الديمقراطية هي الأصل

طباعة 2018-04-22
الديمقراطية هي الأصل

البحث عن الحل الديمقراطي ليس تشوقا للفظ، ولا تعلقا بشعار، ولا اتباعا لغالب ولا حنينا إلى تاريخ، بل هو البحث عن العدل والمشاركة في المسؤولية، والخلاص من تحكم الفرد في الرقاب والمصائر والثروات، إنه البحث عمّا يُشعر الإنسان بالعدل والمساواة والكرامة الإنسانية. ونداء العقل أو الفطرة يثبته التاريخ، وهذا ما يتحدث عنه هذا البحث، والتاريخ معرض عظيم ممتد عبر القرون والجغرافيا يدلنا على خبرة الإنسان ويكشف لنا همومه وسلوكه وتدبير أموره، وبحثه الدائب عن الفضيلة وعن الحق في العدل والمساواة في الفرص، وحقه في قول رأيه وإسماعه للجميع، قولا متحرّرًا من الخوف ومن العبث، وطاعة في الخير، واستنكارًا من غير جفاء، ليصل الناس إلى خير ما ينفعهم ويجلب مصالحهم، ويختاروا من الأشخاص أكفأهم، وهذا ما تهدي إليه الفطر السليمة، وإن غابت زمنًا فليست غيبتها حجة؛ بل الحنين للخير والحق وتطبيقه أحيانا هو الحجة والمطلب، وهنا تتبع لبعض هذا في هذا النص.

فما أقرب النظم لهذا الإنسان السويّ؟ إن رصيد التاريخ ورحلة الإنسان التي عرفنا عنها تقول لنا: إن الديمقراطية هي أبرز الصور لهذا الشوق للعدل والمساواة ما بين مجموعة أو طبقة وأحيانا أمة، وأقرب لها. والديمقراطية هي أقدم نظم المجتمعات البشرية بعد نظام الأسرة؛ فقد بذل الفلاسفة جهدًا لاكتشاف أصل الدولة، والعلاقة بينها وبين الأسرة، وبقي كثيرون في الشرق يرون في الحاكم رب الأسرة الواحدة الأكبر، وبعض حكام العرب مثل حسني مبارك تعامل مع الشعب كأب وأعلنها لهم مطالبًا بحق الأب منهم، مع أن الأسرة وثقافتها تصطدم مع فكرة الدولة، بل كما يرى برتراند رسّل أنهما مؤسستان متشاحنتان، وربما فقط في العائلات الحاكمة تبدوان متفقتين، وفي الصين واليابان والمكسيك والبيرو كانت الفكرة أن الأمة عائلة وأن الملك كبير هذه الأمة العائلة، ويرون مصدر قوة الدولة من هذا المفهوم. ويشير رسّل إلى أن "الفكرة التي جعلت الناس مخلصين كانت لحد ما الوقار الديني، وجزئيًا الاحترام لرئيس العائلة، وكانت الدولة غير الشخصية من اختراع اليونان والرومان وخاصة الأخيرة"، ويرى "أن بروتوس الأكبر ضحى بأولاده من أجل الصالح العام"[1]. وهنا يبدو رسّل، في التأريخ للدولة، ممثلًا مخلصًا واعيًا أو غير واع لمفهوم المركزية الأوروبية في تفسير سياسة وثقافة العالم. وقد تبين في دراسات كثيرة اليوم مدى بعد هذه المفاهيم الغربية عن الحقيقة التاريخية لمسيرة الإنسان السياسية. وقد بنى الدارسون نظريات عديدة لأصل تكوين هذه الدولة، وللموقف الأصلي من البحث عن تأريخ الإنسان علاقة وثقى بهذه النظريات، والتفسيرين الديني واللاديني المشتبكين في كل شيء منذ عصور، ونحن في هذا السياق لم نحاول أن نهتم بهذه المسألة، وما له تفصيل في دراسات الدولة ليس موضوعنا هنا.

لأن الدولة في الواقع استمرار أسرة أكبر من الصغيرة، وربما سبقتها أفكار فطرية كفكرة التحرر من القيود التي طُوّرت إلى ما يسمى ليبرالية تاليًا، ولكن الديمقراطية سبقت من حيث التنظيم الأفكار الأخرى؛ لأن التنظيم والتقنين حاجة يصنعها التزاحم في المنافع والمساكن والمزارع، فالتنظيم هو الجواب على الاحتجاج غير المنظم، ولو قلنا بعدمها فإنّا نلزم الإنسان بوحشية المجتمع الحيواني، حيث القوة هي الحل والمقياس للنفوذ، وبهذا نضعف فكرة تكريم الإنسان، وما كرامته إذا كان مسحوقًا دائمًا تحت القوة والعرق؟ والتكريم واضح في ارتفاع فطرته عن الكائنات، وليس هذا أمرًا مخصوصًا بالتكريم بالدين، بل التكريم بجنسه كما هو مشاهد ومعقول في تجارب البشرية، وكما في عموم النصوص القرآنية: "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ "(الإسراء، 70)، وفي الأحاديث النبوية: "كلكم لآدم وآدم من تراب"[2].

وعندما تبحث في فطرة البشر السوية تجدها تجنح نحو المساواة في الحقوق والواجبات، ويوم تخالف تلح على مبرر، ونتاجها قرار جماعيّ، أو أغلبيّة تحدّد مرادات ومصالح المجموع، سواء كان التمثيل بالحضور المباشر، أو عبر ممثلين ينوبون عن الغالبية أو عن الكل. وتبحث في أخبار البشرية وعاداتها ونظم حياتها فتجد الإقطاع والهيمنة والتحكم عارضًا في حياة البشر أو كريهًا محروبًا، وإن طال أمده، والفطرة تُضادُّه وتتجه إلى النظام الديمقراطي أو ما يقاربه، سواءً في قرية نائية أو في حاضرة عامرة. وكذا تجد أن هذه الفطرة هي العقلية التي بنيت عليها الشريعة؛ يقول الطاهر بن عاشور: "فصل: ابتناء مقاصد الشريعة على وصف الشريعة الإسلامية الأعظم وهو الفطرة... فوصف الإسلام بأنه الفطرة معناه: أنه فطرة عقلية؛ لأن الإسلام عقائد وتشريعات، وكلها أمور عقلية، أو جارية على وفق ما يدركه العقل ويشهد به"[3]. وقد شهد العقل والفطرة على سلامة نظام الاختيار الحُرّ، وحتى في أحلك الظروف وفي جبهات الحروب "أشيروا علي أيها الناس" طلبها الرسول، صلى الله عليه وسلم، ثلاثا من أصحابه في بدر. فالتداول في القرار وقدح الأفكار وبالتالي المشاركة في المسؤولية المقررة جماعيا صنعت مجتمعات مستقرة، وثقة عامة قديمًا وحاضرًا، وكما تشهد تطلّعات الناس مستقبلًا.

فمن المناسب عرض جوانب مما وصلَنا تاريخيا، أو لحق به الإنسان من بقايا مجتمعات سويّة، لم تخضع لفساد الاستبداد الفرعوني أو الحجّاجي (نسبة إلى الحجاج بن يوسف)، وهذا موضوع خدمنا في تجليته باحثون من شتى الأمم، تتبعوا المجتمعات البشرية التي لم ترهقها تقاليد الاستعباد والانحراف عن الحرية ولا عن الفطرة السوية، التي أبقت الإنسان في مجتمع فوق التوحش ودون تعقيد الاستبداد. والمجتمع العربي الذي نزل فيه الوحي، واختير مكانه وزمانه لبعث مدنيّة مجتمع حرّ متساوٍ، نظيف من قاذورات الاستبداد؛ فقد كانت النفوس فيه حرّة، وكان الحكم لملأ من عقلاء الناس، أعادوا نمطه في المدينة، وبقي للعقلاء صوتهم، وللرجال وللنساء رأيهم، فكان الإنسان حرا سويًّا قادرًا على الفعل لنفسه وللناس. وللأسف، كأي سلوك إنساني لم ينتج المجتمع ضمانات صارمة لمنع فساده وانجرافه لدكتاتورية أقلية أو فرد، ولكن بقيت المساواة في حق القرار ممارسة وتطلُّعا وهمًّا للبشرية أن تحققه.

 

نجد في نظم الحكم القديمة في الجزيرة العربية قبل الإسلام مجتمعات تقيم حكمًا يلتزم برأي ما كان يعرف بالأقيال، واحدهم "قَيْل"، وهم ما يشبه أعضاء مجالس الشورى أو البرلمانات في زماننا، وكانوا يشكّلون قرابة ثمانين قَيلًا في بعض مراحل تاريخ اليمن، وقد وجّه الرسولُ (صلى الله عليه وسلم) إليهم رسالةً وفيها: "من محمد رسول الله إلى الأقيال العباهلة"[4] أو الأقوال العباهلة. ووَصفُ "قيل" وجمعه "أقيلا" تعرّض لتحولات تاريخية حتى أصبح الملك الواحد يسمى "قيلًا"، وسمي أعضاء هذه المجالس "المسود" وتضاف أحيانًا إلى ألقابهم، يقول جواد علي: "وكانت هذه الهيئات نقابات في الواقع تألفت من جماعة اتحدت مصلحتها"[5]. وقد تطوّر هذا اللقب في حِقَب مختلفة، ومواقع أخرى؛ لأن عرب الشمال استخدموا الاسم نفسه أو وصفًا مقاربًا، وكان وصفًا استخدم أيضًا لمن هو دون الملك. وفي همدان كان هؤلاء الأقيال هم من يقيمون أو يعيّنون الملك، وكان هناك مجلس استشاري عند بعضهم -ولم يصلنا تفصيلٌ لمهمات هذه المجالس-يسمّى العضو من أعضائه "مسود" ويوصف بـ "المسود المنيع"، أو "المسود المعظم"، وهو "العلي الشأن" في مجلس اللحيانيين في حضارتهم، وقد يكون لقب العضو منهم "أسود"[6] تمييزًا لهم عن غيرهم، وهو لقب يلحقون به أسماءهم. يتكون المجلس من وجوه الناس وسادتهم، وكانوا يُستشارون في إصدار القوانين؛ حتى لا يقع اعتراض ولا تذمّر. وقد قالت ملكة سبأ كما ورد في القرآن: {مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّىٰ تَشْهَدُونِ} (النمل، 32). والتاريخ واللفظ يوحيان بأنها استشارت؛ لأنها ملزمة لا لأنها قامت بالأمر متفضلة عليهم، فكان مجتمعهم ناضجًا لا يترك أمر حربه وسلمه وعلاقاته وعقائده لمزاج فرد. وتحدث الهمداني عن هذه المجالس، وأنها مجلس من مجالس الأقيال ينظر في أمور الملك، وجاءت نصوص عن مجالس أخرى مكوّنة من ثمانية أشخاص. كما وجدت مجالس أخرى كمجالس البلدية تدير المدن. ولما ضعف دورها وجد في القرن الثالث بعد الميلاد ملك دون هذه المجالس، وسمي: "ملك سبأ وذو ريدان وحضرموت واليمن وأعرابهم في الهضاب والتهائم"[7]، ووجد عند السبئيين مجلس كان يدعى: "مسخنن"، وكان بعض رجال الدين يشاركون في بعض هذه المجالس، ويلقّب أحدهم بـ "رشو" و"شوع"[8].

وقد سبقت الديمقراطية في حكم مجتمع أوروبا الشمالية قبل الهيمنة الرومانية، وألغى الفاتحون الرومان ما كان يعرف بالتيتونية القديمة في النرويج والدنمرك وآيسلندا[9]. علمًا أن الرومان لم يستخدموا وصف الديمقراطية لوصف نظام حكمهم ولا لتقييمه[10]. وكان يصعب دائمًا على مثقَّفي المجتمعات الغربية أن يقبلوا بمجتمعات بشرية منظمة غيرهم، قد حكمتهم نظم ديمقراطية، فقد درجوا على وصم غيرهم من الشعوب بالاستبداد والديكتاتورية. فكيف بغربيين بمثل هذه العقلية هائمين على سفينة "باندورا" في البحار الجنوبية، فيجدون جزيرة صغيرة من جزر فيجي يحكمها نظام انتخابي عبر انتخاب زعيم كل ستة أشهر، ويمكن التمديد له إلى عشرين شهرًا[11]؟

أما في أمريكا الشمالية، فالمهاجرون الأولون الهاربون من بريطانيا من جور حكومتها وملوكها، أو من جور دينها أو فقرها، أسسوا ما يشبه جمهورية ديمقراطية عام 1639م في هارتفورد والمناطق المجاورة لها من قرى زراعية على نهر كونكتكت (في الولايات المتحدة)، ووضعوا قوانين حذرة من التسلط، وتكفل حق التمثيل والاقتراع لجميع الرجال الأحرار، ولم يذكروا علاقة بالملكية في بريطانيا.

والسؤال: هل هذا النموذج الديمُقراطي المبكّر في هارتفود كان إنجاز مهاجرين أتقياء، تحرّكهم المساواة الدينية-كما رأى هذا عدد من مراقبي الديمقراطية الأمريكية مثل برتراند راسل وتوكفيل[12]-أم تأثروا بالديمقراطية اليونانية والأفكار الصاعدة في أوروبا، أم هو تأثر بنمط الحكم عند الهنود الحمر؟ فقد كانت للهنود الحمر أنماطهم للحكم قبل قدوم المهاجرين الأوروبيين، وهناك من يؤكد، كما سنرى، أسبقية وتأثير نظم الانتخاب عند السكان الأصليين على الديمقراطية الأمريكية التي أسسها المحتلون.

من المؤرخين الأمريكيين، كـ"لويس مورجان" و"ويليم بوتشامب"، من يرى أن فكرة الاتحاد بين الولايات الأمريكية، وصياغة الصلاحيات المحلية لكل ولاية والتصويت فيها كان مستفادًا من اتحادات قبائل الهنود الحمر، وكذا استفادوا من طرائقهم في الاقتراع، وتحديد صلاحيات الزعماء، والاحتياط ضد الانقلاب العسكري، وحصر إعلان الحرب ليكون فقط من صلاحيات المجلس، وهي من دعامات الديمقراطية الحديثة. وكانت هذه القبائل المتحدة إذا أخضعت قبائل أخرى أبقت لها بعض الصلاحيات المحلية، وأبقت الزعماء المحليين للقبيلة، مثل قبيلة ديلاوير. وقد استفادت بريطانيا من هذا الأسلوب في إدارة مستعمراتها في آسيا وإفريقيا، غير أن هذا الاتحاد -بين القبائل الهندية-لم يكن يُلزم بدفع ضرائب؛ ولهذا لم يستطع إقامة الشرطة ولا تكوين جهاز يُلزم بتنفيذ قراراته الداخلية، فهو فقط يلزم بسياسة الحرب والسلم مع الخارج، فكان أشبه بالأمم المتحدة اليوم[13]، حيث كانت بعض القبائل تنتخب مجلسًا لقيادتها من ستة رجال وست نساء[14]. يقول مانغلابوس أنه قابل في عام 1983م سيدة من الهنود الحمر معمّرة في الخامسة والتسعين من عمرها، وتذكر أنها كانت تنتخب في مجلس القبيلة. واستمر هذا التنظيم عند الهنود الحمر في أمريكا الشمالية إلى أواسط القرن العشرين، وكان عند قبائل الإيروكو من الهنود الحمر (مؤلّفة من ست قبائل، وكل قبيلة مكونة من ثمان عشائر)، نظام انتخاب لمن يسمونه بلغتهم الـ "ساخيم-ساكيم" (قريبة من كلمة: "الزعيم")، حيث كانت مجالسهم مشكّلة من الرجال والنساء، أو من مجالس للرجال وأخرى للنساء، وبعضهم يزعم الهيمنة غير العادلة للنساء على هذه السلطة، حيث لم يكنّ يحكمن، ولكن كان بأيديهن توجيه ثلاثة تحذيرات شديدة اللهجة للساخيم، ثم يعزل بعدها، ويعطى المنصب لمرشح جديد. وتعتبر هذه الديمقراطية لقبائل الإيروكو ديمقراطية تمييز جنسي ضد الرجال، ويقال إن "السخماء" ينتخبون بالتبادل مرة رجلًا ومرة امرأة (إلا ما يتعلق بإدارة الحرب)، وأحيانًا كان لهن حق اختيار من يخطب في المجلس من الرجال نيابة عنهن إن احتجن إليه. وتذكر بعض المصادر عن اتحاد قبلي بين الهنود: كانت النساء -خاصة الأمهات والقادرات على الزواج-لهن حق تقليدي في عقد المجالس المتعلقة بالترشيح لمنصبَي الساخيم ونائبه، وكان للأمّهات فقط حق تسميتهم، ولهن كذلك صياغة مقترحات المجلس القبلي، وإلزامه بتصويت الشعب كله، وكنّ يصوتن أيضًا نيابة عن أطفالهن، ومن حق الجميع الحديث في هذه المجالس، وأحيانًا تنسحب كل مجموعة للتشاور ثم تعود للمجلس، وغالبًا ما تتخذ القرارات بالإجماع. وقد وصف أحد المؤرخين طريقة مداولات تلك المجالس وصفًا دقيقًا منذ بدايات القرن التاسع عشر (1820م).

فمن قوانين هذه القبيلة مراعاة خصوصية العشيرة عن القبيلة فيما يأتي:

  1. حق انتخاب السخماء.
  2. حق عزل السخماء.
  3. عدم التزاوج بين العشيرة.
  4. حقوق مشتركة في الميراث.
  5. واجبات تبدُّل المساعدة والدفاع والتعويض عن الأضرار.
  6. حق إطلاق الأسماء على أعضاء العشيرة.
  7. حق تبنّي الغرباء في العشيرة.
  8. الطقوس الدينية مشتركة.
  9. مقبرة مشتركة.
  10. مجلس العشيرة[15].

لم يكن السخماء يزعمون فوقيتهم على غيرهم ممن انتخبهم، فحقوق الجميع متساوية، وعلى الرغم من أن بعضهم كان ينتخب السخيم اللاحق من أقارب السخيم السابق، إلا أن للعشيرة حق الاعتراض والعزل بسبب سوء التصرف أو ضعف الثقة، وقد تميّز هذا الاتحاد بما يأتي:

  1. امتلاك اسمٍ وأرض.
  2. امتلاك حصري للغة.
  3. حق تقليد السخماء.
  4. حق عزل السخماء.
  5. وجود دين لهذا الاتحاد.
  6. حكومة عليا مشكّلة من مجلس السخماء.
  7. تعيين كبير رؤساء السخماء أحيانًا[16].

وقد صُدم الأوروبيون وهم يحاولون وصف المجتمعات البدائية التي واجهوها في مناطق معزولة عن العالم، مثل: غينيا الجديدة (شمالًا عن أستراليا وشرقي إندونيسيا) والماوريين في نيوزيلندا[17]، فقد وجدوا فيها نظامًا "شيوعيًا ديمقراطيًا دينيًا" كما وصفوه، أما وصفه بالشيوعية؛ فبسبب أنهم أعطوا أولوية للجماعة على الفرد. ووصفه بالديمقراطية؛ فلأنهم كانوا يُجرون مناقشات عامة لكل قضاياهم. وأما الصفة الدينية؛ فلأنهم كانوا يقدّسون نظامهم ويرونه منحة إلهية، والآلهة هي من يحفظ لهم نظامهم ويخلّده في نفوسهم، وذلك بعكس الحكومات الغربية التي تعتمد القوة لفرض القانون، فإن شعوب العالم كانت تحرس القانون بدينها أو عرفها. وقد أدركت حكومة نيوزيلندا أخيرًا أهمية دور مجالس الماوري في نقاش القضايا الحرجة التي تمسّ الحياة اليومية للناس، حيث كانوا، قبل الاحتلال الغربي، يديرون حياتهم الاجتماعية والسياسية في "الماراي" -وهو ميدان للاجتماع والضيافة والنقاش والاحتفال والعزاء والتجهيز للحرب-[18]تمامًا كما في مناطق مختلفة من العالم؛ "حيث كان الفلاحون يحرثون رقعًا من أرضهم بتساوٍ تقريبي، ويلتقون للاقتراع مباشرة تحت شجرة في القرية... الحكم الذاتي الأكثر نزاهة للإنسان"[19]. ولعل في قول مانغلابوس مبالغة في قصة التساوي، فالحقيقة أنه إلى اليوم -رغم سيادتهم المنقوصة-ما زال السكان في أغلب المجتمعات قديمة التنظيم متفاوتين في مساحات أرضهم، ولكنهم يقترعون ويناقشون قضاياهم بشعور من مساواة أو بقية مساواة، وإن كان قد بدأ الأذى الطبقي الحديث يؤذي بنيتهم، وصنع لهم طبقيات، وكنّا قد أدركناهم في مجالسهم يقدّسون ذا السن ويقدّرون ذا الحكمة، قبل أن تختطف منهم الطبقية المالية وأتباع السلطة[20]، وتمزّق مساواتهم ونظامهم.

الديمقراطية نزعة فطرية تمارسها المجتمعات الإنسانية، وكنت قد نشأتُ في مجتمع قبلي، حيث كان شيخ القبيلة الذي يختارونه من دون وراثة يطلب منهم البقاء في ساحة المسجد بعد صلاة الجمعة، ثم يذكر لهم الموضوع الذي يريد، بدءاً من حماية الأشجار وما يسمّونه "العِمر"، إلى أكبر مشكلة تحدث، فيبدأ كبار السن من ذوي الرأي، وكلهم يقول ويحاول أن يُقنِع بما يراه، وينتقل القول بينهم حتى إذا أسدّوا -أي وجدوا رأيًا سديدًا-اعتمدوه. وأعرف أن قبائل السراة تعقد اجتماعها هذا غالبًا أسبوعيًا، وفي بعض المعضلات التي لا يستطيعون نشر سرّها يكتفون بنخبة من كبار الأسر "أهل الشُّور-أي الرأي" كما في قصيدة القرقاح "وأنا من الخبرة اللي شورهم عالي". وقصة الخُبرة عرف سائد في المجتمعات الإنسانية لا يختلف فيه اثنان، وإذا طالت المعضلة عينوا لها من يسدّ أمرها، وهي فكرة دار الندوة قبل الإسلام، ولم ينكرها وإن أنكر بعض محتواها، ولكن نفّذها الصحابة في سقيفة بني ساعدة وكان أخطر قرار، فقد قدم كل حجته، ثم صوتوّا على القرار المناسب، حتى إن حديث الأئمة من قريش[21] لم يكن نصًا معروفًا وقت الحاجة إليه في السقيفة. وهنا لعل أحدهم يقول: ما هذا؟! أيربط تصرفات الصحابة بعادات الجاهلية؟ فالجواب: نعم؛ لم ينخلع المجتمع الإسلامي من كل ما سبقه، وخاصة ما كان من فضائله، وأهمها الفضائل في الإدارة، أما كلام "سيد قطب" بأن كل شيء قد تم خلعه على باب الإسلام، فخيال لا يمكن تحقيقه في مجتمع بشري[22]. فالناس يحملون معهم حقًا وباطلًا إلى أي دين يدخلونه، ولم ينكر الإسلام الكرم، ولا الشجاعة، ولا الطواف بالبيت، ولا الشورى، ولا طريقة البحث عن الرأي السديد، فقد شاور الرسول (صلى الله عليه وسلم) وناقش، وعرض رأيه، ورُفض رأيه وطُبّق قول الغالبية في أُحُد وفي الخندق مثلًا، وذلك هو عُرف المجتمع العربي وطريقة إدارة الحكم في حكومة الملأ في مكة. وتعامل مع مسألة التشاور للوصول إلى تنصيب الحاكم بطريقة الشورى الراسخة في المجتمع العربي، ومنه أعراف مجتمع مكة بما في ذلك دار الندوة، ولم تكن ثقافة غريبة على سكان المدينة النبوية جريًا على ما سبق لهم قبل الإسلام، أو على طريقة الرسول (صلى الله عليه وسلم) في المشاورة.

وتحتاج الديمقراطية دائمًا إلى تحسين وتشذيب، وكل دراسة وإعادة نظر في سيرة الخلافة الراشدة تقول لك: كانت الخلافة تسير في الطريق إلى الديمقراطية، تبحث عنها أو عن أحسن ما يمكن للفرد أن يحققه، ولمّا تكتمل هذه الصورة، صورة أن الديمقراطية هي نظام الفطرة- وهي ما كان يبحث عنه الراشدون- وأشار إليه ابن رشد في تعليقه على فقدان المسلمين لما أسماه بالحكومة الفاضلة، وهو يعني الراشدة، وتحوّلها لمن يدوس الناس بحثًا عن مجده الشخصي وكرامته، وسمى حكومة الفرد بـ"سياسة الكرامة"، يقول "وأنت تقف على الذي قاله أفلاطون في تحوّل السياسة الفاضلة إلى سياسة الكرامية من سياسة العرب في الزمن القديم، لأنهم حاكوا السياسة الفاضلة ثم تحولوا عنها أيام معاوية إلى الكرامية، ويشبه أن يكون الأمر كذلك في السياسة الموجودة اليوم في هذه الجزر"[23].

والذي يبدو لي أن الأمم في أصل فطرتها السليمة تنتهج صورة من النهج الديمقراطي، ثم يطغى عليها، في ظروف تعقيدها وتقدُّمها وحروبها، ضعف دوافع الحرية عندها بسبب سقوطها تحت مطارق الحرب والمال والفساد إلى الخضوع للمتنفذين المستبدين. لكنها في حال تعالي حريتها واستقرارها تعاود مرة أخرى سؤال الاختيار والديمقراطية، وكأن الناس يجدون في الديمقراطية، كما يتضح من استعراضنا لتاريخ المسلمين وغيرهم، أصل الفطرة والعزة والمراعاة لأصل الاختيار والفضيلة. وعندما تقع عليها الأخطار وتتغلب الشهوات ويفسد الإنسان تحت شهوة القوة أو الفساد أو غيظ الحرب والانتقام، كما في روسيا الشيوعية وألمانيا النازية، فإن إنسانيته تتراجع ويقبل بسيطرة المستبد وتقلّ محاسبته بحجج الحرب والدفاع عن الأمن والاستقرار، ويبقي المستبد شبح الخوف والصراع والتنازع الداخلي ضامنًا لبقاء استبداده، ويحرص على ترويع الناس من أنفسهم، ويصنع التوازن الذي يجعل المجتمع مروعًا خائفًا في غيابه وغياب تفرّده. وقد رأى العرب في عصرنا كيف حكم المستبدون مجتمعاتهم بهذا السلاح سلاح التخويف، خوفًا من الصهاينة، أو خوفًا من المستعمرين أو خوفًا من إيران، أو خوفًا من الأقليات، بل يُرهبون مجتمعهم ويتاجرون للغرب بالتخويف من الإسلاميين، وكان هذا سلاح هتلر وستالين وأمثالهما، بل حتى المستغلين للمجتمعات الديمقراطية الغربية؛ فنجد بوش الابن عبث بفكرة التخويف من العراق والحرب والإسلام ليستبد بحكم أربع سنين أخرى بعد الأربع الأولى، وساق المجتمع بسلاح الخوف والحرب؛ لأن الضمير الإنساني ينام في زمن الخوف والحروب والترويع من قوى تهدده.

ويؤيد وجهة النظر هذه التي نسوقها أن المجتمعات الفطرية ذات العدالة والحرية والتقارب الاقتصادي مجتمعات ديمقراطية جدًا، ويستوي فيها مجتمع المهاجرين المؤمنين ومجتمع العرب البسيط الذي لا يقبل بالتعالي، وما يسميه ابن رشد "سياسة الكرامة"؛ لذا "يندر أن يوجد في أمة بسيطة"[24]، فهناك مجتمع بغاة وطغاة المال الذين يبحثون عن المجد والكرامة الفردية، ويستغلون تعقيد المجتمع، وهذه مرحلة نسميها مرحلة فساد بين مجتمعين، مجتمع على فطرته، ومجتمع يستعيد فطرته ومساواته وحريته، فالاستبداد خلل بين صوابين؛ بين ماض فطري سوي وتطلع دائم له يوم يخبو.

تحدثنا الألواح السومرية المصنوعة من الصلصال والغنية بالأخبار، التي اشتملت على قاموس لغوي فيه أكثر من ثلاثة آلاف كلمة عن نظام سياسي نسميه الآن "ديمقراطي"؛ لأن التجربة الأثينية غلبت بحكم المركزية الغربية بل الأوروبية، كما يعترفون في كتابة التاريخ البشري وتفسيره، فلم تعد عند الأمم المغلوبة حتى كلمات تصف النظم، ولا تبقي تسمياتها، وبسبب آخر مهم: هو الكمية الهائلة من المعلومات الباقية عن اليونان ونظامهم، وهذا لا ينطبق على الشرقيين بحكم ندرة وتقادم نصوص تراثهم قبل اليونان، وبسبب الوفرة فيما ترك اليونان من نصوص مكتوبة، فمثلا في موقع أثري يوناني يدعى (أجورا) وجد الآثاريون ما يزيد على 7500 نقش، من معاهدات وقوانين وقوائم مشتريات، وحسابات مبانٍ، ونصوص تكريم وإهداءات وقوائم تصويت، وحدود عقارات وغيرها. وأنفقت الجمعيات الثقافية والمؤسسات التعليمية الغربية أوقاتا وأموالا طائلة، وأنفق أساتذة جامعات وباحثون أعمارًا في تلك الآثار ينقبون ويجمعون ويترجمون وينشرون، ومن أنشط هذه الجمعيات المدرسة الأمريكية للدراسات الكلاسيكية في أثينا منذ 1930[25]. فالمعلومات الباقية من نظام أثينا زاخرة وتفصيلية بطريقة غريبة، تكاد لا تبلغها بعض الحكومات في قرننا هذا.

وهناك سبب آخر لوفرة المعلومات عن أثينا وقلتها عن نظم الشرق، هو أن المناخ فيه كان أقسى على الآثار منه في جنوب أوروبا، ثم طبيعة الأرض، وأيضا قيام حضارة فوق أخرى على نفس المواقع في الشرق، وكثيرًا ما ينقب علماء الآثار الشرقيون معتمدين طريقة الطبقات الثرية في الموقع الواحد، كل حضارة تقع تحت الأخرى بضعة أمتار. وقد أدّى كثرة الغبار الذي يدفن هذه المواقع والحر الشديد إلى تحلل الآثار ومعاناة الآثاريين في الشرق العربي، ثم السرقات والفساد وضعف تنبه المعاصرين لقيمة الآثار. فعلى سبيل المثال، تبنى بآثار اليمن الآن بيوت حديثة. ومع هذا فإن خرائط الديمقراطية في الفترة اليونانية تتناثر (وتحفظ) على عدة مواقع من شواطئ المتوسط الشمالية، في اليونان وإيطاليا والساحل الليبي وجنوب البحر الأسود[26]. وقد سُبقت أثينا نفسها بجيل أو أكثر بوجود ديمقراطية موثقة في آسيا الصغرى "تركيا اليوم" في مدينة هيراكليا (Heraclea) نحو 650 قبل الميلاد، حيث وجدت وثائق انتخابية لبعض مجالسها العليا، وأيضا في مستعمرة يونانية في الجبل الأخضر في ليبيا مدينة (قورينة أو سيرين) المعروفة اليوم بـ(شحّات)، سبق أن قامت بها حكومة ديمقراطية نحو سنة 555 ق.م. وأيضا في مدينة أمبراسيا ما بين 650-625 ق.م، قبل ديموقراطية أثينا، ولكن في منطقة أقرب وفي مدن أخرى خلال القرنين السادس والسابع قبل ميلاد المسيح، حيث نقلت الوثائق وجود مجالس عامة تصدر المواقف عنها. وكثيراً ما كانت تقوم الديمقراطيات هذه على أثر هزيمة عسكرية أو خلع ديكتاتور فاسد[27].

وتلك التجربة الديمقراطية دفعت الآخرين لتجربة نظم منتخبة دون وجود ديكتاتور يحكمها، وسيطر العامة على نظم الحكم بعد هذه الحادثة، وقلدها كثير من المدن اليونانية، وقامت أيضا ديمقراطية في صقلية سنة 491 ق.م، وجنوب إيطاليا، وهذه النماذج هي التي أنجبت فيما بعد ما عرف بالديمقراطية الأثينية، وكانت ثورات على حكومات الأقلية، وعلى هيمنة الأغنياء الأرستقراطيين، وتحمّل التجار الصغار وملّاك الأراضي الفلاحية الصغيرة عبئاً كبيرًا من هذا التغيير، وشكلوا التجمعات العامة للناس، وأقاموا الديمقراطيات التي نالت إعجاب أرسطو. وفي بعض هذه المدن التي تحولت إلى الديمقراطية مناطق حكمها الفقراء وربما بعضهم كانوا عبيداً، مزارعين في أرض يونانية، وكان بعض هؤلاء فقراء جداً نقل بأنهم كانوا من العراة[28].

شحات وهيراكليا من المناطق الأقرب للشرق، وتصلح أيضًا أن تكون مما يدلل عليه المؤرخون على الانتقال الديمقراطي من الشرق إلى الغرب. ومع هذا فهي فترة تالية ومتأخرة جداً عن التجارب الديمقراطية الشرقية. وعلى الرغم من هذه الظروف المناخية والحضارية فقد بقيت ألواح سومرية طينية غنية بتسجيل تراث العراق، أو ما سمي بتسمية العهد القديم بـ "ما بين النهرين"، ومما أوردته هذه الألواح المحفوظة إلى اليوم عن الديمقراطية في العراق، خبر النظام السياسي الذي ساد تلك المنطقة، خاصة مدينة "إيبلا" التي كان عدد سكانها ثلاثين ألفا، منهم اثنا عشر ألف موظف، ويديرون مملكة يزيد سكانها على مائتين وخمسين ألفاً. هذه المملكة كان فيها نظام حكم ديمقراطي، حيث كان الملك ينتخب لمدة سبع سنوات، ويتقاسم السلطة مع مجلس من كبار السن، وإن لم تُقبَل إعادة انتخابه يتقاعد ويعطى منحة من الحكومة لتقاعده.

تتجاوز هذه الديمقراطية المكتوبة نظامي الحكم الديمقراطي الأمريكي والسويسري بميزة أخرى؛ وهي مساواة الرجال والنساء في هذه الحكومات، حيث لم تنل المرأة حق الاقتراع في سويسرا مثلاً إلا عام 1971م، وإلى منتصف الثمانينيات لم تكن بعض المقاطعات السويسرية تسمح لهن، بينما قبل الميلاد بألفين وخمسمائة عام تتحدث وثائق العراق عن المجلس: "جمعية الأرباب"، وعن امرأة تخطب فيه يتجاوز أثرها في الخطابة الرجال الحاضرين[29]. وفي العراق القديم وجدت الديمقراطية ذات المجلسين، مجلس للحكماء أو كبار السن، ومجلس آخر للشباب، أو لحاملي السلاح، وهذه أول تجربة معروفة في العالم لهذا النمط من توزيع الصلاحيات وتعميم الخبرات[30].

ليس هناك من جدل حول وجود مجالس الشورى أو النيابة في العراق القديم منذ أكثر من خمسة آلاف عام، بمستويات أقل أو أحسن من المستوى السابق فقد كانت منتشرة، وتسمى باللفظ العربي "بيت"، ويطلق على الشيبان المسنين أعضائها "شيبتو"، ولكن نقاش المؤرخين في تفصيلات ذلك، ووجودها لأزمان طويلة؛ فالنصوص المتقطعة ومن مواقع مختلفة تتحدث عن هذه المجالس، وأنواعها، وربما عن مشاركات النساء في بعضها ولوم إحداهن أن كشفت بعض المدلولات للناس، ونصوص أخرى لا توحي بمكانة لهن في بعض المجالس والمناطق[31]. ويبلغ بأحد دارسي تاريخ ذلك الزمن أن يقول: "حوالي عام 3000 قبل الميلاد اجتمع أول برلمان نعرفه...في جلسة علنية مشهودة كان يتكون مثل برلماناتنا الحديثة من مجلسين، مجلس للشيوخ أو مجلس كبار، ومجلس دونه يتكون من كل المواطنين القادرين على حمل السلاح"[32].

أما عن الدساتير القديمة فتتحدث المؤرخة إيف شميل عن دساتير في ديمقراطيات الشرق القديم كما تصفها، دساتير تحد من دكتاتورية الحكام، ونصوص تعترض على أحد الملوك الذي منع الجمعية من الانعقاد، ونصوص أخرى مصرية تسخر في مصر من حاكم يترك التداول فهو " يتداول الأمر مع قلبه!". وفي مصر أيضا هناك مجلس العشرة عند "رع"، وهناك نصوص عن مجالس أخرى لا تعقد إلا بطلب من الملك. وكان الشيوخ يعترضون ويمنعون قرارات الملوك أحيانا عند الفينيقيين والأناضوليين، والملك الآشوري "شمسي أداد" يمنع ابنه من فرض ضريبة لأنه سيثير الناس ضد شيوخهم الشرعيين، الذين كانوا يدافعون عن حقوق المواطنين الأحرار. ونجد برلمانات عراقية أخرى تختلف مع ملوكها، ونزاع سلطات بين البرلمان والملك، وفي مصر الفرعونية كانوا مولعين بكثرة المجالس، وكانت هناك مجالس تشاورية عديدة، حتى عند المأمورين والأقل شأناً فضلاً عن الملوك، ونقلت التوراة تسبب هذه المجالس في عجز الملك عن أن يصل إلى قرار سريع، فيما نقلت من أخبار موسى وهارون مع الفراعنة، وفي القرآن طرف من نقاش فرعون لقومه وخطبه فيهم ومحاولة إقناعه لهم بضرورة قتل موسى خوفاً من أن يبدل دينهم أو يظهر في الأرض الفساد، وما كان ليظهر ذلك لو كان الفرعون له كل السلطة التي ظهرت عند فراعنة العرب في العصور الحديثة وقسوتهم وقتلهم على الظنّة، ولم يكن لهم دساتير ولا مجالس ولا حقوق تحمي الشعوب. وأيدت ذلك التواريخ المكتشفة، فكان الفرعون أحيانا محاطاً بمجالس من كل نوع، وتثبت الآثار والأخبار أن الآراء كانت مع أو ضد، ونجد مدنا قديمة أخرى تشبه نظمها مكة قبل الإسلام حيث تحكم بمجلس حكماء أو أقرب إلى مجلس بلدي بلا سلطان متفرد. وهذا يدل على تطرف الاستبداد والفساد في العصور الحديثة، ومجافاته للفطرة، وأن الحكام فيها أصبحوا متفرعنين أكثر من الفراعنة القدماء، ولكن على همم أصغر وفساد أكبر. كانت الدول القديمة منذ أكثر من خمسة آلاف عام تلتزم أحيانا بقوانين ودساتير محكمة لرعاية مصالح الحكم ومصالح الناس، ومن نصوصهم: "لا تسبب للكبار أضراراً في ممارساتهم ووظائفهم...لا تثقل كاهل الزارع بالضرائب"[33]، ونص آخر ينصح بالعدل وبإعطاء الحقوق وإظهار الاحترام للناس، لأشخاصهم وأموالهم ومنشآتهم الجنائزية، وإعطائهم أجورهم ومكافآتهم حتى لا يضعفوا أمام الرشوة، ولا يقتل من أنصار النظام السابق إلا من شارك في ثورة مكشوفة، ثم خلاصة القول: "لا تفعل بمنافسيك وبمعارضيك ولا حتى بأعدائك ما لا تحب أن يفعلوه بك، والزم في هذا الأمر جانب الحذر فما من ضربة إلا جلبت ضربة أخرى"[34]. هذا في حكومات الفراعنة المستقرة. وفي إحدى حكوماتها كان فيها برلمان وحكومة شيوخ، مما جعل شميل تقارنهم بديمقراطيات ونظم حديثة: لقد كانت أقرب إلى الجمهورية الخامسة في فرنسا التي أقامها ديغول حيث يقتسم الرئيس السلطة مع رئيس الوزراء وهناك مجلس حكومة. وهناك في بعض مراحلهم وزير أقرب إلى رئيس الوزراء المعاصر والملك يشرف على الجيش[35]، وهناك جلسات يحضرها ممثلون عن شمال مصر وعن جنوبها يجلس كل فريق مقابل الآخر ورئيس الوزراء يجلس بينهم وبين يديه القوانين الثلاثة: المدني والإداري والدستوري، والحكومة تتشكل من طاقم من ثلاثين رجلاً، وربما كان هناك وزيران أحدهما يمثل الشمال وآخر يمثل الجنوب أحدهما يتولى الخزينة والآخر يتولى الأمن والأشغال العامة، وهناك من يسجل بدقة نقاشات الحكومة والضرائب والحصر المساحي، وذلك منذ ألفين وسبعمئة عام قبل الميلاد. ونُقل عن الآشوريين في الألف الثاني قبل الميلاد نصوص دستورية تلزم الملك باحترام العدل والأعيان والمستشارين والبسطاء من الناس، وتمنع السلطان من السخرة ومن فرض الضرائب على المدن المعفاة من الضرائب، وتمنع من استيلاء الحكومة على أموال الناس بالباطل، وتحمي المدن المتمتعة بحضانة قضائية[36]. وفي بعض حكومات الهنود الحمر كان للمرأة حتى الحق في زعامة الحرب، وأحيانا-عند قبائل النافهو-تنص اتفاقاتهم على "حق الرجل الصالح والمرأة الصالحة في كل المناصب"[37].

وقد عانى هنود أمريكا الشمالية والجنوبية من ثقافة الأوروبيين السياسية المفروضة، فقد كانوا يعينون حاكما يخضع للمستعمرين، ويطلبون منه إخضاع قومه لطاعته من أجل تطويعهم للغزاة، ولكن هذا الاستبداد كان غريبا على السكان، ولم يكونوا يخضعون لواحد منهم، بل يقيمون حكومة تشاور وتفاهم، تقضي قضاياها بالإجماع. ولما قُسروا على الاستبداد ومصادمة فطرتهم فضل كثير من هؤلاء التشرد والتفرق والموت جوعاً على الخضوع، أو التنازل عن ديمقراطيتهم، "فإن مفاهيمهم الديمقراطية للحكم الذاتي قوية جداً"[38]. وسجلت ممارسات وتاريخ الهنود الحمر في القبائل الـ 283 المعترف بها فيدرالياً في شمال أمريكا سلوكًا ديمقراطيًا متوارثًا سابقًا لقرار الجمهورية الأمريكية، وما كان يؤكد من شكوك الأوروبيين بأن الناس كلهم سواسية، ولما كتبوه في الدستور فإنهم عملياً لم يمارسوا هذا القانون نحو قرنين من الزمان، قبل الاعتراف التام بحقوق السود في ستينيات القرن العشرين.

أما في ديمقراطية الهنود الحمر في المكسيك، فينعقد مجلسهم بناء على طلب، أو بطريقة عادية مرتين في الشهر المكسيكي-الشهر المكسيكي عشرون يوماً-وهذه التقاليد الديمقراطية سبقت الغزو الإسباني لتلك الأصقاع، ونقل أحد الباحثين نصوصا من حضارة الأزتك تبين أن الحاكم ينصب خادما لمصالح الناس لا فوق مستواهم[39]. ونجد خبر انتخاب أول " زعيم للرجال" في حضارة الأزتك عام 1375م، وهذا الزعيم ينتخب شعبيًا، وليس وراثيًا، ويمكن عزله، وقد يعزل بسبب جنحة، قبل أن يتحول الزعماء المنتخبون إلى الإمبراطورية[40].

أما في الهند، فيتحدث تاريخها عن وجود اثنتي عشرة جمهورية منذ أكثر من ستة قرون قبل الميلاد. ويحضر مجلس القرار فيها الأغنياء والفقراء، وعلى خلاف العراقيين كان الهنود يحضرون مجالس القرار من مختلف الأعمار، وإذا تخلّف أحد، أكمل النصاب بأعضاء جدد، بينما كان يشترط العراقيون كبار السن فقط في مجالس الحكماء.

وفي إحدى جمهوريات الهند "ليكشتافيو فايسالي" كان عدد أعضاء الهيئة الحاكمة 7077، ووصفت هذه الحكومة بالحكومة التي يحكم فيها الشعب، وتكاد تأخذ وصف الديمقراطية المعاصرة، بحسب تعريفات المعاصرين.

وفي مقاطعات هندية هناك نظم حكم تسودها المساواة، بعضها يعود إلى أكثر من ثلاثة ألف عام، وفي مقاطعات أخرى نجد نظام المجلسين، ما يشبه مجالس النظم البرلمانية الحديثة، وآخر أقرب لنموذج مجلس اللوردات البريطاني للخاصة أو علية القوم[41].

ونجد منصفين غربيين يعيدون كتابة تاريخ الديمقراطية في المجتمعات البشرية ليس إلى العراق، فهو بعيد عن الغرب نسبياً، بل أيضا إلى الحضارة الفينيقية القريبة منهم، التي تركت آثار احتلالها عليهم، فكثير مما نسب للغرب لاحقا إنما تم بناءً على المركزية الغربية، والدعاية للذات، تلك المتبناة في القرن الثامن عشر فما بعد، إذ يعترفون بأن الكثير من نظم المؤسسة الديمقراطية و"المدينة الدولة"، بل نظام الاحتلال وإدارة المستعمرات، جلبته أوروبا عن الفينيقيين قبل اليونان[42].

أما كون الديمقراطية يونانية أو رومانية أو أمريكية أو فرنسية؛ فلأنها تعرضت في تلك المجتمعات لمزيد تعديل وتحوير وتنظيم، فأخذ الأقوياء التسمية والأسبقية كالعادة. ولأن مجتمعاتنا تخلت عن فطرتها السليمة في القبض على الحرية، وخضعت للمستبدين الذين أسلموها للغزاة، فقد غابت عنا الممارسة والفكرة منذ زمن بعيد، ما جعلنا نستنكر الحق وننحرف عن الفطرة مع المستنكرين؛ بسبب تدمير المستبدين للفطر السليمة، وتراجع تعليم الرشد والحق في طريقة إدارة المجتمع البشري، حتى أصبح الحق باطلاً، ولفّق الناس أساطير لاستعباد الأمة وامتهان حقوقها بحجج طاعة كل من أساء إليها وشق عليها ونهبها أو أذلّها، ولما اغتربت الفطرة اغتربت حتى ألفاظها وأوصافها، فلم يكن لنا بد من استقدام اللفظ الأعجمي لما غاب عنا شكله وحقيقته.

 

[1]برتراند رسل، التربية والنظام الاجتماعي، ترجمة: سمير عبده. بيروت: دار مكتبة الحياة، 1978م، ص71.

[2]روي بألفاظ مختلفة، وعند البزار كما في مجمع الزوائد: "أبوكم آدم، وآدم خلق من تراب"، وعقب الهيثمي بأن رجال البزار رجال الصحيح، انظر: الهيثمي، مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، تحقيق: محمد عبد القادر عطا. بيروت: دار الكتب العلمية، 2001م. ج8/ص104.

[3]محمد الطاهر ابن عاشور، مقاصد الشريعة الإسلامية، تحقيق ومراجعة محمد الحبيب ابن الخوجة، الدوحة: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، 1425-2004م. ص176-180.

[4]ورد في غريب الحديث للخطابي مرفوعًا، والطبقات لابن سعد، والشفاء للقاضي عياض. وانظر: محمد حميد الله، مجموع الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة، بيروت: دار النفائس، ط6، 1987. ص248-249.

[5]جواد علي، "أصول الحكم عند العرب الجنوبيين"، مجلة المجمع العلمي العراقي، المجلد الحادي والثلاثون، جمادى الأولى 1400هـ/ نيسان، 1980م، (ص47-78)، ص55.

[6]ورد في وصف معاوية بالسيادة قولهم: "تقولون عمر أسود أم معاوية؟ قالوا: بل معاوية أسود" من السيادة، وما يطلق عليه في زماننا بالقيادة، وفي العجمة المعاصرة "كاريزما".

[7] جمع تهامة، ولأن لكل منطقة في الجبال العالية التي مسيل مياهها شرقي ما يوازيها من الصدر والمرتفعات المطلة غربا، أي التي مسيل مياهها غربي نحو البحر الأحمر فتسمى تهامتها باسم جبالها الشرقية عنها، ولكل بلد تهامته ومجموعها تهائم بالنسبة لكل منطقة، والتسمية جنسها العام تهامة وهي من بدايات تهائم جبال اليمن جنوبا إلى نهاية جبال الحجاز شمالا، وبعضهم يراها تنتهي جنوب المدينة المنورة عند نهاية السلسلة.

[8]جواد علي، السابق، ص56-57. ولم يزل إلى اليوم يستخدم في اليمن اسم "شوعي" اسمًا أولًا وعائليًا، ولعل هذا أصله، أي نائب أو عضو في قيادة مجتمعية.

[9] راؤول مانغلابوس، إرادة الشعوب، ليماسول، قبرص: دار الملتقى للنشر، 1991م، ص18.

[10]John Dunn. Democracy: A History, New York: Atlantic Monthly Press, 2005. p.55.

[11]مانغلابوس، ص109.

[12]شرح برتراند رسّل ذلك في كتابه الحرية والتنظيم، وكذا توكفيل في أشهر كتاب عن الموضوع: الديمقراطية في أمريكا، وناقشها أيضًا ماكس فيبر في: الأخلاق البروتستانتية وروحالرأسمالية، غير أن كثيرًا ممن قرأ الكتاب أو تحدث عنه لم يلاحظ تلك المفاهيم التي ناقشها سوى موضوع الكتاب الرئيس حول الدين ورأس المال.

[13]انظر: مانغلابوس، ص129-130، مع هذا فقد أثبتت بعض هذه الديمقراطيات الهندية صمودًا جبارًا في مواجهة خصومها الأوروبيين زاد عن مائتي عام. انظر: مانغلابوس، ص134.

[14]المصدر السابق، ص119.

[15]مانغلابوس، ص124.

[16]مانغلابوس، ص125.

[17]من أحسن المصادر المترجمة إلى العربية كتاب جارد دايموند: أسلحة، جراثيم وفولاذ (عمان: الأهلية للنشر، 2007م)، فقد كتب فصولًا عن حياة هذه الشعوب البدائية وثقافتها وعلاقاتها وأصولها.

[18]مانغلابوس، ص106-107.

[19]السابق.

[20] أصابت مجتمعاتنا ما يمكن تسميته بالحداثة المضطربة، وهي حداثة العالم التابع الذي يعاني الاستبداد والتبعية، فهي حداثة لا تحمل له مميزات الحداثة الغربية ولا مساواتها، وهي مساواة متقدمة إذا ما قورنت بحداثة مليئة بالعاهات في الشرق، فلم تحمل قيمًا غربية للشرق، ولم تحافظ على قيمه، بل جعلت من الشرق مستودعًا لكل ما هو منبوذ وتافه من الشرور والخلاف والاضطرابات. ومن أهم المناقشات التي كتبها الشرقيون عن تسمّمهم بآراء غريبة توهنهم ولا تنقذهم، تلك المحاولات التي كتبها أو حررها لغيره داريوش شايغان، بعد دراساته المعمقة في أفهام ومعارف الشرقيين في الهند والصين وإيران وغيرها. انظر له مثلًا كتاب النفس المبتورة، وقد ترجم له ثلاثة كتب إلى العربية وتلخيصات منثورة في مصادر أخرى.

[21] ورد حديث "الأئمّة من قريش" بروايات مختلفة في مسند أحمد والمستدرك للحاكم وسنن البيهقي وقال عنه الشيخ الألباني "صحيح. ورد من حديث جماعة من الصحابة..."، انظر: محمد ناصر الدين الألباني، إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل. بيروت: المكتب الإسلامي، 1399هـ، 1979م. ج 2/ 298.

[22] انظر كتابه معالم في الطريق فصل: "جيل قرآني فريد".

[23]ابن رشد، الضروري في السياسة، فقرة 301، نقله الجابري في: ابن رشد سيرة وفكر، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2007م، ص252-253.

[24]ابن رشد، المصدر السابق، فقرة 266، الجابري، ابن رشد، ص253.

[25]John Kean, The Life and Death of Democracy. London : Pocket Books, 2009. p. 89.

 

[26]المصدر السابق، ص91.

[27] من أشنع هؤلاء الملوك وأفحشهم برياندر ملك أمبراسيا، الذي كان سكرانَ وسأل غلاما يحبه عن حمله منه، فثار غلامه عليه وأثار الناس معه، وفارقوا استبداد الفرد وأسسوا نظاما لتداول السلطة. المصدر السابق، ص92-93.

[28]المصدر السابق، ص95.

[29]مانغلابوس، ص40-42.

[30]Isakhan, B. 2007. “Engaging "Primitive Democracy": Mideast Roots

of Collective Governance. Middle East Policy”, 143, 97-117.

[31] إيف شميل، السياسة في الشرق القديم، القاهرة: المشروع القومي للترجمة، 2005م، ص42-42.

[32] ذكر ذلك صاموئيل نوح كريمر في كتابه عن تاريخ سومر ص61، وأوردته إيف شميل، السابق، ص 247.

[33]شميل، مصدر سابق، ص496-497.

[34] شميل، المصدر نفسه، ص 497.

[35] المصدر السابق، ص 497-498.

[36] تلخيص من شميل، ص 485-503.

[37]مانغلابوس، ص136.

[38]نقلاً عن روبرت يونج، التاريخ السياسي لقبيلة نافهو، عند مانغلابوس، ص138.

[39]مانغلابوس، 149-150.

[40]مانغلابوس، 151-152.

[41]مانغلابوس، ص43-47.

[42]انظر:

Hornblower, Simon. "Creation and development of democratic institutions in ancient Greece", Democracy: the Unfinished Journey 508 1992: 1-16.

شارك :

التعليقات (0)

أضف تعليق