لماذا يستمر القلق في مجتمعاتنا؟

محمد الأحمري

لماذا يستمر القلق في مجتمعاتنا؟

هناك أسباب للقلق الذي تعانيه مجتمعاتنا الإسلامية، ومن هذه الأسباب الحيوية المعاصرة لأمتنا، وخروجها من الركود والشلل إلى عالم الفعل والمشاركة الفاعلة في حركة العالم ونموه. فنحن أمة أصبحت قلقة ومقلقة للآخرين الذين تعودوا على ركودها واستسلامها وتبعيتها. وهي أمة قلقة بسبب معاناتها مع ذاتها وتاريخها وفكرها وسلوكها، ثم معاناتها مع الآخرين الذين ضاق بهم الأفق من أن تعود أمة كانوا عدّوها في عداد الأموات والحضارات التي خرجت من التاريخ، أو رأوها فقط مجرد عدد هائل من البشر والمساحات الجغرافية الشاسعة والموارد غير المحدودة، وكانت تمثل تبعية وركودًا ومغانم وأسواقًا إلى أن تحرك هذا الجسد الهامد، وقال بل أنا موجود ولي نصيبي من الحياة والثروة والأرض والفكر والسياسة، ولم أعد قابلًا لأن أبقى مستعمرة، وإني أتمرد على احتلالكم الطويل وغبنكم المستمر وأتمرد على أوصيائكم المنافقين.

إنه قلق على كل المستويات، واضح المعالم، ومستمر للمستقبل حتى يحقق نفسه، أو يبقى في مواجهة دائمة حتى يستعيد مكانه، أو تستمر مآسيه لو بقيت في أعدائه قوة. عالم إسلامي يعلم أن الغابنين له يريدون إبقاءه في الجمود والتبعية والهزيمة والفقر وتحت الوصاية أطول فترة ممكنة. وقد انكشف الأوصياء بأنهم رأس رمح للعدو، تجتاح مجتمعاتنا وتخدرها وتسرقها وتعبدها لسادتها في الخارج. إن الأوصياء واجهة الاحتلال، يتقنع بهم كحكام محليين، وهم مجرد أوصياء يتلوّنون بحسب رغبة المستعمر والثقافة التي يريد لها أن تسود والنظم التي يريد لها أن تتغلب.

إن لحظات الحيوية والوعي هي لحظات التطلع والألم، ألم المعرفة ووجع الشعور بالغبن، الشعور بغياب الذات وسحقها تحت أقدام المستعمرين أو تحت عبيدهم من الطغاة المحليين. واكتشاف النفاق والتنبه والتنبيه له يضاعف آلام ضحاياه، فيتفجر وعيهم ويحرضهم على من سبّب لهم مآسيهم من خصومهم. قد يعيش المرء جاهلًا بمشكلاته وأسبابها، أو فقيرًا أو معزولًا عن العالم ولا يعرف ولا يفهم حال معاناته، حتى يجد نفسه في صلة مع حالة أخرى مختلفة تنبهه وتوعيه. سوف تشقيه هذه المعرفة، وهنا تحدث اليقظة، وهي همّ ومعاناة صامتة حتى يزيد التنبيه وتنكشف الأسباب، وتظهر طروحات ومعالم لعلاج الحالة. وهنا يقف المغبون على حقيقة الوضع، ويبدأ قلقه يزيد للخلاص من مصائبه وممن سببها له، وتتحول المشاعر إلى أعمال في سبيل الخلاص. وقد تخطئ المحاولات ويتخبط المستيقظ أو تضطرب صحوته، ولكنه سيسير في طريق "وعي" وليس بالضرورة: الوعي.

ونحن حين نبحث عن وعي بأنفسنا، من المهم أن نعرف أولًا أننا أمة تحاول العودة إلى دخول التاريخ من جديد، وهذه المحاولة تثير عندنا أسئلة كبيرة يجب أن نطرحها على أنفسنا قبل أن نطلب من العالم أن يدلنا أو أن يساعدنا، وقبل أن نطالبه بالتجاوب معنا؛ لأن له أعينًا غير أعيننا، فهو يرانا بعيون أخرى ولو حاول التعاطف، وله أفكار غير أفكارنا، ولو حاولنا أن نبيّئ أفكاره، وله الحق أو بعضه فيما هو فيه. فمن أسباب القلق التي تستحق الاهتمام جانب تاريخي، وآخر فكري، وثالث سياسي، وهذه جوانب سأعرضها فيما يلي.

السير نحو المستقبل

كنا قد خرجنا من التاريخ منذ زمن طويل، وأعني بالخروج غياب الفاعلية في مجتمعاتنا وخارجها. ولما تيسرت لنخبة منا أسباب الحيوية والعودة إلى الفاعلية، وحاولت هذه الطليعة أن تسترجع شيئًا من المكانة في بلداننا، وجدتها إما جامدة أو شبه ميتة، أو مصيرها وقرارها بيد غيرها فكرًا وحماية وإدارة وحتى لغة ومصطلحات، وهذا أظهر جوانب المحنة التي نتعرض لها. ثم إننا نعاني من إشكالية التعامل مع أدواتنا للعودة إلى الحيوية والفاعلية، ومع أدوات غيرنا التي قد يمكنها أن تساعدنا لذلك، حتى وجدنا أنفسنا ونحن نريد أن نخرج من عالم يملأه الفقر والجهل والتمزق والقلة وضياع الهوية وفقدان البصيرة وغياب الإدارة، نريد تجاوز كل ذلك في زمن يسير؛ فوجدنا الأبواب مؤصدة أمامنا تمنعنا من الخروج للعالم، وتمنعنا من المشاركة فيه، وتعيّرنا بكل لفظ وحكم جائر قديم ومستحدث. ولهذا كانت التحديات أكبر مما يخطر في بال أحد يريد تقسيمها وتحديدها، رغم أن هذه التجزئة ضرورية للعلاج.

ومن تلك الجوانب التي نلقي عليها الضوء هنا أمور منها:

 

أزمة التعامل مع التاريخ

ليس خطأ أن أقول إنني صرفت سنين في دراسة موضوع التاريخ وفلسفته في كتب وجامعات عديدة، وأن أقول إن فهمه وتعليله وإدراك علله التي يرمي بها في أعماق الإنسان ليس من الميسور إدراكها لكل من طمع في ذلك، فهو لا ينقاد لمن رغب في فهمه. كما إن التاريخ ليس ذاكرة أحداث كما توهمنا لزمن طويل؛ فهذا التاريخ مرتبط بالتعلم منه وليس معرفته، وبالإلمام بزوايا الرؤية، وكل ذلك مرتبط بمجموع ما سمعه وقرأه ونشأ عليه الإنسان في مجتمعه. الذاكرة يسمعها من ذاكرته الجمعية من البيت والمجتمع، من خطيب المسجد والمدرسة، ومن كل ما يحيط به، هذه تكوّن ذاكرته، ثم بطبيعة البشر حين يربطون أنفسهم بذاكرتهم بطريقة مليئة بالفخر بالأجداد والتاريخ. وحتى حين يكون ماضيهم ضعيفًا أو هامشيًّا فإنهم ينفخون فيه أحيانًا ما هو فوق طاقته، ونادرًا ما تجد إنسانًا يصم ماضيه بالتواضع وقلة الأهمية، فكيف به حين يكون صاحب أمجاد ماضية تعبر القرون إليه ويتواصل معها باللغة والجغرافيا والنسب.

لذا يعيش المسلم بين عالمين: بين خيالات ذاكرة القوة والسيادة، والنفوذ السابق فوق رقاب الأمم. هذه الخيالات التاريخية تتجاوز أي اختزال في واقعة تاريخية أو حدث؛ لأنها ذاكرة كبيرة ممتدة لقرون ولثقافة وعلوم ولغة وفقه، وتتجاوز النماذج المنفردة إلى حالة جماعية راسخة، وليس فقط ما أشار إليه مؤرخون وأذاعه مفكرون مسلمون، خاصة في القرن الرابع عشر والخامس عشر الهجريين، من أمثال عبد الرحمن الباشا والعقاد وطه حسين وأحمد أمين وعلي الطنطاوي، أو مثل سيد قطب حين ينقل عن الصحابة عزتهم وسيادتهم ومشاعرهم المتعالية تجاه الآخرين، مستدلًّا بقصة ربعي بن عامر في حضرة قائد الفرس رستم[1]. صحيح أنها كانت صورة عزة عليا، ولكن الأهم منها ما صنعه التاريخ اللاحق في قلوب المسلمين، ممن كان له موقف مثل موقف ربعي وما تلاه من أمة واسعة أصبحت تفكر بتفكيره، وأصبح الموقف مثالًا لما بدأ يجتاح الأمة من التفكير والمشاعر والهمة والعزيمة والنظر إلى المخالفين. وقد قامت دول وزعامات وحمى واسعة من مشرق الأرض إلى مغربها تؤمن بهذه الفكرة، العلو بالدين، وصنعت العالم والخطيب والراوي والمؤرخ والفقيه وجعلته صورة الماضي المستمر والممتد إلى هذه اللحظة. ثم إن هذه الصورة حية جدًّا في النفوس والعقول؛ فما كادت أمتنا تشعر بما حدث من السقوط تحت نفوذ المستعمر حتى واجهته وربطت ما قبله بما بعده وأسقطت زمنه من زمانها، وتاريخها تحت نفوذه من تاريخها، وصنعت من مواجهته سلّمًا في القفز فوقه واستعادة تلك العزة؛ مما جعل الموقف لا يسير وفق ما يريد الآخرون بل حصلت استعادة خيالية. وهذه الاستعادة لم تكن كلامًا؛ بل حملت معها صور التاريخ وأمجاده وتم إحياؤها في كل زاوية. وليست هذه الاستعادة مشكلة، بل تكاد تكون جزءًا من الحل؛ لكن الحل الكامل هو في إعادة التفكير، وصناعة ودراسة طريقة للتعامل مع هذا التاريخ، بحيث ينفع ولا يضر، يبني ولا يصنع يأسًا وبعدًا وانشطارًا نفسيًّا مؤذيًا بين الغرور والدونية.

يقرأ المسلم اليوم قصة هارون الرشيد مع السحابة: "أمطري حيث شئت فسيأتيني خراجك"، ثم يرى ثروته تستلب من بين يديه خراجًا لعدوه، أو لوصي عليه وعلى أمنه وبقية شكلية من حياته ومن مزق من بلاده. ويقرأ لابن جبير ولا بن بطوطة وغيرهم من أخبار الرحلات التي كان يتجول فيها المسلم بحرية وكرامة بين بلاد الله، مكرّمًا معززًا فوق رؤوس الجميع، وينال من المناصب ما شاء وما سمح به وقته حيث حلت رحاله، ثم يجد نفسه الآن محاصرًا لا يتحرك في الأرض، مقيد الحركة ومحدود الحرية. ويرى فرص العمل والرزق والسيادة مبذولة في بلاده فقط للمستعمرين، ويراهم وقد صنعوا لأنفسهم حرية الحركة والرزق في العالم، وقصروا حرية المسلمين خاصة وحددوها جدًّا بواسطة جوازات سفر، فمن كان له جواز سفر استعماري كان سيدًا حرًّا في العالم، ومن كان له جواز سفر عربي أو مسلم طارده الشقاء والتضييق والحرمان المقنن أحيانًا حتى في بلاده.

الشخص المسلم الذي تراه أمامك يعيش التاريخ ويعيش اللحظة. فهو يعيش العزة في ذروتها ويعيش الذلة والخوف في جانب آخر، فإذا تقلبت شخصيته أمامك واضطرب في الحوار فلأنه يتقلب بين منزلتين وتاريخين وفكرتين في ذهنه وفي واقعه وعمله، إنه يعيش بشخصيتين وتاريخين متناقضين.

مازلنا متعلقين بالماضي، مثل غيرنا من أصحاب الحضارات السابقة الذين يتعلقون بالأمجاد، ويحاولون إعادتها باستمرار ولا ينسونها بسهولة، والإنسان كائن تاريخي يعيش أجداده في جلده. تعيش القرون الذاهبة في عقولنا وذواتنا ولغتنا وثقافتنا؛ إذ لم يحدث عندنا انقطاع، مثل تجربة أتاتورك عندما صنع هذا الانقطاع الحاسم مع ماضي الترك ليكونوا أمة جديدة، وكان مقصودًا ألا يفهم هذا الإنسان الذي سيولد من الذي كان قبله؛ فهو لا يقرأ لغته وبالتدريج مع التصفية اللغوية لن يفهمها، ولن يتعايش مع تاريخه وثقافته، فقد تمت القطيعة الفكرية التامة مع الثقافة والتاريخ.

حين انتهى شريعتي من دراسته في باريس جال في رحلة على أمم في طريق عودته إلى إيران، وقرأت عنده سخريته من اليونانيين وهم يتعلقون بمنتجات أمريكية وينسون أمجادهم وتراثهم، ينسون فلاسفة اليونان الكبار ويتعلقون بأتفه ما ينتج الغرب الجديد. ثم في طريقه عبر تركيا وجدها تحتفل بمرور أربعين عامًا على إنشاء جيشها، وهنا بلغت سخريته واستغرابه مداها، جيش الإمبراطورية العثمانية الذي دوخ العالم وفتحه ألغي من التاريخ وبقي منه فقط ما بعد أتاتورك!

وقتها فكرت معه في فكرته، واليوم لا أراه منسجمًا مع الواقع ولا منجبًا لفكره، فهو غارق في التاريخ بينما هم على سطح العالم الذي يجري لحظة بلحظة أمامهم، فليسوا على خطأ كما يرى؛ لأنهم يريدون أن يعيشوا اللحظة وهو الذي يعيش التاريخ. وهو غائب أيضًا كما هم غائبون، يرون نجاح عالم ولحظة في مكان وهو مهاجر للماضي البعيد. هم غرباء كما هو غريب، وكان من المهم أن يتلطف بهم وقبل ذلك أن يتلطف بنفسه.

 نحن لا نستطيع أن نقبل فكرة الانقطاع ولا أن نعيشها، ومن ثمّ فنحن ملتزمون بأن نبني مرة أخرى داخل لغتنا مستقبلنا، وننظر بعين أخرى إلى تاريخنا باستخدام تاريخنا، ونبني ثقافتنا بالاستنارة بثقافتنا، فالحضارة الإسلامية العربية أمة متواصلة في البلدان والجغرافيا، ولذلك لم نقبل القطيعة مع تراثنا ولم نندمج في التواصل مع الآخرين.

بجانب هذا الشعور العالي بالمكانة التاريخية، يقابل ذلك استهانة مبالغ فيها من المستعمرين ومن أدواتهم الاستعمارية بتاريخنا. فمثلاً، كان كثير من المستشرقين يرى الحضارة الإسلامية حضارة ميتة منذ قرون، بل زعموا أن العربية لم يعد أحد يستعملها، ومن روزنثال[2] إلى برنارد لويس[3] كل منهم يؤكد موت اللغة العربية أو نهاية النطق بها كما تكتب. ثم جرت محاولات كثيرة لصناعة لغات عامية بديلة وتأسيسها متفرعة عن العربية للقضاء على الفصحى أو الأصل الرابط، وحاول تنفيذ هذه الفكرة عدد من أتباع المستشرقين المسيسين.

وقد ورثنا الجهل في أشنع صوره، والفقر في غاية تدميره وإذلاله للإنسان، حتى بلغ الأمر في بعض المناطق أن أكل الإنسان أخاه الإنسان. وكانت الأمراض المستعصية تسود ولا يتخلص منها الناس، وتجتاح المدن وتقضي على السكان حتى إنهم كانوا لا يتدافنون من فتك الأوبئة، مع هيمنة للانقسامات القبلية والعنصرية التي تشحن الجهل والعنف إلى أقصى مداه. فمن نتائج سيطرة العنف والجهل والعنصرية أن كان احتقار العلم شائعًا، خاصة العلم بالدين، ورأوا في صاحب الدين أساس الضعف والخوف، بل جعلت بعض القبائل من طبقة الفقهاء طبقة دنيا في بعض مجتمعات الجزيرة العربية مثلًا، حتى قامت الوهابية في بعض نواحي الجزيرة العربية فقلبت المعادلة لمصلحة المتدينين، ولكنه كان تدينًا من نتاج حالة من الجهل والتعصب المنتشر؛ فكثير من المتدينين لم يحسنوا التعامل مع المكانة التي وصلوها عبر الحركة التي رفعتهم إليها.

وورثنا الوضع العثماني، وهو سلطة عسكرية متجهمة وغريبة عن المجتمعات. نعم، يجمعنا الإسلام وكثير من الجغرافيا، لكن هذه الدولة نفسها كانت تعاني من ظروف لا تقل بؤسًا وتخلفًا عن المحكومين؛ فالفساد الإداري كان أساسًا في الإدارة العثمانية، وتمارس المصادرة وعزل الحاكم بعد عامين قبل أن يكبر فساده فيستعجل الغنيمة قبل العزل، فأصبحت العلاقة بين الحاكم المحلي العثماني والعرب المحكومين علاقة سالب بمسلوب أو ناهب بمنهوب. وكانت الحياة مع الترك حياة مغالبة. وقد بقوا غرباء عن المجتمع والحياة غالب حقبتهم الطويلة، وكان التواصل معهم عبر الوسطاء والمترجمين.

 

التمزق في تصور عالمين

تشهد الكتب التي قرأناها، كما تشهد المساجد والمدارس، حديثًا عن أمجاد لا تحد، بينما في واقعنا اليوم تبعية وبؤس ودكتاتورية وفساد لا يطاق، يتعرض لهذا التناقض بين المشهود والمكتوب العالم والمتعلم والأمي وعموم المجتمع، فكيف يتدبر هذه الصور المتنافرة؟ إنه جانب من صورة السيد في التاريخ والأفكار، وحقيقة العبد المهان في الواقع، فلا أحد فوق المستعمر. روى الدكتور عبد الله النفيسي حادثة شهيرة لطلاب جامعة الكويت، ذكر فيها أن حكومة البحرين لا تستطيع السماح للطلاب البحرينيين بالعودة إلى الدراسة عام 1974-1975 إلا بإذن من المقيم البريطاني هندرسون، الذي يحكم البلاد من قلعة عسكرية قديمة هي مقر نفوذه[4]. وفي الوقت ذاته تعلو شعارات الممالك والإمارات والجمهوريات العربية ببطولات الحاكم العربي المرتهن للخارج حتى في أتفه الأمور، فيبالغ الحاكم العربي في الديكور والإعلام كلما كان منقوص السيادة. وعلى سبيل المثال، كان الحاكم البريطاني للجيش الأردني هو غلوب (بوحنيك)، وكان المهيمن على الجيش، والطريف أنه تحت سيادة هذا الحاكم كانوا يتحدثون عن تحرير فلسطين، بل تقوم معارك وحروب!

هذا الانشطار بين ثقافة السيادة التاريخية، التي تتردد بكثرة كل لحظة، وواقع المستعبد في الوقت نفسه أنتج اضطرابًا فكريًّا وسلوكيًّا مكرورًا ومؤذيًا طوال الوقت. فهل أحدنا نتاج عصر السيادة الموجودة في الذاكرة والكتب والخطب أم ابن لحظة الاستعباد والبؤس القائم؟ وقد يهرب كل منهما لطرف يقتنع بأهميته أكثر من غيره، فيعيش هوس التاريخ كما حصل ويحصل من بعض الإسلاميين والقوميين، أو ينتكس ويعيش مشاعر الاستسلام والدونية للطغاة من أي مكان؛ لأنه يرى الواقعية هي الحل، وهذا ينتج تمزقًا فكريًّا ونفسيًّا واجتماعيًّا دائمًا؛ لأن تقييم الحالة ومن ثم تقديمها للنفس وللآخر لم يتم بطريقة مقبولة ولا معقولة للمجتمع، بل قد يبالغ أحد الأطراف في أوهام الواقع ليخرج الطرف الآخر من الذاكرة الجامعة.

 

الأوصياء

وكما كانت الوصاية على الجيش الأردني، تبيّن من حقائق وتصرفات أخرى أن كثيرًا من الجيوش في عالمنا العربي تدار بوصاية من الخارج، وهي وصية على الشعوب والحكومات، فحين كان الجيش المصري يستعد للانقلاب سنة 2013، نشرت مقالات وتوالت مواقف تتحدث عن وصاية العسكر على المنطقة، وأن الجيش هو الجهة المأمونة على حكم المنطقة. ومن ذلك مقال نشره إميل أمين في هذا السياق، وأكد فيه أن الجيوش هي الموثوقة عند الغرب لإدارة العالم الإسلامي. وكذا كانت من قبل الحالة الجزائرية، فقد تدخل قادة الجيش الذين سبق أن عمل كثير منهم في جيش المحتل الفرنسي، واستعادت فرنسا الجزائر من الجزائريين عام 1991، ثم كانت المذابح التي جرت للجزائريين فيما سمي "العشرية السوداء"، التي ذبح فيها الجيش الجزائري الشعب معاقبة له أن اختار الإسلاميين أو الديمقراطية نهجًا بديلًا للأوصياء. وكانت تلك المذابح لا تختلف عن مذبحة رابعة 2013 إلا بالعدد، ولا تختلف في حقيقة استعادة الوصاية الخارجية على البلاد. والنهج في التضييق والمعاقبة والإرهاب العسكري للشعب هو نفسه، وكذا تسليم القرار والسيادة لمستعمر خارجي تحت ستار عسكري محلي.

كما يلاحظ أن هناك توازنًا بين نفوذ الحاكم المحلي في المستعمرات وبين سفراء القوى الكبرى التي كانت تستعمر تاريخيًّا أو حاليًا أو من وراء قناع في عالمنا، فلهم نفوذ كبير جدًّا، إما قبل الحاكم أو معه، ولا يصل أي شعب في عالمنا لمكانة وأهمية ونفوذ سفير المستعمر، لا يقل عن نفوذ الشعوب أو عن أهمية الشعوب في التعامل معها؛ لأن هؤلاء يمكن كبتهم أو سجنهم أو مطاردتهم. أما السفير أو الملحق العسكري فهو نائب الوصي الموجود في البلاد.

أورد مؤلف كتاب شركة النفط الإنجليزية-الفارسية نصًّا طريفًا لأحد الإنجليز، فبعد أن وقّعت إيران عقدًا مع شركة بريطانية لتثبيت حقها في امتلاك نفط إيران، قال جورج رزون معلقًا: "لم يسبق أن عرف التاريخ مثله" [أي الاتفاق]، إذ "تُسلّم مملكة بكامل ثروتها تسليمًا شاملًا إلى أيدٍ أجنبية"[5]. النفط كله لنا. كما لم يخرج الأمريكان من العراق إلا بعد الالتزام بهذه الشروط المذلة لأي حكومة ستحكم العراق؛ فقد جرى منح الأمريكان ثروة العراق النفطية ومعادنه، ووقّع الجميع برشى أو تحت تهديد الخوف، وتحدث الزعماء العراقيون، الذين نصبهم المحتل زعماء، عن هذه المأساة، وأن النفط العراقي أصبح ملكية أمريكية. فوق هذا، فمنذ عام 1973 أجبرت أمريكا المستعمرات على ألا تبيع النفط إلا بالدولار؛ لأن الدولار سحب الغطاء الذهبي، ومن ثمّ جاء البديل النفط أو الذهب الأسود غطاء بديلًا للدولار، وبديلًا عن الذهب الأحمر، ولم يعد بالإمكان بيع النفط بغير الدولار، وذهبت مطالبات وزير النفط الشهير أحمد زكي يماني ببيع النفط بعدة عملات أدراج الرياح، بل أبعد هو نفسه، وإن كان إبعاده لم يكن السبب الأساس فيه هذا الأمر الذي لا يملك فيه قولًا.

أما حين يخرج بلد أو حزب أو شخص من سرب النفوذ الاحتلالي فإنه يثير القلق والأسئلة، ولما يعلن البعد أو القطيعة أو المقاطعة لكل شيء احتلالي فإنه يصبح غير مفهوم وغير مقبول، ثم يثور ضده الإعلام الاحتلالي لتثور عليه المؤسسات والحكومات الاحتلالية السابقة، ويرمى بالتطرف والإرهاب وينبذ من عالمهم الذي رتبوه وسموه النظام الدولي، وتسقط عملة البلاد، ويطارد حكامها، ويوضعون على قوائم الإرهاب، ويحجز على الشعب ويمنع من السفر ومن التصرف حتى في ممتلكاته الخاصة خارج حدود بلده العاق للحكومات الاحتلالية، بل قد يقال عنه كل سوء لا يتخيله سواء حقًّا كان أو باطلًا. فمثلًا مادورو الرئيس الفنزويلي يتهمونه حتى بالترويج للمخدرات وبيعها، وإن كان فعل ذلك فهل زاد على ما كانت تمارسه السي آي أيه حتى داخل الولايات المتحدة، حيث كانت تبيع المخدرات في ولايات، خاصة الجنوبية مثل كاليفورنيا، لتمول عملياتها في أمريكا الجنوبية[6]! هذا عدا تنفيذ الانقلابات والاغتيالات في كل العالم، وقد أصبح أخيرًا بشكل معلن للعالم وقد كان يخفى سابقًا[7].

الوصي في علاقة متوترة بكل عنصر يمكن أن يشكل حيوية للأمة، أو يمكن أن يفكها من ربقة المستعمر. فالمحتل في خلاف دائم مع الأحرار في المستعمرات التي هو وصي عليها، هو لا يملك القرار في الأمور المحلية خاصة ما يمكن أن يكون سببًا للتعلم أو الفهم أو المشاركة السياسية، يضع له المستعمر حدًّا فيزيد في التضييق على الناس ومصادرة حرياتهم وكرامتهم، فالحرية عدوه الأول. أما الإسلام فله منه موقف المتطرف بل الإرهابي، وإذا سمح له بالوجود فإنه ينتقي منه ما يحمي مصالحه، وما يجعله خاملاً راكدًا لا يعترض ولا يصلح ولا يشارك في البناء. يريد من الإسلام أن يكون أحد الخدم في قصر المحتل، يريده مؤيدًا لخصومه، راكدًا يؤدي دور التسلية، وتفريج الكروب الروحية، يصادر أي تقدم عملي أو حيوي في المجتمع. يريد إسلامًا تبريريًّا فقط، تابعًا صامتًا يوم يقال له اصمت، وناطقًا ومعللًا يوم يقال له انطق وانتقد الشعب وانتقد مطالبه، يجعلون منه خادمًا للمستعمر بكل طريق. وكلنا نذكر ذلك الإسلام الذي أخرج منظمة المؤتمر الإسلامي ليكون إسلامها بيد الجاسوس حسن التهامي حارسًا للمعسكر الغربي ضد الشيوعية واليسار وفروعه القومية، وكذا رابطة العالم الإسلامي، التي نشأت ردًّا على عبد الناصر ثم أصبحت جزءًا من الحرب الأمريكية على من يخرج عن الصراط الغربي، وتعاونت مع الكنيسة في الفاتيكان لتنسيق عملهما حول العالم، ونشر المقاومة الدينية للشيوعية، فقد صنعوا إسلامًا أمريكيًّا يؤيد المرحلة. وهذا لم يعد غائبًا على المهتم والقارئ الواعي. ولم يقف الأمر عند مجرد الاستخدام بل التفكير له واستخدامه، كما فعلوا في أفغانستان مع المجاهدين.

 

نظام الوصاية لا يقبل الحرية ولا الديمقراطية

الوصاية السياسية المعروفة باسم الانتداب، أيام الاحتلال المباشر، تعني نقص أهلية الموصى عليه، فهو لا يستطيع القيام بأمور نفسه فضلًا عن إدارة بلده، ولا يملك القدرة على تدبير شؤونه، فهو بالضرورة قاصر ويجب أن يكون تابعًا لمن يدبر حياته ومصالحه. هذه الحالة كانت مقبولة ومنتشرة إلى أواسط القرن العشرين حين كان الاستعمار في أوجه، قبل وأثناء الحرب العالمية الثانية. ثم ظهر في المستعمرات استنكار لهذه الداروينية الاجتماعية التي تؤكد قصور أعراق عن أعراق، بل فسرت بقصور غير الأوروبيين. هذه الشناعة العرقية العنصرية من الخارج تم تحويرها وتهذيب ألفاظها وتعيين أوصياء بدرجة حكام ومحررين وقادة في دول العالم الخارج من الاحتلال.

وتوحي الوصاية بنقص الوصي نفسه، فهو ينال البشرية والاعتبار بسبب وظيفته في المستعمرات، وإلا فهو من العرق والأمة المنكوبة به وبمن أوصاه. وحينها لا يمكنه أن يحرر نفسه ولا يحرر شعبه، بل هو صاحب غنيمة من الوصاية لا تقدر بثمن، ونقصه تجاه سادته يعوضه بتكبر وتعجرف ودكتاتورية تجاه المقهورين بوصايته.

ومن العبث البحث عن حرية تحت إدارة الوصي، فهو لا يملك إعطاءها ولا يعرفها، ويسقط بوجود الحرية في المنطقة الموصى إليه باستمرار تبعيتها. ولو تحرر الشعب الخاضع للوصاية لفقد الوصي دوره ومكانته، فهو مع الحرية في عداء جذري. علمًا أن بريطانيا، بخلاف فرنسا، كانت تعطي مجالًا للوصي يسمح بالمناورة والظهور بمظهر السيد، وقد تمنحه لقب "سير" في المستعمرات، وتسمح بقدر من التحرر فيما عدا السيادة العامة والاقتصاد والتجارة والشؤون الخارجية والعسكرية، حيث يترك البريطانيون للمقهورين شيئًا من التنفس والانتخابات وحرية الضجة في حدود، كما كان في مناطق من الخليج العربي وإيران ومصر، تحت إدارتهم، وفي الهند والباكستان وغيرها.

معضلة الإحياء الإسلامي

 يرى الجابري أن عصرنا الحديث يبدأ بالحركة الوهابية، فهي حركة داخل الأمة وإصلاح منا لأنفسنا، بعكس رؤية بعض المستشرقين والعرب أن العصر الحديث بدأ باجتياح[8] الفرنسيين مصر عام 1798. فالحادثتان كان لهما أثرهما البعيد في التفكير والممارسة، الحركة الوهابية شقت طريقًا حديثًا للتسلف، كما كان الأثر جدليًّا وشكليًّا إسلاميًّا في الشعائر على مستوى العلماء، لكنه أفاد اجتماعيًّا في ظاهرة التدين. وهذه المفارقة كإشكالية التعامل مع غير المسلمين بثت جذور خلاف لاحق في شتى المجالات، منها ما هو جبرية في التبعية للحاكم وللمستعمر من ورائه، كما في إصرار بعض المشايخ على الخنوع وعدم استنكار أي جريمة أو منكر من المتسلطين، حتى ولو كانت من حفتر في قتل الليبيين، أو نزعة خروج على كل مخالف، بدأت مع حركة الإخوان، إخوان من طاع الله. غير أن من المهم ملاحظة أن الحركة أو الدعوة الوهابية في أول أمرها تميزت بنقاء عربي إسلامي صافٍ من المؤثرات الخارجية، مما جعلها وأدبياتها تخلو من خطاب الخنوع للخارج أو التقدير له، فيرون الأمم الأخرى لا شيء في ثقافة الإصلاح الأول. ورغم بعض الاختراقات السياسية القليلة في العهد الأول للدعوة، فإن فكرها ومشايخها كانوا بعيدين عن المؤثرات من خارج الجزيرة العربية، وبقي هذا طابعًا سائدًا فيها. وقد كان من آخر علمائها المتميزين بالصفاء والخلوص من التأثير الخارجي الفكري ابن باز مثلًا.

كانت هناك مشكلات فكرية عصية على المتعاملين مع المجتمع والفكر السياسي الإسلامي، فهل نظام الخلافة هو النظام المنشود ليعاد إحياؤه، وهل يعاد بدافع من صوت الأصالة وهوى القلوب للماضي العظيم، أم إن هناك تجارب سياسية معاصرة تحتاج الوقوف أمامها متسائلين عن مدى صحتها وقبولها منا، وما هي أثمان ذلك؟

 

معضلة التدين بين خانع وممانع

يرصد العياشي في رحلته مشاهد عجيبة من تجبر المتمكنين في مصر وجبروتهم على الضعفاء، خاصة الفلاحين، وهي ملاحظة وجدت صداها بعد أكثر من قرنين في كتابات الشيخ محمد عبده، وظاهرة ضرب ملاك الأرض للفلاحين، وبنية القمع التي ترسخت عبر قرون، وكانت تأخذ وجوهًا كثيرة. غير أن ملاحظة العياشي الذكية في ربط الجور بخنوع بعض المتدينين والتظاهر بالصلاح مبعثه موت الهمة، وغياب الطموح الذي يصنع مجتمع الجور والرعب السلطوي وما يصنعه ذلك الجور من انتشار التظاهر بالصلاح والتقوى، أو اللجوء إلى القبور والمشاهد وانتشار ظاهرة الأولياء والصلحاء: "ولأجل هذه الرقيقة يكثر فيهم الصالحون؛ لأن نفوسهم ميتة قد تربوا على الذل والاحتقار وزالت الرياسة وحبها من قلوبهم"[9]. وهذا النمط من التدين الخانع أعادته جماعة نشأت في المدينة المنورة تسمى الجامية، نسبة إلى شيخها المؤسس للخنوع للسلطة تدينًا، ولكن هذه الحركة أخذت من السلفية العنف على الناس والخنوع التام لكل من يمثل سلطة، سواء كانت إسلامية أو مسيحية أو غيرها؛ ذلك أن السلفية في ثورتها على التصوف والطرقية والشيعة وتأسيس حكومتها في نجد تميزت بالقسوة على المسلم المخالف، ومن ثمّ الاحتجاج العنيف بالقوة وإلى حد استباحة دم المخالف؛ مما أسس مدرسة الخنوع ومدرسة الامتناع عن الطاعة، وتأسست مواقف متطرفة في كل جانب، وأصبح الوصول إلى وفاق من أعسر الأمور. وسبب هذه الظواهر القهر السلطوي الذي يبحث عند أتباعه عن خنوع وعبادة عمياء، فأنتج هذا التطرف من يعبده على أي حال كان، ويبرر له الزنا والسكر على الأشهاد، وبين من يكفره ويكفر من لا يكفره، ثم يستبيح دماء الناس على قواعد متطرفة أسسها لنفسه، ومبعث هذه الشرور الجور الأعمى والتبعية للمحتلين من جانب السلطة ومنعها لوجود تدين معتدل لا يخنع ولا يخرج، فصنعت الطرفين، ولتضرب مجموعة بأخرى، وتصفو لها السلطة.

ثم تصاعدت إشكالية أخرى في تفكير المسلمين عن الدين والتدين؛ مما جعل الأمر أكثر صعوبة في التعامل معه من أي أمر آخر، فهل نزل الدين لنخدمه أم الدين هو لخدمتنا؟ وكيف نفرق بين الدين وبين التدين؟

هذه الأمور عرضت لها بتفصيل في مكان آخر، حيث إن هذا الأمر سبب تشويشًا كبيرًا في رؤوس المتدينين، فقد كان موضوع الاتّباع مبالغًا فيه، اتّباع المشايخ، واتّباع المذهبيات المختلفة، حيث لم نكن قادرين على محاكمة أو التفكير في شيء منها. ولعل هذا الجانب واضح في تدين عامة الناس، ولكنه أكثر أذى وتأثيرًا وضررًا في تدين المجموعات المتحزبة مع الدين أو ضده، فمن كان ضده تطرف في عدائه وسخريته بتراث أمته، ومن كان متدينًا بالغ في اتباع مذهبية أو جماعة أو مدرسة دون تفكير ولا تساؤل.

ثم إن المعالجات المقترحة للإسلام إما من متدينين يبعثون نمطًا سابقًا من التدين يعاني من صعوبة التأقلم مع الحاضر، أو معالجات يقوم بها مقلدون لمسيرة المسيحية في الغرب، ويتعاملون مع الإسلام على أنه نوع من المسيحية تجري عليه تفاصيل التعامل معها من تمرد على الأصول؛ لأنهم يرون القرآن مجرد نص من نصوص الإنجيل يعاني معاناة الإنجيل وتشتته وضياعه بين اللغات، وعليه فلا بد من إعادة تأويله. فهم يستدعون صورة مسيحية ويعالجونها باسم الإسلام في أرضه وقومه، وهذا يزيد من التفرق وعدم الثقة بذوي هذا المنهج واعتبارهم من جند الغزاة، ويجرون عليهم ألفاظ التكفير والمروق والاستبعاد. واستمرار هذه الطرائق في الفهم توحي بمستقبل مضطرب.

 

قلق الحضارات

الحضارة الإسلامية نشأت عقائديًّا وأخلاقيًّا مستقلة. أما في الجوانب الأخرى، كالجانب الإداري والعسكري وعدد من التنظيمات، فقد نشأت داخل المنظومة الحضارية السابقة وطورتها، كالدواوين مثلًا والعملة وتقسيم الولايات، فلا يليق أن نطالب بقطيعة تامة مع حضارة عصر أو ثقافته إلا حين يكون لدينا البديل الأفضل؛ لأن مجرد المخالفة من أجل غاية المخالفة التي قد تضر مجرد نقمة بلا حل ولا منفعة سوى أوهام الاستقلال والتميز.

وهناك عقدة حضارية وفكرية تجتاح عقول كثير من المثقفين والمتعلمين وهي عقدة التميز، فتؤكد التميز في الفرعيات وقضايا هامشية لمجرد المخالفة. وقد كان ضرر هذا التميز أكثر من نفعه، حين وجدوا أنفسهم محتاجين إلى مشاركة مجتمعية وإلى حلول لأزمات كبرى، أغلبها أخذت من أمم أخرى، ومن ثمّ لم يكن هناك منظور لما نأخذ وما نترك. نحن عندنا هذا الصراع قائم إلى الآن وغير محسوم. أيضًا ما هو الخارج بالنسبة إلينا لنختلف نحن عنه أو عليه، هل هو احتلال أم حضارة، عدو أم معاهد، صديق أم كافر؟ كل هذه الأشياء سببت عندنا إشكالات في التعامل مع العالم. عندنا أيضًا أزمة ما بين الديني والمعاصر، هل هذا الشخص يأخذ من الإسلام أم يعيش في العصر الحديث ويأخذ من العصر الحديث نظام حياته؟

نحن رضينا بنوع من التمزق في الحالة الشخصية بين طاعة للدين وبين طاعة للحالة المعاصرة، بين الحالة المعاصرة التي يقال لنا إن أكثر ممارساتها غير إسلامية، وبين نوع من الوفاء للماضي، وما استطعنا أن نحرر حالة من الحالات التي يمكن أن نعيشها. هذا من أسباب القلق التي تجعل الحالة الفكرية والسياسية مستمرة في أزمتها.

 

أزمة الهوية

كما إن هناك جانبًا آخر في أزمتنا الفكرية؛ فنحن إلى الآن عندنا صراع في سؤال الهوية: من نحن؟ هذا السؤال تطرحه أمم على أنفسها الآن، ونحن في كل مرة لا نستطيع أن نجيب عن أنفسنا بصراحة أو بوضوح، أو نتفاهم فيما بيننا لننشئ لنا هذه الهوية الجديدة التي يمكن أن تكون بديلًا عن الهويات السابقة.

كل الشعوب تتحدث عن أزمة الهوية بسهولة، ونحن نعاني من أي حديث عنها لما تنتجه من توترات قاسية ومعيقة للتفكير. وكل من يشارك في صناعة مجتمعاتنا يريد لها هوية، وهذه الهوية غالبًا إما شرقية أو غربية، هوية مصطنعة جديدة، هوية مستدعاة من الماضي مثلما حصل مع داعش وغيرها، وهو نوع من استدعاء الماضي ومحاولة تطبيقه حتى بالشكليات كما رويت وصورت وبكل المصطلحات، وإن لم يكن قابلًا للتطبيق في العالم وللتعامل معه، ومن ثمّ كانت نوعًا من المغامرة الغريبة، لم يستوعبها المسلمون أصلًا فضلًا عن غير المسلمين.

أيضًا كانت هناك إشكالية في تعريف أنفسنا نحن العرب وفق النظرة القومية الغربية التي صدرت إلينا. هل العرب قضية عرق؟ هل لنا تعديلات على القومية الأوروبية؟ نستقبل الحالة الشيوعية أو الصراع بين الفقراء والأغنياء حسب المذهب الشيوعي، ويُراد لنا أن نعتقد أننا كنا قوميين زمن صعودنا ولا بد أن نستعيد تلك الحالة القومية، أو أننا كنا حالة ماركسية يسارية وعلينا أن نعود إلى تلك الحالة. وبهذا وجدنا أنفسنا في تفسيرات وحالات لا تنطبق علينا لا في الماضي ولا في الحاضر، ولأن هذه الأفكار الغربية التي صدرت لنا لن تقدم لنا إلا مزيدًا من التبعية للمنتصرين الغربيين عسكريًّا، فتوفر لهم أفكارهم المصدرة إلينا مهادًا ثقافيًّا يبرر ويقبل فكرهم ويدمر أمتنا.

كذلك القومية لما صدرت إلينا في اصطدام مباشر مع مفهوم الأمة الذي فهمه المسلمون من قبل، ثم وجدوا أنفسهم يصطدمون بهذا المفهوم القومي الجديد، ولن يستطيعوا أن يتقبلوا أو يعيشوا به؛ لأنه إذا كان مفهوم "عرق"، فنحن مجموعة أعراق، وإذا كان المفهوم قائمًا على "لغة" فعندنا أيضًا لغات مختلفة. أما إذا كانت كل هذه التفاصيل فسنجد إشكالات عدة، ثم يتبين لنا في النهاية أن هذا نوع من إكراه الأمة الإسلامية على مفهوم أو حالة ليست من حالاتها، وسيبقى الصراع أيضًا قادمًا مع هذه الأفكار الدخيلة التي لم تنشأ وفق مصلحتنا، ولكن نشأت وفق آراء أو مصالح أو مذاهب غربية أخرى.

 

جيل القرن الجديد

جيل هذا الربيع هو جيل استبان الكثير من الظروف السابقة. وهو جيل اكتسب شيئًا من المرونة في التعامل مع الداخل والخارج، ربما عمليًّا لا فكريًّا، واستطاع أن يشعر بأنه ليس حاسمًا في قوته ومن ثمّ يحاول أن يدخل بلطف إلى العصر الحديث. واجه موجة هذا الجيل، في حقبة الربيع العربي، مجموعة من الأوصياء المستعمرين فكانوا أكثر تطرفًا من القدماء، كما حصل في بعض الدول العربية، وبعضهم واجه الأمر بعقل واستيعاب للحدث كما حصل مثلًا في المغرب، اعتراف بالشعب في نوع من المشاركة وفي الوقت نفسه عدم إنهاء كل شيء إلى الطرف الآخر، هذه نماذج من مواجهة هذه الحالة الجديدة التي حصلت في العالم العربي.

نشأ جيل الربيع العربي فكريًّا على ثقافة عالمية منفتحة، وعلى خلاص من قيود الأيديولوجيا، القومية واليسارية، وكانت المشاعر الإسلامية والاعتدال غالبة عليه. لكن هذه النعومة الفكرية جعلته يفقد قدرته على التغيير الشامل في وجه قوى الوصاية المتصلبة القديمة. وهو جيل بلا براعة سياسية، جيل يعرف ما يكره، ولا يجيد الطريق نحو ما يريد. وأما كونه بلا خبرة فلا توجد في مجتمعاتنا خبرات سياسية ولا حشدية إلا خبرة الوصي فردًا قبل أن يكون معه آخرون، ومن كان عن يمينه أو يساره فهم أتباع ومشاركون ضعفاء للوصي، مما جعل الخبرة السياسية والاجتماعية والتنظيمية في المجتمع مفقودة، وجعل أغلب مجتمعاتنا تعود وترتكس بسرعة إلى حمأة الوصاية مرة أخرى.

حقق هذا الجيل قدرته على الاحتجاج ورأى آثارها، وعرف قيمتها وثمنها ومكاسبها وخسائرها. جيل حقق بنفسه إسقاط أكثر الأصنام التي قدسها المستعمر وصنع لها هالاتها ومنع الاقتراب منها، أو على الأقل أحب وجودها وسماها "الاستقرار". وما الاستقرار المزعوم إلا تقييد مصائر المجتمعات بمستعبديها. والربيع هدم هذه الأشباح، ونشر الحيوية والأمل وقال للناس هذا عصر الشعب الآن، والمستقبل قادم لا محالة.

وهو جيل يواجه التواصل مع العالم كما لم يتواصل أي جيل في التاريخ البشري القريب والبعيد. يرى كل مكان ويسمع كل فكرة ويقارن مجتمعه وحكومته ونظامه بنظم العالم. ثقافته كونية مهما لاح لنا أنها محلية، فهو مرتبط من صغره بزملاء يلعب معهم على الأجهزة الإلكترونية عبر العالم، ويفهم لغات، ويرى الكثير من المحتويات الثقافية المختلفة. يرى الحرية عند الآخرين ويقارنها بالبؤس والقيود في مجتمعه، فتتكون في داخله ثقافة رفض وبحث عن الحل. يرى الغنى والفقر في العالم ويقارن نفسه بهم.

مع التكنولوجيا نستفيد الكثير ونفقد من قدراتنا الكثير. ومهما حاول المستبدون تقييد العقول والقلوب فإن التقنية نفسها التي يسيطر عليها المستبد الوصي تصنع ما يضادها، وهذا يعني أنها ستصنع الحرية.

 

هل سنلفق لنا مستقبلًا؟

ربما كان هذا العنوان صعبًا على بعضنا أن يقرأه، فضلًا عن أن يتسامح معه، وأبعد من ذلك أن يقبله. غير أننا نعلم أنه لا أنبياء ننتظرهم، ولن يأتي مهدي يصنع فكرًا جديدًا. وإن صح الكلام ووقع ظهور لمهدي فهو أقرب إلى أن يكون زعيمًا مصلحًا، فلنتحدث عما يمكننا وما نفهم. نعم، سيكون علينا أن نلفق؛ فلا نملك إلا مفكرين وقادة يمكن أن يظهروا في طريق مستقبلنا، وهؤلاء ليس أمامهم إلا ذلك، ولا نغلق على أحد طريقًا، فسنة الأمم والحضارات، بل النبوات، أن تأخذ من مجتمعها كثيرًا، ومن الهدي السماوي هداية روحية وخلقية وسلوكية، ولكنها تبقي سلاح المدنية لقدرة الإنسان ومقارنته وتفتق فطنته ومعاناته للوصول للقوة والنفوذ والخلاص من الضياع على الدروب. نحن بلا قيادة إلا قيادة ننتجها، وطريق نتخبط فيه حتى نعرف منتهاه، وتجارب بشرية مبذولة كثيرة نختار منها، وهذا ما عنيت بالتلفيق. نحيا من خلال غصن من حضارات البشر نصنع منه حياة وقوة، ونتفرع منه، أو نجعل منه قوة تصنع من قوتنا قوة ومنعة ومستقبلًا عامرًا.

 

 مما نستطيع أن نفعله

هناك جمود في أغلب المدارس الفكرية، ولكن هناك معالم للخروج من هذا الظلام للتجديد الموجود سياسيًّا: الحالة الديمقراطية، والمساهمات، والمشاركات الاقتصادية إلى غير ذلك. وهناك حالة شعبية من كراهية التطرفات أيًّا كانت؛ فالتطرف القاتل للناس نوع من الاعتداء في التعامل معهم، ونبذ هذا السلوك علامة على نضوج فكري وسياسي وأن مجتمعاتنا من الممكن أن تتقارب. أيضًا هناك نوع من التقارب بين الفئات المظلومة في مجتمعاتنا، ويمكن أن تصل إلى حل في كثير من إشكالاتها. وهناك نوع من الشك في تجارب كثيرة، والشك نوع من بداية البحث عن الحل؛ لأن الذي يشك في هذه التجربة السابقة يمكن أن يبحث، لكن الذي يرى أن هذه التجربة معصومة لا يستطيع أن يخرج منها.

أما عند الطرف الآخر الذي كان متمسكًا بكل شيء في الحالة الاستعمارية فهناك مؤثرات كبيرة تحدث عنده. هناك إشكالية في البنية الحضارية، سواء من ناحية تراجع السكان؛ إذ إن أوروبا مثلًا والغرب في بدايات القرن العشرين كان الرقم السكاني فيها عاليًا جدًّا. وكان لدى أمريكا بعد الحرب العالمية الثانية خمسون في المئة من إنتاج العالم، والآن تراجعت. أيضًا هناك تراجع في الاقتصاد، ونقص حاد في السكان وزيادة في شعوب أخرى. هناك تحول للتجارة باتجاه إلى شرق آسيا بعد أن كانت محصورة في مناطق التجارة الغربية.

وهناك بروز للتطرف العرقي في المجتمعات الغربية والصراعات الداخلية فيما بينها. إضافة إلى ظهور نوع من التمرد المتداول بينهم، نموذج ذلك خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. فهو مؤشر كبير على مصير هذا الاتحاد أيًّا كانت الأمور. وخروج بريطانيا سيكون له أثره سواء في داخل اتحاد إنجلترا نفسه، مثل شمال إيرلندا وويلز وسكوتلندا، كل هذه الأمور تشير إلى تحديات قادمة عرقية وسكانية وإشكالية في اتحاداتهم.

كذلك تراجع الديمقراطية لمصلحة التطرفات ومصلحة التجار، كما يحدث في الانتخابات الأمريكية الآن، أو لمصلحة مجموعات عنصرية أو أقسام داخل مجتمعات. هذا يدل على تحولات أخرى قد يكون لها أثر في ضعف القبضة على بقية العالم.

أيضًا هناك ضعف لليقين في المستقبل؛ وهذا أمر تحذر منه كتابات وأحاديث كثيرة على نطاق واسع. كذلك مسألة الخوف؛ فالخوف من الخارج إشكالية زادت وتزيد مع الزمن. من ذلك الشعور بأن السكان المسلمين يزيدون ويحاصرون الغرب أو المسيحية أو العرق الأبيض. هذا أمر يجعل الحالة تتفاقم ولو نفسيًّا على الأقل. لا أقول إن هذه التحديات يمكن أن تحسم الأمر في جهة من الجهات، ولكن إن أمكن البناء على الجانب الإيجابي فيها أمكن الإصلاح والخروج من الضائقة.

 

 

 

[1]            وقولته المشهورة لرستم: "إن الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام...". في القصة المشهورة. راجع ابن كثير، البداية والنهاية، بعناية عبد القادر الأرناؤوط وبشار معروف، الدوحة: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، 2015، 7/134

 

[2]            كان يجيد العربية والبحث فيها ولا ينطقها، ويرى أنها لم تعد منطوقة.

 

[3]            يقول لويس في مذكراته ملاحظات على قرن (Notes on a Century: Reflections of a Middle East Historian) إن هناك مسافة كبيرة بين العربية المنطوقة والعربية المكتوبة، تجعل من يجيد هذه لا يفهم تلك، ولم يفكر في توسع وتباعد المناطق واللهجات، وهذا موجود في الإنجليزية القريبة العهد جدًّا بالوجود والتكوين. وفضلًا عن اللغة. الألمانية التي لا يتفاهم العامة بها في مناطق ألمانيا إلا بالرجوع إلى اللغة الرسمية "الكلاسيكية".

 

[4]            ذكر ذلك الدكتور النفيسي في إحدى حلقات برنامج الصندوق الأسود.

 

[5]            أحمد إبراهيم أبو شوك، شركة النفط الإنجليزية-الفارسية وإمارات الخليج العربي، الدوحة: منتدى العلاقات العربية والدولية، 2019، ص 20.

 

[6]            تناولت كتب عدة تورط المخابرات الأميركية في تجارة المخدرات، مثل كتاب ألكيساندر كوكبرن وجيفري سانت كلير التحالف الأسود، وهو مترجم، وكتاب (Cocaine Politics: Drugs, Armies, and the CIA in Central America).

 

[7]            هناك حوادث عديدة في أرجاء العالم للإعداد للانقلابات، مثلا الانقلاب على سوركارنو عام 1964 في إندونيسيا، وعلى مصدق في إيران الذي خطط له دلس عام 1953، وعملية خليج الخنازير 1961 في كوبا في عهد كينيدي، وتشيلي، وأقربها وآخرها العراق، انظر كتاب ستيفن كينزر الإخوة: جون فورستر دلس وآلن دلس والحرب العالمية السرية.

Kinzer, Stephen, The Brothers, John Forster Dules, and Allen Dules, and The Secret World War.

 

[8]            من الكلمات المعيبة أن نقول دخول الفرنسيين، وليس غزو الفرنسيين ولا اجتياح الجيش الفرنسي ليبقى في أذهان الناس أنه مجرد دخول، علمًا أنه كانت هناك معارك وقتال كبير، راجع ودخلت الخيل الأزهر لمحمد جلال كشك.

 

[9]            العياشي، الرحلة،  ج1 ص 122، نقله وعلق عليه الفقيه الإدريسي في مقاله: "المجتمع المصري من خلال رحلة أبي سالم العياشي"، ص 317-243. من كتاب: المغرب والمشرق العلاقات والصورة، جامعة القاضي عياض، بني ملال، المغرب، 1997، ص 234.

 

أواصر - مجلة فكرية فصلية

www.awasr.com