الدولة العربية المعاصرة بين القابلية للاستبداد والقابلية للديمقراطية

طباعة 2018-04-22
الدولة العربية المعاصرة بين القابلية للاستبداد والقابلية للديمقراطية

ننطلق في مقالتنا هذه من فكرة ختم بها الراحل محمد عابد الجابري كتابه العقل السياسي العربي بقوله: "إن الوعي بضرورة الديمقراطية يجب أن يمر عبر الوعي بأصول الاستبداد ومرتكزاته"[1]. وهذا ما سنحاول ملامسته عبر تناول ظاهرة الاستبداد بوصفه نظامًا للحكم مناقضًا للديمقراطية، محاولين الكشف عن المرتكزات التي تؤدي إلى حالة من التطبيع النفسي والثقافي والمجتمعي مع الاستبداد حتى يصبح مقبولاً لدى الشعوب العربية، وكيف يمكن خلق شعور ورغبة نفسية ومجتمعية لدى الشعوب العربية لتصبح لديها قابلية للديمقراطية؟

 

أولاً: القابلية للاستبداد مقاربات تفسيرية

إن الرغبة في تجاوز الواقع المتخلف الذي تعيشه معظم دول المنطقة العربية، على المستويات كافة: اجتماعية وسياسية واقتصادية وثقافية، ليس وليد اليوم كما يذهب البعض، لكون فكرة الإصلاح كانت في أعين الرعية في كل فترات تاريخ المسلمين تنطلق في أحد أبعادها من القضاء على أسباب الانحطاط، وفي مقدمتها الاستبداد الذي أدى إلى الجور والاستئثار بالخيرات، إذ برزت رغبة شديدة للرجوع إلى حكم العدل والشورى وتحقيق المصالح العامة، فضلاً عن السعي إلى تقوية المجتمع بالعدل المنافي للاستبداد.

ومازالت تعترض رغبة الشعوب العربية في الانعتاق ومجاوزة وضعية حكم أنظمة استبدادية إلى وضعية حكم أنظمة ديمقراطية عدة عوائق، أهمها ما يمكن تسميتها بالقابلية للاستبداد، التي تشترك في بروزها عوامل داخلية وأخرى خارجية، سنحاول تناولها من زاويتين: الأنا/نحن والآخر/ هم.

الأنا/ نحن والقابلية للاستبداد

 تذهب هذه المقاربة في محاولة تفسير الاستبداد من خلال فهم الأسباب التي تجعل الأفراد والجماعات لديهم استعداد وقبول نفسي للاستبداد. انطلاقًا من التحليل النفسي الذي يقوم على أن للطفولة الأولى شأنًا عظيمًا في تكون شخصية الفرد، فـالأبوان يلعبان في هذه المرحلة العمرية دورًا أساسيًّا: فمن خلالهما يتحدد الشخص بالنسبة إلى المجتمع، كما أن هذه العلاقات بين الطفل وأبويه تؤثر تأثيرًا لا شعوريًّا في جميع العلاقات الاجتماعية الأخرى، ولا سيما العلاقات المتصلة بالسلطة[2]. وقد أشار لابويسي في كتابه مقالة في العبودية الطوعية إلى أن السبب الأول الذي يجعل الناس يستعبدون طوعًا، هو أنهم يولدون أرقاء وتجري تنشئتهم على ذلك[3]، هذا المستوى الأول من العلاقة ينعكس بالسلب أو الإيجاب على رؤية الفرد لنفسه ومحيطه الاجتماعي وكذا السياسي.

 ويذهب إريك فروم في كتابه الهروب من الحرية، في تحليل شخصية الإنسان إلى أن نزعتي (السيطرة- السادية) و(الخضوع–المازوخية)، موجودة عند البشر جميعًا أسوياء ومنحرفين، لذا فالمستبد يمارس ويعبر عن النزعة السادية، عبر التلذذ بإيقاع الأذى بالآخرين. أما المستبد به الخاضع الخانع، فهو يمارس ويعبر عن النزعة المازوخية، أي التلذذ بالألم الذي يقع عليه، من خلال الخضوع لشخصية أقوى منه تحرره من خوفه؛ ذلك أن المازوخية نزعة في جوهرها تعبير عن الخوف؛ خوف من الذات وما يرتبط بها من حرية ومسؤولية[4].

                إن علاقة السيطرة بالخضوع هي التي دفعت لابويسي إلى توجيه اللوم للمحكومين أكثر من الحاكمين، مستغربًا "كون عدد كبير من الناس، وعدد من البلدات وعدد من المدن وعدد من الأمم، تعاني الأمرين أحيانًا، على يد طاغية واحد، لا يملك من قوة سوى تلك التي يمنحونه إياها، والذي ما من قدرة لديه على الإضرار بهم إلا بمقدار ما يريدون هم أن يقاسوا... فهم ليسوا مرغمين بفعل قوة قاهرة لكنهم على ما يبدو مفتونون ومسحورون"[5].

إن السؤال والاستغراب الذي طرحه لابويسي حول: لماذا يخضع الناس لحكام يستبدون، لا يملكون أي سلطة عليهم إلا ما يمنحونه هم إليهم؟ يجعلنا نتساءل: لماذا يخضع الناس للسلطة؟ سؤال فلسفي قد سبق وأن طرح في عصر الأنوار، حيث قُدمت ثلاث إجابات: إجابة متجاوزة اليوم وهي منافية للعقل: تتمثل في نظرية الحق الإلهي التي كانت تجيز للملوك أن يحكموا باسم الإله. أما الإجابة الثانية فتقوم على فكرة الرضا والقبول التي تقتضي التراضي والتوافق من طرف المحكومين والحكام، إذ يشير جون لوك في هذا السياق إلى أن "السلطة العليا لا تستطيع أن تأخذ من أي إنسان أي جزء من ممتلكاته بدون موافقته"[6]، ونظرًا لصعوبة تنفيذ هذا النوع من العلاقة في تدبير السلطة، خلص روسو كإجابة ثالثة على سؤال لماذا نطيع؟ إلى نظرية تقوم على فكرة الإرادة العامة، التي تراعي المصلحة المشتركة فقط، وتكون موجهة نحو صالح الجميع، إذ يقول روسو في هذا الصدد: "لكي تكون العامة كذلك فإنها يجب أن تكون عامة في الموضوع وفي الجوهر كذلك، ويجب أن تأتي من الجميع وتطبق على الجميع"[7]. في السياق نفسه يشير أدورنو في خلاصة لبحث أجراه في الولايات المتحدة الأمريكية سنة 1950، عن الشخصية الاستبدادية، إلى أنها تتصف بانصياع صارم وخضوع أعمى للقيم التقليدية، وهي شخصية تتصف بإذعان أمين للسلطات، وبنظرة إلى العالم الاجتماعي والأخلاقي تقسمه إلى جانبين منفصلين تمام الانفصال: "الخير والشر، الأسود والأبيض، الطيبون والخبيثون"، وتجعل كل شيء في هذا العالم واضح المعالم بين الحدود ومنظم الجريان، ويستحق الأقوياء فيه أن يقودوا لأنهم هم الأخيار ويستحق الضعاف فيه أن يخضعوا لأنهم دون أولئك من جميع النواحي، ولا تقاس أقدار الناس فيه إلا بمقاييس خارجية قائمة على منزلتهم الاجتماعية[8].

وتجدر الإشارة إلى أن علاقة الإنسان بصفة عامة بالسلطة هي علاقة غير مستقرة، ففي مختلف محطات التاريخ الإنساني كان الصراع حاضرًا بشكل قوي في التشكيلات الاجتماعية والسياسية، ما قبل الدولة، واستمرت كذلك في صور جديدة لما بعد الدولة الحديثة، وما يجتاح العالم اليوم من حركات احتجاجية تأخذ في بعض الأحيان شكل عنف دمويتعبير دال عن هذا الصراع الحاد المتفجر حول السلطة ومعها الثروة.

الآخر/هم والقابلية للاستبداد

 سبق أن قلنا إن ظاهرة القابلية للاستبداد التي تعرفها الدول العربية والعالمية بصفة عامة هي نتيجة لعوامل نفسية وأخرى اجتماعية-نفسية، ذلك أن للأجهزة الحاكمة دورًا في تزكية هذا الاستعداد وترسيخه، فيصبح الاستبداد مقبولاً نفسيًّا واجتماعيًّا. كيف ذلك؟

يجيبنا لابويسي بحكاية عن قورش (مؤسس الإمبراطورية الفارسية في القرن السادس ق.م) حيال الليديين عندما استولى على عاصمتهم وأسر ملكهم، حيث إنه لم يؤسس حامية عسكرية، ولم يقم بتعذيب سكان المدينة، بل ارتأى حلاً مدهشًا، أنشأ فيها مواخير وحانات وملاعب عامة، وأصدر قرارًا يلزم المواطنين بالتوجه إليها، فوجد نفسه على أحسن حال وسط تلك المدينة، حتى إنه لم يشعر من بعد بحاجة لإشهار السيف في وجه الليديين[9].

كما يثير أرسطو مسألة قدرة النظام الطغياني على بقائه واستمراره، فهو يقوم بـ"القضاء على كل تفوق يرفع رأسه، والتخلص من الرجال أولي الألباب، وحظر التعليم وكل ما يمت بصلة إلى التنور... وأن يبذر الشقاق والنميمة بين المواطنين، ويوقع الأصدقاءبعضهم في بعض، ويثير حقد الشعب على الطبقات العليا التي يجتهد في أن يفرق بينها...ويقوم كذلك بإفقار الرعايا...وهم في شغل لتحصيل قوت يومهم لا يجدون من الوقت ما فيه يتآمرون، و يقرر الحرب ليشغل بها نشاط رعاياه ويلزمهم الحاجة المستمرة إلى رئيس حربي"[10].

إن هذه الوسائل رغم قدمها لازالت قائمة اليوم مع وجود فارق كبير، حيث إن هذه الوسائل أصبحت ممأسسة، تجد شرعيتها داخل مؤسسات الدولة المنتجة لها، نشير هنا إلى أن الأنظمة الاستبدادية لا تكتفي في محاولة البقاء وإقناع الناس بضرورتها وحتمية بقائها على العنف المادي، أي من خلال علاقة السيطرة وإنما أيضًا من خلال علاقات الهيمنة كما ذهب إلى ذلك غرامشي، حيث إن استعمال أدوات السيطرة المادية، قد يفيد الدولة في إجبار المجتمع على التسليم بسلطانها السياسي، لكنها لا تملك إقناع ذلك المجتمع بشرعية ذلك السلطان؛ ففي هذه الحالة يصبح تسليم المواطنين ليس محصلة اقتناع ورضا بل نتيجة إخضاع وقهر. وهنا تظهر وظائف الإيديولوجيا في تحقيق الشرعية، عن طريق تحقيق الانتقال من استراتيجيةالإخضاع (علاقة سيطرة) إلى استراتيجية الإقناع (علاقة هيمنة)[11]. ولعل هذا ما جعل لوي ألتوسير يصنف الأجهزة الإيديولوجية للدولة إلى ثمانية أصناف: الجهاز الديني والجهاز المدرسي والجهاز العائلي، والقانوني والسياسي والنقابي والإعلامي والثقافي، وكل هذه الأجهزة تدخل في المجال الخاص، بينما ينتمي الجهاز القمعي للدولة إلى المجال العمومي[12].

إن هذا الوضع غير الطبيعي لعلاقة الحاكمين بالمحكومين يطرح سؤالاًمؤداه: كيف يمكن الانتقال من دولة ذات نظام استبدادي إلى دولة ذات نظام ديمقراطي؟ هل يكفي أن نحرر المقال نظريًّا ونضعه على رفوف المكتبات، ونستشهد به في الخطب والمواعظ؟ هل مجرد حدوث ثورة وخروج الناس للشوارع مطالبين بإسقاط النظام الاستبدادي كاف لإسقاطه؟ أم نحتاج إلىإعدادثقافي ونفسي للشعوب العربية حتى تصبح الديمقراطية ضرورية ولازمة لمواجهة القابلية للاستبداد؟

 

ثانيًا: القابلية للديمقراطية

إن مجاوزة الاستبداد والقابلية له تمر عبر طريقين لهما نفس الهدف، ولكن يختلفان حول الوسيلة، ففي تاريخ الشعوب هناك توجه أخذ بخيار الثورة، وآخر انحاز إلى خيار الإصلاح المتدرج، رغم أن كل ثورة في عمقها إصلاح، وكل إصلاح في عمقه ثورة، فالثوري الذي ينفي كل ما هو قائم ويرفض الإصلاح غالبًا ما ينتهي إلى إيديولوجية شمولية وإلى استبداد من نوع جديد. أما الإصلاح بدون عمق ثوري فقد يكون تمويهيًّا وتضليليًّا للحفاظ على الحكم، ولامتصاص نقمة الجماهير، إذ لا يمس إلا مؤسسات هامشية خارج صنع القرار، أو يكون كلاميًّا خطابيًّا لتمرير أزمة[13].

ولتغيير واقع يتسم بالاستبداد إلى واقع ديمقراطي تسود فيه قيم الحرية والكرامة والعدالة، تحتاج الشعوب إلى مجموعة من الشروط حددها عبد الرحمن الكواكبي في كتابه طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد في شروط ثلاثة[14]:

الأمة التي لا يشعر كلها أو أكثرها بآلام الاستبداد لا تستحق الحرية.

الاستبداد لا يقاوم بالشدة إنما يقاوم باللين والتدرج.

يجب قبل مقاومة الاستبداد تهيئة ماذا يستبدل به الاستبداد.

يشير الكواكبي إلى ضرورة تهيئة ما يستبدل به الاستبداد، الذي يتطلب ضرورة توفير الشروط المجتمعية والثقافية حتى نقيم نظامًا ديمقراطيًّا. إذ إن هذا النظام يجب أن ينظر إليه من ثلاث وجوه كما يذهب إلى ذلك مالك بن نبي صاحب مقولة القابلية للاستعمار:

الديمقراطية بوصفها شعورًا نحو الـ(أنا).

الديمقراطية بوصفها شعورًا نحو الآخرين.

الديمقراطية بوصفها مجموعة الشروط الاجتماعية السياسية الضرورية لتكوين هذا الشعور في الفرد وتنميته[15].

وقد ظهرت محاولة الكواكبي ومالك بن نبي في سياق عربي استعماري للإجابة على أسئلة التخلف والاستعمار والاستبداد، على غرار جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده، اللذين طرحا فكرة المستبد العادل[16]، التي ظهرت في بلاروسيا وروسيا في القرن الثامن عشر، وذلك من خلال مجلتهما العروة الوثقى، حيث اعتبر الأفغاني بأنه "لن تحيا مصر، ولا الشرق بدوله، وإماراته، إلا إذا أتاح الله لكل منهما رجلاً قويًّا عادلاً يحكمه بأهله، على غير تفرد بالقوة والسلطان"[17]. لا يعني هذا أن الأفغاني كان يدافع على الاستبداد كما هو متعارف عليه، ففي مقالة أخرى له معنونة بـ"الحكومة الاستبدادية" قال فيها إن من يساسون بالحكومة الدستورية تستيقظ فيهم الفطرة الإنسانية السليمة، التي تحفزهم للخروج من حياتهم البهيمية الوضيعة لبلوغ أقصى درجات الكمال من نير الحكومة الاستبدادية التي تثقل كواهلهم[18].

إن تحقيق الديمقراطية العربية يتطلب تضافر جهود مختلف الفاعلين من مثقفين وسياسيين وفنانين وإعلاميين واقتصاديين، حتى يمكن تأسيس ما سماه الجابري بـ"الكتلة الديمقراطية"، وما عبر عنه طارق البشري بـ"التيار الأساسي"، فالجابري يعرف الكتلة الديمقراطية[19] بقوله: "هذه الكتلة هي تاريخية ليس فقط لكون الأهداف المذكورة أهدافًا تاريخية، بل لأنها تجسيد لوفاق وطني في مرحلة تاريخية معينة. إنها ليست مجرد جبهة بين أحزاب بل هي كتلة تتكون من القوى التي لها فعل في المجتمع أو القادرة على ممارسة ذلك الفعل، ولا يستثنى منها بصورة مسبقة أي طرف من الأطراف، إلا ذلك الذي يضع نفسه خارجها وضدها. وهكذا يمكن القول، إن القوى المرشحة لهذه الكتلة في بلد مثل المغرب هي:[20]

أولاً: الفصائل المنحدرة من الحركة الوطنية والتنظيمات والمجموعات المرتبطة بها، من نقابات عمالية وحرفية وتجارية وفلاحية وجمعيات ثقافية ومهنية ونسوية.

ثانيًا: التنظيمات والتيارات التي تعرف اليوم باسم الجماعات الإسلامية التي يجب أن يفتح أمامها باب العمل السياسي المشروع، كغيرها من التنظيمات ذات الأهداف السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية الواضحة، التي لا تمس لا وحدة الوطن ولا وحدة الشعب ولا الوحدة الروحية للأمة ولا الانتماء العربي الإسلامي للبلد.

ثالثًا: القوى الاقتصادية الوطنية التي تشارك بنشاطها الصناعي والتجاري والزراعي والسياحي والمالي في خدمة اقتصاد البلاد ككل وتطويره وتنمية قدراته.

رابعًا: جميع العناصر الأخرى التي لها فاعلية في المجتمع بما في ذلك تلك التي تعمل داخل الهيئة الحاكمة، والمقتنعة بضرورة التغيير في اتجاه تحقيق الأهداف التاريخية المذكورة؛ فالكتلة التاريخية ليست جبهة معارضة لنوع قائم من الحكم ولا ضد أشخاص معينين، بل هي من أجل الأهداف الوطنية المذكورة. وهي لا تستثني من صفوفها إلا من يضع نفسه خارجها. هي لا تلغي الأحزاب ولا تقوم مقامها؛ ذلك لأن ما يجعل منها كتلة تاريخية ليس قيامها في شكل تنظيم واحد، بل انتظام الأطراف المكونة لها انتظامًا فكريًّا حول الأهداف المذكورة والعمل الموحد من أجلها.[21]

وفي السياق نفسه يدعو طارق البشري في كتابه نحو تيار أساسي للأمة، إلى ضرورة وجود تيار يمثل الإطار الجامع لقوى الجماعة والحاضن لها، وهو الذي يجمعها ويحافظ على تعددها وتنوعها في الوقت نفسه، إذ يشكل امتداد لحركة المشروع الوطني، وهو نتيجة حوار دائم، والحوار ليس مجرد عقد مؤتمرات أو إجراء ندوات في الصحف والكتب، بل هو حوار يشمل كل أشكال الالتقاء والتحاور بين الحركات السياسية ونشاطها السياسي نفسه[22].

نختم مقالتنا بكلام لأحد أعلام الفكر الغربي صاحب كتاب الديمقراطية في أمريكا، ألكسيس دي توكفيل، الذي حذر من نوع جديد للاستبداد ينبغي أن تخشاه الأمم الديمقراطية، سيكون أوسع مدى وأخف وطأة، ويحط من قيم الناس من غير أن يعذبهم. وقد تصوره دي توكفيل بهذه الملامح: "فأول شيء ندهش له هو وجود جمع غفير لا يحصى من أناس متماثلين متساوين، يسعون باستمرار وراء الحصول على ملذات صغيرة تافهة ينغمسون فيها. كل منهم يعيش منفصلاً عن الآخر كأنه غريب عن سائر الناس، لا يهتم بمصائرهم، فأطفاله وأصدقاؤه الخواص هم كل الجنس البشري في نظره، أما سائر مواطنيه فهو لا شك منهم، ولكنه لا يراهم، ويلمسهم ولكنه لا يحس بوجودهم، فهو لا يوجد إلا في نفسه، ولنفسه، فإن بقيت له أسرته، فأقل ما يمكن أن يقال عنه إنه لم يعد له وطن"[23].

 

[1]- محمد عابد الجابري، العقل السياسي العربي: محدداته وتجلياته، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الثامنة 2011، ص 465.

[2]- موريس دوفرجيه، مدخل إلى علم السياسة، ترجمة: جمال الأتاسي وسامي الدروبي، الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى 2009، ص 40.

[3]- إيتيان دو لابويسي، مقالة العبودية الطوعية، ترجمة: عبود كاسوحة، بيروت: المنظمة العربية للترجمة، الطبعة الأولى 2008، ص 168.

[4]-محمد هلال الخليفي، "جذور الاستبداد في الحياة السياسية العربية المعاصرة: قراءة تاريخية في مفهوم الاستبداد وتفسيره وآليات تكريسه"، في: الاستبداد في نظم الحكم العربية المعاصرة، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2006، ص 297- 298.

[5]- إيتيان دو لابويسي، المصدر السابق، ص146-147.

[6]- جيلين تيندر، الفكر السياسي: الأسئلة الابدية، القاهرة: الجمعية المصرية لنشر المعرفة والثقافة العالمية، الطبعة الأولى 1994، ص 158 راجعالعقد الاجتماعي لروسو:

 Jean-jacque Rousseau. Du contrat social (Paris Flammarion.1992)

[7] تيندر، المصدر السابق، انظر ملخص النظريات الثلاث أعلاه من كتاب تيرنر:158-161. راجع أيضًا: Jean-jacque Rousseau. Du contrat social (Paris Flammarion.1992)

[8]- موريس دوفرجيه، مرجع سابق، ص 42-43.

[9]- لابويسي، مرجع سابق، ص 170.

[10]- أرسطوطاليس، السياسة، ترجمة أحمد لطفي السيد، القاهرة: مطبعة دار الكتب المصرية 1947، ص 434 إلى 436.

[11]- عبد الإله بلقزيز، الدولة والمجتمع: جدلية التوحيد والانقسام في الاجتماع العربي المعاصر، بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، الطبعة الأولى 2008، ص 44.

[12]- انظر: 

Louis Althusser : Idéologie et appareil idéologie d’état. La pensée :  N° 151)juin 1970).

[13]-عزمي بشارة، في الثورة والقابلية للثورة، الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2012، ص 33.

[14]- عبد الرحمن الكواكبي، طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، القاهرة: كلمات عربية للترجمة والنشر، 2011، ص 115.

[15]- مالك بن نبي، تأملات، دمشق: دار الفكر، طبعة 2002، ص 68.

[16]- كان فولتير يقول: "أسهل على الفيلسوف أن يقنع فردًا واحدًا بضرورة الإصلاح، فيفرضه من فوق على الجميع، من أن يقنع جماعات متعددة، لكل منها مصلحتها في بقاء النظام العتيق"، انظر: عبد الله العروي، مفهوم الدولة، الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 2011، ص 176.

[17]- إمام عبد الفتاح إمام، الطاغية: دراسة فلسفية لصور الاستبداد السياسي، الكويت: عالم المعرفة، مارس 1994، ص 60.

[18]- عبد الله علي العليان، "الاسلام والاستبداد: مقاربة نقدية لمقولة المستبد العادل"، في: الاستبداد في نظم الحكم العربية المعاصرة، مرجع سابق، ص 335.

[19]- وإن كان يتحدث على المغرب إلا أنه يمكن إسقاط كلامه على بقية الدول العربية.

[20]- محمد عابد الجابري، "الكتلة التاريخية بأي معنى"، بموقع http://www.aljabriabed.net/pouvoir_usa_islam_4.htm

[21]- محمد عابد الجابري، "الكتلة التاريخية بأي معنى"، مرجع سابق.

[22]- طارق البشري، نحو تيار أساسي للأمة، مركز الجزيرة للدراسات، الطبعة الأولى 2008، ص 13-14.

[23]- ألكسيس دي توكفيل، الديمقراطية في أمريكا، الجزء الأول والثاني، عالم الكتب، الطبعة الرابعة 2004، ص 709.

شارك :

التعليقات (0)

أضف تعليق