آفاق الحرية

طباعة 2020-01-08
آفاق الحرية

قال ابن باديس: «إن حق الإنسان في الحرية كحقه في الحياة، فمقدار ما عنده من حياة هو مقدار ما عنده من حرية».

الحرية ضرورة

يعلم كل متعلم أن من لوازم التكليف الشرعي الحرية، وأغلب مطالب الشريعة موقوفة على الحرية، فمن عدمَها تأكد نقصه ونقص مسؤوليته حتى تجاه نفسه، وهذا الأمر تمتلئ شروط التكليف الشرعي به في كتب الفقه الإسلامي، ومن كان مستعبدا أو مكرها نقصت كفاءته بمقدار نقص حريته.

الحرية عزة ومبادرة

عندما يشعر الفرد بأنه حر في تصرفه ويشعر بقوته وبمسؤوليته، ملزم بنتائج عمله ومكافأ بحسب جهده، فإنه يعتز بمكانته، وينفتح ويبادر، ويسارع في الأعمال ويخلص ويجتهد. أما حين لا يشعر بهذه المكانة، ولا يرى نتائج لجهده، ويغمط عمله أو يجد نفسه مكرها عليه، ويخاف من الخطأ ومن الصواب، وتغلق في وجهه ضروب العمل والانفتاح والمبادرة؛ فإنه ينطوي على نفسه، وتأكله الكآبة واليأس وضعف الثقة بالنفس والناس من حوله. وينتج عن ذلك مجتمع من الخائفين العاجزين المنكفئين المنطوين على أنفسهم، حيث يهاجر الناس إلى أنفسهم وأنانيتهم، ويقتنعون بما يجدون، أو بما يسهل، كما عبر أحدهم عن هذه الحال:

أنا من قوم إذا حزنوا                         وجدوا في حزنهم طربا

وإذا ما غاية صعبت                          هونوا بالترك ما صعبا

 

 ويقنعون أنفسهم بفلسفة الثعلب، الذي بعد عنه العنب فقرر أنه حامض، «أي إن ما لا أستطيع الحصول عليه شيء لا أرغب فيه»1.

هذه فلسفة سلبية للتعامل مع الحرية ورغبات الحياة، يمثل لها الفلاسفة المحدثون بنظرية مِل في الحرية السلبية، حيث يرى مل: «إذا وجدت نفسي غير قادر على القيام بالعمل الذي أرغب فيه، فما علي إلا أن أقتل هذه الرغبة أو أكبحها لأصبح حرا»2. وهذه الحرية السلبية فيها حق وباطل، فما كان من شهوات فردية أنانية غير ذات فائدة جماعية قد يصح فيها هذا التصرف ملجأ من التصرف الصحيح، مثل الخلاص من أثر شهوة النكاح لدى العاجز عن الزواج بالصوم، فهو حل ثانوي ليس مفضلا على الأصل، ومثله السكوت عن الجاهل، فالأصل بيان الخطأ، ولكن هذا الجواب على مستقبل للخطاب لا يصلح له الجواب الصحيح. ففي هذه الحال يصبح الصمت أو الجواب الخطأ عن السؤال الخطأ صحيحا.

هل كان خطاب الحرية غائبا عن المسلمين؟

في معركة القادسية، بعث سعد بن أبي وقاص رسولاً إلى رستم (قائد الفرس)، وهو ربعي بن عامر، فدخل عليه وقد زيَّنوا مجلسه بالنَّمارق المذهَّبة، وزَّرابي الحرير، وأظهر اليواقيت واللآلئ الثمينة والزينة العظيمة، وعليه تاجه وغير ذلك من الأمتعة الثمينة، وقد جلس على سرير من ذهب. دخل ربعي بثياب بسيطة وسيف وترس وفرس قصيرة، ولم يزل راكبَها حتى داس بها على طرف البساط، ثم نزل وربطها ببعض تلك الوسائد، وأقبل وعليه سلاحُه ودرعه وبيضتُه على رأسه. فقالوا له: ضع سلاحك فقال: إني لم آتِكم وإِنّما جئتكم حين دعوتموني، فإنما تركتموني هكذا وإِلا رجعت. فقال رستم: ائذنوا له، فأقبل يتوكأ على رمحه فوق النَّمارق فخرَّق عامتها، فقالوا له: ما جاء بكم؟ فقال: الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضِيق الدنيا إلى سعَتَها، ومن جَوْر الأديان إلى عدل الإِسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه؛ فمن قبل ذلك قبلنا منه ورجعنا عنه، ومن أبى قاتلناه أبداً حتى نفضيَ إلى موعود الله، قالوا: وما موعودُ الله؟ قال: الجنة لمن مات على قتال من أبى، والظفر لمن بقي. فقال رستم: لقد سمعت مقالتكم فهل لكم أن تؤخروا هذا الأمر حتى ننظر فيه وتنظروا؟ قال: نعم، كم أحبُّ إليكم؟ يوماً أو يومين، قال: لا بل حتى نكاتب أهل رأينا ورؤساء قومنا. فقال: ما سنَّ لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نؤخِّر الأعداء عند اللقاء أكثر من ثلاث، فانظر في أمرك وأمرهم، واختر واحدة من ثلاث بعد الأجل. فقال: أسيِّدهم أنت؟ قال: لا، ولكن المسلمين كالجسد الواحد يُجير أدناهم على أعلاهم. فاجتمع رستم برؤساء قومه فقال: هل رأيتم قط أعزَّ وأرجح من كلام هذا الرجل؟ فقالوا: معاذ الله أن تميل إِلى شيء من هذا وتدع دينك إلى هذا الكلب، أما ترى إلى ثيابه؟ فقال: ويلَكم لا تنظروا إلى الثياب، وانظروا إلى الرأي والكلام والسيرة، إن العرب يستخفُّون بالثياب والمأكل ويصونون الأحساب.

وفي هذا النص وضوح خطاب رجل حر، خطابه خطاب تحرير من عبودية الطغاة، وشرح صريح لمسألة مساواة الفرد للقائد في الرأي والمسؤولية.

موقف علماء الإسلام من الحرية

من المهم أن ندرك سياق كلمة الحرية وعلاقاتها بالمجتمع المسلم الحديث ثم المعاصر، فقد كانت ملتبسة بظروف مختلفة تستحق الفهم في ظروفها وزمانها. وقد كانت أول صلات المسلمين بمسألة خطاب الحرية المعاصر من خلال شعارات الثورة الفرنسية، وشعارات الثورة الفرنسية لم تكن ذات ظلال إيجابية تماما في العالم، فقد كانت إلى جانب التحرر تعني أيضا الفوضى، خاصة لدى المسلمين الذين كانوا تحت سيطرة الخليفة العثماني، وهذه موجة سببت كما هو معروف سنين من الرعب والقتل والفوضى في فرنسا، وكان عند المسلمين من نتائجها عدوان فرنسي بيد نابليون على مصر، ثم بعد نحو أربعة عقود عدوان واحتلال للجزائر، فكانت العلاقة بالحرية علاقة بعدوان على المجتمع المسلم.

والحرية عنت أو حملت عند المجتمع المسلم في زمن الاستعمار من المعاني حرية المحتل في تحدي وامتهان كرامة المسلمين، والسيطرة على أرضهم، ونشر المسيحية بالقوة، وخلع حكام المسلمين، وإهانة رموز الإسلام، وقهرهم، ورفع خصومهم فوقهم، وخلعهم من السلطة، كما حدث في الهند مثلاً، أو رفع الأقليات فوق الأغلبية، أو إعطاؤها السيادة والحكم فوق الأكثرية، كما حصل في لبنان، وتمكينها من الإمساك بمفاتيح الإدارة والتجارة والصحافة، أو فوق حجمها الحقيقي كما حدث للأقباط في مصر، والتداخل معها، لأسباب بعضها طبيعية بسبب الانسجام في الوحدة الدينية بين الغازي وهذه الأقلية، أو بسبب قصد الإضرار بالأكثرية. كما أن الحرية في طقوسها ومظاهرها وما كانت تجاهر به كانت تستفز الأغلبية المحافظة، فقد كانت تعني الخروج على الكثير من آداب المجتمع المسلم، وتعني التفسخ وتقليد الغربيين المحتلين للأرض والمعادين للشعب والمخالفين في الدين، ولهذا ألقت هذه الحقائق ظلالا من الشك والكراهية لهذه المفاهيم الوافدة.

ثم إن هناك سببًا آخر لغياب الخطاب التحرري من الاستبداد الداخلي في البلدان الإسلامية؛ ذلك أن خطاب التحرر توجه غالبًا للتخلص من العدو الخارجي المحتل، وكان يراه أساس الشر، وسبب الضعف، وعدو الحرية، فلما انقشع الاحتلال الخارجي وزالت دولته وسلطته، ولو جزئيا، كانت الفرحة بذلك كبيرة، وحفلات الاستقلال من المحتلين عظيمة، وكانت مغوية عما كان يترصد للمجتمع من احتلال داخلي تجلى أنه الأسوأ. وقد سبب ذلك أزمة فقدان للحرية في المجتمع المسلم أكثر من تلك الأزمة التي سببها الاحتلال الخارجي؛ لأن المرحلة التالية من الاستبداد الداخلي كانت الشعوب فرحة باستقلالها من احتلال الخارج غافلة عن خطر الاستبداد الجديد، وغائبة عن تعقيدات علاقات المحتلين من الداخل، فهذا الحاكم وذاك من البلد وابن الناحية الفلانية أو المدينة أو القبيلة القريبة، ولم يستشعروا شرور الاحتلال من الداخل، وغير متنبهة لطريقة تحول السلطة وارتباطاتها. لقد كانت هذه الأنظمة عاجزة فعلا عن بناء ذاتها، ومستكبرة على شعوبها، وملوية العنق خضوعا لسادتها المستعمرين السابقين، أو ملوية العنق باتجاه سادة آخرين في معسكر الشيوعية بديلا للمحتل الغربي.

الخير والشر في الحرية

إذا كانت الحرية مميزة للإنسان، مرتبطة بالتكليف وعواقب الفعل، من خير أو شر في المجتمع، وبما أنها تمثل ذروة منح الإنسان لقدرته في الاختيار، فهي تحمل الخير العظيم للإنسان وتحمل له أيضا الشر، بحسب اختياره وقدرته على تحقيق كل منهما. ولا نملك الحكم القطعي النهائي للعمل قبل بدئه، فهو محصل عمل لم يبدأ بعد للإنسان. وكوننا نخوّف الناس من الحرية فإننا نخوفهم من توقعات قد يقع بعض السيئ منها، ولكن أيضا قد يقع الخير، وفاعلية الإنسان وحركته في الأصل خيرة، ودوافع الخير أغلب، وفطرته الأصلية هي الحق، وإنما يعرض له الشر، ولكن ليس أصل فطرته كلها ولا أغلبها شرا. وقد تبين من قاعدة التحسين والتقبيح العقلي أن الأصل في الإنسان الخير، والشر عارض، فنحن حين ندعو إلى الحرية نعطي الإنسان حقه في حريته وعمله ودوره في الحياة، أو نقول يجب عليه أن ينتزعها، ونوجب على أنفسنا حماية حريته، ما دامت لا تؤذي غيره، ولا تمنع الناس من ممارسة حقوقهم الفطرية والشرعية. وإذا لم يتيسر لنا تحديد الفطرة كان خيارنا التوجيه ثم إلزام الإنسان بحقه في الاختيار، وإلزام غيره برعاية حقه في ذلك.

وبناء على أصل الاختيار في الفطرة وقاعدة التكليف «لا تكليف ولا جزاء بلا حق في الاختيار» وقاعدة التحسين والتقبيح، فإن الحرية خير في غالبها، ويقع عليها ومنها الشر. ولأن الخير الذي يفعله الإنسان مكرها، أو دون شعور أنه حسن ولا قبيح، ولا رغبة منه ولا طلبا للجزاء من الله ولا من الناس ليس محترما لدى فاعله، وليس متصورا انتظامه ولا بقاؤه ولا نفعه من فاعله ولا من مشاهده، فهو مجرد فعل لا حكم ولا قيمة ولا تأثير له، ولا يرفع الإنسان ولا يكرمه لعروضه ولعدم قصده وعدم الأمل في فعله مستقبلا لعدم أو غياب الدوافع.  وهو مجرد افتراض فليس في تفكير الإنسان أنه عبث جاء من عبث ويعود إلى عبث، بل الذين قالوا بهذه المقولة لم يجدوا لأنفسهم من عمل ولا موقف إلا أن يساهموا في صناعة موقف غير عبثي، واجتهدوا قاصدين للحصول على محصلة تخرج عن فكرة العبث. فهل كانوا عابثين؟ لم يكونوا كذلك، ولهذا فتحرير قصد العمل المؤدي للمنفعة سلوك فطري بشري محترم.

ولهذا نقول، إن من الحرية خير ومنها شر، ولا نحكم عليها قبل وجودها، ولا نستطيع أن نصف كل ما يقع تحتها بأنه خير ولا أنه شر مسبقًا، ويحكم هذا ما يؤمن به المسلم من قطعيات حددت الشر وحددت الخير. وقد فطر الناس على معرفة ذلك أو عقولهم أوصلتهم كمجتمع إلى ذلك، ولكن ما يسود مجتمعًا ما من الشر، أو قانون إنساني ما، لا يعطينا حق إلغاء أو قبول قانون أو فكرة وصلوا لها، غير أن غالب البشر كانوا منسجمين مع الفطرة ومع الوحي، ولو غاب نداء الفطرة أو طمس قسرا في مجتمع ما فإن نداء الحرية يرفعه، وشعار الفطرة يظهره.

وخذ مثالا على ذلك قوانين الأسرة ورعايتها، وحقوق الناس المادية وحصولهم عليها أو تجريدهم منها، تجد الفطرة قائمة غالبا، وما خلاف المسلمين مع الآخرين إلا في تقدير النسبة غالبا وليس في أصل المسألة.

الحرية هي التنظيم لا الفوضى

يطيب لأعداء الحرية أن يرفعوا فزاعة الخوف من الفوضى التي قد تجلبها الحرية للناس، ويخيرونهم بين الحرية والتنظيم، فإما هذه وإما تلك، إما مجتمع حر فوضوي، أو مجتمع مقموع ملتزم بالأوامر يزعمون قمعه تنظيما. وهذه الفكرة قيلت في مجتمعات من قبل، بنيات حسنة حينا ولكن بنيات سيئة غالبا، وحجتهم تهدف إلى حرمان الناس من اختيارهم للنظام والحياة التي يريدون أن يحيوها، ومبنية على عقدة احتقار الأقلية لعموم الناس، واتهامهم بالجهل والضعف وعدم النضوج. والحقيقة أنه لا يهوي بالمجتمع مثل حرمانه من مسؤولية نفسه ومصيره وقراراته، عن زعم عدد من الناس أو فرد منهم أنه معصوم متعلم مصيب، وأن الباقين لا شيء، هذا مرض متكرر في العالم لم يسلم منه مجتمع، ولكن نشر هذه القناعة والإقناع بها معناه منع المجتمع من مستقبل حر، ومنعه من النضوج والتطور، وتفتح هذه الفكرة الطريق واسعًا أمام أن يهيمن عليه قلة غادرة أو ضعيفة جاهلة وأمية، تستمد عصمتها من التاريخ، أو من العنصر أو الجهة أو النسب، أو الدرجة الحزبية، في الوقت الذي لا تملك هي فيه مؤهلات الحكم فتهوي بالمجتمع معها جيلاً فجيلاً.

والحرية والتنظيم يمكن أن يصنع بينها انسجام، حين نبدأ بالحرية ثم ننظمها، وحين تتضح الغايات ينجح المجتمع في هذا، ويقوم التوازن بين الجانبين، فكل منهما ضروري للآخر؛ «فالحرية بلا تنظيم إنما هي فوضى، والتنظيم الذي يسلب الناس حريتهم ليس تنظيما عمليا، وإنما هو تحكم في رقاب الناس»3.

وقد ثبت في عصرنا أن المجتمع الحر هو المجتمع المنظم، وأن المجتمع المستبد هو الأكثر فوضى وضياعًا وفسادًا؛ فالمستبد يختزل التنظيم في طاعة أوامره الفردية، التي لا تحظى بتقدير ولا موافقة عامة ولا ثقة، فيتمرد المجتمع على التنظيم الرسمي المجبر عليه من الخارج، ويبحث عن أي طريق لكسر القيد والخروج عليه، ويسود النفاق والتظاهر، بل تضعف المحبة والود في المجتمع، بسبب الأغلفة التي يغلف الناس بها أنفسهم، وتقل فرحتهم حتى بالمناسبات الاجتماعية ولو كانت مفرحة ومفيدة؛ لأن حتى هذه تفرغ من غايتها ومن هدفها ومن علاقة الروح والعقل بها.

ولا تعني الفسق

استطاع بعضهم أن يجعل من الحرية شبحًا مروعًا؛ بأنه لو تحرر المجتمع خلع ربقة الأخلاق من عنقه، وسيطر عليه الفساد والدمار الخلقي، وهذا شعار يلوح به المستبدون في وجوه بعض المشايخ السذج، والغافلين عن حقائق الأمور. فالحرية لا تعني الفجور، بل تعني الخلاص من قيود المحتلين الفاجرين ومن المستبدين التابعين للقوى المحتلة من الخارج. والحرية لا تقف ضد صاحب خلق أن يدعو لأخلاقه، ولا في وجه مصلح أن يصلح بلاده، إنها حقيقة ترفع الإنسان المعتزل الذي لا يبالي إلى أن تجعله مهتمًّا ومشاركًا في مصيره ومباليًا بكل شؤون مصيره ومصير أمته وبلاده، ومشاركًا في ردع الفساد، وتوضع بيده الوسائل التي يحتاجها لتشريع حق ومنع باطل، ولكن الخوف من الحرية يؤسس لمجتمع الرذيلة، ولأخلاق الأمم المتغلبة أن تفرض شهواتها وفسادها على المجتمع، وفي الوقت نفسه تفرض بقاء وسيادة المفاسد التي تحدث في المجتمع؛ فيفتك بالمجتمع شر من الخارج، وأمراض من الداخل، ويحرم من حرية الاستنكار والإصلاح.

عندما تغيب الحرية تغيب الأمانة والمسؤولية

أول خسائر الحرية غياب الحقيقة، وإذا كان يرى هيدجر أن الحرية هي الحقيقة، أو هي الشيء كما هو أو جعل الموجود يوجد4؛ فإن غياب الحرية يجعل الإنسان يعيش في دائرة من الأوهام والتصورات الخاطئة، وتضيع أمانة المسؤولية عن العمل. قال تعالى: «إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان»، والأمانة هنا هي أمانة الاختيار.

يستغرب بعض المراقبين من فشل الحكومات المستبدة، وفشل الأحزاب المستبدة، والسبب واحد؛ وهو أنه لا أحد يستطيع أن يسائل الصنم القائم المعصوم، سواء كان الصنم حزبًا أو سلطانًا طاغيًا، فالمكانة الكبرى التي تعطيها الأحزاب والحكومات للمسؤول أو للسلطان في البلدان المحرومة من الحرية تعني عدم التفتيش في عيوب النظام، وتعني منع التساؤل، وتعني أن الناقد الذي يكشف العيب والخلل ومصائب المستبد هو المخطئ الملوم، وأن الحاكم معصوم؛ فمهما أفسد فلا إصلاح ولا نقد له.

وتضعف الأمانة في المجتمع؛ لأن الأمانة رقابة روحية، ومادية في المجتمع، فإذا تحطمت الأرواح تحت الخوف والذل من سلطة قاهرة فإن الروح تموت، والهمة تضعف، والرجولة والمروءة تتوارى ليقوم مكانها النفاق، والتقرب، والدعاية، والمدح الرخيص.

إن الرقابة العامة التي تصنعها الحرية والمسؤولية والاختيار تتوارى؛ لأنه ليس هناك من سبب للأمانة، والأمين قد يوشى به ويلام ويصنف مجرمًا، فليس في المجتمع جهة مأمونة، أو موثوقة مستقلة عن هوى الحاكم أو الحزب المستبد الفريد، ولها حق التساؤل عن الخطاء والعيوب. إن المجتمع الحر ضمان رقي، وضمان تحرر، واستقلال بالمواقف للجميع، ومسؤولية لهم، ومن المعروف أن الجميع لن يشارك، ولكن ممارسة الرقابة ليست فقط مشروعة بل مأمور بها، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر سواء كان سرقة مال الأمة، أو انتهاك حرمات الأفراد، أو خيانة المصلحة العامة، أصبحت في المجتمع الحر مسؤولية وواجب الجميع، وكل السبل تسمح بها.

ويبقى أن هناك من سيخاف على مصالح ترتبط بالفساد، وبجماعات المجاملة والمصلحة والضغط، وهي حقيقة مؤثرة، ولكن هذه الأمراض تفتك وحدها دون رقيب في حال الاستبداد، وفي حال الحرية لا تستطيع أن تنفذ بسهولة، ولو نفذت مراداتها فإن الوعي والمؤسسات المفتوحة الداعية للرقابة تستطيع الكشف والتغيير، وسوف تجعل عمل المفسدين أقلا تأثيرًا وأصعب تنفيذًا.

غياب الحرية يعني غياب المسؤولية، وانتشار السلبية، والتواكل، وإلقاء اللوم على الآخرين، والاعتذار للنفس؛ فلم تعد المصالح العامة تهم أحدًا، لأنها ليست لأحد، هي لأفراد متنفذين في هرم السلطة، حتى تجد الفرد تحت سلطة مستبدة لا يفكر حتى في تنظيف ما هو أمام داره، وإن تضرر غيره بالقذارة فليكن، ومدى استفادته يراها أقل من تكلّفه بنظافة مدخل داره، وهذا نمط من السلبية والانعزال موحش، ولكنه موجود وحقيقي لدى الشعوب التي تعاني من الاستبداد، وهذه ملاحظات عامة على المجتمعات المحرومة من الاختيار؛ إذ لا يعنيها الشأن العام ولا المصلحة العامة، حتى لترى ما هو بباب الدار من قذارة يهم الآخرين وتحرص فقط على داخل الدار حيث مجالها المسموح به التي تمارس حريتها فيه.

أمام غياب الحرية للأفراد تسود الأنانية القاتلة، والفردية الموغلة في أنانيتها وسلبيتها وكراهيتها للمسؤولية وللعمل الجماعي وللمصالح العامة، لأنها تصبح تؤمن بأن المصالح العامة تصب في مصلحة مرتشٍ، أو مستبد أو مفسد.

حين تغيب الحرية يهرب الناس من المجتمع العام إلى مجتمعات صغيرة

يتساءل الناس لماذا يهرب الناس من المصالح العامة ومن السياق العام إلى سياقات ومنافذ صغيرة وسرية وهامشية؟ والسبب أن الفرد حين لا يجد الحرية فإنه يبحث عن المجتمعات الصغيرة التي يتوهم أنه يمارس الحرية فيها، مثل الجماعات السرية، والطرق الصوفية التي تخرجه من الدنيا وسلطاتها وأهلها إلى الآخرة، ويذهب إلى القبيلة كوحدة حامية وفيها حرية رأي ومساواة بين أفراد القبيلة، وهنا يتعلق الناس بعلائق بديلة عن المجتمع وعن السلطة، وتكثر الكتل الصغيرة المتنافرة والعصبيات الهاربة من وحدة المجتمع القامع لها والحارم لها من حرية القول والتصرف والمساواة.

وتغيب شخصية الإنسان بغياب الحرية

حين نبحث عن الإنسان السوي لا نجده يغيّب مسألة الروح أي حريتها ومصدرها وخلودها، وأيا كان إيمانه ودينه فإن حرية هذه الروح، وأملها في الخلود والبقاء بعد البدن، أو بقاء عملها وأثرها دوافع كبيرة للإنسان، سواء تحدث عنها أو لم يفعل، ولكن كل إنسان يشعر بهذه النوازع، وبحكم أن الجانب الفلسفي لا يشغلنا فإن الجانب العملي لسعادة الإنسان يقتضي توفير أكبر قدر ممكن ومفيد من الحرية للإنسان دون ضرر بالآخرين. وقتل حريته يفسد أخلاقه ويدمر مجتمعه. ينهي تطلعاته ويزرع العنف والبؤس في المجتمع. إن الإنسان يتعالى ويفرح ويسعد بمقدار ما يتحقق له من حرية، ويشقى بانعدامها أو بقلتها، وتظهر فيه ملامح السلوك الحيواني المقهور بالطعام والبحث عنه فقط، وتعلو حيوانيته وتهبط إنسانيته أو تغيب كلما غابت حريته. فهو يرى في الطاعة الخارجية قهرًا لمصلحة غيره، لا يشارك اختيارًا ولا يعي سببا للمشاركة الاجتماعية إلا الضرورات الحيوانية دون تطلعات ولا آفاق روحية.

تحديات في طريق الحرية

الحرية عملية ضبط عالية المستوى، وليست كما يتخيل المتخيل عملية انفلات، فهي تحكّمٌ في الرغبات، وقهر لبعضها، أو تخلص منها، والتزام بما نطالب غيرنا به؛ فالحرية تختلف عن العبودية والتبعية لأن الأخيرتين ترتبطان غالبا بعدم إمكان المخالفة، أو عدم القدرة على المخالفة، أما الحرية  فإنها طاعة «طاعة لأنفسنا»5، وهذه الطاعة تفيدنا في جلب فوائد متحققة مشهودة.

ويرى بنتام أن استعباد الفرد أو «السيطرة على الفرد [لا6] تتم في حال كبحه عواطفه، وإنما في حال وقوعه تحت سيطرتها، وهذه أخطر حالات التبعية والاستعباد، إذا كان في ذلك ما يسعد العبد ويفرحه»7.

 هناك ثالوث يتحدى مجتمعاتنا في طريقها إلى الحرية، وهذه العوائق الخارجية الثلاثة تزول عندما نصنع ثقافة الإنسان الذي توفرت فيه شروط إنسان الحرية.

كما إن هذه العوائق الثلاثة أولها ثقافي يتجلى في أعراف اجتماعية لم تتعود طعم الحرية، تعمقت هذه الأعراف حتى مست طريقة فهم الإسلام، وأصبح يعني مجموعة من القيود، والتزام الأعراف وليس جملة من أفكار التحرير وإطلاق القدرات البشرية كما كان في أصله، ليضع عنهم إصرهم والأغلال التي غلّت رقابهم. ولم يعد عند المحرومين من روح الإسلام توحيدًا لله كما نزل، وتحريرًا من العبودية لما سواه، بل أصبح بعدًا عن حرية التوحيد وسقوطًا في العبودية للطغاة. وقد كانت الحرية من الأغيار خطبة الصحابة وشعارهم التحريري للعالم، نادوا بها في المحافل وفي قصور القياصرة والأكاسرة كما سبق، لكن خطاب التحرير الإسلامي نال بخيره الجميع، حتى من بقي على غير الإسلام، فما كانت السلطة تقيد مصالحه، كما قيدتها في العصر الحديث، فاستظلت بالحرية، وإن لم تستكمل حريتها من الداخل والخارج. وكان خطاب علماء الإسلام واعيًا ومحذرًا من الطغاة ومن ثقافتهم. قال الحسن البصري حين مات الحجاج: «اللهم أمتّه فأمت سيرته».

والعائق الثاني من عوائق الحرية السلطة السياسية التي تقوم على حرمان الناس من حريتهم السياسية والاقتصادية، ودعت إلى إقرار سيطرة الفرد المعصوم.

والعائق الثالث المسيطر الغربي «المحتل المستعمر»، وهو من ألد أعداء الحريات، وأكثر المتاجرين بها. ونحن لو تذكرنا معاناة الشعوب التي احتلت أو حرمت من السيادة لوجدنا قصصا مريعة، نذكر منها قصص المستعمرات التي خضعت لفرنسا ولأمريكا ولبريطانيا، وما قصة كيسنجر مع بينوشيه في الأرجنتين 1973م، أو قصة فنزويلا الآن ببعيدة عن آذاننا وأعيننا8.

ما ذا لو لم تكن فكرة الحرية موجودة؟

يقول أمارتيا صن في كتابه التنمية حرية، وهو المفكر الذي ساهم في صياغة وتطوير مفهوم التنمية الإنسانية والحاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد سنة 1998: «إن التنمية هي عملية توسع في الحريات الحقيقية التي يتمتع بها الناس. وإذا كانت الحرية هي ما تقدمه التنمية فإن التنمية تستلزم إزالة جميع المصادر الرئيسية لافتقاد الحريات. إن المرء، حتى لو كان من أكثر الناس ثراء، إذا ما حيل بينه وبين التعبير بحرية عن رأيه، أو إذا حظرت عليه المشاركة في الحوارات العامة أو في اتخاذ القرارات العامة، فإنه يصبح بذلك محروما من شيء يراه عن حق شيئا قيما. وإن عملية التنمية إذا ما حكمنا عليها على أساس تعزيز الحرية البشرية، فلا بد أن تتضمن إزاحة هذا الحرمان الذي يعانيه المرء»9.

حقق مجتمع المسلمين من الحرية درجات واسعة تجاوزت ما يقال في النصوص، وما يُدرّس للناس، بعكس ما هو متخيل من تجارب المسلمين في الدولة المتغربة المعاصرة، وبعكس مجتمع الغرب الأوسطي. إن لم تكن الفكرة بارزة في ثقافتنا ثم احتجنا إليها فإن حاجتنا تلزمنا أن نعطيها موقعا مهما في ثقافتنا الشرعية، مثلها مثل ما يجدّ من حاجة أو ينزل من نازلة تحتاج إلى علاج وتصحيح وشرح، فإن دور المجدد وفكرة التجديد هي ترسيخ الحق، وعلاج المشكلات التي تطرأ على المجتمع الإسلامي، فبحوث الاعتقاد المطولة والردود عليها عند السلف مثال صريح على وضع العلاج للمشكلات التي جدّت، مثل الإمامة وخلق القرآن وغيرها.

«إن أحق إنسان بأن يحرص على حريته لمن يعلم أنه مدين بها لخالقه ولضميره ولا فضل فيها عليه لأحد من الناس. وإن أحق أمة أن تحرص على حريتها لهي الأمة التي تعلم أنها إذا اجتمعت لم تجتمع على ضلالة، وإنها هي مرجع الحقوق جميعا، وإنها تريد فتكون إرادة الله حيث تريد»10.

الهوامش

  1.   إيزايا برلين، حدود الحرية، ترجمة جمانا طالب، بيروت: دار الساقي، 1992، ص 34.
  2. نفسه.
  3. برتراند رسل، السلطة والفرد، ترجمة نوري جعفر، بيروت: منشورات الجمل، 2005، ص 102.
  4. من نص له بعنوان «ما هي الحقيقة» ضمن مجموع مقالات ترجمها عبد الغفار مكاوي، بعنوان: نداء الحقيقة، القاهرة: مكتبة الأسرة، 2010، ص 181-182.
  5. برلين، مصدر سابق، ص 30.
  6. ساقطة من النص المترجم.
  7. المصدر السابق، ص 31-32. ومن الجدير بالذكر ما أشار إليه دوغلاس في كتابه مذكرات عبد أمريكي من اهتمام السادة بأفراح العبيد، وتشجيع شربهم للخمر في المناسبات.
  8. راجع كتاب بلوم: قتل الأمل، والطبعة العربية منه اهتمت بالعالم العربي والإسلامي، ولكن الكتاب في أصله غني بقصص الترويع والشلل الذي يسكبه المحتل الجديد في دول العالم، وعذاب الشعوب المنقوصة السيادة، وكتاب حروب قذرة لجيريمي سكاهيل مليء بالشنائع، وقد حولت الكثير من هذه الحقائق إلى أفلام.
  9. أمارتيا صن، التنمية حرية، ترجمة شوقي جلال، الكويت: عالم المعرفة، مايو/2004، ص51.
  10. عباس محمود العقاد، الديمقراطية في الإسلام، القاهرة: دار المعارف، الطبعة الثالثة، ص 178.
شارك :

التعليقات (1)

أضف تعليق