أمريكا، الإسلام، والإسلاميون - خمس وجهات نظر أمريكية حول الإسلام والإسلاميين

امحمد جبرون

أمريكا، الإسلام، والإسلاميون - خمس وجهات نظر أمريكية حول الإسلام والإسلاميين

مقدمة

إن العلاقة بين الإدارة الأمريكية والإسلام والإسلاميين على العموم علاقة غير مستقرة، وفي تقلُّبٍ دائم. وقد برزت هذه الخاصية أكثر عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر سنة 2001م. ويرجع عدم الاستقرار الذي يطبع هذه العلاقة إلى الرؤى والتصورات المختلفة حول الإسلام والمسلمين، التي تتنافس فيما بينها على النفوذ والقرار في البيت الأبيض، والتي تتأرجح بين تصورات عدائية تجاه الإسلام والمسلمين، وأخرى متسامحة ومنفتحة. وإذا كان هذا الانقسام في مرجعية القرار الأمريكي تجاه الإسلام والمسلمين يبدو قدَرًا لازمًا، وصفةً ثابتةً لا يمكن تغييرها أو نفيها؛ فإن الوعي بها والتفكير في السبل الكفيلة بالتأقلم الإيجابي معها أمرٌ حيوي بالنسبة إلى المسلمين عامةً، والإسلاميين على وجه الخصوص.

ولعل من المداخيل الأساسية لتحقيق هذا الوعي بالاختلاف الأمريكي تجاه قضية الإسلام والمسلمين، والتدبير الحسن للعلاقة مع أمريكا والداخل الانفتاح على المقاربات الفكرية والسياسية ذات المدلول الاستراتيجي، التي تنشرها النخبة الأمريكية في هذا الموضوع، ودراسة صِلتها بالإدارة الأمريكية، ودرجة تأثيرها في القرار السياسي الأمريكي.

ومن الوثائق المهمة التي اطّلعنا عليها في الأيام القليلة الماضية، والتي تُسلّط الضوء على هذه العلاقة المعقدة بين أمريكا والإسلام في الـ 16 سنة الماضية تقرير «خمس وجهات نظر أمريكية حول الإسلام: دليل تحليلي» (Five American Perspectives on Islam: An Analytical Guide)، الذي كتبه الباحث الأمريكي الدكتور مقتدر خان[1]، ونشره مركز السياسة العالمية (Centre for Global Policy) بتاريخ 6 فبراير 2018م[2]. وعلى الرغم من أن هذا التقرير مُوجّه في الأساس إلى صانع السياسة بالبيت الأبيض، حيث يقترح عليه في نهايته جملةً من السياسات التي من شأنها إعادة الاعتبار إلى أمريكا في العالم الإسلامي والعربي؛ فإنه مفيدٌ جدًّا بالنسبة إلى الحكام والنُّخب الإسلامية، وخاصةً في العالم العربي، حيث يلقي الضوء على خلفيات الموقف الأمريكي من دول الشرق الأوسط والحركات الإسلامية في المنطقة العربية في العقدين الماضيين وإلى اليوم؛ ذلك أن العديد من مِحن الإسلاميين، ومشاكلهم، وعلاقتهم المتأزمة مع الأنظمة.. تعود إلى سياسة أمريكا ومواقفها من الإسلاميين.

إن هذا التقرير يسمح لنا بتحليل عددٍ من السياسات العربية تجاه الإسلاميين، واكتشاف خلفيتها الدولية؛ فالتدهور الكبير في علاقة الحركات الإسلامية بالأنظمة ومراكز السلطة في العالم العربي بعد أحداث 2011م، وتواطؤ الفاعلين الدوليين الرئيسين على ذلك، لا يمكن فهمه بعيدًا عن معلومات هذا التقرير؛ فالمحافظون التقليديون والمحافظون الجدد أمست لهم في السنوات الأخيرة امتدادات وحلفاء أقوياء في الوطن العربي؛ حيث يتردد صدى اختياراتهم وتوصياتهم بقوةٍ في أروقة السياسة فيه.

ينقسم هذا التقرير إلى ستّ فقرات كبرى، خُصصت الأولى منها للحديث عن منهجية التقرير، والبقية لاستعراض وجهات النظر الأمريكية حول الإسلام والعالم الإسلامي عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول، بالإضافة إلى مقدمة وخاتمة عبارة عن استنتاجات وتوصيات. وسنحاول فيما يلي تقديم المحتويات الرئيسة لهذا التقرير المهم.

***

إن الشرق الأوسط -من منظور هذا التقرير- منذ أحداث 11/9 وإلى اليوم، وبالمقارنة مع وضعه السابق، لم يختلف حاله كثيرًا، ويمكن اختصار أهم المتغيرات التي عرفها في الـ 16 سنة الماضية في عددٍ من العناصر، من أبرزها: تقدُّم الإسلاميين على مستوى السلطة في كلٍّ من تركيا وعددٍ من البلاد العربية، وخاصةً تونس؛ فقدان تنظيم القاعدة لهيمنته، ظهور داعش الأشد تطرفًا؛ الهشاشة السياسية وشبح الفشل الذي يُهدّد عددًا من الدول العربية؛ الحروب الأهلية في كلٍّ من سوريا واليمن وليبيا، تزايُد ظاهرة اللجوء.

إن هذا التدهور الخطير في الشرق الأوسط، يكشف بشكل ملموس الآثار السيئة لتدخُّل أمريكا بالمنطقة عقب 11/9؛ فاحتلال العراق، ومشروع دمقرطة العالم العربي..، الذي كانت تسعى من ورائه أمريكا لتأمين نفسها وبقية العالم، والقضاء على التهديدات الإرهابية الصادرة من المنطقة، لم يحقق أهدافه، بل على العكس من ذلك أدّى إلى تدهوُر أمني خطير، وزاد من مشاعر العداء لأمريكا، وأضرّ بأمن العالم؛ فالدماء الأمريكية الكثيرة التي سالت في المنطقة (6550 قتيلًا و50500 جريح) والنفقات الهائلة بالمنطقة (أزيد من تريليونَيْ دولار) لم تُحقِّق المرجوّ منها. ولعل التحول الإيجابي -الوحيد- في علاقة أمريكا بالشرق الأوسط يمكن اختزاله في تحسُّن العلاقة مع إيران بعد الاتفاق النووي، وفي المقابل تراجعت العلاقات الاستراتيجية مع عددٍ من الشركاء الإقليميين الآخرين كالمملكة العربية ومصر، وخاصةً في الفترة الثانية للرئيس الأمريكي أوباما[3].

إن أمريكا ربما لها بعض العذر في سياساتها الخاطئة في الشرق الأوسط قبل 11/9، نظرًا إلى محدودية معرفتها بهذه المنطقة، لكن بعد 16 سنة من الخبرة، حيث تعمقت معرفة أمريكا بالشرق الأوسط ونضجت، ما زالت هذه السياسة تُكرّر الأخطاء نفسها، ولم تستفد من التراكم البحثي والعلمي حول المنطقة؛ الشيء الذي يدعو إلى الاستغراب والتساؤل.

إن هذا التقرير يراجع فهم النخب الأمريكية لأحداث 11/9، والسياسات التي تم نهجها خلال الفترة الماضية، بدعم وتأييد عددٍ من المستشارين من فلاسفةٍ وسياسيين..، وفي صلب ذلك الكشف عن الخلفيات المعرفية لصاحب القرار في البيت الأبيض، التي تجعله يختار فعلًا دون آخر، ولا يغفل هذا التقرير في خاتمته عن توجيه نصائح وتوجيهات إلى الإدارة الأمريكية بخصوص سياساتها في الشرق الأوسط مستقبلًا.

 المحددات المنهجية لهذا التقرير:

إن وجهات النظر الأمريكية في موضوع الإسلام والمسلمين في الغالب تستعمل فرضيات وعوامل كثيرة أثناء الحديث عن هجمات 11/9، لكنها عند تفسيرها تُرجع الأمر إلى العامل الواحد، فعلى سبيل المثال يلوم برنارد لويس (Bernard Lewis) الإسلام في حديثه عن هجمات سبتمبر ويتجاهل باقي العوامل، والشيء نفسه بالنسبة إلى إسبوسيتو (John Esposito) الذي يُرجع الأمر إلى السياسة الخارجية الأمريكية. وسيُسلّط التقرير الضوء على هذه العوامل المهيمنة أو الوحيدة التي استند إليها الفكر الأمريكي في تفسير الأحداث.

ومن ناحية أخرى، إن هذه المراجعة النقدية لوجهات نظر أمريكية حول الإسلام، التي يعكسها هذا التقرير، هي تصنيف وتوصيف بعديّ، وجد الباحث أنها ذات قيمة تحليلية كبيرة، وليست مُعطًى أوليًّا في النصوص[4].

يرتكز هذا التقرير على الأدبيات الأولى حول أحداث 11/9، والتي تم تحديدها في خمس مقاربات أيديولوجية وفلسفية بارزة، والتي حاولت فهم الأزمة ومعالجتها، وهي على التوالي وجهات نظر: المحافظين التقليديين، والمحافظين الجدد، والواقعيين الكلاسيكيين، والليبراليين الأمريكيين، والتقدميين/اليسار التقليدي.

إن هذه المقاربات فيما يتعلق بتحديد المسؤولية على أحداث 11/9 إجمالًا، تتأرجح بين موقفين: إلقاء اللوم على الإسلام أو الإسلام الراديكالي كما هو الحال بالنسبة إلى المحافظين والمحافظين الجدد؛ وبين لوم الغرب نفسه كما هو الحال بالنسبة إلى الواقعيين والليبراليين الذين يردون الأمر إلى الأوضاع الاجتماعية-السياسية بالشرق الأوسط، والسياسة الخارجية الأمريكية[5].

 المحافظون التقليديون:

يُشكّل المحافظون أحد أقوى التيارات الفكرية والسياسية تأثيرًا في القرار الأمريكي، وظهر ذلك بجلاء بعد أحداث 11/9، ويميل هذا التيار في سياساته إلى نوعٍ من الواقعية والبراغماتية في سياسته الخارجية، كما يسعى إلى خدمة مصالح أمريكا ونشْرِ قيَمِها في الخارج من منظور أحادي. ولا يتردد هذا التيار في الدعوة إلى استعمال القوة لتحقيق أهداف أمريكا، ويرجحها على الدبلوماسية؛ ولهذا يُفضّلون التحالفات الأمنية على غيرها من التحالفات، وفي هذا السياق يعطون الأولوية لحلف الناتو على الأمم المتحدة.

لقد جسَّد فريق الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الأب في سياساته اختيارات المحافظين بوضوح، وهي الاختيارات التي نجد بعضها لدى الرئيس الأمريكي الحالي ترامب على الرغم من عدم اتفاقه مع مبادئ ومنطلقات المحافظين، من ذلك على سبيل المثال، الميل إلى الأحادية في السياسة الخارجية (Unilateralism)[6].

يُعدّ برنارد لويس وصامويل هنتنغتون وفؤاد عجمي من أبرز مُنظّري التيار المحافظ، الذين كان لهم تأثير قوي على سياسة أمريكا تجاه العالم الإسلامي بعد أحداث 11/9. ويشترك هؤلاء الثلاثة في موقفهم من الإسلام وحضارته، حيث يعتبرونه خطرًا على الغرب، وهو ما تَمثَّله الرئيس ترامب من خلال قراره حظر هجرة المسلمين إلى الولايات المتحدة (Muslim Ban). فهجمات الحادي عشر من سبتمبر في نظر لويس وأمثاله هي تعبير عن ثورة إسلامية حديثة ضد الهيمنة الغربية، ورغبة متجددة في العيش بالإسلام، وهي ليست ردًّا على سياسات أمريكا في منطقة الشرق الأوسط كما يتصور البعض، بل هي استمرار للصراع الإسلامي-الصليبي.

إن الإسلام -في نظر لويس- يتنافى مع القيم التي تجسدها أمريكا، كالديمقراطية والليبرالية والعلمانية والحداثة... وباعتباره كذلك، فهو بالضرورة ضد القيم الأمريكية. ونظرًا إلى ضعف المسلمين اليوم، وافتقادهم القدرة على محاربة أمريكا عسكريًّا؛ فإن أيسر السبل لإلحاق الضرر بها وتحقيق أهدافهم هو الإرهاب[7].

انطلاقًا من هذا الفهم، يُقرِّر لويس: أن علاقة أمريكا بالإسلام والمسلمين لا يمكن أن تتحسّن إلا إذا تغيَّر العالم الإسلامي، وذلك بإعادة النظر في الإسلام ومحتواه التقليدي، ومراجعة المسلمين لصلتهم بماضيهم وتقاليدهم، والقبول بالهيمنة الغربية، ولا يتحرّج المحافظون في هذا السياق في الدفع باتجاه استعمال القوة لتحقيق هذه الأهداف وتغيير العالم الإسلامي.

إن الأدبيات والأفكار التي عبّر عنها كلٌّ من لويس وهنتنغتون وعجمي، تُشكِّل العمود الفقري للجواب المحافظ على أحداث 11/9، الذي تمثَّل في عددٍ من التوصيات السياسية، من أبرزها:

الدعوة إلى استعمال القوة ضد العالم الإسلامي لكبح ثورته ضد الغرب.

الدعوة إلى تغيير وتحديث الإسلام والعالم الإسلامي، وفي هذا السياق تندرج الحرب على «طالبان»، واحتلال العراق.

إن هذه الاقتراحات التي بلورها برنارد لويس بشكل جليّ، والتي تمثَّل بعضَها هنتنغتون في أطروحته حول صدام الحضارات، ما زالت تُشكّل جوهر سياسة المحافظين تجاه العالم الإسلامي إلى اليوم، ومن أبرز مؤيديها في إدارة الرئيس ترامب ستيف بانون (Steve Bannon)[8] ، الذي لم يكن مُجرّد مستشارٍ استراتيجيّ لدى ترامب فحسب، بل المستشار الرئيس في قضايا الأمن القومي الأمريكي[9].

 المحافظون الجدد وبناء الإمبراطورية:

إن الأثر العنيف لأحداث 11/9 في الإنسان الأمريكي، وأحاسيس الخوف التي أحدثتها؛ هيّأت الفرصة لجماعة المحافظين الجدد لتسويق رؤيتهم لدى الإدارة والشعب الأمريكيين، الرؤية التي من شأنها تحقيق الأمن، وإعادة الثقة للأمريكيين، وهي في جوهرها رؤية إمبريالية. وقد استطاعت هذه الجماعة إزاحة المحافظين التقليديين عن مواقعهم في إدارة بوش الابن، والتأثير في قراراتها الكبرى تجاه العالم الإسلامي بعد 2001م، قبل أن تأخذ في التراجع بسبب فشل مشروع دمقرطة العراق.

إن المبدأ الأساس في السياسة الخارجية للمحافظين الجدد هو عقيدة القوة الشاملة لأمريكا وفي جميع الميادين، التي وضع أساسها الفلسفي بريجنسكي (Zbigniew Brzezinski)[10] ، فـ «القوة والمبدأ» في نظر هذا التيار يسيران جنبًا إلى جنب، ولا يختلفان. وقد راهن المحافظون الجدد في هذا السياق على القوة لتغيير الأنظمة التي تُهدّد أمريكا، وتحقيق أمنها وأمن بقية العالم، ونشر الديمقراطية؛ حيث تبدو القوة العسكرية وعولمة الديمقراطية مفاتيح السلام والاستقرار العالمي في منظور المحافظين الجدد[11]. وقد كانت هذه الرؤية وراء حماسهم الزائد للعمل خارج المؤسسات الدولية وبعيدًا عن القانون الدولي.

يندرج ضمن نخبة المحافظين الجدد عددٌ من المفكرين والساسة الأمريكيين، ومن أبرزهم وأوضحهم دانيال بايبس (Daniel Pipes)، الذي شغلَ لفترة قصيرة منصب مستشار الرئيس بوش، ثم عضو معهد السلام الأمريكي، وشغل مهامَّ عديدةً أخرى في الإدارة الأمريكية ما بين 1982 و2005م[12].

يؤكد بايبس في أطروحته أن المسؤول عن هجمات 11/9 ليس الإسلام بإطلاق، بل تشكُّله الحركي الجديد، أو ما أسماه «الإسلام الراديكالي»، الذي يمتاز بالشمولية والعنف، ويناهض الغرب، وأمريكا وإسرائيل. ومِن ثَمّ فالأطروحات والنظريات التي تجعل الإسلام في تعارُض مع الحداثة والديمقراطية، في نظر بايبس، مجانبة للصواب، وفي طليعة هذه الأطروحات صِدَام الحضارات. ويستدل بايبس على هذا الرأي، بكون ضحايا الإرهاب ليسوا الغربيين فقط، بل الكثير منهم مسلمون، كما أن بعض النماذج السياسية في العالم الإسلامي، وخاصةً تركيا، تدلّ على إمكانية المواءمة بين الإسلام والديمقراطية والحداثة[13].

إن المحافظين الجدد، وعلى رأسهم بايبس، يوصون بالحرب على الإرهاب الإسلامي، ويدخلون تحت هذا العنوان كل الإسلاميين، ولا يميزون فيهم بين المعتدلين والمتطرفين، ومن المفاهيم التي درجوا على استعمالها في هذا المقام مفهوم الإسلام الراديكالي (Radical Islam) الذي يسري على الجهاديين والسلميين على حدٍّ سواء؛ فالإسلاميون في نظر بايبس، على سبيل المثال، يجب أن يُعامَلوا كقتلة محتملين (Potential Killers). ومما تجدر الإشارة إليه في هذا السياق، أنه على الرغم من تراجُع وهج أفكار بيبز وأمثاله في إدارة ترامب فإنها لم تمُتْ.

يوصي المحافظون الجدد صانع السياسة الأمريكي بالحيلولة دون بلوغ الإسلاميين السلطة أو إشراكهم فيها، ويوصون بعدم إرضائهم ومساعدتهم، ودعم معارضيهم. لكن ومع هذه الحدّة، فقد لوحظ عليهم تعاونهم مع بعض الإسلاميين ممن يوصفون بالمعتدلين في مشروع إعادة إعمار العراق، دون أن يتخلَّوْا عن صرامتهم في استعمال القوة من جانبٍ واحد.

وإجمالًا، فإن المحافظين الجدد، من خلال الآراء التي عبّر عنها بايبس، لا يرون في الإسلام بإطلاق تهديدًا للغرب؛ ومِن ثَمّ، وفق رؤيتهم، لا يجب استهداف كل المسلمين واعتبارهم أعداء، ويُقصرون عداءهم على الإسلام الراديكالي؛ ذلك أن كثيرًا من المسلمين هم حلفاء محتملون ضد الإرهاب، الذي يستهدف المسلمين وغيرهم، ويسيء إلى الإسلام ذاته[14]. وبالتالي، فالسياسة الخارجية الأمريكية في عهد ترامب، في علاقتها بالإسلام والعالم الإسلامي، تتأرجح بين برنارد لويس وبايبس، فأحيانًا تكون قريبة من المحافظين، وأحيانًا أخرى تكون قريبةً من المحافظين الجدد[15]

الواقعيون وتحدي معاداة أمريكا

يُعتبر الواقعيون أقوى التيارات الفكرية والاستراتيجية تأثيرًا في السياسة الخارجية الأمريكية، ويتميزون بالرهان الواضح على القوة العسكرية لتحقيق مصالح أمريكا في الخارج. ومن أشهر رموزها مستشار الأمن القومي (1969م) ووزير الخارجية (1973) السابق هنري كسنجر. وكان هنتنغتون يُحسب على هذا التيار قبل تحوُّله إلى بيت المحافظين التقليديين بعد كتابته أطروحة صِدام الحضارات[16].

إن هذا التيار لا يعنيه كثيرًا الجدل حول الإسلام ومدى مسؤوليته عن أحداث 11/9، ويركز -في المقابل- على الحقائق التاريخية الملموسة على الأرض؛ ومِن ثَمّ فهجمات الحادي عشر من سبتمبر في نظر أقطاب هذا التيار لا يتحمل مسؤوليتها الإسلام، بل ترجع إلى شروط اجتماعية-سياسية تحدد الشرق الأوسط، وترجع -أيضًا- إلى الفشل الذريع لمشاريع التنمية الاقتصادية والتحديث، وقد تولدت عن هذا الفشل النزعات الإرهابية وموجة العداء لأمريكا[17]. ومن أبرز رموز هذا التيار وزير الدفاع والخارجية السابق في عهد الرئيس بوش الابن كولن باول، والإعلامي فريد زكريا الذي اعتمد عليه هذا التقرير[18].

إن وجهة نظر التيار الواقعي حول سياسة أمريكا تجاه الإسلام والعالم الإسلامي عبّر عنها بوضوح فريد زكريا في كتابه مستقبل الحرية (The Future of Freedom)؛ فالإسلام في نظره ليس مشكلة، ولا يصلح عاملًا لتفسير ظاهرة الإرهاب ومشاعر العداء ضد أمريكا في الشرق الأوسط، فهو دين كسائر الأديان، ليس ديمقراطيًّا، وليس استبداديًّا. ومما يؤيد هذا التفسير أن مشكلة أمريكا من هذه الناحية ليست مع كل العالم الإسلامي، بل هي مشكلة محصورة في الشرق الأوسط، وبشكلٍ خاصّ في العالم العربي وإيران؛ ومِن ثَمّ، بدَلَ الاتجاه إلى إصلاح الإسلام، والتركيز عليه في عملية محاربة الإرهاب، يجب الاتجاه إلى إصلاح الشرق الأوسط.

إن مشكلة الشرق الأوسط -في نظر زكريا- تتجلّى في أمرين اثنين: افتقار الشرق الأوسط إلى ثقافة النقد الذاتي؛ إذ يتجه إلى تحميل مسؤولية فشله السياسي والاقتصادي إلى الآخر، وفشل الحكومات والدول العربية في الإصلاح والتقدم؛ إذ تتجه إلى التستر على فشلِها من خلال رفع شعارات معادية لأمريكا والسامية.

واستنادًا إلى هذا الفهم يقترح زكريا وجماعة الواقعيين على الإدارة الأمريكية سياسةً شرق أوسطية قريبة من سياسة المحافظين من حيث الوسائل، سياسةً تقوم على مبدأ «القوة والتغيير» (Force and Change)؛ حيث يُعتبر تحقيق النصر على الإرهاب الخطوة الأولى باتجاه الإصلاح والتغيير بالعالم العربي، الذي يجب أن يتم على مراحل، وهو بهذا الاقتراح يبتعد عن المحافظين الذين يرون أن المدخل إلى الإصلاح بالشرق الأوسط يتم بالضرورة عن طريق إصلاح الإسلام، ويبتعد عن المحافظين الجدد الذين يربطون ذلك بنشر الديمقراطية ومحاربة الإسلاميين.

وإجمالًا، إن التغيير في العالم العربي من زاوية الواقعيين يجب أن يتم عبر ثلاث مراحل: الإصلاح الاقتصادي والتنمية، والإصلاح المؤسساتي والليبرالية السياسية، والديمقراطية الانتخابية والمؤسساتية[19].  

 الليبراليون الأمريكيون والسياسة الخارجية الأمريكية

إن وجهة نظر الليبراليين الأمريكيين في موضوع علاقة أمريكا بالإسلام والعالم الإسلامي أكثر الرؤى اعتدالًا وتوازنًا وانفتاحًا؛ إذ يطمحون إلى بناء نظامٍ عالميٍّ عادل على أساس القانون الدولي، ويدعون إلى تضافُر جهود الجميع لأجل تحقيق التقدم والازدهار، والتقليل من النزاعات والحروب على صعيد العالم؛ ومِن ثَمّ وجب أن تكون السياسة الخارجية الأمريكية أداةً للتغيير الإيجابي، وليست أداةً للمحافظة على الوضع الراهن.

إن انغلاق أمريكا على ذاتها واهتمامها بمصالحها الضيقة، والتفكير المحدود بالمدى القصير، من زاوية نظرٍ ليبرالية، يُعرّض أمريكا وعلاقاتها بالعالم الإسلامي للخطر، ولا يتردد أقطاب هذا التيار في هذا السياق في توجيه النقد إلى السياسة الخارجية الأمريكية، وتذكيرها بفشلها في معرفة الأسباب الحقيقة وراء ظاهرتي الإرهاب والعداء لأمريكا، التي تتفشى في الشرق الأوسط والعالم الإسلامي.

إنّ تطرُّف الحركات الإسلامية في الشرق الأوسط، وتفاقُم الأوضاع في هذه المنطقة الحيوية من العالم يرجع إلى سياسات أمريكا الخاطئة، ودعمها المتواصل للاستبداد، ومعاكستها لتطلعات جماهير هذه المنطقة؛ فالحركات الإسلامية في نظر الليبراليين تعكس تطلعات جماهير هذه المنطقة إلى الديمقراطية، والتحديث، والحق في تقرير المصير.

يتألف التيار الليبرالي من طيف واسع من المثقفين والساسة الأمريكان، غير أن أبرزهم وأعلاهم صوتًا هو جون إسبوسيتو (John Esposito)[20] ، الذي اشتُهر بنقد سياسة أمريكا حيال الإسلاميين، وتعامُلها الخاطئ مع العودة الجديدة إلى الإسلام؛ إذ أكّدَ أكثر من مرة أن سوء فهم الإسلام السياسي وسياسة أمريكا الخاطئة إزاء العالم الإسلامي، سيؤديان إلى مزيد من التطرف والإرهاب وغياب الديمقراطية وليس العكس.

إن الإسلام في نظر إسبوسيتو هو المهيمن في العالم الإسلامي، وفي طريقه ليصير قوة عظمى، ويدعو الغرب إلى الاعتراف بهذه الحقيقة، والتعامل معها. فالإسلام يُعبّر عن تطلعات الشعوب التي تؤمن به، وكل معاكسة لهذه الحقيقة من خلال الدعم الأمريكي للاستبداد من شأنها أن تؤدي إلى مزيدٍ من التطرف والعنف[21].

إن أسباب أحداث 11/9 في نظر إسبوسيتو تعود في الأساس إلى الظروف الاقتصادية والسياسية للشرق الأوسط، واستمرار الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، والدعم الغربي للاستبداد في المنطقة؛ وهو ما ولّد حقدًا دفينًا على أمريكا، ومِن ثَمّ لا يمكن -بحال من الأحوال- تغيير هذا الوضع، والقضاء على جذور الإرهاب، إذا لم تُعالَج هذه الأسباب. لا يمكن القضاء على الإرهاب، والتخفيف من مشاعر العداء لأمريكا، إذا لم تُعدِّل هذه الأخيرة موقفها من النزاع الإسرائيلي الفلسطيني، وإذا لم تؤمن بإمكانية التوافق بين الإسلام والديمقراطية. ولا يتردّد إسبوسيتو في هذا السياق عن الإعلان أن الإسلاميين هم أمل الديمقراطية في العالم الإسلامي.

إن الليبراليين، وفي طليعتهم إسبوسيتو، ينصحون الإدارة الأمريكية بتصحيح سياساتها في الشرق الأوسط، ويقترحون عليها جملةً من الخطوات، من أبرزها:

الاعتراف بأهمية الإسلاميين واستيعاب تطلعاتهم المشروعة.

مراجعة السياسة الأمريكية والغربية في المنطقة، والقطع مع مظالمها الكثيرة ضد المسلمين.

الاقتنـاع بعدم تعـارُض الإسلام والديمقراطية، والقبول بمخرجاتها حتى لو جاءت بالإسلاميين.

العدول عن استعمال القوة في إدارة العلاقة مع الشرق الأوسط، إلا في مواجهة الإرهاب؛ ذلك أنّ التغيير الصلب والحقيقي يجب أن يتم بعيدًا عن نهج القوة[22].

 التقدميون واليسار التقليدي: نظرة عامة

إن اليسار الأمريكي منذ عهد الرئيس الأمريكي رونالد ريغان عانى من التهميش السياسي، واقتصر حضوره على الأوساط الأكاديمية، والتعليق على الأحداث الجارية ونقدِها، ولعل الطبيعة الأممية لخطابه ومناقشاته التي تجعله غير مكترث بالمصالح القومية جعلَتْه في كثيرٍ من الأحيان يبدو غير وطنيّ وخطيرًا، وخاصةً بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر.

وقد ساهم اليسار بقوة في فضح أجندة السياسة الخارجية الأمريكية للمحافظين الجدد بعد أحداث 11/9، واعتبروها أسيرة المصالح الضيقة للشركات الكبرى وأصحاب المال، الذين يستعملون الحكومة والقوة العسكرية الأمريكية للاستمرار في نهب الشعوب الضعيفة والعاجزة عن مقاومة القوة الأمريكية. ومن أبرز رموز هذا التيار إدوارد سعيد، ونعوم تشومسكي (Noam Chomsky).

إن السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، في نظر هذا التيار، تتوخى السيطرة على النفط، والأرض، والماء، وذلك بمعيّة إسرائيل[23]؛ ومِن ثَمّ فأحداث 11/9 هي ردّ عنيف على الإمبريالية الأمريكية المتناغمة مع الرأسمالية العالمية في المنطقة.

إن اليسار الأمريكي لا يقترح على البيت الأبيض سياسة معينة، بل يطالبه بفهم المشكلة أولًا؛ فكثير من سياسات أمريكا في الشرق الأوسط، في نظر هذا التيار، يُحرّكها الجهل والأحكام المسبقة، وفي هذا السياق يدعو أمريكا إلى تسخير قوّتها لخدمة الشعوب الضعيفة وراء المحيط والدفاع عن حقوقها[24].

استنتاج وتوصيات:

يؤكد التقرير في خاتمته بعض الاستنتاجات والتوصيات، من أبرزها: أن سياسة إدارة ترامب في الشرق الأوسط متأثرة باقتراحات ومقاربات المحافظين الجدد، ولعل ما يؤكد ذلك صلته بأحد رموز هذا التيار، الذين ساهموا بقوة في حملته الانتخابية وهو أحد مستشاريه، الأمريكي من أصول لبنانية وليد فارس. ومما يجب تأكيده في هذا السياق، أن هيمنة المحافظين الجدد على توجُّهات الإدارة الأمريكية يعِد بتكرار الأخطاء الماضية، على الرغم من تراكُم الخبرة العلمية والمعرفية حول الشرق الأوسط.

ومن ناحيةٍ أخرى، يوصي هذا التقرير بالانفتاح على تحليلات الليبراليين والواقعيين على الرغم من تسامُحها مع الإسلاميين، وخاصةً الإخوان المسلمين، الذين ما زالوا -في نظر كاتب التقرير- يساهمون في نشر العداء ضد أمريكا. كما أن اقتراحات الليبراليين حول الديمقراطية ومحاربة الإرهاب في الشرق الأوسط أجدى من

 

[1]  مقتدر خان باحث أمريكي يعمل أستاذًا للعلوم السياسية والعلاقات الدولية بجامعة ديلاوير (Delaware)، بشرق الولايات المتحدة الأمريكية، حاصل على الدكتوراه من جامعة جورج تاون، له العديد من المؤلفات باللغة الإنجليزية، ومن المعلّقين المعتمدين لدى عددٍ كبيرٍ من وسائل الإعلام الغربية من أبرزها (BBC)  و(CNN).

 

[2] Five American Perspectives on Islam: An Analytical Guide, Centre for Global Policy, PUBLISHED February 6, 2018, (http://bit.ly/2DmFh6i)

[3] Ibid., p. 3.

[4] Ibid., p. 4.

[5] Ibid., p. 5.

[6] Ibid., p. 5.

[7] Ibid., p. 6.

[8]  ستيف بانون: شغلَ منصب مستشارٍ استراتيجيّ للرئيس الأمريكي ترامب خلال السبعة أشهر الأولى من ولاية ترامب، حيث غادر البيت الأبيض في أغسطس 2017.

[9] Ibid., p. 7.

[10] Ibid., p. 8.

[11] Ibid., p. 8.

[12]  انظر ترجمته في موقع منتدى الشرق الأوسط الذي يديره: (http://bit.ly/2MKnCVO)

[13] Ibid, p. 9.

[14] Ibid, p. 10.

[15] Ibid, p. 11.

[16] Ibid, p. 11.

[17] Ibid, p. 11.

[18]  فريد زكريا: أمريكي، من أصول هندية مسلمة، شغلَ مناصب إعلامية عديدة، وحرَّر الكثير من المقالات، وله برنامج أسبوعي في قناة CNN)) بعنوان Fareed Zakaria GPS)).

[19] Ibid, p. 12.

[20]  جون إسبوسيتو: أكاديمي أمريكي بارز، له عدة أعمال حول الإسلام، وشغلَ مناصبَ علميةً متعددة، من أبرزها رئاسة مركز التفاهم المسيحي-الإسلامي الذي أسّسه بجامعة جورج تاون، والذي دعمه الأمير السعودي الوليد بن طلال بـ 20 مليون دولار.

[21] Ibid, p. 13.

[22] Ibid, p. 14.

[23] Ibid, p. 15.

[24] Ibid, p. 16.

أواصر - مجلة فكرية فصلية

www.awasr.com