الإسلاميون والثورة السودانية: قراءة في مأزق الخطاب وتحولاته

الإسلاميون والثورة السودانية:  قراءة في مأزق الخطاب وتحولاته

فاروق أحمد يحيى [1]

تقدمة

ربما وجبت العودة في قراءة الحالة السودانية وثورتها الثالثة على الحكم العسكري بعد الاستقلال إلى الديمقراطية الثالثة في ثمانينيات القرن الفاني، وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة في وضع لا يحسدها عليه حاسد، بين كُتل سياسية ونُخب تتجاذب التحالفات داخل قبة الجمعية التأسيسية التي تضم من يُفترض فيهم نوابًا عن الشعب، وبين وطن مثقل بالصراع الداخلي والاحتراب الأهلي ومطالب أقاليمه بالعدل في توزيع المناصب والثروة على بلد شاسع المساحة مترامي الأطراف. في هذه الظروف المعقدة كان مشروع الدكتور حسن الترابي، الأب الروحي للحركة الإسلامية[2] الأبرز في السودان، قد تهيأ لتنفيذ انقلابه العسكري على الديمقراطية التي مهرها الشعب السوداني بمسيرة نضالية طويلة استمرت سنوات من حقبة الجنرال جعفر النميري، وتوجها بثورته الثانية بعد الاستقلال؛ وهي ثورة أبريل 1985. ولما استوت خطط الترابي الانقلابية كانت جموع الشعب السوداني قد أنهكها التعب، وأخذ منها بؤس أدوات السياسة كل مأخذ بصورة لم تكن معها هذه الجماهير قادرة على إبداء أدنى اكتراث بالديمقراطية التي وُئدت، بل نظرت إليها قطاعات مقدرة من جمهرة الشعب السوداني أنها المخلص للسودان من محنته، لا سيما وقد أخفى الانقلابيون هُوية مرجعيتهم السياسية وبدت منهم البزة العسكرية والمجردة التي سيطرت على الطرقات واستولت على مفاصل الدولة الحيوية، ثم ظهروا على شاشات التلفزة بمجلس قيادة عسكري، وأطلقوا على حركتهم اسم ثورة الإنقاذ الوطني. وقد كان شعارًا نابهًا لواقع الحال، ومدغدغًا لعاطفة البؤساء من أبناء السودان. وما لبث الوضع حتى كشف العسكر عن حقيقة انتمائهم وكونهم من أبناء الحركة الإسلامية الذين اخترقت بهم الجيش، أو استقطبتهم لأيديولوجيتها في أثناء خدمتهم العسكرية، ومنهم من لم ينتمِ إلى القوات المسلحة أصلاً، وإنما كانت الأسلحة والأزياء ومظاهر عسكرة البلاد صبيحة الانقلاب كلها من خطط مدبري الانقلاب[3].

وما هي إلا سنوات قلائل ويتحول المسرح الذي أراد له الترابي (فيما قال) أن يكون للجماهير وللشورى وللمد الإسلامي، أو أراده (في رأي خصومه) مونودراما لذاته، حيث تكون له المرجعية في المشروع الحضاري للإسلام في السودان، كيف لا وهو عرابه وشيخه، وما سواه حواريون وشيعة، مدنيين كانوا أم عسكريين. بيد أن الأمور لم تمضِ كما أراد لها الشيخ الترابي، فغلبت على تلاميذه شهوة السلطة، فتنازع الإنقاذيون عليها بين ابنهم العسكري (رئيس الجمهورية - عمر البشير) وشيخهم المؤسس (رئيس البرلمان - حسن الترابي) فوقعت المفاصلة في الشهر الأخير من سنة 1999م، عندما اتخذ الأول جملة قرارات حل بموجبها البرلمان وأعفى الأخير من كل مناصبه الدستورية في الدولة والتنظيمية في الحزب، ووضعه تحت الإقامة الجبرية بضاحية المنشية، ثم أعلن حالة الطوارئ في البلاد. لتبدأ مرحلة جديدة من مراحل تطور حركة الإسلام السياسي التي انفلقت إلى كتلتين، واحدة تزعمها الشيخ الترابي كوّن بها حزب المؤتمر الشعبي، وأخرى قادها البشير باسم المؤتمر الوطني ليبدأ معها صراع الشيخ وتلاميذه على السلطة، وتبدأ معها محنة السودانيين مع أحد أسوأ الحكومات الوطنية استبدادًا وفسادًا أخذت في ضرب مفاصل الدولة سياسيًّا واجتماعيًّا واقتصاديًّا. فثار عليها الشعب السوداني الخبير بالثورة على الاستبداد حتى خلع رئيسها في أبريل 2019، واضعًا حدًّا لمسيرة ثلاثين عامًا من حكم البشير وجماعته "الإسلامية".

 

السودان وأسئلة الربيع العربي

لم يكن السودان -يوم انفجار شعوب المنطقة العربية منادية بالحرية والكرامة والعدالة- في أحسن أحواله، فقد كان يومها مأزومًا كغيره بمتلازمة الاستبداد والفقر والمرض والبطالة وغياب المساواة. كان حقًّا نموذجًا حيًّا لفشل الدولة الوطنية ما بعد الكولينيالية وتصدُع وحدتها الداخلية بفعل صنميات الفضاء السياسي والاجتماعي العربي. ورُب قائل إن السودان في نهاية العشرية الأولى من هذا القرن -حين انتفض الشارع العربي- كان يقبع في وضع أسوأ من كثير من دول الربيع ذاك، على المستوى الاقتصادي ومعدلات التنمية والتعليم والصحة. أما على المستوى السياسي فقد دخلت البلاد تلك المرحلة وهي منشطرة إلى قسمين (شمال وجنوب) على خلفية صراع مسلح يُعد الأطول في تاريخ القارة السمراء، لتعقبه بعد ذلك كارثة دارفور؛ الإقليم الذي عاش مع نهاية أزمة الجنوب واحدة من أفظع الكوارث الإنسانية التي أحالت مقدّرات الإقليم وكائنه البشري إلى رماد، فبالمحصلة شملت الخسائر نحو 300 ألف قتيل، وتشرد ما يقارب الثلاثة ملايين شخص، بحسب تقديرات الأمم المتحدة، هذا فضلًا عن مخلفات الحرب التي أورثت الإقليم ملايين الأطفال خارج منظومة التعليم، والآلاف من ضحايا الحرب.

فإن كان ثمة من يزعم أن كل تلك المعطيات لم تدفع شعب السودان إلى الانتفاض في وجه حاكم عسكري استمر على السلطة يوم انفجار الإقليم العربي- لما يتجاوز العشرين سنة خاض فيها كل الحروب الداخلية المطروحة، وتقلب في علاقاته مع دول الجوار ولعب على حبال التكتلات الإقليمية المختلفة حسبما تقتضيه طبيعة المرحلة التي تقابله، فإن قطاعًا عريضًا من السودانيين يقدِّر عمر الثورة السودانية على استبداد السلطة بعمر حكومة الإنقاذ نفسها؛ فهؤلاء يعدّون حياة السودانيين طوال حكم الإسلاميين الثيوقراطي ثورة تستعر جذوتها وتخفت، بيد أنها لم تعرف للانطفاء سبيلًا. ففي جنوب السودان كان للخطاب الأصولي المتزمت في مواجهة حركة جون قرنق -بوصفها حركة مارقة يُتقرب إلى الله بقتالها-[4] الأثر الكبير في تنامي شعور الجنوبيين بالدونية، وأنهم في درجة أقل من رصفائهم من السودانيين فقط لاعتبارات ديانتهم أو لونهم، ما دفع تمردهم إلى تصعيد تمدده داخليًّا في مناطق العمليات العسكرية، والتواصل مع القوى الخارجية لمجابهة استبداد حكومة الإنقاذ المركزية وصلفها الديني، حتى انتصرت ثورتهم على طريقتها الخاصة بانفصالهم عن وطنهم الكبير. وفي دارفور كانت للثورة مسيرتها المنادية بالعدل والمساواة والتحرير التي بُذلت في سبيلها آلاف الأرواح وملايين النازحين واللاجئين، وكانت للحركات المسلحة الدارفورية دورها في رفع وتيرة المواجهات المسلحة مع نظام الخرطوم؛ حيث إن حركة من حركات دارفور المسلحة بقيادة خليل إبراهيم، المحسوب على التيار الإسلامي جناح الترابي[5]، قادت في عام 2008 عملية عسكرية عُرفت باسم "الذراع الطويل" فاجتاحت بها مدينة أم درمان، الضلع الغربي من العاصمة السودانية المثلثة، للسيطرة عليها بقوة السلاح في عملية استمرت لساعات. وفي الشرق ظلت الثورة بقيادة جبهة الشرق مشتعلة ومستمرة لسنوات، كما هي في جبال النوبة بكردفان والنيل الأزرق. إن الثورة السودانية عند كثير من السودانيين فعل تراكمي ونضال مستمر لم يعرف التوقف أصلاً منذ قيام نظام الإنقاذ الإسلامي العسكري في 1989.

بيد أن التأمل العقلاني للأمور يستدعي الإقرار بأن الثورة، بمفهومها الواسع أو الحاسم، ربما لم تتحقق للسودانيين في ظل نظام الجبهة الإسلامية بالصورة التي عهدها السودانيون مع ثورتهم على الرئيس عبود في عام 1964، أو تلك التي قامت على النميري في عام 1985، أو التي شهدها الناس في ربيع العرب. وحتى الهبّة التي حدثت في سبتمبر من عام 2013 تزامنًا مع الربيع العربي وُئدت ببطش الأجهزة الأمنية واستخدامها المفرط للعنف في مواجهة المتظاهرين، بدعوى أنها ضرب من التكتل المناطقي لأبناء إقليم دارفور الذين تم تصويرهم بأنهم جماعات من المرتزقة والمأجورين لترويع الناس وإشاعة الفوضى والتخريب. في واقع الأمر لقد كان على السودانيين أن ينتظروا حتى ديسمبر 2019، بإعلان الرئيس البشير عن جملة تعديلات دستورية تسمح له بالترشح لدورة رئاسية جديدة، فيتحقق لهم الإجماع الثوري ضد سلطة الإنقاذ وبشيرها الطامح إلى الخلود، ذلك الإجماع الذي كان بمنزلة الخيط الناظم لجموع الشعب السوداني ومزاجها الساخط على الإنقاذ وعلى رموزها المقترنة بالعجز والفساد والاستبداد، تلك الطغمة التي انعزلت عن واقع الناس اليومي البائس. لقد كانت ثورة ديسمبر، التي أتت متأخرة عن ربيع العرب أو -بعبارة أخرى- موجة ثانية منه، نموذجًا سودانيًّا خاصًّا ومختلفًا في سياقاته التاريخية وفي شروط صيرورته. فقد استوت للثورة السودانية عوامل النضج من واقع خصوصية وضعها السوسيولوجي، وطبيعة البنية التنظيمية لمكوناتها السياسية التي انقسمت بين التيارات التقليدية والتنظيمات الشبابية، حيث تصنع تقلبات الحياة السياسية الفارق بنشوء الطليعة الثورية خارج أطر وبيوت الزعامات الطائفية، أو حواضن الأحزاب السياسية أو الجماعات الدينية أو التيارات الأيديولوجية. كان نشوء طبقة الناشطين السياسيين وشباب التنظيمات التطوعية شرطًا حاسمًا لإنتاج ثورة السودانيين الثالثة على الحكم الوطني، بعد أن أعمل الاستبداد السياسي أدواته في تمزيق الأحزاب السياسية وتفتيتها إلى جزيئات صغيرة ومتناهية الصغر. فعشية الثورة، كان الحزب الواحد تلفاه وقد انقسم على نفسه؛ فخرجت منه مجموعة أحزاب لا يعكس تكاثرها تنوعًا في توجهاتها أو اختلافًا في برامجها، بقدر ما يعكس الحال الذي وصلت إليه النُخب السودانية من تشاكس وتبار في إضاعة الفُرص. لقد بلغت أوضاع النظام الحاكم مرحلة استنفد فيها رصيده من خطاب الوعد بتحقيق الرخاء، وقد رأى السودانيون بأنفسهم النفط يمضي مع الجنوب والذهب يستأثر به قادة النظام وخلصاؤهم عبر فساد ممنهج ضاعف من نسب التضخم، فجاوز البؤس لدى الشعب مداه. كما بلغ النظام مرحلة الإفلاس بعد أن ملّ السودانيون الخطاب الديني الوعظي الذي ما ترك محنة إلا أسندها إلى بُعد الشعب عن الله ومرضاته، أو إلى استهداف خفي من قوى كبرى باغية تستعدي النظام لتحكيمه شرع الله. وهكذا نزل النظام لججًا موحلة في جمعه للمتناقضات؛ فهو مُحارَب من الآخرين لتحكيمه شرع الله، وفي ذات الأوان يعاني شعبه الذي يحكّم فيه شرع الله بؤس الحال لأنه بعيد عن شرع الله. ولا إجابة للسائلين عن فيمَ كان تحكيم الشرع ذلك وأين هي نتائجه. مضى نظام الإنقاذ لا يلوي على شيء في جمع المتناقضات حتى في علاقاته الإقليمية؛ فيصبح في معسكر ويمسي في آخر دون اعتبار في كثير من الأحوال لما يمكن أن يترتب على هذا التخبط من أضرار على واقع السودان ومستقبله الاستراتيجي، وهذه الأخيرة، أي علاقات السودان الإقليمية، ربما كان لها إسهامها المقدر في التأثير في مجريات الثورة بتقلب النظام بين الأقطاب الإقليمية المتصارعة، الأمر الذي أفقده تحالفاته الاستراتيجية التي كان بإمكانه استثمارها في تعزيز وجوده.

تأخرت الثورة السودانية عن موجة الربيع العربي لهشاشة التنظيمات المشتغلة بالسياسة، والتي كان يُنتظر منها أن تكون طليعة العمل الثوري. ولطول أمد الاستبداد السياسي بهذه التنظيمات فإنها سعت لإيجاد صيغة من صيغ التسوية مع نظام الاستبداد الذي فكك مكوناتها الداخلية، وضرب نسيجها التنظيمي بأدواته السلطوية في استقطاب بعض كوادرها، أو إكراه الممانعين فيها للانسحاب من ميدان العمل السياسي بالاعتقال أو التهجير أو نحوه من وسائل القمع. عمدت هذه الأحزاب بدورها إلى اقتسام فُتات موائد النظام بقبولها المشاركة الصورية في سلطة البشير، حتى إذا ما قامت الثورة كان كثير منها على الضفة الأخرى من الشارع مع النظام في مواجهة الشعب؛ لضعفها وهشاشة تكوينها ولطول عهدها بالخنوع والتطبيع من النظام الذي أفقدها القدرة على تقدير الموقف، وذلك لفرط وجلها من النظام أو لثقتها بقدرته على ترجيح المعادلة في أي وقت، أو لسوء قراءتها لغليان الشوارع بشباب لطالما جهلت هذه التنظيمات أمزجتهم واستصغرت قدراتهم على التغيير، فكان الطوفان الذي قاده هؤلاء الشباب بأدوات التواصل المجهولة لهذه التيارات السياسية، لا بل والعصية حتى على أجهزة أمن النظام نفسه. لقد خاض هؤلاء الشباب ثورة ديسمبر 2019 المسلحة بتقنيات الاتصال الحديثة وما تفسحه من مجال للتفاعل الرقمي وتبادل الأفكار والتنسيق الثوري، والمزودة بمخزون مفعم بتجارب التاريخ التي كانت آخرها هبّة سبتمبر من عام 2013، والمستلهمة لعبرة المحيط الإقليمي بضرورة الحراك السلمي القادر على تفويت الفرصة على عنف السلطة وعلى دعايتها التي خيّرت الناس بين أمرين: الثورة مع الفوضى أو الاستبداد مع الاستقرار، فاختار الشباب الأول ثم مشوا فيه بحصافة لا تخطئها العين.

خطاب الإسلاميين وتحولات المشهد السوداني

كانت منطلقات الخطاب الإسلامي الذي أخذ في الصعود في مشهد السياسة السودانية منذ خمسينيات القرن المنصرم نصرة الدين، وإعادة تأطير الحياة العامة بمناهج الإسلام في أمور الدنيا اقتصادًا وفكرًا وسياسة، تهدف إلى خلافة الأرض وفلاحتها بإحياء الدين وتجديده، بما يعزز سيادة جماعة الإسلام في الدنيا وصلاح الفرد في العالم الآخر[6]. وكانت المواجهات المبكرة لتيار الإسلاميين مع تيارات الاشتراكيين والشيوعيين في دعوتهم لمحاربة الإمبريالية وتفحش البرجوازية في بلد ناهض في محيطه، ومتشوف إلى العدالة والتنمية المتوازنة والكرامة الإنسانية. لقد كان الصراع الأول لتيار الإسلاميين واليسار السوداني نخبويًّا وعتيقًا بين طلاب جامعة غوردون التذكارية جامعة الخرطوم حاليًا-[7] ذات الغالبية اليسارية آنذاك، لتخرج بعده الجماعة إلى مجتمع السودان بكتابات روادها وندواتهم وحركتهم في المجال العام بفضل تجدد نظرتها على يد الدكتور حسن الترابي، في أوان تصاعدت معه الاشتراكية وبرقت شعاراتها، وتنامى التوجه القومي في المحيط العربي وارتفعت حدته. لقد كان الخطاب الإسلامي لجماعة الاتجاه الإسلامي، بقيادة الدكتور حسن الترابي، وقتها تربويًّا وعظيًّا هدفه تعزيز مكانة الدين في نفس الفرد، وخلق علاقة بين شعائره التعبدية وحياته العامة بما يمكنه من ترجمة روح اعتقاده وعبادته إلى واقع حياته المعيش. لقد ترعرعت الجماعة في أجواء صفوية بين طلاب الجامعة في سجالاتهم مع اليسار، فحتى قُبيل التوافق بين أحزاب المعارضة المسلحة وقتها مع نظام جعفر النميري، الذي عُرف بالمصالحة الوطنية في عام 1977، كانت الحركة الإسلامية مجهولة في أوساط المجتمع السوداني، حيث لا يميز غالب الناس بينها والحركة الوهابية المهمومة بمحاربة ما تصفه بابتداع تيار المتصوفة في المجتمع السوداني. هذا علاوة على سلوك نظام النميري (في بداية حكمه) الذي عمد إلى الإخفاء القسري لقيادات الحركة لشل حركتها، وسعيه إلى تشويه صورتها عبر آلته الإعلامية[8]. ولما كان العداء الشديد للأصولية الوهابية وسط عامة المجتمع السوداني بحكم أنماط تدينه ذات الأساس العرفاني الصوفي الراسخ، فقد وُضعت الحركة الإسلامية وتيارات السلفية في سلة واحدة؛ ما دفع قادتها إلى إنتاج خطاب فكري وسياسي يواكب تلك المرحلة، حيث برز الإسلاميون بخطاب إسلامي إصلاحي شمل الدعوة لتحرير المرأة، خاصة لدى الشيخ الترابي في مقاربته "المرأة بين تعاليم الدين وتقاليد المجتمع"، والتي مثلت نقلة نوعية في الفقه والممارسة الحركية للإسلاميين في السودان، والذي أسهم بصورة واضحة في انخراط المرأة تفاعلاً داخل تنظيم الإسلاميين[9]. وكذا الحال في القضايا التنظيمية الأخرى والقضايا المتعلقة بالمجتمع والفنون[10].

انطلق الإسلاميون، بما تحقق لهم من كسب، في مقارعة الخصوم السياسيين من لدن أحزاب اليسار من قوميين واشتراكيين من جانب، وفي مواجهة الأحزاب التقليدية من أنصار وختمية من جانب آخر. ولقد كان لتحولات المشهد السوداني الدور الواضح في تجدد الحركة الإسلامية السودانية، وفي إفساح المجال أمامها لطرح نفسها وعرض فلسفتها على جماهير الشعب السوداني. ففي ثروة أكتوبر 1964 سجل الإسلاميون، عبر شيخهم الترابي، نقاطًا ملحوظة في نجاح الثورة. وبحلول ثورة رجب أبريل من عام 1985[11] كان الإسلاميون قد اكتسبوا انضباطًا تنظيميًّا وقويت مؤسساتهم، ولقيت دعوتهم تأييدًا مقدرًا وسط الجماهير؛ الأمر الذي مكنهم من خوض الانتخابات بعد سقوط النميري وتحقيق عدد من الأصوات ودخول قبة البرلمان. ومع ترنُح الوضع الأمني والسياسي والاقتصادي لحكومة رئيس الوزراء الصادق المهدي، وتردي الأوضاع في جنوب السودان، ودخول الأقاليم الطرفية الأخرى مثل دارفور في صراعات عشائرية عصفت باستقرار المنطقة، مع هذا المشهد المتردي كانت خطط عرّاب الحركة الإسلامية قد اكتمل رسمها وأصبحت جاهزة للانقضاض على الديمقراطية الثالثة في السودان. وقد كان للحركة ما أرادت؛ ففي الثلاثين من يونيو من عام 1989 أطاح الانقلاب العسكري للجنرال عمر البشير بحكومة الصادق المهدي.

إن ممارسات الإسلاميين السودانيين ظلت في تمثل وجهتها الأخرى امتدادًا تنظيميًّا لشبكة إقليمية وعالمية معقدة ومترابطة، تنتسب إلى الإسلام وتدعو إلى تطبيقه وفق تفسيرها كأساس لإعادة إنتاج الدولة ومجتمعها المعاصر، وطبقًا لصورة موغلة في الطوباوية عاشها المسلمون في أوان سالف[12]. إن اعتماد منهج فاضل جاهز لمعالجة واقع معاصر، متغير ومتجدد ومأزوم أحيانًا[13]، كانت ولا تزال واحدة من أعوص إشكالات الإسلام السياسي، وبطبيعة الحال فهي مأزق الخطاب الإسلامي السوداني بصورة أكثر خصوصية.

مضى الإسلاميون في مشروعهم "الإصلاحي" وفلسفتهم لبناء الدولة من منطلق العودة بها إلى حظيرة الإسلام، ومأسسة مفاصلها وفقًا لاعتبارات الشريعة التي رأى فيها "شيخهم الترابي" قابلية لاستيعاب مستحدثات العصر وإجابة عن إشكالياته الماثلة؛ وذلك بالسعي للتجديد في الدين بما يدفع الفرد إلى الدخول في مجالات الحياة دون أن يكبله قيد الفقهاء وتفسيراتهم الجامدة لنصوص الدين، أو اجترارهم الحرفي أساطير سلف الأمة الصالح[14]. ففي مجال السياسة، أبرز الخطاب الإسلامي أساسًا فكريًّا للممارسة السياسية القائمة على الشورى وضبط المجتمع لحركة السلطة في تصرفها بأمور الناس. فرقابة الله للسلطان عُرضة للغفلة والنسيان؛ وعليه فإن السلطان يحتاج بالضرورة إلى ضبط الشعب ورقابته حتى إذا غفل عن حدود الله رده الشعب إلى الأصوب، فغواية السلطة وفتنتها أكبر من أن تُترك لمواجهة الحاكم منفردًا[15].

ولم تكن الطريق أمام الحركة الإسلامية سالكة في برامجها "الإصلاحية" تلك، وإنما واجهت هجومًا واسعًا من النقَدَة والمخالفين الذين رَأوا في أفكار زعيمها وألفاظه المتنوعة والموغلة في العموميات، وذات محمولات متعددة الوجوه، من لدن "فقه الضرورة، فقه الأولويات، فقه المرحلة، فقه الحكمة، فقه الصحوة التمهيدي، فقه سنن التغيير والمدافعة .. إلخ" ضربًا من الأفكار المطاطة التي تساعده على مرونة الحركة واتخاذ مواقف متغيرة، قد تصل إلى درجة التناقض. لقد كان فكر الإسلاميين، ومن خلفهم الترابي، براغماتيًّا يبحث عن الخيط الذي يربطه بالدين مهما كان واهيًا أو متهافتًا لتبرير تنقلاته بين المواقف ونقائضها، بصورة جعلت من الخطاب الإسلامي الفكري مفتقرًا إلى البناء الداخلي المتسق[16]. لقد أدلت التحولات السياسية السودانية بدلوها وألقت بظلالها على طبيعة الخطاب الإسلامي وتماسكه البنيوي؛ فخطاب الإسلاميين أثناء مشاركتهم السلطة يختلف بدرجة واضحة عن خطابهم وهم معارضون لها، وخطابهم أيام الصراع الداخلي يتنكب لمواقفهم وهم كتلة واحدة بصورة تتجاوز المرونة إلى درجة التناقض الصفيق (بتعبير الدكتور منصور خالد). بيد أن معضلة أخرى أكبر كانت حاضرة أمام الإسلاميين أسهمت في صناعة طوباوية خطاب الإسلاميين، فمع إقبالهم على السلطة توسعت الفجوة بين الرؤى والنظريات من جانب وواقع التطبيق من جانب آخر؛ ما جعل من أمور تحكيم الشريعة وبسط الشورى وإشاعة العدل وتحقيق الشفافية عبارة عن شعارات معلقة في فضاء الخُطب المنبرية واللقاءات الإعلامية، دون أن تجد هذه الشعارات أرضية أو مجالًا تمشي به بين الناس. لقد كانت الهوة واسعة حقًّا بين الواقع والمثال في تجربة الإسلاميين السودانيين[17].

الإسلاميون والحروب المقدسة

إن المتأمل في عموم مناهج الحركة الإسلامية وأثرها في واقع التجربة العملية، يلفى تناقضًا كبيرًا بين جوانبها المختلفة تنظيرًا وممارسة؛ مما انعكس لاحقًا في إحداث الشروخ والإشكالات العويصة في تركيب الدولة نفسها وفي علاقة الحركة بالمكونات السياسية النظيرة. ونخص بالذكر علاقة الإسلاميين مع الآخر المختلف لا سيما أهل جنوب السودان وحركتهم المسلحة المتمردة على السلطة المركزية في الخرطوم، حيث اتسمت سنوات الإسلاميين في الحكم بأحد أكثر المراحل دموية في علاقة الجنوب بالشمال. لقد شهدت تلك المرحلة تحولًا جذريًّا في توصيف طبيعة الصراع وأهدافه. ذلك الصراع مكث طوال فترات حكومات السودان قبل الجبهة الإسلامية يُفسر على أنه صراع بين مجموعات متمردة حملت السلاح في وجه السلطة الحاكمة، فتدخل (الحكومة ومعها الحركات المتمردة) في مواجهات مسلحة تارة وفي مبادرات حوار تارة أخرى. وظل الصراع سياسيًّا بحتًا يخفت مع مبادرات السلام ويتصاعد مع فشلها المتكرر، بيد أنه تحول في ظل حكم الإنقاذ إلى حرب دينية يتحرك من أجلها المجاهدون من منسوبي الإسلاميين نصرة للشريعة وتحقيقًا لمراد الله في إعلاء كلمته، إما أن يتحقق لهم النصر أو يفوزوا بالشهادة التي لا جزاء لها غير الجنة[18]. وقد كان تعبير الجبهة الإسلامية واضحًا بالدعوة للدفاع الشعبي بوصفه جهادًا في سبيل الله، حيث كانت خلاصة موقف الجبهة الإسلامية يومئذ من الحركة الشعبية وجيشها الشعبي لتحرير السودان أنها "كيان متمرد انفصالي موصول بالولاء الغربي وإسرائيل، ثم هي عنصرية تستهدف العروبة والإسلام"[19]. وقد أسهم ذلك التحول في إنتاج خطاب سياسي على درجة بعيدة من الصدامية، التي تولى كبرها قادة الحركة بخطبهم الحماسية الداعمة للمجاهدين وألويتهم المتحركة نحو مجاهدة الجنوبيين "أعداء الإسلام والعروبة"، برغم إلباسها أحيانًا لباس الدفاع عن النفس وحماية الوطن.

علاوة على مأزق الانقلاب وخطأ تدبيره وسوء منقلبه على مسار الحياة السياسية داخل التنظيم وعلى مستوى البلاد[20]، فقد شكلت علاقة الإسلاميين المتطرفة مع التمرد في جنوب السودان -رغم مؤتمرات السلام الخارجية ومبادرات السلام من الداخل التي عُقدت بذات الخصوص- وسوء إدارتهم لتعددية السودان الدينية والثقافية، علامة فارقة في خلق خطاب إسلامي مأزوم ومحاصر بالتبرير والتنقل بين ضفاف المواقف، وموسوم من خصومه بالتلون والميكيافيلية المهمومة بالغايات كيفما كانت الوسائل الموصلة إليها[21]. حتى ذهب قادة الإنقاذ إلى الزهد في وحدة السودان من أساسها، بحساب كلفة الحرب مع الجنوب؛ فها هو القيادي الإسلامي الدكتور المحبوب عبد السلام يقول: "إن تجدد الحرب وتطورها عقب التوقيع أبرز لأول مرة أصواتًا في أعلى القيادة الإنقاذية تتحدث عبر لسان الرئيس عن استحالة حماية حدود السودان وحفظها حتى الجنوب الأقصى في نملي، وتستثقل استصحاب الإقليم المتوتر بصراعاته المتفجرة المتطاولة وتمرده العنيد ضد المركز وتزهد عنه دفعًا لبتره مستقلاً عن بقية السودان"[22]. فعند المحبوب كمُن الإشكال لدى الإنقاذ تجاه الجنوبيين بغلبة عقلية الأمنيين داخل التنظيم على المدنيين في النظر إلى الأزمة. وعند أخذ الأمور بمقدماتها، فإن غلبة العقلية الأمنية تظل النتيجة الحتمية والمحصلة المنطقية لحركة أيديولوجية آثرت حيازة السلطة بالانقلاب العسكري.

لقد أسهمت هذه القضايا في إضعاف البنية النظرية لخطاب الإسلاميين، وأضفت عليه هشاشة واضحة انعكست على مستويات الممارسة العملية التي أودت بصورة حاسمة إلى تفكيك البلاد وجرّها إلى أتون حروب وصراعات داخلية مستمرة وجبهات جديدة. ثمة أمر آخر حقيق بالملاحظة، وهو إقدام الحركة الإسلامية على إنشاء وزارة للتخطيط الاجتماعي، حيث هدفت عبرها إلى ضمان تعزيز الدين في حيوات الناس وبسط الشريعة لدى أفراد المجتمع وقطاعاته المختلفة -بحسب زعمها- وقد أُسندت هذه الوزارة للقيادي الإسلامي ورجل الصف الأول تنظيميًّا علي عثمان طه الذي قاد مشروع الحركة الفكري الذي عُرف بـ"المشروع الحضاري"، ذلك المشروع الذي احتكر وسائل الإعلام وبسط سيطرته على أدوات الإنتاج الفكري، وتولى إعادة صياغة الإنسان السوداني بما يتسق وسردية الحركة الإسلامية وفقه التمكين، الأمر الذي نظر إليه مخالفو الإنقاذ أنه أحد أكبر المشروعات الإنقاذية مسخًا لإنسان السودان وتشويهًا لشخصيته، وذلك عبر خطاب إعلامي لا يحوي غير التخليط والهوس الديني والتهييج الغوغائي[23]. ومهما يكن، فإن تجربة وزارة التخطيط الاجتماعي، وفكرتها التي تقوم على إعادة إنتاج الشخصية السودانية بمنهج بطريركي وبأدوات سلطوية، لم تفلح في مساعدة المجتمع للتفاعل مع فكرة المشروع الحضاري، بل أمست علل المجتمع وإشكالياته السلوكية وخصوصيته الوجدانية محل تفاقم وتأزم. ولا غرو أن رد المخالفون الأمر إلى منهج الإسلاميين في محاولة إنزال القيم رأسيًّا، وبأدوات سلطوية تصل أحيانًا إلى درجة القهر، دون أن تكون لهذه القيم أدنى صلة بقناعات الناس ورغباتهم أو قاعدتهم الاجتماعية وهويتهم.

مفاصلة الإسلاميين وتعددية الأصوات

انزلقت الحركة الإسلامية السودانية إلى محنة جديدة وسمت بميسمها مسار العمل الإسلامي، وألقت بظلالها على مشهد الحياة السياسية في السودان قاطبة؛ فقد شهدت علاقة الإسلاميين الداخلية تحولاً مفصليًّا بين الشيخ الترابي زعيم الحركة وتلاميذه الذين قربهم واصطفاهم من بين أقرانهم وقدمهم على أقرانه، فما هي إلا سنوات معدودة بعد الانقلاب حتى انفرطت الوشائج بين إخوان الحركة، وغلبت عليهم فتنة السلطة بعد أن انفتحت عليهم الدنيا وانبسط لهم نعيم الحُكم[24]، فتخاصموا وتباغضوا وتجاوز صراعهم الداخلي حدود ما تسمح به أدبيات درسهم التنظيمي، فعمدوا إلى مخالفة شيخهم وسعوا لإقصائه بكل الطرق المتاحة. وقد كان لهم ما أرادوا بعد أن وقعوا مذكرة تصحيحية (عُرفت بمذكرة العشرة)[25] لما رأوه انحرافًا في مسير الحركة عن جادة المسلك، من "عدم مرونة الشورى لاستيعاب الآراء كلها، وقلة فاعلية القيادات العليا، وضعف الصلة المؤسسية بين المستويات التنظيمية رأسيًّا وأفقيًّا، ولغموض العلاقة بين الحركة والدولة حتى أوشك الأمر أن يكون تنازعًا وانتزاعًا لا يثمر إلا الفشل وذهاب الريح"[26]. ولعله من الحيف بمكان قصر تداعيات وسياقات مذكرة العشرة على مسائل طلب السلطة أو الافتتان بها، فثمة ناظرون إلى هؤلاء العشرة بوصفهم طلابًا للإصلاح من الذين بصروا إلى مستقبل الأمور غير المنظورة، فوجدوا شيخهم قد مهد الطريق لتكريس زعامته التنظيمية وإعادة إنتاج مرجعية دينية في السودان بأخذ البيعة من أنصاره، إلى غيرها من ممارسات الشيخ[27].

بيد أن الذي لا مراء فيه أن هذه الحادثة وما أدت إليه من قرارات عُرفت إعلاميًّا بقرارات الرابع من رمضان، والتي كانت البداية لصناعة شخصية الحاكم الأوحد والطاغية الأطول عمرًا في حكم السودان المعاصر (عمر البشير)، وكرست لسلطته المطلقة بمعية تلميذ الشيخ الأقرب ونائبه في أمانة التنظيم العامة يومها (علي عثمان طه)، تلك القرارات وما أدت إليه من مفاصلة وقطيعة بائنة بين قيادات وقواعد الإسلاميين (جناح مع البشير في الحكم، وآخر مع الشيخ في السجون أو الإقامة الجبرية) أسهم في صناعة واقع سياسي جديد وخطاب سياسي جديد بالضرورة، ومراجعات لتجربة تنكر الترابي وشيعته لخطايا عشريتها الأولى. ففي تصانيف القيادي البارز المحبوب عبد السلام مثلاً تتجلى بوضوح محاولته تبرئة الشيخ وجماعته (في المؤتمر الشعبي) مما لحق بالتنظيم من انقسام وما لحق بالبلاد من تردٍّ[28]، فيجعل الإسلاميين فريقين: يضم الأول الزّهاد العُباد طُلاب الفضيلة والحق ورجال المبادئ والمشروع، وآخر يشمل أهل المصالح والأهواء من الطامحين إلى المصالح الضيقة والمتآمرين على شيخهم والمتنكبين لمبادئ الحركة. غير أن المراقبين لا يردون على المحبوب بضاعته فحسب، وإنما يعدونها مشروعًا متكاملاً لتبييض وجه الشيخ وجماعته بصورة تماثل (غسيل الأموال)؛ بإعادة إنتاج الرواية وحبك المعلومات وحيثيات الأمور وفقًا لما يتناسب وجماعة الشيخ الترابي المنشقّة. ومن ذلك محاولة التنصل من المسؤولية التاريخية في مباركة الحركة الإسلامية إعدام الأستاذ محمود محمد طه، ثم وصف المحبوب مؤخرًا له بأنه انتكاسة[29]. أما محاولة تصوير الترابي أنه رجل الديمقراطية والساعي لإقرارها في فضاء السودان منذ أيام الانقلاب الأولى، على غير نية الجناح الآخر بقيادة علي عثمان طه الذي سعى لخنقها، دون إعارة أدنى اعتبار لدور الشيخ بوصفه عرّاب الانقلاب، فتبدو كذلك فكرة موغلة في التهافت. وعلى ذلك يمكن القياس في المسائل التنظيمية داخل الحركة التي ما وجد فيها تلاميذ الشيخ وخلصاؤه تجاوزًا إلا وأحالوه إلى الجناح الآخر بقيادة علي عثمان طه والبشير[30]. والذي استقر عندنا أن المسؤولية تظل مشتركة في الانقضاض على الديمقراطية وفيما وصلت إليه الأمور منذ التخطيط للانقلاب، ومرورًا بتنفيذه حتى انقضاء العشرية الأولى منه، مهما تفاوتت مقادير التحصيل التنظيمي في الإصلاح أو التصحيح. جدير بالذكر أيضًا أن الإسلاميين بعد الانفصال قد تمايزت مواقفهم واختلف خطابهم السياسي والأيديولوجي. ففي الوقت الذي بدت فيه جماعة الترابي -المؤتمر الشعبي- أكثر انفتاحًا على القوى السياسية الأخرى، بما فيها حركات الجنوب المتمردة، مع نزوع أكثر نحو الانضباط التنظيمي، والإقبال بصورة أكثر تحررًا نحو قضايا الديمقراطية والمرأة إلى غيرها من القضايا، ظل جناح البشير على النقيض من ذلك؛ حيث مضى المؤتمر الوطني في مسارات كبت الحريات داخل التنظيم، وإهمال قضايا التعددية، مع تنامي معدلات الفساد الإداري والمالي داخل التنظيم، الأمر الذي انعكس على خطابه السياسي تزمتًا وضيقًا بالآخر مع الجنوح إلى قمعه بأدوات السلطة، داخل التنظيم وخارجه.

الإسلاميون ومأزق الثورة

مع مضي البشير لا يلوي على شيء في تكريس سلطته المطلقة على الدولة والحزب بعد ذهاب الترابي، برزت الأصوات بين الحين والآخر منادية بالإصلاح التنظيمي؛ منها من نادى بمنع حمل السلاح في دارفور، ومنها من آثر المواجهة داخل التنظيم كالدكتور غازي صلاح الدين العتباني (أحد الموقعين على مذكرة العشرة التي أطاحت بالترابي)، والذي صدح بخطورة الوضع داخل الحركة الإسلامية التي تتطلب إجراء مراجعات جذرية داخل التنظيم تكفل المزيد من الديمقراطية، وتؤطر عمل وصلاحيات القيادة، وخص بذلك الرئيس البشير شخصيًّا، متوجهًا إليه بخطاب مفتوح داعيًا إياه عدم الترشح لدورة رئاسية جديدة، فعقدت له لجان محاسبة تمهيدًا لفصله من الحزب الذي رآه -غازي وجماعته- عاجزًا عن توحيد صفه الداخلي والتصالح مع قواعده، مع قصوره عن تقديم نفسه كقيادة مقنعة ومؤهلة لمعالجة مشاكل البلاد، ما يستدعي نقد الذات والمراجعات والمصالحة الكُبرى[31]. فكوّن حركة أسماها "الإصلاح الآن" اختارت الوقوف في صف المعارضة، فأصبح الإسلاميون متفرّقين على أكثر من صعيد؛ فريق منهم تبع الترابي، وآخر بقي مع البشير، وثالث مضى مع غازي صلاح الدين، وفريق رابع آثر اعتزال المشهد لعجزه عن التفاعل مع تداعي المشروع أو لزهده فيما اصطرع عليه "الإخوة".

لقد بلغ التفسخ داخل المؤتمر الوطني الحاكم، برئاسة البشير، مبلغًا دفع به إلى تكوين قوة عسكرية موازية (عُرفت بقوات الدعم السريع) يكون الولاء فيها للرئيس شخصيًّا، مع تكاثر المنادين بإبعاده عن السلطة وتصاعد قوة التمرد في دارفور؛ فاستحالت الدولة إلى كيان بوليسي محض، وتقزمت السلطة متمركزة في يد البشير ومجموعة بالغة الصغر من حوله، مع قدر من الإجراءات الصورية والمشاركة الرمزية للأحزاب السياسية[32]، التي انخرطت في حوارات مطولة (سُمّيت بالحوار الوطني)، ذلك الحوار الذي أربكها وخلط أوراقها مع تململ الشارع بما في ذلك تيارات الإسلاميين نفسها كالمؤتمر الشعبي (حزب الترابي) الذي آثرت قيادته مشاركة نظام البشير الحكم وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، بينما باتت قطاعات مقدرة من جماهيره معتصمة في الشوارع حتى نضوج أسباب الثورة. لقد كانت الثورة السودانية في ديسمبر مشاكلة لسابقاتها (أكتوبر 1964، وأبريل 1985) في توفر الشروط واكتمال التداعيات، ولكنها اتسمت بعوامل أخرى؛ وهي فاعلية المبادرة والمشاركة في الثورة من أقاليم وولايات السودان من غير العاصمة الخرطوم، بالإضافة إلى عامل التقاطعات الإقليمية المتشابكة مع النظام القائم، التي أُقحم فيها السودان بسوء تدبير "الإنقاذ" للسياسات الخارجية. لقد قامت الثورة رافعة شعار الحرية والسلام والعدالة، ومارقة على جميع أشكال الاستبداد السياسي أو الديني، ومتمردة على وصاية الحاكم الأبوية على شعب حاجته إلى الدواء والغذاء والقسط والحرية أكثر من حاجته إلى الأسلمة أو التأديب. ولما كانت الثورة السودانية خروجًا على الاستبداد العسكري والديني-مجتمعين- ومتجاوزة للأيديولوجيا، فقد حملت في المقابل قيمتين على قدر كبير من الأهمية، الأولى أنها ثورة سلمية لا تعتمد العنف مطلقًا مهما كانت التضحيات، وأنها ثورة وعي تقوم على التنوير بالحقوق والحريات العامة، وتهدف إلى فضح استغلال السلطة البشع للدين بما يحقق لها البقاء.

ومع ذلك فلم ير الإسلاميون (باستثناء القلة منهم) الثورة إلا جولة كسبها معسكر الشيوعيين في مقام المعركة الأبدية بين اليمين واليسار في السودان. ففي نظر الإسلاميين يشكل الإطاحة بحكم البشير صورة من صور الصراع الوجودي بين الشيوعيين والبعثيين والعلمانيين والجمهوريين ومن على شاكلتهم من جهة، والإسلاميين: وطنيين وشعبيين وإصلاحيين وسلفيين ومن حالفهم من جهة أخرى، حتى وإن أدى ذلك إلى دخول الخطاب الإسلامي في عداء صارخ مع تيار الثورة الجارف بتعاليه عليها، أو التقليل من حجمها ووصفها بأنها حركة يقودها 2 % من السودانيين يمثلون اليسار، ويقف ضدها 98 % من جملة الشعب السوداني "الإسلامي[33]. ولما انتصرت الثورة، اصطف الإسلاميون بتياراتهم المختلفة خلف شعارات موحدة ذات صبغة دينية وشعبوية تأسف على ضياع الدين وتستنفر الجماهير لنصرته، وتتحسر على انحسار الإسلام مقابل صعود العلمانية والإلحاد والشيوعية، بصورة لا تخلو من غوغائية واضحة تتملق الجماهير بالاستعطاف أو التخويف. لقد حمل هذه الاصطفاف وسط الإسلاميين ردة واضحة عما كانت تدعو إليه تيارات الإصلاح أو التنوير منهم، فبدلاً عن البناء على أدبيات شيخهم الترابي الذي دعا إلى تحرير المرأة-مثلاً- والتوجه إليها بالخطاب دون وساطة أو وصاية، واجه الإسلاميون مسائل تحرر المرأة بتطرف واضح من مثقفيهم[34]، حتى بلغ بأحدهم أن دعا الذكور إلى منع النساء من الخروج من المنازل، ممن ظن أنه مخالف للدين وللعادات[35]. وأظهروا عداءً شديدًا للمواثيق الأممية الداعية إلى القضاء على أشكال التمييز ضد المرأة. وبذات القدر نجد الحدة واضحة تجاه قضايا الديمقراطية والعلمنة؛ فالناظر إلى إنتاج الإسلاميين الفكري يلمس معادة الغرب والتحشيد ضده حاضرة.

خطاب الإسلاميين: إلى أين؟

بفعل التركة السياسية المثقلة بالفشل والأخطاء السياسية فإن الإسلاميين في السودان، على اختلاف تسمياتهم الحزبية، يواجهون تحديًا وجوديًّا في فضاء العمل السياسي السوداني. لقد أوضحت تجربة الحكم خلال العقود الثلاثة قصورًا على مستوى المثال والواقع معًا، وكان الحصاد هو بوار بضاعة الإسلاميين، سياسيًّا بما آلت إليه أوضاع البلاد من تشظي وحروب خلّفت آلاف القتلى وملايين المهاجرين، مع تصدعات في وحدة الجبهة الداخلية، واجتماعيًّا بإصرارهم على تنزيل القيم والأخلاق بالأوامر الفوقية والقمع فما زادت المجتمع إلا نفاقًا وتراجعًا قيميًّا مريعًا، وثقافيًّا بخنق الإبداع والتضييق على الفنون وإهمال التنوع الثقافي لبلد تُحسب التعددية الثقافية من أهم نقاط قوته. فنفرت الجماهير من الإسلاميين من واقع ممارساتهم المنطوية على قدر كبير مما عرضنا له من استبداد وقمع[36]، وميكيافيلية تحتاج إلى زمن متطاول حتى تنمحي من الذاكرة الجمعية لشعب السودان. وثمة أمر آخر، وهو تحويل الإسلاميين الصراع إلى ميادين الأيديولوجيا فانحدر خطابهم إلى التحشيد والغوغائية الفجة، لكسب النقاط في شباك تيارات اليسار السوداني، أو تصوير المخالفين بأنهم أقلية غير ذات أثر، الأمر الذي أفقدهم القدرة على قياس الأمور بالواقعية اللازمة وأدخلهم في مواجهة مع قطاعات واسعة من الشعب بسبب خطاب الاستعلاء الأيديولوجي، في الوقت الذي كان يُتوقع له -هذا الخطاب- أن يكون إصلاحيًّا مُراجِعًا للتجربة، ومقومًا مسارها ومستلهمًا درسها في مستقبله. وقد أبانت التحولات السياسية المتقلبة في السودان أن خطاب الإسلاميين ينزع نحو سمات متكررة ونمطية تتمركز حول[37]: استخدام العاطفة والانفعال حتى حدود السُباب، وهو ما بدر في غير مناسبة من إسلاميين "قادة رأي" كانت تُنتظر منهم الحكمة والرصانة. يركن الإسلاميون كذلك في حالات الضغط السياسي، كما هي الحالة اليوم، إلى الإثارة الدينية واحتكار المقدس والسعي لإدانة الخصم الفكري وشيطنته؛ استباقًا للتسلسل الطبيعي للحوار بما يمهد لضربه خارج سياق الفكرة المطروحة، ثم إنكار حقائق الأشياء أو التبرير لحدوثها. وبرغم ذلك ما يزال الإسلاميون يشكلون قطاعًا مقدرًا بين السودانيين، وما يزال الخطاب الديني التحشيدي يحتفظ بأرضية واسعة بين العامة والصفوة، فهي حقيقة ملموسة لمطالعي المشهد السوداني. بيد أن الحقيقة التي لا جدال فيها أيضًا هي التراجع الواضح لتيار الإسلاميين السودانيين، وأنه يواجه اليوم مرحلة هي الأضعف في مسارات تطوره، وأنه يحتاج إلى جهد مضاعف، وإلى مراجعات عميقة، وإلى خطاب تجديدي يستدعي-ضمن ما يستدعي - مستوى من التواضع أمام الآخرين وغير قليل من الاعتراف بالأخطاء.

 

[1]              دكتوراه الفلسفة في علوم الاتصال (الإعلام التفاعلي)، عميد كلية الإعلام - جامعة الجنينة (السودان).

 

[2]            لقد حملت الحركة الإسلامية السودانية (بعد انشقاق مؤسسها حسن الترابي عن جماعة الإخوان المسلمين) مسميات مختلفة تماشيًا مع التحولات السياسية، فكانت الجبهة القومية الإسلامية وجبهة الميثاق الإسلامي والحركة الإسلامية. والذي يعنينا في هذا المقام هو مشروع الإسلاميين الذي قاده الدكتور الترابي حتى وصل به إلى سدة الحكم في السودان في عام 1989.

 

[3]            أشار إلى ذلك الدكتور الترابي في مقابلته مع قناة الجزيرة، سلسلة حلقات شاهد على العصر.

 

[4]            منصور خالد، السودان: أهوال الحرب وطموحات السلام، قصة بلدين، لندن: دار تراث، 2003، ص 435.

 

[5]            عقب المفاصلة بين جناح الترابي وجناح البشير وانقسام الإسلاميين بين المؤتمر الشعبي والمؤتمر الوطني أو القصر الجمهوري وضاحية المنشية، حيث إقامة الدكتور الترابي.

 

[6]            حسن الترابي، تجديد الفكر الإسلامي، المغرب: دار القوافي للنشر، 1993، ص 38. انظر كذلك: حسن الترابي، الحركة الإسلامية في السودان: خطاب الدكتور حسن الترابي في المؤتمر الثاني للجبهة الشعبية السودانية، دار القلم، بدون تاريخ، ص 106.

 

[7]            عبد الرحيم محي الدين، الترابي والإنقاذ: صراع الهوية والهوى، الخرطوم: دار كاهل للطباعة والنشر، 2009، ص 15.

 

[8]            المصدر السابق، ص33.

 

[9]            حسن الترابي، المرأة بين الأصول والتقاليد، الخرطوم: مركز دراسات المرأة، 2000، ص 3.

 

[10]           المحبوب عبد السلام، الحركة الإسلامية السودانية: دائرة الضوء وخيوط الظلام، الخرطوم: دار مدارك للنشر، 2009، ص 23.

 

[11]           جدير بالذكر أن الخطاب "الإسلامي" بقيادة الترابي وقتها قد واجه مأزق التبرير حتى داخل الحركة، لا سيما بين شباب التنظيم، حيال قضية المصالحة مع نظام النميري.

 

[12]           Judith Miller, “Faces of Fundamentalism", Foreign Affairs ،Nov Dec 1994.p.137.

 

[13]           منصور خالد، السودان: أهوال الحرب وطموحات السلام، مصدر سابق، ص 439.

 

[14]           حسن الترابي، تجديد الفكر الإسلامي، جدة: الدار السعودية للنشر والتوزيع، 1987، ص 9.

 

[15]           حسن الترابي، نظرات في الفقه السياسي، الخرطوم: الشركة العالمية لخدمات الإعلام، بدون تاريخ، ص 22-24.

 

[16]           حيدر إبراهيم علي، التيارات الإسلامية وقضية الديمقراطية، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1996، ص 290.

 

[17]           عبد الرحيم محيي الدين، الترابي والإنقاذ، مصدر سابق، ص 135.

 

[18]           منصور خالد، أهوال الحرب، مصدر سابق، ص 588.

 

[19]           المحبوب عبد السلام، الحركة الإسلامية السودانية، مصدر سابق، ص 253.

 

[20]           أشار الترابي غير مرة عبر مقابلات إعلامية متعددة إلى خطأ الانقلاب، وأنه إذا استدبر من أمر ما استقبل لما لجأ إليه وسيلة لتولي السلطة، لفداحة الفشل ولعظم الجناية على السودان أرضًا وشعبًا.

 

[21]           محمد محمود، السودان وفشل المشروع الإسلامي: نحو مستقبل علماني ديمقراطي، لندن: مركز الدراسات النقدية للأديان، 2019، ص 89.

 

[22]           المحبوب عبد السلام، الحركة الإسلامية السودانية، مصدر سابق، ص 247.

 

[23]           تيسير حسن إدريس، "الإنقاذ وجريمة العصر الحضارية"، منشور على صحيفة الراكوبة الإلكترونية: https://bit.ly/397ndbf

 

[24]           حسن الترابي، حركة الإسلام: عبرة المسير لاثني عشر السنين، السودان: إصدارات حزب المؤتمر الشعبي، 2001.

 

[25]           والعشرة هم:أحمد علي الإمام، غازي صلاح الدين العتباني، إبراهيم أحمد عمر، نافع علي نافع، سيد الخطيب، بهاء الدين حنفي، حامد تورين، عثمان خالد مضوي، بكري حسن صالح، علي أحمد كرتي، بحسب ما أورده المحبوب عبد السلام في كتابه الحركة الإسلامية السودانية، مصدر سابق، ص 412.

 

[26]           نص مذكرة العشرة متاح في موقع سودانيز أونلاين على الرابط:

https://bit.ly/394xoNG

 

[27]           عبد الرحيم محيي الدين، مصدر سابق، ص 396.

 

[28]           المحبوب عبد السلام، الحركة الإسلامية السودانية، مصدر سابق، ص 155، 156، 158، 185، 186.  

 

[29]           السابق، ص 54.

 

[30]           مصطفى البطل، "المسيح المصلوب في لوح المحبوب2"، صحيفة الأحداث السودانية، 17 فبراير 2010.

 

[31]           أحمد يونس، "انشقاق في المؤتمر الحاكم في السودان بقيادة غازي العتباني"، صحيفة الشرق الأوسط، الاثنين 22 أكتوبر 2013.

 

[32]           سُميت الأحزاب المشاركة في حكومات البشير أحزاب "الفكة"؛ لصغر حجمها بعد انشقاقها من أحزابها الأصلية وتفضيلها مشاركة المؤتمر الوطني كعكته.

 

[33]           كما وصفها الصحفي حسين خوجلي أحد أبرز أصوات الإسلاميين السودانيين إعلاميًّا.

 

[34]           محمد المجذوب، "حرية المرأة السودانية - دعوة للتحرر أم للتحلل"الخرطوم:  محاضرة مقدمة لمجموعة الإحياء والتجديد، 15 أكتوبر 2019.

 

[35]           جدير بالذكر ازدواجية الإسلاميين تجاه المرأة، ففي الوقت الذي كانت فيه معلاة القدح بين كتابات الإسلاميين وسردياتهم وحيث الدعوة إلى تحريرها على أشدها، كانت المرأة تعاني الاعتقال وتلهب ظهرها السياط بقوانين النظام العام الفضفاضة سيئة السمعة.

 

[36]           حيث مارس النظام الفصل من الخدمة العامة والإحالة إلى التقاعد الإجباري والإخفاء القسري والاعتقالات التعسفية، والتعذيب الجسدي والنفسي في معتقلات الإسلاميين المعروفة بـ(بيوت الأشباح)، التي راح ضحيتها عدد مقدر من أبناء السودان، خارج أطر القانون أو المحاكم. ولما كان التعذيب سمة بارزة في غالب أنظمة الاستبداد، غير أن الأخطر في حالة السودان أنه حمل بعدًا دينيًّا يُبرر لمستخدمه ويوفر له الغطاء الشرعي.

 

[37]           راجع بهذا الخصوص كتاب عبد الماجد عليش، أولاد الترابي: الإنكار والتنكر، الخرطوم: دار عزة للنشر، 2007.

 

أواصر - مجلة فكرية فصلية

www.awasr.com