التحولات الرقمية: أمل في رغد أكبر لحياة البشر أم تهديد لقيم الأسر؟

طباعة 2021-06-03
التحولات الرقمية: أمل في رغد أكبر لحياة البشر أم تهديد لقيم الأسر؟

يكاد المتأمل لحال العالم بعد جائحة كورونا يجزم أن إرادة خفية تسعى لجعل هذا الحدث فرصة للزج بالإنسانية بوتيرة أسرع في عالم الرقمنة، "تشير الإحصائيات أن الجائحة صاحبها تزايد في استخدام الهواتف المحمولة بنسبة 50%، وزيادة استخدام البيانات بنحو 40%، وكانت إيطاليا أول دولة تشهد ارتفاعًا في حركة تدفق البيانات عبر الإنترنت من قبل القطاع المنزلي التي زادت بنحو 75% لكونها أول دولة تدخل مرحلة الإغلاق الكامل في العالم"[1]. ليست إيطاليا إلا مثالًا، وإلا فإن العالم كله تحول فجأة إلى دول ومؤسسات ومجتمعات تتواصل عبر الإنترنت، وتجتهد لكي تجد لنفسها موقعًا على الفضاء الأزرق. دقّت كورونا ناقوس الإعلان عن لحظة جديدة في حياة البشرية سيكون فيها البقاء لمن سيحسن السباحة في الفضاء الأزرق. إذ منذ مدة والعالم يعتبر أن ولوج العالم الرقمي مؤشر على التقدم والتحضر، بل أصبحت قدرة الإنسانية على تجويد الحياة المعيشية للأفراد متوقفة على رفع منسوب الأمم والمجتمعات في مدى قدرتها على الاستفادة من العالم الرقمي، إلا أن الحجر الصحي الذي عاشه العالم في الآونة الأخيرة جعل الرقمنة نافذة الفرد والمجتمع على العالم، وعلى المصالح، وعلى المهام والواجبات المفروضة، فكثر الحديث عن التعليم عن بعد، والعمل عن بعد، والتعاقد عن بعد، والبيع والشراء عن بعد، والتثاقف عن بعد.

إن المتأمل لتتبع الدارسين لهذه الظاهرة يبدو له جليًّا أن هذا التحول ماض شئنا أم أبينا، كما تؤكد ذلك سرعة انخراط الناس في الشبكة العالمية للإنترنت رغم كل العوائق؛ "فأكثر من 40  % من سكان العالم لديهم إمكانية الاتصال بالإنترنت، مع دخول مستخدمين جدد إلى الشبكة العالمية كل يوم، ومن بين العشرين في المئة الأفقر من الأسر نحو 7 أسر من بين كل 10 لديها هاتف محمول، وأصبح احتمال أن تمتلك أشد الأسر فقرًا هاتفًا محمولًا أكبر من احتمال وجود مراحيض أو مياه شرب لديها"[2].

هذا التطور السريع في انخراط البشرية في العالم الرقمي يحمل المفكرين مسؤولية إعداد الناس من الناحية الفكرية والتصورية للمنهج السوي لركوب هذه الموجة الانتقالية بأمان وبأقل الخسائر. وفي هذا السياق يبقى سؤال الفرص والمخاطر مما يفرض نفسه بإلحاح أكثر من ذي قبل، وهو نقاش-قديم جديد- بدأ منذ ظهور أول موجة رقمية، إلا أنه يحتاج اليوم إلى حسم يمكنه أن يساعد البشرية على الدخول الآمن في أخطر طفرة رقمية، إذ إن دور المفكر اليوم تمليك الإنسان المؤهلات والوعي والحصانة التي تكفل له الفوز في تحدي التحول الرقمي، ذاك أهم ما يجب أن يشغل الدارسين والباحثين بدل الإغراق في تحليل المخاطر المكشوفة أو المتوقعة للتحولات الرقمية، الأمر الذي أخذ مأخذًا كبيرًا من كثير ممن شغلهم هذا الموضوع.

لقد أخذ الحديث عن المخاطر المرتقبة المترتبة عن التحولات الرقمية مأخذًا شغل الكثير من المفكرين خاصة في عالمنا الإسلامي. والحقيقة أن هذا ديدن صدمة البشر بكل جديد، لا سيما أن التغيرات المتوقعة بعد هذه الموجه الأخيرة من التحولات في العالم الرقمي تعد تحديًا جديدًا غير مسبوق، بحيث ترتبت وستترتب عنه تحولات جذرية في نمط الحياة وفي قوانين التواصل[3].

ويعتبر النقاش المتعلق بخطورة أثر هذه التحولات في القيم من أهم القضايا والإشكالات المثارة، وهو نقاش واكب تاريخ التطور التقني كله، فحين انتشرت الكتابة حذر كثيرون من مفاسد محتملة مترتبة عنها، ولكن حصلت معها تحولات كثيرة انتفعت بها البشرية، فتطور العلم، وحفظت المعارف، ووثقت النظريات وتحسن حال الناس، وتوقف النقاش عن مدى خطورة الكتابة. الشيء نفسه حدث مع اكتشاف الراديو، فاعتقد أنه سيسبب الأرق ويؤدي إلى التلوث بالضوضاء، واعتقد أن التلفزيون سيؤدي إلى عزلة الأطفال وانقطاعهم عن الأنشطة التي ترتقي بالناشئة، واعتقد أن ألعاب الفيديو ستكون سببًا في التنشئة الموسومة بالعنف، وبعض من كل ذلك كان وكانت معه منافع جمة، وتجاوز الإنسان هذه النقاشات إلى نقاشات أخرى ترتبط بالجديد المخيف دائمًا.

اليوم، يقف الغيورون على القيم عمومًا وعلى الأسرة خاصة وهم يدقون نواقيس الخطر من أثر التحولات الرقمية، فإلى أي حد تحمل المعطيات العلمية ما يسوغ لهم هذا الخوف والهلع؟ وهل العالم كله أمام التحدي نفسه بالحجم نفسه؟ وهل هذا التحول كله خير؟ ومن المستفيد منه؟ ألا يعد واحدة من مظاهر الاستعباد الجديدة في الحياة المعاصرة؟ هل هو مدعاة للريبة والخوف أم هو فرصة للارتقاء والاستفادة من فرص أحسن لحياة سعيدة؟ هل هو اختيار أم نمط جديد مفروض على المجتمع المعاصر؟ ما ضرائبه وما حسناته؟ وهل المجتمع الإنساني سواء في فرص الاستفادة منه وفي تأثيره على منظومة القيم التي تختلف من مجتمع إلى آخر؟ وإذا كان التحول الرقمي هو إطار متكامل يروم استخدام التكنولوجيا لتحسين معيشتنا، فما هو حظنا من ذلك كمجتمعات نامية محكومة بإرادات سياسية دولية؟ وما الضمانات التي نأمن بها على قيمنا وهويتنا في ظل سلطة الرقمنة على تدويل القيم؟ وكيف يمكن للأسرة خاصة أن تستفيد من هذه الفرص وتحفظ وجودها ووظائفها الاستراتيجية؟

 

هل التحول الرقمي شر كله؟

إن استعراض الأخطار المرتقبة للتحولات الرقمية على القيم، والقيم الأسرية خاصة، قد يمنعنا منهجيًّا من الاعتراف بالمنح المرجوة من وراء هذا التحول، كما يحول بيننا وبين  التأمل في الآثار الإيجابية المنتظرة منه، تلك التي لا يمكن التغاضي عنها وعن أهميتها، إذ لا يحتاج الناظر في الواقع لكثير من الجهد كي يستنتج بركات الطفرة الرقمية. يقول صاحب كتاب الثورة الرقمية -وهو من أكثر الكتاب تفاؤلًا فيما يتعلق بإظهار الوجه الإيجابي للعالم الرقمي- "لم يشهد تاريخ البشرية عددًا من الناس على قيد الحياة مثل ما نراه اليوم، وبيننا اليوم من المعمّرين أكثر مما عرفه أي وقت مضى"[4]. اليوم يُتحدث عن أجهزة لمراقبة الحمل عن بعد، وفي ذلك ضمان للحد من عدد الوفيات المترتبة عن عدم قدرة بعض النساء على تحقيق المواكبة التامة لحملهن بسبب البعد أو الانتماء القروي[5]. إن تقريب المعلومة من الناس وفتح باب التواصل والتعارف على مصراعيه سهّل الولوج إلى عالم الثقافة والمعرفة والاستفادة منه واستثماره بتكلفة أقل، مما فتح الباب أمام الإنتاج والإبداع الإنساني في كل المجالات بلا حدود وبلا قيود، فأصبحنا أمام وفرة إبداعية محفزة على الإبداع، واتسع مجال تقاسم المعلومة، وبات الفضاء الرقمي فرصة كبيرة لثقافة تعاونية وتطويرية لقدرات الإنسان[6]. لقد سد الإنترنت فجوة الإعاقة من خلال التقنيات الرقمية، فأصبح أمام ذوي الإعاقة فرصة للتواصل والتعبير عن الذات وتطوير المهارات، كذلك تصف ما تحقق في حياتها بفضل الإنترنت طفلة معاقة فتقول: "تغيرت حياتي بعد الاتصال بالإنترنت"[7].

في بُعد آخر ينتظر من هذا التحول الرقمي أن يزيد من قوة الابتكار، ويفتح الفرص لوظائف جديدة تتعلق بالمهارات التقنية في أفق تجويد خدمات الشركات والمؤسسات، وتحسين التواصل بين الدولة والمواطن، استطاعت الثورة الرقمية أن تجعل التكنولوجيا فاعلة في التدريس وتطوير المعارف والمهارات[8]، و تم فتح مدارس افتراضية من شأنها أن تخفف الكثير من معاناة من انقطع عن الدراسة لأسباب موضوعية، أو ترجع إلى محدودية إمكانات ذوي الاحتياجات الخاصة[9]، ويفتح العالم الرقمي للأطفال المنسيين في العالم فرصًا للانفتاح والتعلم والمتعة والتواصل،  و"يمكن أن يكون الوصول للإنترنت وسيلة لتغيير قواعد اللعبة بالنسبة إلى بعض الأطفال الأكثر تهميشًا في العالم، ومساعدتهم على تحقيق إمكاناتهم وكسر دورات الفقر بين الأجيال"[10]. بل حتى على مستوى العلاقات، يمكن أن يكون الإنترنت فرصة لتمتين الأواصر؛ إذ تتيح هذه الأخيرة التواصل مع الآباء الذين يضطرون إلى العمل بعيدًا عن البيت، و"يرجح أن يستثمر من يتمتعون بعلاقات اجتماعية وأسرية قوية شبكة الإنترنت في توطيد تلك العلاقات، بما يؤدي إلى رفه أعلى"[11].

أعطى الإنترنت كذلك فرصة لتوسيع سلطة الحركات الاجتماعية والاحتجاجية، وأعطى الفرصة ليسمع صوت المبعدين والمستأصلين سياسيًّا، وأعطى بعدًا عالميًّا لفعل التكافل الإنساني. لقد أرسى العالم الرقمي تنوعًا ثقافيًّا على خلاف ما تقتضيه عولمة الثقافات وما تفرضه من هيمنة لغة واحدة ورؤية واحدة للأشياء. ويكفي دليلًا على ذلك أن تحتل اللغة العربية مرتبة متقدمة على الفرنسية في مدى استعمالها على الإنترنت[12]. بل  إن بعض سلبيات الإنترنت قد تحمل في طياتها ما يحولها إلى إيجابيات، من ذلك  قضية الازدواجية في الشخصية،  فالفرد يكون شخصًا مغايرًا تمامًا عن  الحقيقة في المواقع الافتراضية، وقد يرسم لنفسه صورة عن ذاته وعن قيمه أرقى بكثير مما هو عليه في الواقع، لكن لا يخلو هذا الأمر من احتمال إيجابي هو أن تؤثر فيه هذه الصورة التي يرسمها لنفسه فيحاول أن يكونها[13]، فعدد الإعجابات التي تلقاها المشاهد الإنسانية، والمواقف التي تعلي من شأن التراحم والتكافل والتسامح لا شك أن يكون لها الفضل في تشكيل قيم الناس وتشبثهم بالقيم الأصيلة المجمع حولها إنسانيًّا، وأعتقد أن هذه القيم  الجامعة من شأنها أن تؤطر هذه الذات النشيطة على صفحات التواصل الاجتماعي والعالم الافتراضي فتشكل وعيًا إنسانيًّا جمعيًّا يحمي البشرية من كل تطرف. ولا يفوتني هنا أن أشير إلى أمر آخر كثيرًا ما يستشهد به على مثالب الانغماس في العالم الرقمي، وهو الأسف على انحسار الإقبال على الكتب الورقية -التي لا يمكن بحال أن تفقد مكانتها لأنها أصل ومنطلق- ولكن يمكن القول إن التحول الرقمي وسع دلالات مفهوم القراءة وقرب فعل القراءة من الجميع، وخفف من النفقات التي كانت تلزم للوصول إلى الكتب بفضل المكتبات الرقمية وسهولة الوصول إليها، فسطوة التكنولوجيا لا تعني دائمًا تراجع المقروء مطلقًا، لذلك نحتاج إلى دراسات حديثة تقيس فعل القراءة بمنظوره الجديد وبصورته المعاصرة ليكون الحكم أكثر إنصافًا.

فالتحول الرقمي إذن يضع بين يدي البشر طموح تحقيق مجتمع ذكي ومدن ذكية، وبيوت وآلات ذكية، ويفتح أبوابًا للارتقاء ولتقريب الخدمات من الناس، وتخفيف بعض العوائق أمام البشر في اللحاق بركب التنمية. ولكن يبقى السؤال هل يستطيع الإنسان أن يحافظ على ذكائه في ظل هذه التحولات وما يرافقها من عوالم خفية ومهارات في الكيد والمكر والإساءة؟ وهل البشرية سواء في مدى تمكنها من ولوج هذا العالم الجديد؟ هل نحن سواء في الحظ من المنح والمخاطر؟

 

التحولات الرقمية بين عالمين 

إن الحديث عن منح أو مخاطر العالم الرقمي يستلزم الحديث عن مدى تملك القدرة على الولوج المطلق لهذا العالم الجديد، فرغم جهود الدول في العالم لوضع استراتيجيات لولوج العالم الرقمي بنسب كبيرة [14]، فإن واقع التفاوت بين الشمال والجنوب يفرض نفسه بإلحاح. يقول أنتوني غيدنز: "عام 1998 كان عدد مستخدمي الإنترنت يزيد على 100 مليون شخص يقيم 88  % منهم في المجتمعات الغربية والصناعية المتقدمة"[15]. فرغم كون الإجماع قائمًا على أن وتيرة تزايد المواقع والشبكات والمستفيدين من العالم الرقمي تتسارع بصورة خيالية[16]، إلا أن حظ المجتمعات النامية يبقى أقل بالنسبة إلى غيرها، "فالشباب الأفارقة-على سبيل المثال-هم الأقل وصولًا للإنترنت، حيث إن نحو 60  % منهم ليسوا على الإنترنت، مقارنة ب 4  % فقط من الشباب في أوروبا"[17]. وإذا كان التمكن من الهواتف قد بلغ مبلغًا مهمًّا حتى في المجتمعات النامية، إلا أنه غير مصحوب بالاتصال بالإنترنت مما يحول بين الناس وبين الاستفادة من العوائد الرقمية. لقد كشفت ظروف الحجر الصحي عجزًا كبيرًا في المجتمعات النامية على مواكبة التعلم عن بعد بسبب عدم توفر الإمكانيات بالنسبة إلى التلاميذ. وقد كشف هذا الأمر بجلاء في المغرب مثلًا عندما رجح أكثر من 95% من الآباء التعليم الحضوري رغم كل الخطر المحتمل من انتشار الوباء، يضاف إلى ذلك الإكراهات الأكبر في الاتصال بالإنترنت في العالم القروي الذي يمثل نسبة 75% في بعض البلدان في العالم[18]، ولا يمكن فهم قضية التفاوت في الانتفاع من خيرات الكون بما فيها الحظ في المعرفة والمعلومة إلا من خلال تحليل طبيعة استئساد الرأسمالية وتطور أدواتها، وتحليل دلالات الأرباح الخيالية التي تجنيها الشركات المتمركزة في الولايات المتحدة الأمريكية أساسًا من وراء استعمال الوسائل التكنولوجية الأكثر انتشارًا في العالم، وتوقف الاستفادة منها على الإمكانات المادية بعيدًا عن استهداف القصد الإنساني[19]، الشيء الذي يجعل المجتمعات التي يعيش معظم سكانها تحت خط الفقر بعيدة كل البعد عن الاستفادة من العوائد الرقمية، فإذا كان أثر التفاوت بين الدول والمجتمعات ظاهرًا وباديًا على مستوى العوائد والمنح، فهل هو حاصل أيضًا على مستوى الأخطار والتهديدات؟

 

أي تهديد للقيم يفرضه التحول الرقمي؟ وما حظ الأسرة منه؟

إن سبق العالم المتحضر لدخول تجربة الانخراط الكامل في التحول الرقمي قد يكشف لنا كمجتمعات في طور النمو مكامن الخطر لتجنبها، ويمكننا-إن أحسنا النظر-من استدراك ما يمكن استدراكه، فما أهم التهديدات المرتقبة لموجة التحول الرقمي؟ ولماذا تعدّ القيم الأسرية أكثر تهديدًا؟

إنسان بلا ذاكرة

تعدّ الصور والأحداث الاجتماعية التي نتشاركها كأفراد وجماعات من أهم ما يوطد الروابط، ويضفي متعة الوصال بين الناس وبين أفراد الأسرة خاصة. إلا أن التحول الرقمي اليوم حول ذاكرة الأفراد إلى ذاكرة رقمية مهددة، بحيث تضيع إذا ما وقع أي عطب تقني يمكن أن يأتي على الأخضر واليابس. لم يعد لحكايات الجدة والجد مكان في ظل انشغال كبير بقدرة التقنية على تنميق الصور وتجميلها، فكثرة الصور والمقاطع الشخصية المسجلة والمحفوظة رقميًّا تمنع من الاستثمار وكثيرًا ما تفقد الأسرة ذاكرتها. لقد أصبحت "القدرة التخزينية للبيانات على مستوى العالم كبيرة، وبعد خمس سنوات من الآن ستتضاعف تلك القدرة التخزينية عشر مرات، لكن من قبيل المفارقة أن هذه الطفرة المعلوماتية تعني فقدان المعلومات التي ليست على شبكة الإنترنت"[20]. فبقدر ما استطاعت الطفرة الرقمية أن تملكنا فضاء كبيرًا لتخزين ذكرياتنا ولقطات حياتنا، فقد عودتنا على الاتكالية حتى تكاسلت ذاكراتنا عن استحضار المواقف ودلالتها، وغاب الحوار المتأمل في هذه الأحداث والذكريات، وحدثت القطيعة بين الأجيال العمرية، فجيل الإنترنت يسجل عوالمه ويستمتع بها وحده من خلال فضاءاته الخاصة والمغلقة. إن الذاكرة التي نصوغ مضمونها بشكل جمعي وفي إطار تواصل مستمر، حيث تشكلها اللحظة الإنسانية التي تترسخ في الذاكرة العاطفية أكثر من ترسخها في الذاكرة البصرية، هي ما افتقدناه اليوم بسبب اختزال حياتنا في صور تخزنها ذاكرة الحاسوب المهددة بالقرصنة والتلف، وهي الصورة التي عرضها زيجمونت باومان للعلاقات العاطفية في زمن الرقمنة، حيث تحدث عن ما سماه الحب السائل الذي من أبرز مميزاته الهشاشة والافتقاد للصلابة التي تضمن له البقاء[21].  فهل نستطيع أن نحول هذه النقمة إلى منحة؟ فتكون الذاكرة الرقمية سبيلًا لإحياء وتجميل وترسيخ ذكرياتنا، وتوطيد أواصرنا أفرادًا وأجيالًا وجماعات.

 

تفكيك الروابط الاجتماعية

عرفت المجتمعات الإنسانية تحولات جمة منذ الثورة الصناعية عصفت بنظام الأسرة الممتدة، وقلصت من مبدأ البنية التضامنية، وزادت من حدة الفردانية والعوالم المستقلة لأفراد الأسرة الواحدة، إلا أن أثر الهواتف المحمولة المتصلة بالإنترنت على تقلص مساحة الوصال بين أفراد الأسرة الواحدة قد بلغ مدى شغل الباحثين والدارسين والمهتمين. "في دراسة أجراها الباحثون من جامعة ستانفورد الأمريكية عام 2000 على عينة واسعة تضم 4000 من البالغين من الجنسين، تبين أن مستخدمي الإنترنت يمضون أوقاتًا قليلة مع الأفراد الآخرين في عائلاتهم أو في الجماعات المحلية الأخرى قياسًا على من لا يستخدمون الإنترنت"[22]. لا شك أن هذه المؤشرات ستكون قد عرفت ارتفاعًا مبهرًا بالنظر إلى فارق العشرين سنة التي تفصلنا عنها. ولعلنا لا نحتاج إلى اشتغال بحثي كبير لكشف هذا المعطى؛ إذ تكفي إطلالة على بيت من البيوت المعاصرة لكي تشهد حجم استغراق كل شخص في عوالمه التي يختزلها هاتفه المحمول حتى لا يكاد يسمع الواحد منهم الآخر إذا نادى عليه، فضلًا عن التوتر بين الأجيال بسبب الفوبيا التي أصبح يشعر بها الآباء اتجاه إدمان أبنائهم على الإنترنت أو الخوف من استعمالاتهم السلبية لعوالمه، وأمام تفكيك الروابط الحقيقية حل محلها أثر سلبي آخر متفرع عنها وهو إنشاء روابط وهمية والعجز عن التواصل الحقيقي، فتجد الناس غارقين في التواصل الافتراضي ويبدعون في اختلاق التعابير والأشكال الموطدة للعلاقات الافتراضية بينما تجدهم عاجزين عن ذلك في العالم الحقيقي، كما أدى الاستغراق في السباحة الرقمية إلى تعزيز الكسل عند الأفراد وتعطيل القدرات الإبداعية وانتشار السمنة وغياب قيم التكافل والتعاون والمسؤولية.

إن تدبير التواصل الإنساني يحتاج إلى المراس والاحتكاك المباشر، بحيث يتدرب الإنسان خلاله على تدبير الاختلاف، وتتقوى شخصيته التواصلية، الشيء الذي لا يتأتى بسبب الإغراق في العوالم التواصلية الإلكترونية البديلة. وفي هذا السياق يفهم ارتفاع نسب الطلاق، والنزوع الكبير نحو الانغلاق وضمور القيم التكافلية في المجتمعات. يقول زيجمونت باومان: "يا له من مكان مريح [يقصد العالم الافتراضي]، ولكنك إذا أمضيت الكثير من الوقت في هذا العالم المتصل بالإنترنت ورجعت بعدها للعالم غير المتصل سيتضاعف قلقك. فالعيش مع الاختلافات يتطلب استراتيجية محددة، بجانب كونه مرعبًا في أغلب الأحيان. يمكنك التهرب من ضرورة التعايش مع الاختلافات وجهًا لوجه. ولكن عند عودتك للبشر ومواجهتهم فأنت في مأزق، إذ إنك قد نسيت المهارات المطلوبة للتعامل معهم. لذا بدلًا من أن تعمل [الإنترنت] على جمع الناس فهي تقوم بالنقيض، إذ إنها تمنعهم من الإصغاء إلى بعضهم بعضًا. فهي ببساطة تقوم بخلط صوت من يقف على أعتاب الشعور بالوحدة بأصوات الآخرين، كي يتوقف المرء عن مواجهة ذلك الشعور، فيصدر الإنترنت لهذا المرء وهمًا بأنه قد انتصر على شعوره بالوحدة"[23]. إن السعادة التي يملكها العالم الافتراضي لرواده جراء التفاعل السريع والكبير بين الناس، هي سعادة زائفة وقصيرة الأمد؛ لأنها لا تعكس متعة الفوز في الابتلاء الذي يصقل معدن الناس فيروضهم على التعايش والتعاون مستشعرين إنسانيتهم التي من أكثر ما يجليها قدرتهم على التواصل[24].

 

براثين الجنس المهددة لاستقرار الأسر وأمان الأطفال

الخيانة الزوجية، عولمة البغاء، "الإيميلات" الإباحية، المواقع الإباحية، غرف الدردشة المتخصصة في تصوير أفعال جنسية، القوائم البريدية لتبادل الصور الخاصة المجردة، الاستغلال الجنسي للأطفال[25]... كلها نوافذ فتحها العالم الرقمي على الممارسات الجنسية الشاذة وبأكثر الأساليب جاذبية، حتى أصبحت الأسر مهددة بغول الجنس الذي يحول دون سعادة الزوجين واستقرار علاقتهما، كما يهدد بشكل كبير عافية الأطفال ونموهم الطبيعي المتوازن إن لم نقل أمانهم النفسي والجسدي. إن مجتمعنا الرقمي بالغ في الكشف والعري والتسليع لكل التصرفات الإنسانية، مما أفقد الكثيرين الإحساس بمتعة الجنس كعلاقة إنسانية تتميز بالخصوصية وتتداخل فيها أبعاد مختلفة، ويضفي عليها عنصر المفاجأة والتلقائية ما يجعلها أكثر جاذبية، الشيء الذي افتقد بفعل تسليع الجنس والتسويق للجسد العاري والممارسة المكشوفة، فساد التنافر بين الزوجين، وزاد الشعور بالملل بسبب العجز عن بلوغ المتعة أمام كثرة العرض وكثرة الكشف [26]. يجعلنا ما ذكر أمام معضلة كبيرة تسائل الإنسانية عن مصير أجمل المشاعر التي تزين حياة البشر والتي تغنى بها الشعراء والأدباء، وهي مشاعر الحب بين الجنسين ومدى قدرتها على مقاومة تسليع هذا الشعور الجميل القائم على الإخلاص والوفاء والتضحية والاستماتة في استرخاص الغالي والنفيس في سبيل المحبوب، بما في ذلك رفض كل عرض ذي طبيعة مادية خالية من هذه الأبعاد العاطفية الصرفة، هل يستطيع هذا الشعور أن يتحدى إغراء الإشباع المادي الصرف لغريزة الجنس خاليًا من كل الأبعاد الروحية والإنسانية الذي تقدمه العوالم الافتراضية في طابق من جاذبية رهيبة، وتنتعش حينما نضيف إليها ما يؤججها من ضعف القدرة التواصلية بين الزوجين الناتج عن ما سبق ذكره من بعض تداعيات التحول الرقمي على الروابط الاجتماعية.

 

فرص أكبر لممارسة الشذوذ والاستغلال الجنسي

أمام ما يترتب عن ما سبق ذكره من إحباط الفرد من بلوغ اللذة والمتعة الطبيعية، فإن المناخ يصبح مهيأ لانتعاش كل صور الشذوذ ابتداء من الممارسات الفردية الشاذة، ووصولًا إلى الشذوذ الذي يقتضي الاعتداء على الغير، ويتصدر أمر البيدوفيليا ما يقض مضاجع المجتمعات والأسر خاصة، إذ "يتنامى كم من الأدلة على أن الأطفال الذين يدخلون على الإنترنت في أعمار أصغر بشكل متزايد، وفي بعض البلدان يكون معدل استخدام الإنترنت بين الأطفال دون 15 سنة، مماثلًا للمعدل عند البالغين فوق 25 سنة"[27]. ومن المعلوم أن خطر الاستغلال الجنسي يزيد عند الشواذ في الفضاء الرقمي بالنظر إلى سهولة استدراج الأطفال على الإنترنت، ثم بالنظر إلى إمكانية كشف هويات الأطفال ومعرفة التفاصيل عن حياتهم من خلال ما يعرضون على صفحاتهم ومواقعهم الخاصة، إذ "وفقًا لوحدة الجرائم الجنسية التابعة لشرطة ماليزيا، يشكل الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 10 و 18 سنة نسبة 80% من الضحايا الذين اغتصبهم أحد معارفهم على الإنترنت في عام 2015م"[28]، الأمر الذي أثبتت الدراسة أنه في تنامٍ، "فلقد أشار تقرير حديث نشرته وكالة إنفاذ القانون التابعة للاتحاد الأوروبي المعروفة اختصارًا بالـ(بوربول) إلى أن هناك زيادة في النشاط الرقمي عند أولئك الذين يحاولون استغلال الأطفال جنسيًّا عبر شبكة الإنترنت"[29]، فضلًا عن العديد من التطبيقات عبر الهاتف الخاصة بالدعارة الإلكترونية والموجهة للشواذ التي تستقطب الملايين[30]، الشيء الذي يجعل الأسر مهددة بتداعيات هذا الاضطراب في وظائفها الأساسية وهي الإحصان، دون أن نغفل النزوع للتحلل مطلقًا من قيد الزوجية وانتشار ظاهرة العزوف عن الزواج، إذ "شخصيات هذا العصر، العصر السائل (...) حذرون من "الارتباط" ولا سيما الارتباط الدائم، والارتباط الأبدي بالطبع، فهم يخشون أن يجلب لهم ذلك الارتباط أعباء ويسبب ضغوطًا لا طاقة لهم بها، وهم في غنى عنها، فتقيد الحرية التي كانوا يتوقون إليها"[31].

 

الإدمان الإلكتروني وخطورته على الأطفال

يعدّ الإدمان الإلكتروني واحدًا من أهم مخاطر ولوج العالم الرقمي بالنسبة إلى الأطفال، فالإكس بوكس والبلايستيشن والفريفاير والألعاب الإلكترونية المفتوحة على لاعبين مجهولي الهوية.. كلها من الألعاب التي أخذت بلب الأطفال، وأصبح المحظوظ منهم من يمتلك أغلبها، بل أصبح الحرمان منها سببًا في الشعور بالغبن والنقص  لما لها من شهرة بين الأطفال. ومن المؤشرات المؤكدة لدرجة انتشارها ارتفاع نسبة مبيعاتها عبر العالم، ولا تخفى آثارها السلبية على المتابع بل على الدارس والباحث، كما أن النداءات المحذرة من آثارها المدمرة تنتشر عبر المقاطع الصغيرة المتداولة على الإنترنت، مما خلق لدى الآباء حيرة كبيرة في التعامل مع أبنائهم بشأنها، وانعكس  ذلك على العلاقة مع الأبناء وأدى إلى توترها بشكل كبير، وهذا في حال وعي الآباء ومتابعتهم. أما بالنسبة إلى الغافلين من الآباء فقد لا يلبث الزمن أن يطوي مفاجآت كبيرة أقلها الفشل الدراسي، وتمرير ثقافة العنف والخوف وضعف القدرة على التركيز، والعجز عن بناء المهارات التواصلية، والاضطرابات في النوم، وقد تصل إلى اضطرابات السلوك الخطيرة كالسرقة للحصول على مقابل الألعاب المؤدى عنها، أو إلى جرائم القتل -التي حدثت بالفعل- أو التغرير بالأطفال واستدراجهم لما يودي بحياتهم [32]، مما يجعل الإنسانية في قلق عن مستقبل هذا الجيل الواقع في أسر هذه المتاهة الرقمية التي لا تحمد عقباها. 

 

الخلاصة

في الختام، هذا التحول الرقمي هو طوفان يزحف، يرنو لأن يلف البشرية كلها بجناحيه، تتطلع لتدبير أمر ولوجه كل الدول التزامًا وتعاقدًا[33]، وكل ما ذكر هو مؤشرات حاسمة في كون التفكير في التحفظ من ولوج هذا العالم هو منطق لن تكتب له الحياة، كما أن منطق المبالغة في تهويل السلبيات واعتبارها قدرًا محتومًا يهدد البشرية وقيمها هو منطق تهويل المخاطر والمحاذير، لا يبعث على التفكير المتزن والإيجابي، وينفي عن الإنسان قدرته على إبداع ما يمكن أن يحفظ به هويته الفطرية وقيمه الإنسانية الأصيلة.  إن التحول الرقمي الذكي يعني أننا نستخدم التكنولوجيا لتحسين معيشتنا، وما أعنيه بذلك هو أننا ندرك تمامًا الفوائد، ولكننا ندرك أيضًا المزالق التي تنطوي عليها التكنولوجيا الجديدة، والذكاء الإنساني المنشود هو ذاك الذي يملك أن يحد من غلبة الوجه المظلم للعالم الرقمي، ويحول المخاطر إلى فرص فيبدع في إعداد برامج التأمين والخصوصية، ويسهر على إعداد قوانين زجرية مناسبة لحجم الاعتداء على الإنسان في حلتها الجديدة، وبدل أن يكون العالم الرقمي سببًا في تعطيل قدرة الإنسان على حل المشكلات، نحوّله إلى فرصة تملك الإنسان مؤهلات جديدة.

إن من حق المجتمعات النامية أن تستفيد من الثورة المعرفية، ومن حق علمائها ومفكريها أن يكونوا  فاعلين في المشهد الرقمي لأنه لوحة تساهم في تشكيلها البشرية جمعاء، ولا حق للبعض في احتكارها لفائدة جهة واحدة أو مجتمعات بعينها. هذا من الأمور التي يجب أن تشغل الدارسين والباحثين -في مجتمعاتنا- بقدر ما تشغلهم مخاطر الثورة الرقمية، وإذا كان للدارسين في الغرب وفي المجتمعات التي قطعت شوطًا كبيرًا في الولوج إلى الرقمنة ما يبرر تحليلهم للآثار السلبية لرقمنة الحياة والعالم، فإننا مدعوون إلى الدفاع عن حقنا كمجتمعات إنسانية في خوض هذه التجربة بخصوصيتنا الثقافية، ومن حق مجتمعنا أن يستفيد من المنح التي يتيحها التحول الرقمي في الارتقاء بجودة الحياة، وكذا التخفيف من بعض العوائق المتعلقة بتوفير فرص متكافئة لعيش كريم.

ليس الإنترنت شرًّا كله، وتسليط الضوء على ما يتيحه من فرص إيجابيه، وما يعج به من إمكانات، والتعريف بها والتسويق لها، والتدريب والتأهيل لحسن استثماره، من شأنه أن يخفف من احتمالات الأذى المترتبة عن ولوجه. لذلك فالأمر متوقف على تأهيل الأطر المتخصصة في التكوين المعلوماتي، وتزويد الناشئة بمهارات التعرف الناقد والواعي بهذا العالم وما يتعلق به.

إن القيم السائدة في الأسر ووعي الأبوين وأهليتهم للمتابعة التربوية وانفتاحهم على ملامح الحياة الرقمية بنضج ومرونة، وتقبلهم للتحولات التي يفرضها المجتمع الحديث، كل ذلك يمكن أن يساهم في حوار إيجابي بين الأجيال في الأسرة يحفظ من الممارسات الشاذة ويهذبها بلطف، وكذا الانفتاح على مستجدات الرقابة الأبوية الرقمية وممارسة المتابعة الدقيقة والعقاب التربوي في حينه، كل ذلك يمكن أن يخفف من الآثار السلبية للتحولات الرقمية على الأسرة.

نحتاج إلى دراسات ميدانية تشتغل على مجتمعاتنا وتكشف خصوصياتها القيمية التي قد تجعل آثار التحول الرقمي المرتقبة عندنا مختلفة عما تم كشفه في مجتمعات أخرى[34]، فلا زالت حميمية العلاقات الاجتماعية في مجتمعاتنا حافظة وحامية من العزلة المخيفة للأطفال، وميولات أطفال العالم العربي في اللعب قد تكون مختلفة عما هو في الغرب بحيث لا تبعث على الرهاب الكبير الذي تتحدث عنه الدوائر الغربية[35]. كما أنه لا زال للحب أنصار، وللأسرة أعراف مؤلفة ومجمعة، ولا زال للوصال الحقيقي مساحة كبيرة في حياة الناس، مما قد يجعل الأمر مختلفا عند دراسة تأثيرات التحول الرقمي في مجتمعاتنا العربية والإسلامية.

إن تأخر مجتمعاتنا النامية عن الولوج المطلق للعالم الرقمي بقدر ما يستحثنا على نيل حظنا من فرص الاستفادة من العوائد الرقمية في تحسين معيشة الأفراد والمجموعات، فهو من جهة أخرى يعطينا فرصة لإعداد السياسات الكفيلة بتدبير الاستفادة الآمنة[36]، وإنما يتطلب الأمر إرادة سياسية وأدوات بحثية تشتغل على تجارب الآخرين وتستفيد منها بدل استنساخها بحلوها ومرها.

كما أن الرهان كبير على التأهيل والتكوين في المجال الرقمي الذي يمد المتعلم بالتفكير المتبصر، ويحيله على المهارات التحليلية، والإلمام بمجال الإنترنت وتوعية الأفراد بإيجابيته وسلبياته، والتحفيز على التعلم الذاتي والدائم، كذلك النقدي المسؤول والمتبصر، والتركيز على المهارات الناعمة والتحليلية، والتركيز على التمكن من لغة التواصل الرقمي التي تحتل فيها الإنجليزية النسبة الأعلى[37]؛ لأن السيطرة على فضاءات التواصل الرقمي بمؤهلات معرفية مناسبة من شأنه أن يشغل الفرد بالاستثمار الجيد للإنترنت بحيث لا يبقى له المجال للانشغال بمساوئه.

وتجدر الإشارة إلى أن القرآن الكريم قد حسم مسلمة فيما يتعلق بالقيم التي يكتب لها البقاء والاستمرار، وبين القيم التي قد تزول ولا يبقى لها أثر حينما قال تعالى: (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ)[38]. كما أكد الله عز وجل أن هناك من القيم ما لا يملك أحد استئصاله وإزاحته، فقال تعالى: (فِطْرَة ٱللَّهِ ٱلَّتِى فَطَرَ ٱلنَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ ٱللَّهِ)[39]. وعرض القرآن الكريم الإنسان بوصفه مكرمًا ليس بالهين العبث بمكانته وقدرته على التأثير في العالم، وكذا قدرته على مقاومة التيارات الجارفة التي قد تشوه أصالة القيم متى ما تم الاعتداء على الحقوق الإنسانية[40] .

يؤكد الدارسون لمظاهر التحولات القيمية أنفسهم هذه الحقيقة. يقول الدكتور عزت السيد أحمد: "وقد بات من الثابت أن تغيرات قيمية كثيرة طرأت في حياة المجتمعات البشرية، ولكن الثابت أيضًا أن ثمة ثوابت قيمية تخص كل مجتمع لم يطرأ عليها من التغير إلا ما هو في حكم المهمل إحصائيًّا، وما يتعلق بشدة الظهور والاختفاء تبعًا لمكانة الأمة أو المجتمع على السلم الحضاري. وهذا في حقيقة الأمر مرتبط بنوعية القيم وقابلية كل منها للتغير والتبدل ومدى قدرتها على المقاومة والثبات، ومدى ما تمثله من عناصر هوية المجتمع ومكوناته"[41]، مما يستدعي أن نقرأ معطياتنا بمنظورنا ووفق ما توحي به خصائص الظاهرة في واقعنا، فقد تقدم مجتمعاتنا نموذجًا يحتذى في جعل التقنية في خدمة الإنسان، وفي تحرير البشر من أسر الاستعباد، ذلك أن أمة تقوم عقيدتها على تحرير الإنسان من كل صور الاستعباد من شأنها أن تبدع ما يساهم في تحصين البشرية من الطوفان الرقمي، والرهان في ذلك يتوقف على باحثين ينطلقون من واقعنا للوصول إلى الحقيقة.

 

[1]  سفيان قعلول والوليد طلحة، "دراسة الاقتصاد الرقمي في الدول العربية"، أكتوبر 2020، صندوق النقد العربي، ص 22، نقلًا عن

kPMG 2020 «telecoms and media campancies move swiftly» (ALEX HOLT, March).

 

[2]  تقرير عن التنمية في العالم 2016، العوائد الرقمية، كتيب صادر عن مجموعة البنك الدولي، من مقدمة العرض لـ جيم يونغ كيم رئيس مجموعة البنك الدولي، ص 7.

[3]  يراجع ما كتبه عزت السيد أحمد "الثورة التكنولوجية وأثرها في تغير القيم"، مجلة جامعة دمشق، المجلد 29، العدد 3-4، 2013، ص 452.

[4]  لوشيانو فلوريدي  (Luciano Floridi)، الثورة الرابعة : كيف يعيد الغلاف المعلوماتي تشكيل الواقع الإنساني، ترجمة لؤي عبد المجيد السيد، سلسلة عالم المعرفة، الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، العدد 452، سبتمبر 2017، ص 21.

[5]  وتعكف شركة (International Melody) للتطبيب عن بعد على تطوير أجهزة الرعاية قبل الولادة ومنصات التطبيب للنساء الحوامل في جميع أنحاء العالم، حتى في بلد مزدحم مثل اليابان، التي يندر فيها وجود أطباء التوليد. ولذلك تضطر المرأة الحامل في بعض الأحيان إلى السفر أكثر من ساعة لمراجعة الطبيب. ويتكون الجهاز المحمول من مراقبة قلب الجنين ومراقبة معدل ضربات القلب لديه وتقلصات الرحم لدى الأم، ومن ثم ينقل البيانات الأطباء لتمكينهم من متابعة حالة الجنين عن بعد، يرجع إلى مجلة أخبار الاتحاد الدولي للاتصالات ص 19، 20 ITU NEWS MAGAZINE 05 - 2017

[6]  ريمي ريفل، الثورة الرقمية، ترجمة سعيد بلمبخوت، الكويت: سلسلة عالم المعرفة، العدد 462، 2018، ص 97.

[7]  يرجع إلى "أطفال في عالم رقمي"، تقرير اليونسيف عن حالة أطفال العالم سنة 2017.

[8]  يراجع تقرير "العوائد الرقمية"، مرجع سابق.

[9] انظر بعض النماذج في هذا الصدد في "تقرير التنمية الرقمية العربية 2019"، الصادر عن الأسكوا التابعة للأمم المتحدة.

[10] "أطفال في عالم رقمي"، مرجع سابق، ص 7.

[11] المرجع نفسه، ص 25.

[12] تحتل اللغة العربية في مدى استعمالها على الإنترنت المرتبة السابعة، بينما تأتي اللغة الفرنسية بعدها في المرتبة الثامنة. يراجع في ذلك مقال "دور وسائل الاتصال الرقمي في تعزيز التنوع الثقافي" لعبد الكريم علي الدبيسي الوارد في مجلة الاتصال والتنمية، بيروت: دار النهضة العربية، العدد 6، 2012.

[13] يقول صاحب كتاب الثورة الرابعة في سياق انتقاد موجة التهويل من خطر التحول الرقمي: "بعض الأشخاص الذين عادة ما يستنكرون على المجتمع المعاصر وينذرونه بالويل والثبور (النواحون) يأسون لحال جيل الفيسبوك المفرط في الاشتغال بذاته، الجيل الذي يداوم على أن يسأل ويجيب عن أين أنت؟ على خريطة غوغل الحياتية، الجيل الذي فقد الاتصال مع الواقع، إنهم يشتكون من أن مثل هذا الجيل الجديد يعيش في فقاعات افتراضية حيث الثرثرة الأكثر ضحالة هي العملة الوحيدة إنه جيل مفتون بالاصطناعي والزائف.. تذكر أن بناء ذاتك الاجتماعية (ما يظن الناس أنه أنت) يرتد ليغذي تطور تصوراتك عن ذاتك (ما تظن أنه أنت) الذي من ثم يرتد ليغذي مزيدًا من الحرية لتشكيل الذات"، لوتشيانو فلوريدي، الثورة الرابعة، مرجع سابق، ص 92 - 93.

[14] يراجع في تفاصيل الإحصائيات: تقرير عن التنمية في العالم 2016 "العوائد الرقمية"، و"تقرير التنمية الرقمية العربية 2019".

[15] أنتوني غيدنز (Anthony Giddens)، علم الاجتماع، بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2005، ص 523

[16] فمثلا "خلال أزمنة قياسية تزايدت المواقع تزايدا خياليا حتى صارت أربعمائة مليار موقع، أي ما يعادل سبعا وستين موقعا لكل نسمة على سطح الأرض" عزت السيد أحمد " الثورة التكنولوجية وأثرها في تغير القيم "، مرجع سابق ص 475.

[17] " الأطفال في عالم رقمي "، مرجع سابق، ص 3.

[18] ففي المغرب مثلًا رغم أن استراتيجية المخطط الرقمي لسنة 2013 التي مكنته من ربح بعض النقاط في مجال ولوج الإنترنت ودمقرطته حيث انتقلت النسبة من 14% سنة 2008 إلى 39% سنة 2012، إلا أن نسبة الولوج الإنترنت في العالم القروي لم تتعد 16% مقابل 51% في العالم الحضري، راجع: "التقرير السنوي للمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي"، 2016، المملكة المغربية، ص 11.

[19] مايكل بوراووي (Michael. Burawoy)، "مواجهة عالم غير متكافئ"، ترجمة ساري حنفي ومحمد الإدريسي، مجلة إضافات، الجمعية العربية لعلم الاجتماع بالتعاون مع مركز دراسات الوحدة العربية، العدد المزدوج 31-32 (صيف - خريف 2015)، ص 29.

[20] هال أبلسون وهاري لويس وكني ليدين، الطوفان الرقمي كيف يؤثر على حياتنا وحريتنا وسعادتنا، ترجمة أشرف عامر، القاهرة: مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، 2014، ص 28.

[21] راجع: زيجمونت باومن، الحب السائل، ترجمة حجاج أبو جبر، بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2016.

[22] أنتوني غيدنز، علم الاجتماع، مرجع سابق، ص 517.

[23] ورد هذا الحديث من زيجمونت باومان ضمن الحوار الذي نقلته مجلة حبر الإلكترونية / الأحد 4 شباط 2018: https://bit.ly/2OBuE5O

[24] وهو نفس ما يدل عليه الحديث النبوي الذي رواه عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المسلم الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم"، رواه الترمذي وابن ماجه.

[25] يرجع إلى الدراسة العلمية التي أنجزتها عبير حسن علي الزواوي بعنوان "الأبعاد المستحدثة في الخيانة الزوجية عبر الإنترنت والمخاطر المحتملة على الأسرة المصرية جراء انتشارها ودور مقترح للتخفيف منها من منظور طريقة العمل مع الجماعات: دراسة وصفية على مكاتب التوجيه والاستشارات الأسرية بكفر الشيخ"، مجلة كلية الخدمة الاجتماعية، جامعة الفيوم، مج4، ع 4، صيف 2016، ص213-266.

[26] يستفاد أكثر من كتاب مجتمع الشفافية، بيونغ تشول هان، ترجمة بدر الدين مصطفى، الرباط: مؤسسة مؤمنون بلا حدود، 2019.

[27] "الأطفال في عالم رقمي"، مرجع سابق، ص 3.

[28] المرجع نفسه، ص 23.

[29] جاك تيربان، "كيف نحمي أبناءنا من الإنترنت في زمن كورونا"، مقال على موقع بنك المعرفة المصري بتاريخ 8 مايو 2020.

[30] انظر: المقال المنشور في جريدة النبأ الإلكترونية "أخطر 6 تطبيقات للدعارة والشذوذ والتجسس وتجنيد الإرهابيين: ملف شامل"، عادل توماس، محمود حفني، إسلام الليثي،  28 مارس 2018: https://bit.ly/3eq2yW3

[31] تراجع فكرة زيجمونت باومان عن الحب والجنس في كتاب: الحب السائل (عن هشاشة الروابط الإنسانية)، مصدر سابق، ص 208.

[32] يراجع كتاب الألعاب الإلكترونية خطر غفلنا عنه يهدد الأسرة والمجتمع، فهد بن عبد العزيز الغفيلي، الرياض: مكتبة الملك فهد الوطنية، 1431هـ.

[33] "الأطفال في عالم رقمي"، مرجع سابق، ص 18.

[34] في التقرير الصادر عن المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي المغربي في موضوع "التكنولوجيا والقيم: الأثر على الشباب"، (إحالة ذاتية رقم 31 /2017)، نقل البحث الميداني نظرة إيجابية للمستجوبين عن التكنولوجيا الجديدة وتأثيرها على شروط الحياة والعمل، وأكدوا أن ولوج المعرفة المكسب الأكثر أهمية عندهم بينما المخاطر الأخرى محتملة. انظر ص 12 من التقرير.

[35] في دراسة بحثية أجريت في السعودية ثبت أن 6% فقط من الفئة المبحوثة التي تميل إلى ألعاب العنف والقتال بينما 33% تفضل لعبة كرة القدم. راجع: فهد بن عبد العزيز الغفيلي، الألعاب الإلكترونية، مرجع سابق، ص 34.

[36] "اليوم عدد الهواتف والشبكات أكثر من عدد البشر على الأرض، يوميًّا ترسل أكثر من 64 مليار رسالة whatsapp واتساب، بالنسبة لليوتوب في كل دقيقة من عام 2018 كان يتم تحميل أكثر من 600 فيديو ويزوره أكثر من 205 مليون زائر، صحيح أن العالم لم يصل بعد إلى فرص متكافئة في الاتصال بالأنترنت لكن سرعة انتشار الهواتف مقدمة لعهد جديد سيصبح فيه العالم كله متصلًا بالإنترنت وإن طالت مدة ذلك فـ"عدد الأسر في البلدان النامية التي تقتني هاتفًا جوالًا يفوق عدد الأسر التي يتوفر لديها كهرباء أو مياه نظيفة، ويقتني ما يقرب من 70% من السكان في الخمس الأسفل من السكان في البلدان النامية هاتفًا جوالًا" مارتن مولايزن، "كل ما يمكن أن يقال عن الثورة الرقمية"، مجلة التمويل والتنمية، العدد 4، يونيو 2018.

[37] "فالسياسة الذكية يمكنها التخفيف من ألم الارتباك التكنولوجي قصير الأجل وتمهد الطريق للمكاسب طويلة الأجل"، سارة غران "التعلم الرقمي: التربية والمهارات في العصر الرقمي" لمحة عامة عن الندوة الاستشارية المعنية بالتعلم الرقمي التي عقدت كجزء من برنامج معهد كوشيام للقيادة الفكرية لعام 2017.

[38] سورة الرعد - الآية 17.

[39] سورة الروم - الآية 30.

[40] قال تعالى: (ولقد كرمنا بني آدم) سورة الإسراء، الآية 70، وقال أيضًا: (وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان)، سورة إبراهيم، الآية 22، فدل ذلك على ما أودع الله تعالى في الإنسان من قدرة على تحدي سلطة أي كان في الزج به في كل ما من شانه أن يبعده عن مقتضى الفطرة الصحيحة.

[41] الدكتور عزت السيد أحمد "الثورة التكنولوجية وأثرها في تغير القيم"، ص 449، 450، مرجع سابق.

شارك :

التعليقات (0)

أضف تعليق