أزمة التحرر في الغرب والحاجة إلى الأخلاق

طباعة 2020-01-05
أزمة التحرر في الغرب والحاجة إلى الأخلاق

إن الطلب على الحرية في الدينامية الإنسانية اليوم هو طلب كوني، فلا يخلو بلد من البلدان مهما عَلَى شأنه أو نزل من «حركات تحررية» تطلب حقوقا أو ممارسات تعتبرها من صميم حريتها، بل الأهم من هذا أن أهم هذه الحركات التحررية، وأكثرها تأثيرا في صعيد العالم نشأت وتنشط في ما يسمى «العالم الحر»؛ أي الغرب أكثر من غيره.

إن الحرية وكما تبدو في الدينامية الإنسانية هي قصيدة غير مكتملة، قصيدة لا زالت تحتفظ بأسرارها، هي من الكمالات الإنسانية التي توجد أمام الإنسان، أو هي كالماء المالح، كلما ازددت منه شربا ازددتَ عطشا.

إن التجربة التاريخية التي عاشها الغرب على الأقل منذ عصر النهضة وإلى اليوم تقدم مثالا واضحا وقويا على الوصف «المثالي» للحرية، فبالرغم من سعي الغرب القوي والحاد نحو تحقيق رغباته التحررية على صعيد السياسة والاقتصاد والاجتماع..، وابتكاره عددا من الأنظمة والمرجعيات التي يتوقع من ورائها توسيع مساحة الحرية أمام الذات في التاريخ، وتحقيق الإشباع، فإن الواقع يدل دلالة قاطعة أن مسار التحرر لا زال طويلا، وأن ما تحقق لحد الآن، وبشكل ملموس، هو الوعي بحدود الحرية وقيودها، أكثر من الإمساك بها، فالإنسان اليوم في العالم الحر قبل غيره هو مشروع «إنسان حر» ليس إلا، وقد سعى في طلبها إلى حد الفناء.

لعل هذا الحكم التأملي قد يبدو صادما للبعض، لكنه الحقيقة، أو على الأقل، أكثر تعبيرا عن حال ووجدان الإنسان عموما والإنسان الغربي خصوصا، فالرجل أو المرأة في «العالم الحر» لا يحق لهما فعل أي شيء، وقول كل شيء، والذهاب حيث شاءا...، بمعنى آخر لا يمكنهما ممارسة مشيئتهما المطلقة على مستوى الواقع، بل في كثير من الأحيان حسرتهما وإحساسهما بألم الفقد يغلب على غيرها من الأحاسيس، فالحرية -في هذا السياق- ليست أكثر من الاستسلام لمجموعة من القيود العامة، والرضى بها، بل أكثر من ذلك، تبجيلها..، هاته القيود ليست بالضرورة من وضعهما، أو تحظى بالقبول من طرفهما.

فالسؤال الذي يطرح نفسه في هذا الباب: كيف أمسى نوع من القوانين والقيود الذي يضبط القول، والفعل، والحركة، والوجدان... في «العالم الحر» عين الحرية، وحقيقتها، في حين أمست غيرها من القوانين والقيود استبدادا وسدودا أمام الحرية؟ ألا تعتبر الحرية في هذا السياق أدلجة، وغطاءً شرعيا لنوع من الاستبداد والتحكم؟

إن امتداح القيود وتقديمها على أنها عين الحرية وحقيقتها يقوم على شرطين رئيسين: شرط اعتبارها طبيعية وفطرية من جهة؛ وشرط كونها محققة للمنفعة، والمصالح المباشرة كحفظ الأبدان، والأرزاق، والنظام العام من جهة ثانية، لكن السؤال الذي يثار هنا: هل هي فعلا كذلك؟

إن حالة الغرب اليوم ودينامياته الاجتماعية تدل دلالة قاطعة على زيف هذه الدعوى ومحدوديتها، وأن المجتمعات الغربية تعاني أزمة حرية عميقة، تحرم الإنسان الغربي الإحساس بالأمن والسعادة، فالحركات النسائية الواسعة، وحركات الشواذ، والحركات البيئية، وحركات الشعوب الأصلية... التي تحتل حيزا مهمًّا في المجتمع الغربي تقاوم وبشدة القيود والقوانين المستقرة، وتدعو إلى تغييرها باعتبار الكثير منها سالبًا للحرية، وتبشر بمجتمع آخر، حر، ومختلف. بمعنى آخر تمارس نقدا راديكاليا وشاملا للمنظومة الحقوقية «الرسمية»، وتعتبرها ضد الطبيعية، ولا تحقق المنفعة.

إن هذه الديناميات الآخذة في الاتساع تنقض الغرب، وتفضح زيف ادعائه كونه عالما حرا من جهة، وتحفزنا على البحث عن تصور آخر للحرية، أكثر إنسانية، وأخلاقية مما هو سائد اليوم من جهة ثانية.

ومن ثم، فجوهر أزمة الحرية لا يتصل بالقيود التي يعيش بها الإنسان وطبيعتها، بل تتصل بتعارض واصطدام القيود التي يعيش بها الإنسان أو يرغب في العيش بها، فإحساس بعض النساء بفقدان الحرية على سبيل المثال يرجع إلى رغبتهن في العيش بقيود غير تلك المستقرة والمفروضة عليهن بحكم العادة والتقاليد والأسرة، ولا نحتاج إلى القول في هذا السياق أن أزمة الحرية هاته تزداد عمقا واستفحالا، مع ظهور أنماط من الحياة والعيش داخل المجتمع الواحد، والتي تقترح قيودا وتقاليد جديدة، فالتجاوب مع هذه الأنماط وفسح المجال أمامها للعيش بمقتضى تصوراتها، سيؤدي في النهاية إلى نهاية الإنسان، وبالمقابل قمع هذه الأنماط وإلغاؤها يوسع الإحساس بالحرمان وفقدان الحرية داخل المجتمع. ولعل أوضح مثال على هذا الحال جماعات المتحولين جنسيا، الذين يرغبون في ممارسة حريتهم الجنسية، ويتطلعون إلى أشكال جديدة من الأسرة قائمة على المثلية، فالخضوع للتطلعات التحررية لمثل هذه الجماعات يهدد المجتمع في أصله، ويقتل خليته الرئيسة وهي الأسرة المكونة من الرجل والمرأة، كما أن قمع هذه التطلعات يوسع الإحساس بالحرمان داخل المجتمع حتى لدى غير المثليين.

وعليه، هل يكون حل هذه الأزمة العميقة بتوسيع الاعتراف بحقوق الأقليات وحقوق الجماعات الهوياتية، ومن ثم إتاحة الفرصة أمامها لممارسة مشيئتها وخصوصياتها، أم يكون بالتنميط وتعميم القيود على الجماعة؟

إن هذا السؤال مضلل في جانب منه، يدفعنا نحو الاعتقاد بكون حل هذه المشكلة سياسيًّا، يتأرجح بين خياري الاعتراف بحقوق الأقليات الهوياتية أو قمعها، وهو ما تورطت فيه عدد من التيارات السياسية، في حين أن الحل يقع بعيدا عن الظاهر السياسي، ويتعلق أولا وأخيرا بمعرفة وفهم كيف وصل المجتمع الإنساني لهذا الحال وفي مقدمته المجتمع الغربي؟ وما هي الجذور المعرفية والفكرية والثقافية التي أنتجت هذه الأزمة التحررية الجديدة؟

إن الفلسفة الحديثة، العقلانية المجردة، التي ازدهرت وتطورت في الغرب الحديث مع كانط، وعلى يد سلسلة من المفكرين والفلاسفة الكبار أمثال نيتشه، والتي قدست الإنسان الفرد، واعتبرته مبدأ وغاية في حد ذاته، وأقصت كل الخبرات ومرجعيات ما قبل الحداثة، تتحمل جانبا من مسؤولية أزمة الحرية التي يعيشها الإنسان المعاصر، فإدراك الإنسان وتعريفه كونه «حيوانًا عاقلًا» لدى آباء الحداثة الغربية، وإقصاء الاعتبارات الأخلاقية الميتافيزيقية في تعريف الكائن البشري، يعد أحد الأصول العميقة والبعيدة لأزمة الحرية التي يعيشها الإنسان الغربي اليوم.

فالحرية من منظور هذا الأصل الفلسفي هي مشروع مفتوح لتعقل وتعقيل الطبيعة الحيوانية للإنسان، والذي لا حدود له، هذا التعقل الدوغمائي الذي يدور مع «الإنسان الحيوان» حيث دار، لم ينتج حرية بقدر ما أنتج فائضا في الوعي بحدود الحرية، وأنتج أيضا أشكالا من التمرد المطلق، الشيء الذي أضر بالفرد والجماعة، وأخل بالتوازن بينهما، وأضعف تدريجيا الأخلاق، والثقافة، والتقاليد، والعادات، فتعقل وتعقيل الطبيعة الحيوانية للإنسان لا يمكنها في النهاية سوى أن تؤدي إلى موت الإنسان ونهايته، بعد موت الجماعة والأسرة. ويتجلى هذا الأمر بوضوح في السلوكات الشاذة التي يمارسها كثير من الناس على صعيد العالم والآخذة في الاتساع، والتي تستهدف الجسد، وتعذبه بأشكال مختلفة من الممارسة؛ من خلال الوشم، والأقراط المتدلية والبارزة في أنحاء مختلفة من الجسد.. إلخ.

وقد بدت بعض من هذه الأزمة في التجربة الغربية في تاريخ القانون في علاقته بالأخلاق والقيم، حيث انقلبت العلاقة بين الطرفين، ولم تبق على الهيئة التي حددها توما الأكويني، بل عرفت نقلة معرفية نوعية مع حلول القرن الـ 19م، وتحديدا مع ظهور أعمال جون أوستين، الذي كرس جهوده العلمية لتحرير القانون من أثر الدين والأخلاق، وتكريس الصفة الوضعية له (أي القانون)، متأثرا في ذلك بالمذهب النفعي لأستاذه جرمي بنتام، وعالم الاقتصاد جون ستيوارت مِل. وقد استندت هذه الجهود من الناحية المعرفية إلى التفرقة بين القانون الكائن (الحقيقة)، وبين القانون الذي ينبغي أن يكون (القيم والأخلاق)، فالقانون الوضعي بحسب هذه النظرية يقف عند حدود الكائن، ويتجاهل ما ينبغي أن يكون حيث القيمة. وما من شك أن هذا التمييز بين «الكائن/ما ينبغي أن يكون» كان الأساس المعرفي لإقصاء القيم عن القانون؛ ذلك أن القيم في مجملها متعلقة بالسماء، وما ينبغي أن يكون، ونقدية للكائن والأمر الواقع.

إن هذه القفزة المعرفية في النظر إلى ظاهرة القانون، والتي ضحت بالقيم والأخلاق، لم تقف عند حدود الفقيه الإنجليزي أوستين، بل تغلغلت – على حد قول تشارلز تايلور- في الفلسفة الأخلاقية الغربية الحديثة والمعاصرة، وهيمنت عليها خلال القرن العشرين، وبلغت ذروتها مع نيتشه، الذي قوض ثنائية «الكائن/ما ينبغي أن يكون»، وانتصر لصالح الكائن أو الحقيقة، وضحى بالقيمة التي يجسدها «ما ينبغي»، وهو ما أدى إلى تجاوز الثنائية الكانطية، والفصل التام بين القيم والأخلاق من جهة والقانون من جهة ثانية. وقد كان هذا المآل سببا في عدد من الأزمات القانونية التي عرفتها أوروبا وأمريكا في القرن الماضي وإلى اليوم.    

ومن ثم، إن الأزمة العميقة لمذهب الحرية الإنسانية الذي أسسته الحداثة الغربية والذي تجلى بعضها في تاريخ القانون، التي أمست موضع نقاش عمومي واسع بالغرب، واتسع الوعي بها في السنوات الأخيرة، أفقدت النموذج التحرري الغربي الجاذبية التي كانت له، ولفتت انتباه الكثيرين في أنحاء العالم المختلفة إلى منظورات إنسانية وأكثر توازنا في التأصيل والتنظير للحرية. وربما لن نجانب الصواب أو الدقة إذا قلنا إن أغلب هاته المنظورات تؤسس معيارية تتعدى حدود العقل المجرد إلى عقلانية جديدة، تأخذ بالاعتبار بعض المسبقات الروحية والأخلاقية في تعريف الإنسان وآفاقه التحررية.

فالإنسان بحسب هذه العقلانية الجديدة هو «حيوان أخلاقي»، وأن مدَيَّات الحرية وحدودها بحسب هذه العقلانية ومعياريتها أخلاقية بالأساس، فإذا كانت المقاربة العقلانية المجردة لموضوع الحرية مقاربة قلقة، لا تستقر على حال، وفي توتر دائم، فثابتها الرئيس في هذا الباب هو «التغير» أو «التحول»، فإن المقاربة الأخلاقية لموضوع الحرية -على العكس من ذلك- هي مقاربة مطمئنة، تسعى لنشر السكينة العامة، مقاربة تقوم على خريطة ثوابت أو مسبقات تحدد هوية الإنسان وآفاقه.

إن الحرية من المنظور الأخلاقي هي بحث في الحدود الممكنة وليست بحثًا عما ينقضها كما هو دأب العقلانية المجردة، ذلك أن الحرية المطلقة تعني النزول عند مقتضى تعريف الإنسان كونه حيوانا دون قيد أو شرط سواء كان شرطا عقليا أو أخلاقيا، ومن ثم فالحرية الإنسانية من الناحية الأخلاقية تقوم على مجموعة من المبادئ والحدود من قبيل احترام الهوية الجنسية؛ واحترام الأسرة ومقتضى العيش الجماعي؛ والعمل لأجل الخير الإنساني، فكل حرية تناقض هذه الأصول هي حرية وهمية وغير إنسانية، ومن شأنها أن تطوح بالإنسان بعيدا في مراتع الحيوانية.         

إن السؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق: ما هو مستقبل المنظور الأخلاقي للحرية؟ هل الدينامية الثقافية والفلسفية التي يعيشها الغرب تؤشر على مراجعة ما للمنظور العقلاني للحرية أم لا شيء في الأفق يستحق الذكر؟

من خلال متابعتنا للنقاش الثقافي في الغرب حول موضوع الحرية في أبعادها المختلفة، السياسية والاجتماعية والاقتصادية، يبدو لنا أن الإنسانية ذاهبة باتجاه ابتكار معيارية أخلاقية من شأنها إنقاذ ما تبقى من الإنسان، وفي هذا السياق فإن مسؤولية المسلمين كبيرة وحساسة؛ فبدل الاتجاه إلى تقليد الغرب واقتباس نظمه ونماذجه التحررية في المجتمع والاقتصاد والسياسة، وجب العمل على تجاوزه، وتخليق منجزه التحرري.

إن مجتمعاتنا العربية والإسلامية بحاجة ماسة إلى الحرية، لكن ليس على منوال الغرب وحداثته، بل من خلال نماذج تتجاوز قلق الغرب واضطراباته.

شارك :

التعليقات (0)

أضف تعليق