ظاهرة التطبيع، لماذا؟

محمد الأحمري

ظاهرة التطبيع، لماذا؟

الأمر غير المعتاد إذا كثر وانتشر سمي ظاهرة، ولهذا تم إطلاق هذا العنوان على قرارات التطبيع السريعة المتتابعة مع "الكيان الصهيوني" كما كان العرب يسمونه في ماضي العهد والأوان؛ زمن إعلام العرب قبل الاستسلام.

قضية فلسطين كانت تستعمل مبرر هيمنة وضغط وابتزاز للشعوب، وحرمانها من ثرواتها وحريتها بحجة أن كل الحقوق موقفة وكل شيء مسخر لمعركة المصير كما كان يناور بعضهم، وأنه مشغول عن تحقيق الحقوق بقضية القضايا وهي معركة تحرير فلسطين والأراضي العربية المحتلة، ثم تبين أنها حكاية عبثية ووسيلة اغتصاب لحقوق الشعوب ومبررًا لمنع الحياة الكريمة الآمنة للناس. واليوم يقلبون ظهر المجن على الشعوب ويشهرون بها وقد أصبح تقليد الشعوب لخطابهم القديم جريمة الجرائم، فالخطاب الجديد خطاب استسلام، ومن رفض الاستسلام والعبودية للمحتل فإنه اليوم إرهابي.

تتابعت التطبيعات في زمن متقارب جدًّا عبر إعلانات فهمت بأنها تتم بأمر من الشاب الصهيوني كوشنر، مستشار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب. وما كان يخفي دوره، بل يجاهر ويفتخر بسَوق حكومات العرب بعنف نحو التقرب من الإرهاب الصهيوني، وأعد الضغوط والإكراهات وروج للنتائج واحتفل مع المستسلمين لإرادته وإرادة قومه، ووعد الباقين الذين تأخر إعلانهم عن التطبيع أن تطبيعهم حسب وصفه "حتمي"، وحدد أسماء من سيلتحق بالتطبيع الذي وصفه بالحتمي. وقد تمت التطبيعات الأخيرة على النحو التالي:

تطبيع الإمارات أعلن عنه الرئيس ترامب في 13 أغسطس/آب 2020م، وتم توقيع الاتفاق في واشنطن يوم 15 سبتمبر/ أيلول 2020. وتطبيع البحرين أعلن عنه ترامب الجمعة 11 سبتمبر/ أيلول 2020. وتم الإعلان عن تطبيع السودان في 23 أكتوبر/ تشرين الأول 2020. وتطبيع المغرب أعلن عنه ترامب يوم 10 ديسمبر/كانون الأول 2020، ووقع الاتفاق في 22 ديسمبر. وكان قد سبقت الباقين منظمة التحرير الفلسطينية وتنازلت عن كونها منظمة تحرير إلى مجرد سلطة جزئية تقدم الخدمات الأمنية على بعض مناطق فلسطين، بعد محادثات أوسلو 1991، ثم توقيع التطبيع عام 1993، وطبعت الأردن عام 1993، ومن قبلهم جميعًا صالح السادات رئيس مصر آنذاك عام 1978.

لقد كانت فكرة التطبيع مع العدو الصهيوني يصنفها العرب خيانة وليست فقط عيبًا مستهجنًا، بل إن الحكومات العربية كانت تعد خيانة التطبيع مخرجًا من العروبة والإنسانية، وعداء لقضيتها التي كانت تقول إنها الأولى، ومن أجل ذلك قاطعت الجامعة العربية السادات، ونقلت مقر الجامعة من القاهرة إلى تونس عام 1979، وعينوا أمينًا عامًّا للجامعة العربية تونسيًّا بدلًا من مصري. وكان قد جرى عرف بأن يكون الأمين العام من دولة المقر، فنصبوا الشاذلي القليبي التونسي. ودارت الأيام حتى عادت الجامعة لمصر بعد قبول الحكام العرب بموقف مصر، وتقاربها مع الصهاينة، ولانت قنوات الباقين، وأصبح الأمين العام اليوم أحمد أبو الغيط، صديق تسيفي ليفني رئيسة الوزراء السابقة ووزيرة الخارجية الصهيونية، وهو من آخر الأحياء من فريق السادات الذين فاوضوا الصهاينة، فهل حالت الأحوال إلى أن أصبح منصب الأمين العام حكرًا على أصدقاء تل أبيب من العرب؟

لماذا موجة التطبيع؟

قد يحلو لبعضهم أن ينصح بعدم اعتراض موجة التطبيع الجارفة، فمن يقف في وجه العاصفة سوف يرونه من الحمقى، أو معارضًا لوجه المعارضة حين لا تكون مجدية، لكن هذا القول عدوان على العقل والقلب والضمير والتاريخ، إن لم يكن عدوانًا على جنس الإنسان، فإن كان الضمير والعقل والإنسانية تعترض على جرائم هتلر، فإن هذه كلها تشهد بأن الجرائم في فلسطين لا تقل شناعة، فهتلر في زمنه والصهاينة في زمنهم كل منهما مارس الإبادة الجماعية، مع فارق في العدد لا ينكر، ولكن بعد سنين قليلة عاد اليهودي إلى ألمانيا مكرمًا ونال فلسطين أرضًا أخرى ودولة أخرى له فيها حق المواطنة، وعلى دول العالم أن تمنحه فيما زعمها أرضه القديمة الجديدة من المال والرعاية ما يزيد عن حاجته تكفيرًا عن جرائم النازيين الألمان. لكن الفلسطيني الذي تعرض لإبادة أخرى لم يعد لاجئوه إلى أرضهم، بل لم يزل الفلسطيني مطاردًا ويقتل يوميًّا، وتنتشر حول العالم أدبيات نكران وجوده، ويصاحب الجرائم اليومية عمل هائل لنسيان حقوقه، وإصرار على الغفران لمن قتله أو هجّره، ولهذا فـ"إن التزام الصمت أو اتخاذ موقف اللامبالاة أو الانصياع للسلطة الباغية كلها أمور تنم عن انعدام الحس الأخلاقي"[1]. لذا فإن القول واجب والاعتراض على التطبيع واجب ديني وأخلاقي وإنساني، واحترام لدماء الشهداء، ووفاء لحقائق الماضي والحاضر وصناعة للمستقبل. وعلينا أن نتساءل لماذا وصل حكام العرب إلى هذه الحال المستسلمة البائسة، والتساؤل يحمل الإجابة في الوقت نفسه.

(1)

لسبب مهم أنه بعد انتصار الثورة المضادة الموالية للمحتلين والمعادية لسكان العالم العربي والإسلامي أصبحت مواقف الشعوب لا تهم أحدًا، فقد تمت هزيمتها بحكام تابعين للصهيونية ولقوى غربية استعمارية سابقًا، وبهذا حلت الهزيمة الداخلية بالشعوب التي كانت ثائرة لمصلحة التابعين للخارج، وتمكنت الجيوش من هزيمة شعبها نفسه.

(2)

تميز موقف الحكام العرب دائمًا بالخنوع الشديد لما تراه الإدارة الأمريكية، بدءًا من كلام السادات حين قال إن الأوراق (أوراق الضغط أو الحل في المنطقة) مئة في المئة في يد أمريكا[2]. وهذا ملاحظ عبر مختلف الحكومات العربية، مع أن أمريكا لن تقدم لهم حلًّا لمشكلاتهم الأساسية كالتدهور الاقتصادي والتفكك الاجتماعي والتخلف الحضاري[3].

(3)

حاجة الحكام العرب الشخصية إلى الثناء والاعتراف الذي يرون أن اللوبيات الصهيونية فقط هي يمكنها أن تهبهم مكانة دولية واحترامًا عالميًّا وسمعة. وقد كان هذا هاجسهم منذ زمن عرفات والسادات إلى المعاصرين الجوعى للاعتراف العالمي والسمعة في الخارج بعد أن دمروا الحرية والحياة السياسية والاجتماعية في الداخل. ومن نماذج الجوع للشهرة قديمًا أن عرفات قضى ليلة طويلة من ليالي الحوار يطلب من الإسرائيليين أن يسمحوا له بوضع صورته على طوابع فلسطينية[4]. وكان الصهاينة قد "أصيبوا بصدمة كبيرة جاءت من أن القيادة الفلسطينية كانت من التخاذل واللامسؤولية واللاأخلاقية، بحيث أذعنت لهذه المواقف"[5] الصهيونية، فكيف بمن دخل في موجة التطبيع المجاني التي جرت هذه الأيام.

(4)

حكم البيت الأبيض دونالد ترامب خلال الأربع سنوات الفائتة، وهو حاكم متطرف في عنصريته وفي تبعيته للّوبي الصهيوني، حتى إن ابنته تهودت لا باعتدال بل بتطرف، تبعًا لزوجها تلميذ نتن ياهو وصديق عائلته، وجعلت هي وزوجها الجناح الذي يسكنونه في البيت الأبيض يسبت دينيًّا كل يوم سبت، مراعاة للديانة اليهودية، وهذا التنسك اليهودي يتم لأول مرة في تاريخ مقر الحاكم الأمريكي[6].

(5)

تفردت إيران والمقاومة الفلسطينية في غزة بالمقاومة عمليًّا. وأصبح على من يريد أن يواجه إيران أن يظهر العبودية التامة للإرهاب الصهيوني، وإلا فإنه سيكون متهمًا بالولاء لإيران. وبما أن إيران تحتل عواصم عربية عديدة فقد أصبحت كراهيتها وكراهية نهجها عربون مودة تقدم للغرب، وكأنه لا جريمة للصهاينة قائمة، وأن الجريمة أصبحت هي معاداتها، واستطاعوا بذلك إلحاق كراهية المقاومة بكراهية إيران.

(6)

الحاجة المعلوماتية؛ فقد طور الصهاينة من تقنياتهم المعلوماتية، وأصبحوا يبيعون المعلومات للحكام العرب في ما يتعلق بالتجسس على شعوبهم، أو تجسس الحكام العرب بعضهم على بعض، مما مكنهم من هيمنة معلوماتية على الحكام وشعوبهم وأسرارهم وتواصلهم، ويبيعون هذه المعلومات لجميع الأطراف، مما أذل الجميع لهم، وجعلهم أتباعًا مطيعين، ثم تطور الأمر من الاختراق للاتصالات بين الحكام العرب المتخاصمين غالبًا إلى اختراق اتصالات المعارضة في أي مكان، وشعر وقتها الحكام العرب أنه لا حول ولا قوة في مواجهة التطور المعلوماتي إلا التبعية والاستجابة، وبذلوا أموال الشعوب لملاحقة معارضي استبدادهم.

(7)

مثلت حرب اليمن انقلابًا كبيرًا في عدد من الملفات، منها العسكري والاقتصادي والسياسي، فبعد أن رفض أوباما إعطاء التحديثات العسكرية للتحالف ضد الحوثيين كان لا بد لمن ليست لديه القدرة ولا التقنية من اللجوء إلى الصهاينة، فقدموا التحديثات المعلوماتية الجوية بمقابل مالي وتبعية سياسية. وتحت حجة مواجهة إيران زاد النفوذ الصهيوني على خصوم إيران، واستطاعت تل أبيب فرض التبعية على المتخلفين تقنيًّا وعسكريًّا والتظاهر بحمايتهم، مما حوّلهم إلى دعاة تطبيع ومروجي تبعية.

(8)

غياب المشروعية عن الحكام العرب واستغلال عدم مشروعية حكمهم؛ إذ أصبحت مشروعية الحكم تعني التبعية التامة للإرهاب الصهيوني، وجعلوا موضوع استقرار الحكم لأي حاكم مرتبطًا بمدى طاعته وتبعيته لهم، وهذا حدث في السودان كآخر النماذج، فقد التزم الصهاينة في واشنطن باستقرار الحكم للعسكر إن هم انساقوا لهم، ووعد اللوبي الصهيوني في حكومة ترامب بإزالة الحظر الاقتصادي على السودان بعد دفع فدية ثلاثمئة مليون دولار لضحايا تفجير السفارة الأمريكية في كينيا عام 1998، ووعدوا العسكر بإبقائهم في السلطة إن هم انساقوا للتطبيع والولاء لهم ضد الشعب وقناعاته.

(9)

استغلال الأزمات والخلافات العربية على الحدود ومناطق النفوذ؛ وأوضح الأمثلة وعد المغرب بالاعتراف بالصحراء الغربية بأنها مغربية كجزء من ثمن التطبيع، ومن ثمّ ربط ما تراه الشعوب أو الحكومات حقا لها بالخضوع للإرهاب الصهيوني والتودد له، ومنع مواجهة طغيانه في أي مكان، حتى ولو كان إرهابه موجهًا لإخوة الشعب وعمقه وذويه.

(10)

مواجهة التوجهات الإسلامية؛ فقد أصبح عربون العبودية للتوجهات الصهيونية إثبات البعد عن الإسلام وأهله. وقد استطاع الغرب الاستعماري ومراكز النفوذ أن يصنع من الإسلام إرهابًا ورعبًا عالميًّا، وأصبح الإسلام تهمة وجريمة، ومراعاة قيمه وشرائعه في أي موقف أو تعاطف على أساسه من ملحقات الإرهاب، ذلك أن القوى الإسلامية، بما تمثله من روح الأمة، أصبح من المطلوب قمعها وهدمها وإزالتها، فقد حصل تشويه وتشويش على الجميع، وفسدت المصطلحات، وأصبح الإسلام تعييرًا لأهله[7]، مما أنشأ خطًّا مندفعًا لصفوف العدو يواليه وينتقم ويواجه الإسلام بكل وسيلة، ويسخر السياسة العالمية لحربه.

(11)

وجود المقاومة الفلسطينية، خاصة في غزة، إسلامية؛ فكان لا بد من الاحتيال بتجنيد الخارج العربي ضدها وحصارها والالتفاف عليها وتشويهها، ولكونها عقائدية فلم يبق لها شعوب تساند عقيدتها ونهجها، ولا أمة تتعاطف عمليًّا معها إلا بقلوب أسيرة خائفة، ممنوعة من أي نوع من الدعم المادي، بل حتى المعنوي الذي أصبح مخيفًا، فلم تعد حتى المساجد تجرؤ على الدعوة إلى المقهورين المأسورين المحاصرين فيها، وأصبح الثناء على المقاومة جريمة، ونفذت حكومات عربية تابعة سياسيًّا للإرهاب الصهيوني حملات اعتقال وتحقق مع المتبرعين الذين جمعوا أو أرسلوا مساعدات من أي نوع لفلسطين، بل تعرضوا للسجن ومصادرة المال بتهمة دعم الإرهاب، بناء على تكليف لهذه الحكومات من حكومة الاحتلال الصهيوني، بل كان المعتقلون يحقق معهم حسب مذكرات اتهام ونصوص مترجمة مرسلة من الصهاينة، وكان المعتقلون يجدون الأسماء تقرأ عليهم مترجمة عن لغة أخرى، تفتقد للعين والصاد والضاد والظاء مثلًا.

(12)

وقعت المقاومة في أخطاء أضرت بسمعتها، وأحيانًا أثارت غضب الشعوب المسلمة، مثل الثناء على إيران أو الترحم على سليماني الذي قتله الأمريكان قرب مطار بغداد، فالعرب يرونه مهندسًا للحرب على الشعب السوري، ويرونه حاكم العراق والشام [لبنان وسورية] وكذا حاكم اليمن غير المعلن عبر الحوثيين، فلم يقبل المجتمع العربي والإسلامي هذا الموقف وذاك الثناء. صحيح أن إيران ساعدت المقاومة الفلسطينية، ولكن الثمن الذي يدفعه الفلسطينيون أصبح أغلى مما يحصلون عليه.

(13)

 عدم وجود استراتيجية وطنية ولا عربية ولا إسلامية في أغلب البلدان العربية إلا حماية الذات الحاكمة واستمرارها وبقاء تدفق المال وإخضاع الشعب، مما حول الحكومات العربية إلى حال أشبه بالسلطة الفلسطينية، خاصة زمن محمود عباس، دورها هو التنسيق الأمني لخدمة المحتل، ويدفع الصهاينة بعض المال لجنود فلسطينيين يقومون بتأمين الإرهاب الصهيوني لإخضاع الشعب وقهر المقاومة الفلسطينية، مع حرمان كامل للشعب من الحقوق وحرمان الحكومة من النفوذ إلا وظيفة تأمين عدو الشعب. فبدلًا من أن يعمل العرب على تخليص الفلسطينيين من التنسيق الأمني أصبح هذا العمل وظيفة عممت على الحكام التابعين وحكوماتهم.

(14)

يطيب للشعوب والأحزاب والجماعات أن تحتج على كل من طبّع، ويلومون الإسلاميين الذين في الحكومات كيف قبلوا بالمشاركة في التطبيع بينما أساس تكوينهم الفكري وثقافتهم مليئة بالعمل ضد هذه الانهيارات والتوجهات التي هي غاية الهزيمة والتبعية، وكيف لا يصمدون ويقرنون العمل بالقول الذي ملأوا به الدنيا ضجيجًا. ولما جاءت لحظة الاختبار الحقيقي فإذا هم مبررون للتطبيع كغيرهم، حتى حين يكونون في أقصى الأرض ولا خطر مباشر يمس بلادهم. أما الذين يصمدون من الإسلاميين أو يصرحون بذلك فإما أنه لا مشاركة لهم في الحكم، فهم في المعارضة ويعارضون دون قيمة فعلية لموقفهم، رغم أن الموقف النظري ولو بقي نظريًّا فإنه مشكور وفيه محافظة على القلوب والعقول من الاختراق، أما الذين في الحكم ورفضوا التطبيع في تونس، فهل كان هذا الموقف هو القناعة الفعلية كما نراها، أم خوفًا من الشعب الذي سيسقطهم لو فعلوا؟ أم لأنهم بموقفهم هذا يجدون سندًا من أحزاب أخرى كاليسار بمختلف واجهاته؟

يعلم الجميع أن هذه الحكومات فاقدة لمشروعية القرار الوطني والشعبي، وهي تخضع لضغوط الخارج ولا تعطي أي اعتبار للداخل إلا مكاء وتصدية، وقراراتها في التطبيع لم تمر بتصويت عام لا مع ولا ضد، ولا تعرف مواقف استقلالية حقيقة حتى نلومها عليها، فالعلة في القلب وليست في كلام اللسان، العلة تكوينية وليست سياسية عارضة من هذا النوع أو ذاك، فقد قامت هذه الكيانات على مشروعية من الخارج منحها من أقامها ويدبر مواقفها، وسيبقى هذا هو الحال حت يأتي يوم يكون لأهل هذه البلدان دور في تقرير مصيرهم ورسم سياسات أوطانهم، كما تفعل الشعوب التي غلبتهم واستتبعتهم.

طريق الاستقلال

رفع الذين أرغموا العرب على الاستسلام شعار "السلام الإبراهيمي". وقبل ذلك كانت محاولات الرئيس الأمريكي كارتر في أواخر السبعينيات متلفعة بتدينه المسيحي، وسمى كتابه الذي سرد فيه قصة استسلام السادات لليهود وشرح فيه دوره فيما سماه السلام بأن ذلك الدم "دم إبراهيم"[8]، وأنه هو من وفر على أبناء إبراهيم "العرب واليهود" الاحتراب وصان الدماء. ثم جاء زمن رمز ديني آخر أطلق على الاستسلام والتطبيع المعاصر لقبًا دينيًّا إبراهيميًّا آخر، وهو يشير بوضوح إلى أن اليهود لهم حق الأرض، فهم أبناء إبراهيم أيضًا. طريف أن يتعامل الغرب الصليبي والغزو اليهودي بالرموز الدينية العميقة البعيدة ويجرمون الإسلام، أو ما يطلقون عليه "الإسلام السياسي" ويرونه أحق بالمحاربة ويجندون أتباعهم لحربه، ثم يلبسون ويلبّسون رموزًا وطقوسًا دينية، لذا فإن الدين الذي يلعبون به ويحرفونه يجب أن يكون عونًا على التحرر من الغزاة والمحتلين.

الظاهرة أساسها مشكلة تبعية وضعف، فليست مشكلة يسيرة يمكن تجاوزها بسهولة، كما أن قيود التبعية التطبيعية تحمل استخذاء تامًّا والتزامًا بقيود فوق طاقة الحكومات الخلاص منها، لما لها من ملحقات سرية والتزامات دولية، تجعل الحكومات حارسة أمن للإرهاب الصهيوني، وتفقدها السيادة والمسؤولية وتحرم عليها العمل ضد مظالم الصهاينة، وتصنف خصوم الإرهاب الصهيوني بالإرهاب، وتحرم على الفلسطينيين حق المقاومة وهم من دمرت بلادهم وصودرت أراضيهم ويتعرضون للقتل والسجن والتهجير يوميًّا، ثم يجعلون من الحكام العرب حماة لإرهابهم وأتباعًا طيعين.

كتب محمود محمد شاكر قبل نحو سبعين عامًا هذا القول: "إن الحيـــاة لا تعاش بالأوهام، وإنما يعيشها من أراد أن يعيش بالإرادة الصادقة، وبالرأي الصريح، وبالهدف البين، وبالحق الذي لا يتجزأ، وبالمشقة التي توهن البدن وتستهلك القوى. فإذا أردنا الحياة فإنما حياتنا أن نعرف العار الذي ألبسنا ذلة الاستعمار، فلا ننام حتى ننفض عنا الذل، فإعلان العداوة لعدونا الواحد، الذي يتسمى بأسماء كثيرة في هذه الأقاليم المتراحبة من تخوم الصين إلى حدود المغرب الأقصى"[9].

ذلك كان رأي كاتب حر، عاش الحزن بعد قوله هذا خمسين عامًا، وذاق مثل غيره مرارة فقدان المزيد من الأرض عام 1967 ثم سقوط العرض عام 1977، ولم تزل خطابات الاستقلال ونداءات التحرر تتصاعد من أحرار كانوا لسان أمتنا ذات يوم والآن هم في عداد المشبوهين والمتطرفين والخارجين على السياق لأن الاستعمار بلغ مداه في كل شيء، فكل نقد للمستعمر خيانة، وكل اعتراض على إرهابه إرهاب، ولست متشائمًا من هذا فإن لكل هزيمة نهاية ولكل تطرف رد مثله، ولكل تراجع عودة، ولكل فكرة هزمت انتقام، طال بها الزمان أو قصر، ما بقيت هذه الأمة بقرآنها حية تنطق لغته.

وإذا كان الاستبداد وإنهاك الشعوب ومطاردة مصالحها وإقصاؤها عن قراراتها المصيرية مما ولد ضعف الحكام أمام الخارج واستقواءهم به ضد الشعوب، وتأمين الخارج لسلطتهم، وكانت التبعية التامة هي التي حملت الحكام العرب على الاستخذاء والهوان والسقوط، فإن هذه أمة تتعرض للتمزق والهوان من وقت لآخر، ولكنها تعلم أنها قادمة وموحدة ورافعة عن هامتها مرة أخرى، ومؤهلات القدرة هذا الزمان أعظم من ماضي الأزمان.

خلاصة

للتطبيع أضرار ومخاطر ظهر كثير منها، وبعضها قادم، من أهمها تجنيد الحكومات العربية لحماية الإرهاب الصهيوني، ومطاردة الفلسطينيين المطالبين بأي حق، أو برفع الظلم، وذلك ما أشار إليه شارنسكي وزير التجارة والصناعة الإسرائيلي الأسبق قائلًا: "إن مهندسي أوسلو جندوا ياسر عرفات كوكيل لإسرائيل في الحرب ضد الإرهاب، ليس فقط ليقوم بالمهمة نيابة عنا، حسب ذلك التبرير والمنطق، وإنما لأن بوسعه القيام بالمهمة أفضل منا"[10]. واستشهد شارنسكي على لسان رابين بأن عرفات ليس مقيدًا بمحكمة عليا ولا تنظيمات حقوق إنسان ولا بمعارضة الليبراليين... وكان هدفهم من عرفات "قيام السلطة بنسف البنية التحتية للمقاومة وشل أي عناصر ومرافق وبؤر لإحيائها"[11]. وبما أن السلطة فشلت في نسف المقاومة في غزة، ووجدت المقاومة وسائل وحدودًا ومغارات تهرب منها السلاح من تحت الأرض ومن البحر، فقد أصبحت المهمة على المحتل اليوم أسهل بإجبار الحكام العرب على خدمة الإرهاب المحتل، وحصار المقاومة وتدمير أي منفذ أو متضامن أو مؤيد للفلسطينيين ضحايا الصهيونية.  

الهجوم الكاسح على الإسلام وتسفيهه وتسفيه مفاهيمه وقضاياه وأحكامه، وذلك كان من السلاح الذي سله الإرهابي العالمي بيجن، الذي كان رئيسًا لوزراء الصهيونية، مع شريكه الرئيس أنور السادات، شرطًا لبقاء استسلام مصر لهم، فجمع السادات آلاف العلماء والدعاة والمصلحين والأحرار، وبعضهم كان من اليسار والوطنيين، في السجون القذرة المهينة ليتمتع بالعبودية لمن كان يحاربه، فقلَب الانتصار استسلامًا وهوانًا وتبعية دائمة. والموقف اليوم هو نفسه، لكنها اليوم حرب شاملة على الإسلام في كل مكان، ولا يعلمون أنهم يوقدون نيران الانتقام من المستسلمين. والذي نتمناه أن تحافظ هذه الشعوب على نفسها من فتن تمزقها، وأن تميز عدوها من صديقها، ولا تستلم لعنف جارف يحث الإرهاب الصهيوني الشعوب لإيقاده ليتمكن بالفتن الداخلية من إطفاء نار الأمة وكبح حميتها وتدمير بقية قواها. وإذا كان استسلام السادات سبب قتله وانتشار العنف زمنًا، فلا نستبعد أن الاستعباد الجماعي للحكام وإدخالهم حظيرة "الإرهابي" خانعين مستسلمين قد يسبب ما يريد أن يظهر. وقد جرب أن هدم الشعوب بالاحتراب هو خير ما يخطط له، كما استفاد العدو من بقاء بشار ومن تعالي الفتن في العراق، وقام التابعون المستسلمون بتنفيذ ما قام به السادات، وملأوا السجون بالمعارضين، ونفذوا قرارات الصهاينة مرة أخرى بكل حرفية.

ولهذا الاستسلام الواسع وجه اقتصادي مرعب، فاليهودي الجشع، الذي كتب عنه شكسبير مسرحية تاجر البندقية، لم ينس ثقافته ولا دوره، وليس هذا منا عداء عرقيًّا ولكنها تربية سيئة لهم تتكرّر، فلماذا سرقة الفنادق في دبي، بل والسخريات الصهيونية منهم أنفسهم من قومهم المتسترين بالسياحة وهم يمارسون سرقة كل ما يمكنهم من الفنادق، حتى استعان موظفو فنادق دبي بالشرطة وفتحت حقائب النزلاء اليهود وأخرجت منها ممتلكات الفندق التي سرقوها، وأحيانًا سلموها لما عرفوا أن مصيرهم السجون[12]، ويتحدث إعلامهم عن دور في نشر التدمير الأخلاقي عبر دبي.

امتص الكيان الصهيوني مياه فلسطين وزرع بها الأرض وأنشأ الحقول وطور الزراعة في الأراضي الفلسطينية، ولم يبق الأمر عند هذا، بل هو اليوم يحتل جيوب العرب وأسواقهم. والأفظع من ذلك أنه كلفهم بإعادة بناء سكة حديد الحجاز، لتحويل بلاد العرب أسواقًا له، ومالها تجارة له، وبنوكه مأوى ثروة العرب الخائفين من نقمة شعوبهم، وتحويل رجالها عمالًا، ويجعل من حكامها خدمًا برتبة حاكم[13].

اليقين أن فلسطين سوف تساهم في تحريرنا من الخنوع للمستغلين، وتحرير قلوبنا وعقولنا بوجود نماذج تقاوم ولو كانت مجموعات صغيرة ومحاصرة. فحرية المقاومة، مهما تكن هذه المقاومة، أقوى من حياة مئات الملايين المشلولين، فهي التي تقدح الحياة في الضمائر الميتة الخائفة، ولن يقاوم التطبيع إلا بإبقاء شعلة ولو خافتة لمقاومة إرهاب المحتل، وبقاء كل النصوص والتاريخ والأخبار والوثائق وسجلات فظائع المحتل وإرهابه حية مشهودة على مدار الوقت، وبقاء كل صنوف الأدب والفكر والتاريخ المقاوم كلها تغري وتحث على عودة الوطن إلى أهله؛ لأن جريمة الجرائم هي خفوت جذوة المقاومة، ونسيان جرائم المحتل، وحرف الشعوب عن غاياتها، واستهلاكها في معارك جانبية. إن الحفاظ على الشعارات والمؤتمرات والإعلام والدين سوف يبقي الناس مرتبطين بأرضهم وتاريخهم.

ثم إن الصهاينة الذين كانت إيران وتركيا مرتعًا لعلاقاتهم وتجارتهم منذ تأسيس كيانهم إلى الثورة الإيرانية، ثم ما تعانيه علاقاتهم اليوم مع تركيا بسبب موقف الحزب الحاكم، أليس هذا مؤشرًا على الشقاء والمستقبل المرعب دائمًا في منطقة ترفض فسادهم وعنصريتهم وإرهابهم؟ كان العرب هم الأعداء والأطراف هم الأصدقاء، واليوم يقلبون هذه المعادلة، ولكن السياسة في منطقتنا كتابة على الرمال بلا ضمان من أي نوع.

دعونا نتخيل أن هذا القبول الواسع بالصهيونية سيدة على حكومات العرب، أليس هذا ينهي الخلاف الخارجي مع العرب خاصة المقاومين، فيوقع اليهود فيما يحذرون منه من أن نهاية الصراع مع العرب هي بداية الصراع والتدمير الداخلي، ونتأمل عدم قدرتهم على حسم الانتخابات منذ عامين ويزيد؟ ثم إذا غرق اليهود في بحر حكومات العرب المضطربة الفاسدة سياسيًّا واقتصاديًّا، ألن يفسدهم هذا الجو فيتركون البنى الديمقراطية والإنسانية والمحاكم المستقلة الخاصة بهم، ويخرج منهم دكتاتوريون فاسدون يقضون على تميزهم الموجود الآن؟ هذا تساؤل لا يعود بالنقض على شيء مما سبق أعلاه.

وقد بلغوا اليوم من القوة والنفوذ أن أصبحت الحكومات العربية مجرد تابعة مطيعة، وأصبحت تل أبيب عاصمة القرار للحكومات العربية، ولم تزل بحاجة إلى سنين لاستقرارها عاصمة القرار لحكام العرب قبل أن  تتهاوى من داخلها أو من خارجها بقوة قوى إقليمية، كإيران وتركيا، أو بحياة تنبعث من الجسد العربي المشلول الآن بالمفسدين.

 

[1]     إدوارد سعيد، أوسلو2، سلام بلا أرض، القاهرة: دار المستقبل العربي، 1995، ص 7.

[2]     Suri, Jeremi. Henry Kissinger and the American Century. Cambridge: The Belknap Press of Harvard University Press, 2007. p.263.

[3]     إدوارد سعيد، أوسلو2، ص 68.

[4]     السابق، ص29.

[5]     السابق، ص 31.

[6]     جريدة نيويورك تايمز: https://nyti.ms/3sMskbF

[7]     كاتب هذه السطور تعرض للّوم على منصة تويتر من ذوي الولاء للصهاينة، إذ يلومون على وجود كلمة إسلام في بعض تغريداته.

[8]     دم إبراهيم: رؤية إلى الشرق الأوسط، ترجمة سامي جابر، بيروت: دار المروج، 1986.

[9]     محمود محمد شاكر، اللواء الجديد، العدد 7، أغسطس 1951، ص 3.

[10]    راغدة درغام، "التهديد الفلسطيني بـ"انتفاضة" يتنافى مع وجود سلطة - دولة"، جريدة الحياة، الجمعة، 23\1\1998.

[11]    السابق.

[12]  "التطبيع السياحي: الإسرائيليون يسرقون من فنادق الإمارات كل ما يمكن حمله"، الجزيرة نت، في: https://bit.ly/3cjB2Iz

[13]    الطريف أن شمعون بيريز كتب في كتابه الشرق الوسط الجديد الذي نشره عام 1993 مخطط المستقبل، بما فيه السكك الحديدية والزراعة والعمل والصناعة، والاستفادة من الأيدي العربية لنمو بلاده، وقد تحقق الآن احتلالهم تحقيقًا واقعيًّا لما قاله قبل أربعين سنة تقريبًا. وهو صاحب رؤية وكان يحب أن يجعل من نفسه صانعًا للأفكار المستقبلية كما فعل هيرتزل حين كتب الدولة اليهودية.

 

أواصر - مجلة فكرية فصلية

www.awasr.com