من أن الدكتاتورية رذيلة، سواء جاءت باسم الإسلام أو باسم الكفر والعمالة، ولا نعطي قبولًا مطلقًا لأي حزب إسلامي أو غيره ما لم يرع حرمات بلادنا وديننا وقيمنا وثرواتنا وحرياتنا؛ فالحرية لأمتنا مكون من مكونات دينها لا تتنازل عنها مواربة لأي سلطة.

 

لماذا تفشل العلمانية في العالم الإسلامي؟

لعل من أسباب فشل العلمانية الأفكار المضادة لها، ومنها الثقة في عالمنا بأنها بضاعة فكرية مستوردة، وأنها كأي قيم الاستعمار وأفكاره تهدف لمضايقة الإسلام وطرده من الحياة الخاصة والعامة. ثم إنها في غالب البلدان الإسلامية ارتبطت بترجمة متطرفة للعلمانية الفرنسية، كما حدث في تركيا والشام وفي شمال إفريقيا وفي بلدان إفريقية وآسيوية كانت فرنسا تستعمرها. وكما لم تخضع الديمقراطية للتبيئة لتكون قريبة من ثقافة شعوبنا ومجتمعهم رغم فوائدها، فمن باب أولى تلك الأفكار والسلوك المخالفة تمامًا. ثم إن المروجين للعلمانية في المشرق العربي كانوا غالبًا من الأقليات التي تعودت الشعوب أن تحيطهم بالشبهات قبل أي مشاركة فكرية أو سياسية، ولم يغفر المسلمون لعلمانية البعثيين وربطوها بتلميذ فرنسا المسيحي ميشيل عفلق، فكان خطباء المساجد والوعاظ كثيرًا ما يربطون حزب البعث بالشخص، وبالتالي بفرنسا المحتلة لبلدان عديدة من بلدان المسلمين وصاحبة التوتر المعاصر تجاه المسلمين أشخاصًا ودينًا وثقافة، وكنا نشأنا في الفضاء العام من كتابات صحفية وبرامج إعلامية وخطباء مساجد كان جل ذلك الإعلام يربط بين القومية والعلمانية والتبشير والاستعمار[20]، ثم ذاق الجيل السابق لنا هزيمة عام 1967 واحتلال الضفة الغربية والجولان وسيناء، في عهد القومية والعلمانية العربية القاهر، وفُسرت تصرفات هؤلاء الزعماء بحق أو بدونه بأنه ما من عدو لهذه الشعوب في عيون قياداتها العلمانية إلا الإسلام وشعوبه، ولما كبر جيلنا فإذا هو يرى حصاد تطبيق هذه الأفكار في العراق وسوريا هزائم وتمزقًا وإبادة وإرهابًا.

ثم حتى لا نظلم هذه الأفكار ونبقي لها خيطًا يخفف عليها من النقد، فإنها أفكار لو كانت فيها فائدة فقد بقيت هامشية وشكلية بلا عمق، ولم يحصل أن تغلغلت ولا حلت محل الأديان. حدثني مرة مخرج سوري عن لقاءات الشباب العراقي والسوري في زمنه، قال: كان زملاؤنا من اليسار العراقي ومنهم بعض الشيعة يزورونا في دمشق ونخرج للسهرة، فتبدأ السهرة بتمجيد ماركس ولينين، وحين ينتصف الليل وقبل أن ينفض السامر ننتهي بذكر أخبار وأمجاد الحسن والحسين. ونذكر أنه لما علا صوت الاشتراكية في الثلث الأول من القرن العشرين بقيت سطحية وتم تحويرها لتفقد فكرتها وإلا فستصطدم بالمجتمع. وقد أنشد شوقي ثم غنت أم كلثوم وصفًا للنبي صلى الله عليه وسلم: "الاشتراكيون أنت إمامهم". ولما فرض عبد الناصر الاشتراكية وذاع لها مجد عند العرب كتب مصطفى السباعي كتابه المشهور اشتراكية الإسلام، وكأن هذه الفكرة لن تعبر إلى المجتمع إلا إذا لبست لباسًا إسلاميًّا، وتملقت المجتمع بمبرر ديني، ثم رد عليه الشيخ عبد العزيز البدري في كتابه حكم الإسلام في الاشتراكية. وفي وقتها وبعدها كان هناك لغط بأن المؤلف الأول "السباعي" يمثل مدرسة الإخوان المسلمين والبدري يمثل مدرسة حزب التحرير. ولعل هذا دأبنا من قديم إلى اليوم، نجد أنفسا في مواجهة مدارس وأفكار الآخرين من الغزاة خاصة وما نراه قريبًا منا نمجده ونرى فيه حلًّا لمشكلاتنا. ولا أنكر أني في كتاب الديمقراطية: الجذور وإشكالية التطبيق لم أكن بعيدًا مما ألوم عليه غيري في الدعوة إلى الديمقراطية من مدخل تاريخ القبائل العربية وتجربة الشورى عند الراشدين وغيرهم، ولكلٍ مبررات لرأيه وشواهده وقناعاته في فهم الخطاب الغالب في زمنه، أو شرح مصلحة أمته كما رآها في زمنه، أو الأخذ بالأقل سوءًا وعاقبة.

إن العلمنة في بلدان العالم الإسلامي تُفرض على المسلمين بالتطرف وبالحديد والنار والمشانق، ولا يقبلونها طوعًا لغربتها عنهم، لكنهم ينصاعون لأي دعوة باسم الإسلام حتى حين تنطوي على قسوة وعنف وإرهاب يخالف غايات الشرع ومقاصده. وللأسف يكفي عند بعضهم شعار الإسلام ليتغاضوا عن حقيقة محتوى ما يقدم لهم باسمه، وهذا خطر آخر يوشك أن يكون للأسف هو الرد على العلمانية الغربية، فيردون على العنف بالعنف، وتخبو منزلة الوعي ويضعف التوسط والاعتدال، بل قد يوصف الاعتدال الحقيقي المشروع بالنفاق.

 

خاتمة

وهنا نصل إلى أن مجتمعاتنا جريحة من الاحتلال ومن وكلائه في بلادنا وأرضنا، وفي مخيلتها أن الفكرة الحديثة خاصة المنقولة عن عدوهم التاريخي ما هي إلا سموم، أو كما وصفها مالك بن نبي بأنها أفكار سامة، وهذه شعوب متوترة ومستعدة بالرد العنيف تجاه ما هو غربي المصدر أو يوحي بذلك، ويسودها الشك وعدم الثقة بما يصلها من صادرات فكرية أو سلوكية، وهي أشد ضد من تراهم سماسرة أو وكلاء فكريين للآخرين، في الوقت نفسه تحرص على تحقيق ما ترى أنه أفكارها وتراثها حتى حينما لا تعرف تطبيقه ولا طريقة التعامل معه، ولا تستطيع تحيينه ولا تجديده، فهي حتى حين تنفذ أحكام الشريعة يسيطر عليها هاجس المكايدة والمخالفة مما يجعلها أحيانًا تضر بنفسها وسمعتها وتنشر التشدد والقسوة المجافية لدين الرحمة، فوق أنها تضر بذلك جناب الإسلام وسمعته. مثال ذلك تطبيق الشريعة حيث يرى المتشددون التنفيذ غاية، بينما الغاية سلامة المجتمع من ظواهر الفساد والإفساد، وما الحدود إلا وسائل للردع وليس للتطبيق، فمتى خاف الجاني وتاب أو هرب فإن الغاية تحققت بجعل هذه الحالة مكروهة ممقوتة لا تنتشر، وإلا لوقفت الشريعة ضدها.

إن شيوع الحرفية في فهم نصوص الإسلام تؤدي إلى قبول بعض من العامة بجوانب من العلمانية، ثم تبقى هذه الأفكار نثارًا لا ينتظم لا إسلامًا ولا غيره، بل يبقى الاضطراب والتنكر سلاحًا ضد الفكر الآخر الذي بقي هو أيضًا غريبًا ومتنكرًا ولم يستطع الاستيطان ولا يملك آلاته بل يحمل في قلبه ما يؤسس لرفضه. أما الذين لا تتحكم فيهم الحرفية ويذهبون إلى التعريف بفوائد الأفكار الأخرى والتبرير لها، فإن الاتهام لهم بالانحراف والتبعية والتلفيق يبقى سوطًا مسلطًا عليهم وتهمة قائمة. والآن لا يبدو أن هناك من مخرج إلا بإبداع ثقافي وروحي يتخلص من سموم الآخرين ويتنقى من عفن الجمود.

 

[1]    جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، العروة الوثقى، مقال "الدهريون في الهند"، من كتاب الثائر الإسلامي جمال الدين الأفغاني، دار الهلال، كتاب الهلال، رمضان 1993هـ 1973، ص 110.

[2]  من مقابلة الدكتور عبد الكريم الأشتر مع ميخائيل نعيمة  4-12-1958، مجلة المعرفة السورية، العدد الرابع والعشرون، ختام السنة الثانية،  فبراير/ شباط 1964، ص 104.

[3]  يقول العقاد: "ولعل سائلًا يسأل: ولماذا يكون التحدي البين للنفوذ الديني خاصة من خواص النشأة السورية؟ فأقول لهذا السائل: ... إن رجال الدين هناك ربما كانوا أقوى الطوائف الدينية في العالم، وأوسع رعاة الكنائس إشرافًا على حياة أتباعهم... فقد جمعوا بين الزعامة في الدين والزعامة في السياسة والزعامة في العلم. وناهيك بها من سطوة هائلة تغري بالتحدي وتغري بالمناجزة. أما سبب اجتماع هذه السطوة لهم، فللحوادث التاريخية التي حدثت عقب غارات الصليبيين وعقب الاتفاق على الامتيازات الأجنبية دخل عظيم فيه. وخلاصته القريبة أن طائفة رجال الدين كانت في البلاد السورية ولا تزال معقد آمال الشعب المسيحي في الحرية السياسية، لما بينها وبين الحكومة الفرنسية والحكومات الأوروبية الأخرى من صلة معروفة، وأنها كانت ولا تزال قائدة الأفكار وقدوة المسترشدين؛ لأنها منشئة المدارس وطابعة الكتب ومربية الصغار والكبار. وإذا اجتمعت لفئة واحدة أَزِمة السطوة الروحية من كل جانب -كما اجتمعت لفئة القسيسين السوريين- فغير عجيب ألا يرضى عنها وأن يتبرم بها فريق الشبان المتعطشين إلى المعرفة الحرة، التواقين إلى الآراء المتجددة... وغير عجيب أن يجعلوا تحديها والإغراء بها هجيراهم وشغلهم الشاغل في كل ما يدرسون ويكتبون.. وهذا ما تراه في كتابات فرح أنطون مع شيء من الرفق والاعتدال، وتراه على تفاوت في الجرأة وغلو في اللهجة في كتابات الأدباء السوريين المهاجرين إلى الأقطار الأمريكية". رجال عرفتهم (القاهرة: نهضة مصر للنشر والتوزيع، 2010)، ص 155.

[4]  ناقش العلمانية بوصفها دينًا بعض أهم المفكرين والفلاسفة الغربيين، ومنهم المؤرخ كرين برينتون في كتابه تشكيل العقل الحديث، ترجمة شوقي جلال (الكويت: عالم المعرفة، 1984)؛ وإيزايا برلين في كتاباته عن القومية ومنها نسيج الإنسان الفاسد، ترجمة سمية فلوعبود (بيروت: دار الساقي، 1993).

[5]  كانت هذه الفكرة من أسس نقد الفيلسوف إيزايا برلين للمثقفين الروس، أنظر كتابه عنهم المفكرون الروس:

Isaiah Berlin. Russian Thinkers.

[6]  مما جعل إدوارد سعيد منصفًا للعالم الإسلامي وغير متحيز ضد الإسلام رغم يساريته وأصوله المسيحية أنه لم يتشرب أزمات الأقليات بالطريقة التي عاشها غيره في نضجه، وأنه عاش طفولته بين الأقلية، وشبابه في الغرب في مجتمع عنصري مضاد لعروبته، خاصة مجتمع صهاينة نيويورك، وكان للموقف السياسي في فلسطين ما جعله يقدر الإسلام وحضارته كقوة حضارية ينتمي إليها ونضالية لتحرير بلاده.

[7]  من أبرز نماذج ذلك الجهود التي بذلها اليسار العربي لإثبات النظريات الماركسية وإقحام تطبيقها قسرًا على تراث المسلمين ومسيرة تاريخهم كتاب من أمثال حسين مروة وعبد الرحمن الشرقاوي.

[8]    خالد أبو الفضل، "انهيار الشرعية: كيف خانت النخب الثقافية الثورة في مصر"، منتدى العلاقات العربية والدولية، في: 

https://bit.ly/3Jrq8gQ

[9]  كان آخر من تولى منصب شيخ الإسلام زمن العثمانيين، ثم لجأ إلى مصر وقضى بقية حياته هناك وكتب فيها الكثير من أعماله المهمة.

 

[10]          المهدي مبروك، "المثقفون والانقلاب في تونس"، 25 أكتوبر 2021، العربي الجديد، في:

https://bit.ly/3Krfh7T

[11]          السابق.

[12]          تونس: ما أسباب استقالة نادية عكاشة "حاملة أسرار" قيس سعيّد من منصبها؟ فرانس 24،  :25/01/2022

https://bit.ly/3redbka

[13]          انظر المقدمة المهمة عن تهيئة وتنصيب أولياء الاستعمار التي كتبها سارتر لكتاب فرانز فانون، معذبو الأرض.

[14]          يكاد يكون النص أقرب إلى قول سارتر في المقدمة المشار إليها رغم أنه يعالج حالة مختلفة.

[15]          خالد أبو الفضل، سبق ذكره.

[16]          السابق.

[17]          الآية 52، سورة المائدة.

[18]          المهدي مبروك.

[19]          انظر مقابلة الناشط التونسي رضوان المصمودي مع نوح فريدمان على يوتيوب:

https://www.youtube.com/watch?v=ls8LPUUynx0

[20]          من نماذج ذلك الكتاب الرائج لمصطفى الخالدي وعمر فروخ: التبشير والاستعمار (بيروت: منشورات المكتبة العصرية، 1953).

 

شارك :

التعليقات (0)

أضف تعليق