عصر الإقطاع الرقمي

رامون بليكوا

عصر الإقطاع الرقمي

ترجمة: [1]الحسن مصباح

وفقًا لرامون بليكوا، يمكن أن تؤدي طريقتنا في الاستجابة للوباء إلى تسريع ظهور إقطاع جديد، حيث سيبتلى المواطنون بالتعسف الفوضوي للقوى الرقمية الجديدة وأمراء الحرب الحقيقيين الذين يزدهرون بسبب الأزمة التي تعيشها الدول والنظام المتعدد الأطراف.

يمر النظام الدولي بتحولات سيكون لها عواقب ليس فقط على العلاقات الدولية، ولكن على حياتنا كلها، وعلى المجتمع والاقتصاد. وفي الواقع، لم يعد السؤال المطروح هو أي الأنظمة أفضل: هل هي الأنظمة ثنائية القطب أو أحادية القطب أو متعددة الأقطاب، سواء كانت الصين شريكًا موثوقًا به أم إمبراطورية الشر الجديدة، أو إلى أي مدى يجب محاربة استراتيجيات النفوذ الروسي.

لقد فقدت هذه الأسئلة أهميتها؛ لأن الدول لم تعد هي الأطراف الفاعلة الوحيدة، وقد يكون النظام الدولي أحد ضحايا هذا الوباء. وينبع ضعف الدول من القوة المتنامية للشركات عبر الوطنية، والتي يعتبر عمالقة الويب أبرز نماذجها. لن نناقش هنا خصخصة القوة العسكرية والأهمية المتزايدة للجيوش الخاصة والمنظمات الإرهابية العابرة للحدود.

لقد أصبح الهيكل المؤسسي والاقتصادي الذي سمح بإحدى أطول فترات الاستقرار والازدهار موضع تساؤل الآن، ليس من قبل الدول التي تعارضه تقليديًّا، ولكن من قبل الدولة المؤسِّسة له وهي الولايات المتحدة، التي تقود بقوة مشروع هدم النظام الدولي. وفي هذا الصدد، سيكون من غير العدل إلقاء اللوم على الرئيس [السابق] ترامب فيما يخص أزمة نسق استمرت لأكثر من عشر سنوات.

بدأت بعض هذه التطورات بالفعل في نهاية الحرب الباردة، وهي نتيجة لعملية العولمة وإخفاقات نظام متعدد الأطراف، معززة بنهج الرئيس ترامب. وسيؤدي ازدراؤها للمؤسسات الدولية، مثل الأمم المتحدة ومنظمة التجارة العالمية والاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، إلى إضعاف قدرتها المحدودة بالفعل على الاستجابة لعدد متزايد من التحديات المقبلة.

يخدع الشعبويون وغيرهم من أعداء التعددية أنفسهم بشأن قدرتهم على استبدال النظام الدولي الحالي بالعودة إلى سيادة الدولة والسياسات الأحادية. إنهم خياليون مثل أولئك الذين ما زالوا يعتقدون أن الهيكل الدولي قوي بما يكفي لتحمل الصدمات الجيوسياسية الحالية.

في الواقع، تُظهر خصخصة تقنيات المراقبة والخدمات العسكرية في الولايات المتحدة أنه حتى قوة الهيمنة العالمية من المحتمل أن تفقد ما يحدد سلطة الدولة: احتكار الاستخدام المشروع للقوة لضمان النظام والأمن.

ومن ثمّ، لا يجري تفضيل الأعمال العسكرية بشكل متزايد على المبادرات الدبلوماسية فحسب، بل إن أي شخص لديه أموال كافية يمكنه استخدام جيش خاص. مثل هذا الوضع يذكِّرنا بكوندوتييري[2] في أوروبا في العصور الوسطى، أو توسع شركة الهند الشرقية في القرن الثامن عشر، أكثر من تذكيره لنا بالعودة إلى العصر الذهبي لسيادة الدولة[3].

يفكر الأكاديميون والخبراء والقادة السياسيون في عواقب الأزمة الحالية بما يتجاوز حالة الطوارئ الصحية المباشرة. وكما كتب المؤرخ يوفال هراري، فإن معظم تدابير الطوارئ المتخذة اليوم ستستمر على المدى الطويل[4]. والاختيار بين المراقبة الشمولية وتمكين المواطن، وبين الانكفاء القومي وتوسع العولمة، سيحدد اتجاه الفترة التاريخية القادمة.

وقد انتشرت مفاهيم مثل تعدد الأنظمة أو القرون الوسطى الجديدة منذ ثمانينيات القرن الماضي، باعتبارها مجرد فرضيات أكاديمية لوصف نظام دولي يكافح من أجل التكيف مع معدل غير مسبوق من التغيير[5]. وهكذا شكك روبرت كابلان في حقائق حقبة ما بعد الحرب الباردة، وتوقع أن تؤدي الألفية الجديدة إلى العودة إلى فوضى العصور الوسطى[6]. فقد تبنى نظرية هيدلي بول عن القرون الوسطى الجديدة وروج نسخة أكثر ترويعًا[7].

تبدو هذه الافتراضات اليوم أكثر واقعية مما كانت عليه عندما تمت صياغتها لأول مرة. ونحن اليوم نتجه نحو نظام متعدد الأقطاب غير مستقر تتعايش فيه الدولة ما بعد-الفيبيرية، ذات السيادة المنتقصة، مع هيكل متعدد الأطراف متآكل، في مواجهة الجهات الفاعلة القوية من غير الدول. ويعد تخلّي فرنسا عن الضريبة على الأرباح المقدّرة في البلاد لشركة غوغل، بعد التهديدات المباشرة من الشركة، أحد الأمثلة العديدة على موازين القوى الجديدة هذه.

حدد الفيلسوف داريوش شايغان ثلاث ظواهر تميّـز فوضى العالم المعاصر: فقدان سحر الوجود، وتدمير العقل، واستبدال الخيال بالواقع الافتراضي. وتؤدي هذه الظواهر إلى تدمير الأنطولوجيا، وإلى تعميم الهويات المتعددة وتداخل حالات الوعي المختلفة[8]. إن عودة ظهور نظام قروسطى من سلطات مجزأة وولاءات متعددة النطاقات يمكن أن يؤدي إلى علاقات تبعية جديدة، يلعب فيها عمالقة الشبكة العنكبوتية والتكتلات المالية دور السادة الإقطاعيين.

تتجلى الروابط بين الابتكار التكنولوجي وعقليات القرون الوسطى أيضًا من خلال انتشار الأيديولوجيات الأخروية والعقائد المهدوية. فعلى سبيل المثال، جمعت استراتيجية داعش للتجنيد عبر الإنترنت بين التقنيات الرقمية ونبوءات يوم القيامة. فقد أظهرت تجربة حركة طالبان في أفغانستان، وحركة الحوثي في ​​اليمن أيضًا، كيف يمكن استخدام الرموز القبلية القديمة والمعتقدات الألفية لتعبئة السكان لهزيمة الأسلحة المتطورة للأمريكيين.

لكن هذه الظاهرة لا تقتصر على الجماعات الإرهابية، كما يبرز ذلك استحضار تاريخ الأسرة المالكة تانغ (618-907) من طرف الزعيم الصيني شي جين بينغ. فقد جعل هذا الزعيم، مدعومًا بنجاح عمالقة الشبكة الصينيين، سلطته معتمدة على ولاية السماء التي ادّعاها القادة الصينيون عبر التاريخ. والغرب أيضًا تخترقه اليوم حركات استقلالية في اسكتلندا وكاتالونيا، والتي تستند جزئيًّا في مطالبها إلى "تاريخ العصور الوسطى". ومن جانبهم ابتكر القساوسة الإنجيليون في أمريكا مزيجًا خاصًّا بهم من القيادة الكاريزمية والنبوءة المهدوية واستراتيجيات التعبئة السياسية المتطورة، بناءً على وسائل التواصل الاجتماعي.

وعلى مدى العقد الماضي، تسارع فقدان ثقة المواطنين بقادتهم وبالديمقراطية الليبرالية بشكل عام من خلال وسائل التواصل الاجتماعي. ومع ذلك، فإن المشكلة أعمق من ذلك، حيث إن سردية النظام الدولي الليبرالي القائم على الازدهار التي يغذّيها النمو الاقتصادي اللانهائي فقدت مصداقيتها.

ويُظهر الشرق الأوسط صورة واضحة عن تشرذم السلطة والانهيار المؤسسي. ويمكن بالفعل اعتبار سوريا ولبنان والعراق وليبيا واليمن أمثلة على نموذج القرون الوسطى الجديدة هذا، حيث أصبح الفاعلون من غير الدول هم بالفعل صناع القرار الرئيسيين. ومع ذلك، وفقًا لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، سيعاني أكثر من 60 % من مواطني المنطقة من عدم استقرار اقتصادي حاد خلال العقد المقبل.

إن تزايد التفاوتات، والأزمات المناخية، وندرة الموارد، والتهجير غير المسبوق للسكان، وعودة المخاطر الصحية المفترض أنها انقرضت، تقضي على أي بصيص من التفاؤل. ويمثل انتشار فيروس كورونا في إيران والعراق، والذي تفاقم بسبب العقوبات الأمريكية وسوء الإدارة الداخلية، خطرًا إضافيًّا في السياق الحالي للمواجهة الإقليمية، بعد اغتيال قاسم سليماني وأبي مهدي المهندس...، والتوترات اللاحقة في الأراضي العراقية بين القوات الأمريكية والميليشيات الموالية لإيران[9].

فمزيد من التصعيد أمر لا مفر منه، على الرغم من أنه من المستحيل معرفة متى سيحدث ذلك. لكن مزيج الحرب والمرض في هذه المنطقة المجاورة، حيث مؤسسات الدولة على وشك الانهيار زيادة على الانفجار الديموغرافي، لا يبشر بالخير لأوروبا التي يمكن أن تنهار بسبب سقوط جيرانها نحو العصور الوسطى الجديدة.

لم تؤد الأزمة المالية لعام 2008 إلى تغيير جذري في النظام المالي الفاشل. وسيؤدي كوفيد 19 إلى ركود آخر، ربما يكون الأكبر في التاريخ. ومع ذلك، سيكون من غير المقنع اعتبار أن الأسباب الوحيدة للأزمة الاقتصادية هي التدابير الاستعجالية المتخذة ضد الوباء.

في الواقع، فإن تحرير الأسواق المالية من قبل ريغان سمح بتداول الثروة، ولكن ساهم بالمقابل في زيادة عدم المساواة الاجتماعية. وربما أدى غياب المراقبة الذي تستفيد منه شركات التكنولوجيا الكبيرة إلى تسريع الابتكار، ولكنه أدى أيضًا إلى إنشاء احتكارات على المورد الأكثر قيمة على الشبكة: البيانات الشخصية. ويمكن أن يؤدي الدين العام المتراكم من قبل معظم البلدان، في أعقاب انهيار عام 2008 ووباء فيروس كورونا، إلى أن يحكم على الأجيال القادمة بالعبودية الاقتصادية الحقيقية، على شكل نمط إقطاعي.

إن التطور السريع للذكاء الاصطناعي، والجمع الضخم للبيانات، والمراقبة البيومترية، وانتشار شبكات الجيل الخامس سوف يوسع من سيطرة الحكومات على مواطنيها. ويتنافس كل من الجيش الأمريكي والصيني على الابتكار من خلال دراسة العلاقة بين الدماغ البشري وأنظمة الذكاء الاصطناعي. والنتائج التي توصلوا إليها لن تغير الطريقة التي تشن بها الحرب فحسب، بل ستغير أيضًا طريقة تنظيم المجتمعات. كان على المواطنين من قبل الاختيار بين الحرية والأمن، وعليهم الآن الاختيار بين الصحة والحياة الخاصة.

وعلى الرغم من القلق الذي يثيره صعود دول المراقبة، فإن الأمر الأكثر إثارة للقلق هو أن الأدوات التكنولوجية الجديدة والبيانات الشخصية هي في أيدي الشركات الخاصة القوية. وإذا تُرِك ذلك دون رادع، فإن التواطؤ بين دولة المراقبة والإقطاع الرقمي سوف يطمس الخطوط الفاصلة بين الدول الشمولية والديمقراطية. هل سيكون لدينا خيار بين الحرية والأمن، أم إن هذا الاختيار سوف يحتكره أولئك الذين يسيطرون على التقنيات الجديدة، ويدمرون أي مظهر من مظاهر الديمقراطية؟

يتم جمع البيانات الشخصية لتغذية الشركات التكنولوجية العملاقة بينما يذبل الاقتصاد الإنتاجي. يمثل عُشر الشركات 80% من رأس المال الدولي، ويعمل معظمها في قطاع التكنولوجيا الجديدة. وهذه الهيمنة، بالإضافة إلى كونها هبة مالية، فإنها تمنح الشركات تأثيرًا كبيرًا في السياسة العالمية. إن التلاعب بوسائل التواصل الاجتماعي خلال الانتخابات الرئاسية الأمريكية واستفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي ليس سوى غيض من فيض. وفي كتاب حديث بعنوان لا تكن شريرًا، توضح رنا فوروهر أن سادة التكنولوجيا الكبيرة أصبحوا الآن قادرين على تغيير آرائنا وسلوكنا من أجل زيادة أرباحهم وتعزيز سلطتهم[10].

ومع ذلك، فإن إنعاش الاقتصاد سيشمل عمليات نقل جديدة للموارد من دافعي الضرائب إلى الشركات. فهل من الممكن معالجة الكثير من القضايا الشائكة في آن واحد، خاصة في أوقات الأزمات؟ قبل إطلاق شبكات الجيل الخامس، يجب علينا اغتنام الفرصة الأخيرة لجني ثمار هذه الثورة التكنولوجية مع الحفاظ على حقوق المواطنين والمنافسة الحرة بين الشركات.

السؤال المطروح حاليًا ليس هو ما إذا كان ينبغي لشركة صينية أن تتحكم في هذه البنية التحتية، وإنما ما إذا كان ينبغي لأي شركة أو أي حكومة أن تتمتع بهذه الدرجة من السلطة على العديد من جوانب حياتنا. سيكون لتأثير مثل هذه القرارات عواقب بعيدة المدى، ولكن إذا كان نجاحها غير مؤكد، فمن المرجح أن تكون تكلفة التقاعس أعلى بكثير.

 

[1] RAMON BLECUA, Lère du féodalisme digital, site le Grand Continent https://bit.ly/3qD6kP7

[2]  كوندوتييري (condottieri) كلمة إيطالية تعني زعماء المرتزقة. وقد استخدمتهم المدن إيطالية منذ أواخر العصور الوسطى حتى منتصف القرن السادس عشر. (المترجم)

[3]Sean McFate, The Modern Mercenary: Private Armies and What They Mean for World Order, Oxford University Press, 2014.

[4]Yuval Noah Harari, “The World after coronavirus”, The Financial Times, 20 mars 2020

[5]Seyom Brown, The Illusion of control, Brookings Institution Press, 2003.

[6]Robert D. Kaplan, “The Coming Anarchy”, The Atlantic, février 1994.

[7]Hedley Bull, “The Anarchical Society: A Study of Order in World Politics”, Red Globe Press, 1977.

[8]Darius Shayegan, La lumière vient de lOccident : Le réenchantement du monde et la pensée nomade, Editions de lAube, 2015.

[9]Abdolrasool Divsaller et Luigi Narbone, “A US-Iran zero-sum game on Covid-19 could threaten global health security”, European University Institute.

[10]Rana Foroohar, Dont Be Evil, Currency, 2019.

أواصر - مجلة فكرية فصلية

www.awasr.com